الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُتَعَلَّق الروح الحق
قد ظهر مما تقدم أن الروح خُلِقَتْ خِلْقة وفُطِرَتْ فطرة على أنها مريدة محبة لفاطرها وأن هذا عملها وهذه وظيفتها كوظيفة الإبصار للعين والسمع للأذن وبقية الأعضاء لوظائفها، وأن الروح هي الأصل والأعضاء فروع بالنسبة إليها إذْ هي المتصرفة في أعضاء البدن بتصريف خالقها لها.
والمراد أن لها مراداً واحداً ومطلباً واحداً ومحبوباً واحداً إذا صُرفت عن إرادته وطلبه وحبه فهي ولابد مُتألمة معذّبة، فألَمها وعذابها بالوحشة التي حصلت لها بدل الأنس بمحبوبها الحق الذي فطرت عليه، وألمها وعذابها بالتغيّر الذي اعتراها من الجمال إلى القبح ومن الإشراق إلى الظلمة ومن العز إلى الذل ومن السّعة
والانشراح إلى الضيق والضنك لأجل قرب عدوها الشيطان منها وتمكّنه من إفسادها، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا.
والقصد هنا المتعلّق نفسه المراد المطلوب المحبوب الذي بحصوله نعيم الروح وسعادتها وكمالها في الدنيا قبل القبر وقبل القيامة {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وبحصول غيره لها مراداً ومطلباً ومحبوباً عذابها في الدنيا ولابد {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) ولا فكاك من هذا أبداً سواء حصل لها ذلك الغيْر وتلذذت به تلذذها بأكل الطعام الشهي المسموم
(1) سورة النحل، الآية:97.
(2)
سورة طه، الآية:124.
أو لم يحصل لها.
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (1) الآية إن أعظم ما كرّم الله به ابن آدم على الإطلاق هو أن خلق روحه على هذا الوصف المتقدم وفطرها عليه وهو إرادة وجهه الكريم محبة بإجلال وتعظيم، وأنه لا بديل لها منه سبحانه إلا ما تُعَذب به حَتْمًا بدون استثناء فإما هو أو البديل وهو:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} (2).
تأمل ذم الإله من صَدّ وأعرض عنه مولاه وأنه استبدل به عدوه {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} إن هذا لأسوأ اختيار يكون أن يدع الإنسان وَلّيه ويستسلم لعدوه، ثم انظر ختام الآية وأن هذا العدو بئس البديل وأن هذا لا
(1) سورة الإسراء، الآية:70.
(2)
سورة الكهف، الآية:50.
يحصل إلا للظالمين {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) والذنوب مادون الشرك كلها ظلم فلا يخص هذا المشرك بل لمن ظلم نفسه بالكبائر فما دونها نصيب من هذا الخسران بحسبه ومنه هذا البديل بحسبه، ولما كان الأمر كذلك صارت كلمة (لا إله إلا الله) بهذه المنزلة العظيمة إذ هي تنفي كل مألوه للقلب سوى الحق سبحانه فتثبت إلهيته خِلْقَة وشِرْعة.
والمراد أن الرب سبحانه إنما كرّم ابن آدم بأن فطر روحه على التعلق بذاته محبة وإجلالاً وتعظيماً ومهابة وعبودية لأنه سبحانه مُتّصف بكل ما تحبه الروح وتريده وتطلبه فهو سبحانه له الجمال كله والجلال كله والعظمة كلها بلا مشارك ولا مماثل.
إن الروح لو جالت في الكون من جرم العرش حتى
(1) سورة لقمان، الآية:13.
الأرض السابعة لا تجد مُتعلَّقاً لعبوديتها الحقّة أبداً لأنها تصطدم بمخلوقات مثلها، فالعرش فما دونه مواد مخلوقه تشترك معها بوصف الافتقار الذاتي والتخليق، وأنها مواد خُلقت من العدم؛ والعدم ليس بشيء.
وكل ما تتعلق به دون معبودها الحق فله صورة يتصورها القلب على حقيقتها أو بما يماثلها فترتسم هذه الصورة في القلب فيعكف عليها إرادة وطلباً ومحبة فتكون حجاباً مانعاً له عن إفضائه إلى معبوده الحق، ومن هنا تأتيه القسوة والظلمة والوحشة والصفات التي تقدم بيانها لانقطاعه كلياً أو جزئياً عن إلهه الحق.
ولما كان الإله سبحانه ذو فضل ومَنّ وإحسان وبر وجلال وجمال، وكمال لا يبلغه وصف، وذو إحسان ذاتي لا تقابله أثمان، كيف والملْك كله له سبحانه وهو الغني الحميد فأراد برحمته وإحسانه ولطفه وكرمه أن
يُوجد هذا المخلوق ليُفيض عليه إحسانه فلم يرض له من مخلوقاته متعلَّقا محبوباً لذاته سواه لعلمه أن ما دونه لا يسدّ فاقة عبده وفقره الذاتي فخلقه مريداً له محباً مشتاقاً إليه لا لشيء يريده منه سوى قربه ومحبته ورضوانه لِما يتصف به سبحانه مما لا يغني روح عبده سواه ولا يسدّ فاقتها وفقرها الذاتي غيره ولوْ حِيز لها ما في الأكوان.
فمن هنا قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} فذكر ما سَخّر كوسيلة لأجَلّ الغايات وأسماها وهي علاقة هذا المكرم بالمنعِم المكرِم، إنها علاقة لا تشبه علاقة الولد بأبيه وأمه ولا أي محب بمحبوبه، إنها علاقة العبد بسيده ومعبوده الذي لا غنى له عنه طرفة عين، الذي إذا فَقَدَهُ فقد كل شيء ولو حصلت له كل أمانيه وإذا حصل له فنعيمه لا يشبهه نعيم لا في دنياه ولا آخرته.
هذا هو الأصل لخلق الخليقة إنما هو لِفَيض الإحسان
والإنعام والإكرام عليهم، لكن قَدَّر الحكيم سبحانه أن يُفاوِت بينهم فلم يجعلهم كلهم في قبول كرامته ونعمته سواء والتي هي تعلّق أرواحهم بذاته محبة وإجلالاً وتعظيماً الذي هو غاية كمالهم. بل قَدَّر على أكثرهم الكفر به لا عبثاً وسُدى ولا لأجل فقط أن يغضب وينتقم ويُعذب فليس من أسمائه الحسنى الغضبان ولم يقل:(الغضبان على العرش استوى) وإنما في سبعة مواضع من القرآن جاءت {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وما خلق العباد لإنفاذ غضب هو مُتصف به فيحصل له بإنفاذه التشفّي كالمخلوق، ولم يكن قبل وجود ما أوْجد من خلقه غضباناً، فما الذي يُغضبه؟ فقد كان سبحانه ولا شئ غيره فلا ممانع ولا مضاد ولا نِدّ ولا مشارك لكنه له صفة الغضب فلما أراد سبحانه
(1) سورة طه، الآية:5.
ظهور آثارها كما أراد ظهور آثار صفة الرحمة واللطف والكرم والجود وغير ذلك من صفاته قدّر الكفر والمعاصي لِحكم باهرة، ظهورها أحبّ إليه من عدمه ولِما يُعقْب ذلك من عواقب حميدة هو سبحانه يعلمها، ولأجل ما قَدّره من الكفر والمعاصي خلق إبليس والشياطين وخلق جهنم وليست هي مُرادة له لذاتها، وإنما خلقها لحكمة وهي إصلاح ما فسد من الخليقة في النهاية وزاجر رادع عن المخالفة في البداية وغير ذلك من حِكم لا يحيط بها سوى علمه.
هذا هو اللائق بجلال المحسن الكريم الرحمن الرحيم وهو أن تكون الغاية من خلقه مَنْ خلق هو الإحسان والإنعام، وواجبٌ تنزيهه عما سوى ذلك.
ومن عرفه في غضب دائم بدوامه وعذاب دائم بدوامه فما قدره حق قدره، ولا يستطيع إثبات حكمة
الإله في خلق الشرور أبداً، إن معرفته سبحانه قبل خلقه المخلوقات وما يتصف به تُهَوِّن فهم ما تقدم وتفتح باب المحبة التي هي لبّ العبادة لأن العلم بالله أشرف العلوم على الإطلاق لكن العلم به وبأمره لابد أن يطابق المعلوم.
إن معرفة الرب بأنه غضبان منتقم أراد خلق بشر يُقدر عليهم الكفر والذنوب لينفذ فيهم غضبه بأن أعدّ لهم ناراً أشد حراً من نار الدنيا سبعين مرة يدوم عذابهم فيها بدوامه معرفة تفتح أبواب نفي رحمته وحكمته باتساع لنفاة ذلك، بل إنها معرفة مُنَفّرة من أرحم الراحمين يُنَزّه سبحانه عن ذلك، كما ينزه عن سائر ما يصفه به من لم يَقْدُره قدْره.
إن الغاية من الخلق والإيجاد والإعداد والإمداد هو الإحسان فهو الأصل كذلك الرحمة واللطف والكرم، أما الغضب فإنما هو حاصل لوجود مُتَعلَّقه الدخيل الطارئ
على الفطرة والخِلْقة الأصلية للحِكم الباهرة الناتجة من ذلك، ثم أنه لا يدوم بدوام الإله ولا يتساوى مع صفة الرحمة لا في الكيفية التي لا يعلمها إلا هو سبحانه ولا في الدوام الذي يستمر ويبقى بدوامه كالرحمة فالفضل ليس كالعدل.
إن الكلام في الحكمة والغاية التي خلق الله الخلق من أجلها أجل وأكبر من أن تحصرها كلمات كهذه وإنما هذه إشارة ونبذة مَنّ الله بها علينا وعَرفناها بواسطة شيخ الإسلام وتلميذه قدّس الله أرواحهما ورضي عنهما.
والتفاصيل مُودعة في مؤلفاتهما كنوز في حروز مفاتيحها التوفيق، والكلام في ذلك ليس من نافلة القول كيف وهو العلم بالله وحكمته سبحانه.