المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اتجاه الزمن وتقويم الحركة - على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

[بتول جندية]

الفصل: ‌اتجاه الزمن وتقويم الحركة

‌اتجاه الزمن وتقويم الحركة

تتفاوت آراء فلاسفة التاريخ في تحديد اتجاه حركته، وتقويمها، فرأي مال إلى الاعتقاد بالتقدم الصاعد (1)، وأن الإنسانية تتجه عن طريق التراكم إلى تطور متتابع صاعد، وأن الجديد يفْضُل القديم لزومًا.

وقد أسهم هذا الرأي في إثارة إشكاليات الحضارة العالمية أو العولمة، وقضية التراث والمعاصرة، وصراع القديم والجديد، بحسم مبدئي لصالح الجديد والمعاصر، بما أن الإنسان كلما كبر ازداد علمًا وحكمة، وكذلك هي الإنسانية في حركتها التاريخية! لا نختلف في أن التراكم برهان ممكن لقياس التطور، إلا أنه مقياس كمي صامت عن أية دلالة نوعية، إذ إن المتأخر لا يتبنى كل ما جاء به المتقدم، والتراكم بحد ذاته هو فعل طبيعي لا

(1) تبنّى هذا الرأي فلاسفة اليونان قديمًا، وبيكون وديكارت من بعدهم، وهذا التوجه هو الذي مهّد لفكرة التطور الديالكتيكي بصورتيها؛ المثالية، والمادية، وقد كان لآراء داروين في التطور الطبيعي والبقاء للأصلح أثر كبير في تعزيز الثقة بالتطور الصاعد، الذي تمثل عند نيتشه في فكرة السوبرمان، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص 146، 152. كما أن نفوذ هذا الاتجاه قد اتسع مع ضغط العولمة، وسيطرة المركزية الغربية، واعتبار الغرب القمة التي استطاعت الإنسانية أن تبلغها في مسيرتها التاريخية، ينظر: نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، ص40. ويلتقط أدونيس هذا الموقف ويصير من أهم المروجين لنظرية التطور الصاعد في الحقل الأدبي، وسيكون لتنظيراته المستندة إلى هذا الوعي أثرها في تحديد مفهوم الحداثة والموقف من التراث، يقول:"إن الوضع الجديد متقدم، نوعيًا، في حركته العامة، على الوضع الماضي"، أدونيس، علي أحمد سعيد: الثابت والمتحول، 3/ 56.

ص: 15

بشري، على الرغم من أنه يتحقق بمسبِّب بشري، أما الفعل البشري والحضاري الحق فهو "الاختيار"، والاختيار فعل نفي وإثبات مفتوح المصادر يخضع لمؤثرات متنوعة؛ بيئية وذاتية وضرورية، قديمة وحديثة على السواء، وينتقي من مجمل المتراكم عبر الزمن والتاريخ. ومن إيجابيات التراكم أنه يقدم "للاختيار" مساحة أوسع من التجارب والخبرات، ولكن من طبائع النوع البشري المؤسفة أنه لا يتعظ بالتجارب السابقة ولا بخبرات الآخرين إلا بقدر ما يعتقد ويرغب، أما قيمة الخيار الناجم عن فعل الاختيار البشري فهي أمر نسبي خاضع لاعتبارات خاصة ومتغايرة تنفي إمكانية الحسم القبلي سلبًا أو إيجابًا. ومما يشهد بعدم تلازم قيمتي التطور والتراكم ما يقدمه التاريخ من نماذج متكررة لحضارات تسلم نفسها إلى الانطفاء بعد أن تبلغ قمة عطائها وتفوقها، وحضارات تتجاهل مقومات تحضّر سابقة وتهملها (1)، ولهذا فلا يصح اعتماد التراكم برهانًا على التطور أو الجزم بحركة الزمن التصاعدية، لأن كل حضارة هي كائن فريد لا يتكرر، على الرغم من أنه يستفيد بهذا القدر أو ذاك من مخزون التجارب السابقة، ولأن الفكرة تلد نقيضها في دورة غير منتهية (2).

(1) زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص171.

(2)

كهذا الـ"تعاقب التهكمي الساخر الذي ذكره أفلاطون، وهو تعاقب الملكية، فالأرستقراطية، فالديموقراطية، فالدكتاتورية، فالملكية"، ديورانت، ول: قصة الحضارة، 32/ 23 .. إذ هو نموذج لتحقق قانون التداول أو الجدل في المجال السياسي، ومن أعجب العجب ذلك النموذج الاجتماعي لقانون التداول؛ حيث يرتد قبيل من أبناء الغرب وثقافة الحريات إلى ظاهرة العبودية؛ يروجون لها، وينشرونها، ويطلبون لها الشرعية؛ في الدورين: سادة وعبيد، لتتحول إلى تجارة رائجة تجد لها مسوّقيها وعملاءها وبضاعتها وطقوسها، وهي تقوم على التفاهم بين الطرفين، لا الإكراه، في كثير من الأحيان!!! يساعد البحث في Google باستخدام الكلمة المفتاح Bondage في توفير مادة غنية عن هذا الموضوع.

ص: 16

وفي مقابل نظرية التقدم الصاعد، ولدت نظريات يغلب عليها التشاؤم والعبثية والاستلاب، كالرأي القائل بالتأخر والنكوص والعودة إلى البدائية (1)، أو بالعشوائية ونفي النظام (2)، أو بالانقطاع التاريخي (3). وتبقى نظرية الدورات المتكررة (4)

هي التفسير الأسلم

(1) ويسيطر هذا الرأي في عصور الاضطراب والانحطاط حين يسود الشك واليأس، ولكثير من الأعلام أقوال تصب في هذا الاتجاه، ولعل روسو من أبرز المبشرين به، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص155.

(2)

ويعد فيشر المؤرخ الإنكليزي من أهم الدعاة والمؤمنين بهذا الرأي، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص147 - 148.

(3)

مؤدّى نظرية الانقطاع التاريخي هو نفي التراث التاريخي لجماعة من البشر، وإعادة هيكلتهم وفقاً لمعايير الترشيد والتحديث. ينظر: حبيب، رفيق: تفكيك الديموقراطية، ص64 وما بعد، 84 وما بعد.

(4)

للزمن حركتان - كما قلنا - كلية وجزئية، والحركة الكلية هي حركة التاريخ العام، وهي في الفهم الإسلامي تحديدًا، ذات اتجاه دائري يبدأ من مصدر واحد مطلق؛ هو الله تعالى، وإليه ينتهي. كما أنها حركة قهرية لا تدخل في حيز الإرادة الإنسانية، أما الحركة الجزئية فهي دورية، أي إن القيم فيها متبدلة على خط الزمن العام، وبالإمكان أن ترجع إلى لحظة السكون التي انطلقت منها، في حين أن خط الزمن العام لا يحمل قيمًا في ذاته وحركته ماضية بغض النظر عن القيم المتبدلة على جانبيه (ينظر المخطط رقم1).

المخطط رقم (1)

وهذا الوصف يقترب من تشبيه توينبي لحركة الحضارة بدوران العجلة حول محور ثابت، إذ هو يعقّب شارحًا:"ولعل هذا التجانس في الحركتين المتباينتين - حركة رئيسة لا يأتيها الباطل، نشأت على أجنحة حركة متكررة أقل شأنًا - هو جوهر ما نقصده بكلمة "الإيقاع"." ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 425.

ص: 17

والأكثر استيعابًا لحقائق التاريخ، وكان ابن خلدون واحدًا ممن قالوا بها وتابعه فيها بعض من فلاسفة الحضارة الغربيين (1) وطوروها من بعده، وهي في الوقت نفسه شرح لقانون التداول (2) الذي ورد في القرآن الكريم، والسنة التي أعلن الله تعالى أنها ماضية في الأمم، إذ قال:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"(آل عمران/140)، وكثير من الآيات

(1) من أولئك شاتوبريان، وإشبنجلر، وتوينبي، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص159 - 162.

(2)

ونلمح هذا الإسقاط الدوري على أحداث التاريخ في قصيدة أبي البقاء الرندي:

لكل شيء، إذا ما تمّ، نقصان

فلا يُغَرَّ بطِيبِ العيش إنسانُ

هي الأمورُ، كما شاهدتَها، دُوَلٌ

من سرّه زمنٌ ساءته أزمان

ينظر: محمد، سراج الدين: موسوعة روائع الشعر العربي، الرثاء 7/ 57.

ص: 18

القرآنية تثبت المسار الدائري لحركة الوجود؛ الكلية والجزئية في المصدر والمآل والاتجاه، من ذلك قوله تعالى:"وإن عدتّم عدنا"(الإسراء/8)، وقوله:"فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا"(فاطر/43). ترى نظرية الدورات المتكررة أن التاريخ يتحرك حركة دورية يكشف تكرارها عن قوانينَ دائبةٍ وسنن ماضية تخضع لها الحركة، ونظامٍ مضبوط يوجه مسارها، ومحطاتٍ متكررة تقف عندها الحضارات لزامًا، وإذا كان التراكم هو معيار التقدم الصاعد في النظرية السابقة، فإن التشابه هو معيار التكرار وضابط الحركة في هذه النظرية.

ولكن .. لمَ نرى أن هذه النظرية تفوق سابقاتها في الإصابة، وأنها جديرة بالتبني؟ الجواب أن قيمة هذه النظرية تتأتّى، في نظرنا، من اشتمالها على قيم ومبادئ ضرورية لامتلاك تصور إيجابي يوقن بالقدرة على السيطرة على التاريخ وتوجيهه، وبناء منظومة فكرية فعالة فيما يتعلق بتفسير الظاهرة الحضارية والانخراط في أي مشروع نهضوي، ويمكن أن نوجز تلك القيم في النقاط الآتية:

- استبعاد الحكم المبدئي بالقيمة الذاتية للحركة، فالحركة قد تكون نكوصًا وتقهقرًا إلى الخلف، كما تكون تقدمًا وتطورًا، والحكم عليها نسبي بحسب المرجعيات والمعايير والمتغيرات.

- للحركة قانون ونظام يمكن أن يستنبطا من مراقبة التجارب الإنسانية والحضارية السابقة، ولها سنّة ماضية على وتيرة متوقعة تسمح برصد آخرها وتوقع النتائج من خلال استقراء المقدمات والتدقيق في الإرهاصات، وهذا يعني إمكانية التخطيط

ص: 19

للمستقبل (1)، وفعالية التأثير في الواقع. فالتاريخ يعيد نفسه من خلال انتظام القوانين، ولا يعيد نفسه في الأحداث التاريخية نفسها (2).

- على الرغم من أن بعض القائلين بهذه النظرية يعطلون الإرادة الإنسانية في مواجهة الصيرورة الزمنية والحتم التاريخي واطّراد القوانين (3)، فإن الذي نؤمن به، وإليه تميل آراء بعض المفكرين، وتثبته حقائق التاريخ، أن الإرادة الإنسانية توجّه التاريخ وتصنع أحداثه ضمن نظام من القوانين، وبالدرجة التي تتفهم فيها الذات الحضارية هذه القوانين وتستجيب لها بالفعل المؤثِّر، لا بالانفعال السلبي، وبذلك تقود القوانين وتوجهها بإرادتها (4).

- الحركة تحتاج إلى طاقة محرِّكة حتى تبلغ مستوى الفعالية، والطاقة إن لم تحظَ بحافز ينعشها فستُستنفَد وتتخامد، وترتدّ،

(1) يرى مكيافلي أن "من شاء أن يتنبأ بالمستقبل فعليه أن يرجع إلى الماضي؛ لأن الأحداث البشرية تشابه دائمًا أبدًا أحداث الأزمنة الماضية. ومنشأ هذا التشابه أنها ثمرة أعمال خلائق كانوا، ولا يزالون؛ وسيكونون على الدوام، تحركهم العواطف والانفعالات نفسها، ولهذا فإن هذه العواطف والانفعالات لا بد أن تكون النتائج نفسها"، ديورانت، ول: قصة الحضارة، 21/ 57.

(2)

وعلى ذلك يسقط الفهم المغلوط لقضية التكرار الحرفي للتاريخ، وتفسيرها من خلال الأحداث لا فعالية القانون، أو نفي الانتظام أصلاً، ينظر: مؤنس حسين: الحضارة، ص184، 188 وما بعد.

(3)

مونتسكيو، وإشبنجلر. ولذلك فهما يؤوّلان إبداعات العباقرة والقادة بأنها تحقُّق لروح العصر في الأفراد. ديورانت، ول: قصة الحضارة، 36/ 156.

(4)

يقول محمد عبده: ومن سار على سنن الله ظفر بالفوز وإن كان ملحدًا أو وثنيًا، ومن تنكّبها خسر وإن كان صدّيقًا أو نبيًا، عبده، رضا: تفسير المنار، 4/ 141 في تفسير الآية: قد خلت من قبلكم سنن، آل عمران/137.

ص: 20

بالتالي، إلى مستوى السكون؛ أي إلى مسار الضعف والانحلال، وتتلاشى فيه لتبرز طاقةٌ جديدة ذات دفع مختلف لترسم مسارًا حضاريًا جديدًا (1). وضمن هذه الدورة ترتسم حركة التاريخ الكلية. وبما أن الدفع الحضاري دفع إنساني وليس دفعًا طبيعيًا أو ذاتيًا، فإن الإيمان بحتمية تخامد الاندفاع يستلزم حتميةَ المقاومة، والثقةَ بالقدرة على التصدي للتحديات الداخلية والخارجية، وضرورة التصحيح بهدف بناء دورات داخلية داعمة تجدد الشباب أو تؤخر الهرم (2).

- إن انتظام القوانين وتكرار الحركة لا يعني جبرية التاريخ، ولا تناسخ الظواهر، ولا يجزم بحتمية التوقع، كما أنه لا ينفي الخصوصية؛ لأن التدخّل البشري أساسي، والاختيار فعل حضاري جوهري يمنح الحضارات خصوصيتها الحضارية ومنظومتها القيمية، وعمر الحضارة قابل للتجديد والتخصيب في كل آن بدوائر داخلية داعمة إذا توافرت له العقول والإرادات التي تفهم التاريخ وتحسن

(1)"الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة، فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها [أو من غيرها] ما دامت لهم العصبية"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 182، والتعميم بين العلامتين من عندي.

(2)

ينظر: المخطط رقم1. يقدم لنا التاريخ نماذج لا تحصى لتجديد شباب الحضارة، وقد كان ابن خلدون ثاقب النظر عندما رصد عمر الحضارة الإسلامية من خلال الدول والأجيال المتعاقبة، فجيل قادر على أن يجدد شباب الأمة أو يؤخر سقوطها إن أُحسن إعداده، وأحيانًا تختفي حركة الجيل وراء عَلَم بارز؛ كما كان من شأن صلاح الدين في رأي ماجد عرسان الكيلاني في كتابه: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ص25.

ص: 21

السيطرة عليه.

- كل فكرة تحوي داخلها نقيضها كما يقول هيجل، وقوة الحركة تمنح الفكرة إمكانية استيعاب بعض القيم المناقضة لها، واحتوائها، وخلق حالة من التوازن ضرورية لترفد، بالتالي، الحركة نفسها، وعندما تضعف طاقة الاندفاع تتضخم السلبيات التي كُرِّست في الأصل لتدعم الفكرة وتحمي النظام على حساب الفكرة والنظام، وتكون أسافين تدق في نعش الحضارة المنهارة (1). ما يعني أن بعض القيم لا تحمل قيمة في ذاتها، وإنما قيمتها من توظيف الإنسان لها وسيطرته عليها (2).

- للحضارات محطات ومراحل تبدأ بالطفولة وتمر بالشباب ومن ثم

(1) يصح في هذه الحال مثال دلو الماء الدائر حول مركز، فلا ينسكب الماء ما دامت الحركة مستمرة في توليد قوتي الطرد والجذب، ومحافظة على التوازن بينهما.

(2)

استعانت الحضارة الإسلامية بمفاهيم: الولاء والطاعة والاتباع .. لصياغة المنظومة الأخلاقية والاجتماعية والشكل السياسي للأمة، فتحولت هذه المفاهيم مع ضعف الحضارة إلى عوامل فرقة وعصبية وصنمية ترفضها أصول تلك الحضارة. في الطرف المقابل عاب مكيافلي على الديانة المسيحية أنها تدعو إلى اللين والرقة .. تلك الفضائل التي وصفها بالنسوية، واعتبرها مسؤولة عن ضعف الدول الأوروبية، على الرغم من أن المسيحية كانت هي الحافز الأقوى والمحرض الرئيس للحروب الصليبية التي استطاعت أن تحرك عامة الغرب لاجتياح العالم الإسلامي القوي آنذاك وتشغله بحروب طويلة الأمد، ديورانت: قصة الحضارة، 21/ 60 - 61، 72 - 73. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نتوقع تشظي الغرب إلى ثقافات ودويلات متصارعة بسبب من عوامل الشك والحرية والمصلحة التي كانت من أبرز الدوافع للنهضة الغربية.

ص: 22

النضج حتى تعود للانزلاق إلى حمأة الكهولة، وكان ابن خلدون قد ضرب المثل لهذه الحركة بالأعمار الطبيعية للأشخاص (1)، وتمسك إشبنجلر بهذا الرأي وجعل حياة الحضارة نسخة مطابقة لحياة الكائن الحي، وهو تمثيل دقيق شرط أن تبقى المقارنة مضبوطة بالتأطيرات السابقة (2). ولكل محطة من هذه المحطات خصوصيتها وملامحها في سلبياتها وإيجابياتها، إذ يلاحظ أن مرحلة الطفولة تحتضن القيم الكلية والروح التي انطلقت الحضارة بدفع منها، ومع مرحلة الشباب تبدأ الحضارة بتحقيق ذاتها في عالم الواقع بقوة واندفاع بقيادة الروح الحضاري، مع الحفاظ على حالة التوازن معها، وحين تدخل الحضارة مرحلة النضج المدني تكون قد بلغت أوج قوتها في عالم الواقع مع تراجع القيم الكلية، وتراخي سلطة الروح الحضاري، ومع الحركة والزمن تزداد المفارقة حدة فتخسر الإنجازات المادية دفعها الداخلي الذاتي، وتبدأ الحضارة بالجمود والانهيار على جميع الصعد.

- الوجود لا يعرف الفراغ، وأي غياب عن الشهود الحضاري يعني السماح لروح حضاري آخر بملء الساحة الشاغرة، والأمم أبدًا في تدافع، والأيام بينها دُوَل، ومن يتخلف عن الركب فسوف يُستبدَل لا محالة. ثلاثة قوانين أساسية تحكم علاقة الذات الحضارية

(1) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 213.

(2)

ويرفض بعض المفكرين تشبيه الحضارة بالكائن الحي لما يبدو في هذا التشبيه من حتمية النمو والكهولة وجبر الضرورة والقانون، ينظر: مؤنس، حسين: الحضارة، ص162.

ص: 23

بالآخر أرشدتنا إليها الآيات القرآنية: أولها "التدافع"، ذُكر في الآية:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"(البقرة /251)، وهو قانون يعمل على أساس وجود تباين ما بين طرفين، أو عدة أطراف، لتحريض التنافس بينها واستفزاز طاقاتها الكامنة واستثمارها في تنشيط حركة العمران الإنساني. أما "التداول" المشار إليه في قوله تعالى:"وتلك الأيام نداولها بين الناس"(آل عمران /140)، فهذا القانون لاحق بالأول مترتب عليه، وهو في حقيقته النتائج المترتبة على عملية التنافس، وتغيُّر في المواقع والأدوار يستفيد من المدّ والجزر بين الإرادات المتعاكسة. و"الاستبدال" المنصوص في الآية:"وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم"(محمد /38)، هو حالة من حالات التداول، وقانون إنذار يحمل قيمًا سلبية لكل متنكب في حلبة التدافع. إن الكلام على التدافع يقودنا مباشرة إلى الكلام على قضية الدور الحضاري وعلاقته بمفهوم الحضارة.

ص: 24