الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صورة روح الإنسان الملازمة لها
مع الانحراف والطغيان
تقدم الكلام في أصل الخِلقة وحسنها وأن حصول كمالها بالشِّرعة المبيِّنَة مَواضع رضى المعبود ومواضع سخطه وأن طلب الأول وإرادته ومحبته والعمل به هو طريق التهيئة والتحْلية بحلل الجمال والحسن والكمال وأنه لا يحصل هذا إلا ببغض الثاني ورَفضه والبعد عنه.
فهنا يقال: حيث تقدم الكلام في الأصل فيبقى الكلام الآن في الطارئ الدخيل المغيِّر.
قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن كل مولود يُولد على الفطرة وليس كل أحد يستمر على هذا الأصل بل الكثير مُعَرّضون للطارئ الدخيل عليها، وليس في ذكر الأبوين حصر للصارف عن الفطرة وإنما ذلك يحصل
بسببهما في الغالب لِمَكانهما من التربية.
تأمل أصل الروح ومادتها السماوية الملَكية بجمالها وحسنها وإشراقها.
إن ملائكة الإله في الغاية من الجمال والكمال وإن أصل خِلقتهم النور كما ورد في الحديث وهذه الروح خُلقت من نفخة هذه الذات العَلِيّة الشريفة فحُق لها أن تكون كما سبق الوصف لها، فإذا جاء الكلام على الدخيل عليها فقد دخلنا في وصف الظلمة والوحشة والقبح والهم والغم والنكد، وهذا ملازم لروح من انحرف وانصرف عن الفطرة والشرعة، فإمّا إلى الكفر وهذا لِرُوحه وافر الحظ والنصيب من هذه الصفات، وأما إلى الفسق والفجور فلِروح هذا نصيب من ذلك بحسبه.
إن صلاح كل عضو من أعضاء الإنسان أن يستمر على خِلْقته السويَّة مُؤَدِّياً عمله المنوط به كما أراد الذي
خلقه، وبعض هذه الأعضاء قد يتعطل نهائياً كعمى العين وصمم الأذن وبكم اللسان وقد يكون العطل جزئياً كالعشى للعين والثقل للسمع واللثّة للسان ونحو ذلك، وهذا كله ليس هو المراد، إنما المراد الروح والقلب، فهل يقال: إن هذه الأعضاء من السمع والبصر وبقية الأعضاء لها وظائف كمالها بتأديتها على الوجه المطلوب، وألمها ونقصها في تعطّلها من ذلك والقلب والروح لا وظيفة لهما ولا تأثير للتعطل الكلي ولا الجزئي عليهما؟ معلوم أن هذا ظاهر البطلان وأن حقيقة الإنسان هي روحه وقلبه والمعوّل على ذلك.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه بصلاح القلب يحصل صلاح الجسد وبفساده يفسد، والمراد بالصلاح استقامة الدين، وبالفساد الانحراف عنه فالاهتمام إذاً بصلاح الروح هو أساس البناء إذ الأعضاء كلها تابعة لصلاح القلب
والروح.
وحيث أنه قد تبين فيما تقدم جمال صورة الروح بطاعة خالقها فالمقابل لذلك فسادها بتأثير معصيته سبحانه وقبح صورتها وخبث رائحتها.
إنها تفسد في الوقت الحالي الذي تباشر فيه ارتكاب محرّم أو تترك فعل واجب ويظهر أثر ذلك عليها ظلمة وقبح صورة ووحشة ونتن رائحة إلا إن تداركها الله بتوبة تدافع الأثر السَّيِّئ أو حسنات ماحية.
ومن هنا يشعر العاصي بالكآبة والحزن ويُصاحبه الهم والغم وذلك للآثار التي حصلت لروحه وهو لا يعرف السبب ثم هو يريد أن يهرب من هذا العذاب والضنك والضيق فيُعاود المخالفة لأنه يجد بها لذّة تُواري عنه ما يُحس به من الألم والهم والغم.
وتأمل كلمة (تُوَاري) بدلاً من أن يقال: (تُذهب)
لأن فساد روحه وألمها لم يفارقها بل زاد بزيادة المخالفة لكنه متخدّر لا يشعر، وإنما يذهب الألم وتحصل العافية بالتوبة.
الخلاصة أن الروح طول الحياة تُمدّها وتُعِدّها مادتان: مادة حُسْن وجمال وكل ما فيه كمال، تُعَدّ بذلك وتُهَيّأ للرضوان وسكنى الجنان.
ومادة قبح وأنتان وكل ما فيه ذلّ وهَوَان تُعَدّ بذلك لسكنى النيران، والعبد لِمَا غلب عليه.
ثم إن الآثار في كِلا الحالتين تظهر على الأبدان، لكن هذا يعرفه ويميزه من نوّر الله قلبه بنور الإيمان الذي يُثمر له هذا التمييز والفرقان.
إذا ظهر هذا ظهرت الحكمة من الأمر والنهي وأنه اللطف والرحمة وحقيقة النعمة.
وظهرت أيضاً حكمة أن ما تعارف من الأرواح
ائتلف وما تناكر منها اختلف بأنها المشابهة والمشاكلة وموجبات الوِدّ والمحبة بين أهل الإيمان والبغض والنّفرة لأهل المعاصي والطغيان، كذلك فإن لهؤلاء ائتلاف ومودة فيما بينهم لأجل المشابهة والمشاكلة أيضاً لكنها لأغراض مضمحلة فانية تزول بزوال مُتَعلَّقها فتنقلب عداوة قال تعالى:{الأ خلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ الْمُتَّقِينَ} (1). انقطعت بانقطاع أسبابها وانقلبت عداوة ثماراً لِغِراسها. إذْ هي باطلة من أساسها.
ولك الآن أن تتصوّر إنساناً في الغاية من الجمال ظاهراً وباطنا وعليه حُللاً بَهيّة نظيفة ويعْبق من الرائحة الزكيّة وهو سائر في طريق رحْب آمن مُسْتنير، وعن يمين الطريق وعن شماله طرق مظلمة موحشة قذرة ومخيفة فانحرف هذا السائر عن طريقه إلى تلك الطرق فغَشَتْه
(1) سورة الزخرف، الآية:67.
الظلمة وعَلَتْه الوحشة وتلطخ بقاذوراتها وصار مأسوراً لمن دعاه إلى سلوكها يُعاني من الهموم والغموم ما الله به عليم.
هذا مثل من انحرف عن طاعة الله إلى معصيته، وقد أبان النبي صلى الله عليه وسلم ذلك غاية البيان ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:(خط لنا رسول الله خطاً وخط خطوطاً على جنبتيه) الحديث فالخط المستقيم هو معْنوي في الدنيا حِسِّي في الآخرة وفي مثل سَيْر العبد عليه في الدنيا يكون سيْره على صراط جهنم في الآخرة، وكوْنه معنويّ في الدنيا لأنه ليس كالطرق المحسوسة فالإنسان المطيع يكون جالساً يذكر الله أو يعمل عملاً صالحاً في هذه الحال سائراً إلى الله على الصراط المستقيم، ثم قد يتكلم هذا الشخص نفسه بكلام باطل في مجلسه ذلك فينحرف آخذاً بتلك الطرق الجانبية بحسب انحرافه بُعداً وقرباً،
وكذلك لو عمل عملاً يسخط الله، وقد يحصل له مثل ذلك وهو سائر في طريق من طرق الدنيا حِسِّية لكن لا دخل للطريق هنا فالشأن بالأمور المعنوية بالنسبة للطريق نفسه، إنما المراد أنه قد يكون ذاكراً الله أو متفكراً في آلاء الله وهو سائر فرأى صورة لا يحل له النظر إليها فصرفته بأثرها السَّيء عن طريق سيره فانقطع بالأسر أو ضَعُفَ سيره بالأماني الباطلة وانشغال الفكر لأجل نظرة أوْرَثته حسرة.
وقد تقدمت قصة الطائر وزوال جماله وتلطخه بما تطلخ به ثم اغتساله ولُبْسَه مِسْكه وعودته إلى حاله، وموضعها في هذا الفصل إنما قدّمتها لأهميتها ولأنها توضح معنى الكتاب كله.
فالآثار تكون على الروح وعلى البدن لكنها على الروح أظهر، ثم إنه لا تخفى حال من قرب منه عدوه
وتمكن منه فإنه يأسره ويعذّبه فما شئت من حصول الهم والغم والمعيشة الضنك لكن قد لا يشعر بذلك لانغماره بشهواته وملذوذاته ولجهله أيضاً وغفلته مع أن العذاب يعمل بروحه عمله.
وفي النهاية تُخْرَج هذه الأرواح من الأبدان التي كانت فيها، وهذا هو القدوم على الله ويكون خروجها على الصفة التي كانت عليها في الدنيا وما تأثرت به من آثار الحسنات أو السيئات، وليس الكلام هنا في الحالات الاستثنائية من إبطال آثار السيئات بالحسنات أو الأمراض والمصائب المكفّرة المطهِّرة، كذلك شدة النزع والسكرات، إنما الكلام هنا بالإجمال لبيان سِرّ عبودية الإله وحسن الطاعة وقبح المعصية.
وتأمل الآن قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (1).
فهذا التقسيم يوضحه ما تقدم، وآيات من القرآن مثل قوله تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (2) وهذا البياض والسواد وصف لصور المطيعين والعاصين وهو ما تكون عليه الوجوه في القيامة من الجمال والكمال والسرور وضدّ ذلك الوجوه المسودة.
(1) سورة الجاثية، الآية:21.
(2)
سورة آل عمران، الآية:106.