المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النظرة كأس من خمروالعشق سكر ذلك الشراب - عوائق في طريق العبودية

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌النظرة كأس من خمروالعشق سكر ذلك الشراب

‌النظرة كأس من خمر

والعشق سُكْر ذلك الشراب

قال ابن القيم رحمه الله: فالنظرة كأس من خمر والعشق سُكْر ذلك الشراب، وآفات العشق تكاد تقارب الشرك فإن العشق يتعبّد القلب الذي هو بيت الرب للمعشوق.

قال عيسى عليه السلام: النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها خطيئة.

وقال الحسن البصري رحمه الله: من أطلق طرفه كَثُرَ أسَفُه.

وذكر ابن القيم أن اللحظات رائدة الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات.

ص: 44

قال ابن الجوزي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة)(1) قال: ربما تحايَل أحد على جَوَاز القصد للأولى وليس كذلك وإنما الأولى التي لم يقصدها. انتهى.

المعنى أن بعض الناس يتحايل في شأن النظر فينظر النظرة الأولى بالتذاذ وتأمل للمحاسن باعتبار أن النظرة الأولى له وليس الأمر كذلك إنما المراد نظرة الفجأة، وهذا يحصل بلا تعمّد فيصرف الإنسان بصره مباشرة.

وفي حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن النظرة الفجأة قال: (اصرف نظرك). (2)

قال ابن الجوزي في الحديث: وهذا لأن الأولى لم يحضرها القلب ولا يتأمل بها المحاسن ولا يقع الالتذاذ بها

(1) حسّنه الترمذي.

(2)

رواه مسلم.

ص: 45

فمتى استدامها مقدار حضور الذهن كانت كالثانية في الإثم.

قال ابن عبد القوي في (منظومة الآداب):

وطرْفُ الفتى ياصاحِ رائدُ فرْجهِ

وَمُتْعِبُهُ فاغْضُضْهُ ما اسْطَعْتَ تَهْتَدِ

قال السفاريني في الشرح: (مُتْعِبُهُ) أي سبب تعبه وسلبه الاستراحة متى أرْسَله ولم يغْضضه.

ومن ثم قال: (فاغْضِضِه) أي احفظه واحْتمل المكروه منه. قال في النهاية: غَضَّ طرفه أي كسَره وأطْرق ولم يفتح عينه، وفي قصيدة كعب:

وما سُعاد غداة البيْن إذْ رَحلوا

إلا أغَنَّ غضيض الطرف مكحول

قال ابن هشام في شرحه لقصيدة كعب:

غَضُّ الطرف عبارة عن ترك التحديق واستيفاء

ص: 46

النظر، فتارة يكون ذلك لأن في الطرف كسْراً وفتوراً خُلُقِيَّيْن وهو المراد في كلام كعب، وتارة يكون لقصد الكف عن التأمل حياء من الله تعالى وهو المراد في كلام الناظم [يعني ابن عبد القوي] فإن مراده رحمه الله تعالى:(فاغضض طرفك) امتثالاً لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (1) انتهى.

قال الحجاوي: فضول النظر أصل البلاء لأنه رسول الفرج، أعني الآفة العظمى والبليّة الكبرى، والزنا إنما يكون سببه في الغالب النظر وهو من الأبواب التي تفتح للشيطان على ابن آدم، وما أحسن قول الصرصري رحمه الله.

وغضّ عن المحارم منك طرفاً

طموحاً يفتن الرجل اللبيبا

فخائنة العيون كأُسْدِ غاب

إذا ما أُهْملتْ وثَبَتْ وثوبا

ومن يغضض فضول الطرف عنها

يجد في قلبه رَوْحاً وطِيبا

(1) سورة النور، الآية:30.

ص: 47

انتهى ما ذكره الحجاوي، قال ابن القيم: فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والاشتغال به والفكر في الظفر به، فمبدأ الفتنة من فضول النظر.

وقال ابن القيم في بدائع الفوائد:

يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً

أنت القتيل بما ترمي فلا تُصِبِ

وباعث الطرف يرتاد الشفاء له

تَوَقَّهُ إنه يَرْتَدُّ بالعَطَب

ترجو الشفاءَ بأحداق بها مرضٌ

فهل سمعتَ ببرء جاء من عَطَب

وَمُفْنِياً نفسه في إثْر اقْبحهم

وصْفاً لِلَطْخ جمال فيه مُسْتَلَب

ووَاهباً عمره في مثل ذا سَفَها

لوْ كنت تعرف قدْر العمر لم تَهَب

وبائعاً طِيب عيش مالَه خطرٌ

بِطْيف عيش من الأيام مُنْتَهَب

غُبْنتَ والله غبناً فاحشاً فلَواسْـ

ـتَرْجعتَ ذا العقد لم تُغْبن ولم تخِب

وقال رحمه الله: والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم

ص: 48

تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولابد مالم يمنع منه مانع. انتهى.

انظر كيف يجلب الإنسان الداء الدّويّ لنفسه بإطلاق نظره.

ومن كان يؤتى من عدوٍّ وحاسدٍ

فإنيَ من عيني أُتيتُ ومِن قلبي

هما اعْتَوَراني نظرةً ثم فكرةً

فما أبْقَيا لي من رقاد ولا لُبّ

قال ابن الجوزي في كتاب (آداب النساء) واعلم أن أصل العشق إطلاق البصر، وكما يُخاف على الرجل من ذلك يُخاف على المرأة.

قال: وقد ذهب دين خَلْق كثير من المتعبدين بإطلاق البصر وما جلَبَه، فليُحذر من ذلك.

ص: 49