المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌جلاء الحقيقة واعلم أن أهل البصائر لا تخدعهم الظواهر وإنما لهم - عوائق في طريق العبودية

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌ ‌جلاء الحقيقة واعلم أن أهل البصائر لا تخدعهم الظواهر وإنما لهم

‌جلاء الحقيقة

واعلم أن أهل البصائر لا تخدعهم الظواهر وإنما لهم نظر ثاقب في الحال الحاضرة وما يكون في العواقب، وهذه قصة فيها عبرة وانقداح فكرة فإنه يُروى عن مالك بن دينار رحمه الله أنه كان يوماً ماشياً في أزقّة البصرة فإذا هو بجارية من جواري الملوك راكبة ومعها الخدم.

فلما رآها مالك نادى: أيتها الجارية، أيبيعك موْلاكِ؟ قالت: كيف قلت يا شيخ؟ قال: أيبيعك مولاكِ؟ قالت: ولوْ باعني كان مثلك يشتريني؟ قال: نعم، وخيراً منك، فضحكت وأمرت أن يُحمل إلى دارها، فحُمل، فدخلت إلى مولاها فأخبرته فضحك وأمر به أن يُدخل إليه، فدخل، فأُلْقيت له الهيْبة في قلب السيد، فقال: ما حاجتك؟ قال: بِعني جاريتك، قال:

ص: 86

أو تُطيق أداء ثمنها؟ قال: فثمنها عندي نوَاتان مسوّستان، فضحكوا، وقالوا: كيف كان ثمنها عندك هذا؟ قال: لكثرة عيوبها، قالوا: وما عيوبها؟ قال: إن لم تتعطّر زفرت، وإن لم تسْتك بخرت، وإن لم تمتشط وتدّهن قمِلتْ وشعثتْ، وإن تُعَمّر عن قليل هرِمتْ، ذات حيض وبول وأقذار جمّة.

ولعلّها لا تودّك إلا لنفسها ولا تحبك إلا لشغفها بك. لا تفي بعهدك ولا تصدق في وُدِّك، ولا يخلف عليها أحد بعدك إلا رأته مثلك.

وأنا آخذ بدون ما سألت في جاريتك من الثمن جارية خُلقت من سلالة الكافور، لو مُزج بريقها أُجاج لطاب، ولو بدا معصمها للشمس لأظلمت دونه، ولوْ بدا في الليل لسطع نوره، ولو واجهت الآفاق بحليّها وحللها لتزخرفت، نشأت بين رياض المسك والزعفران،

ص: 87

وقُصرت في أكنان النعيم، وغُذّيت بماء التسنيم، فلا تخلف عهدها، ولا يتبدّل وُدّها فأيهما أحقّ برفعة الثمن؟ قال: التي وصفت، قال فإنها الموجودة الثمن القريبة المخطب، قال: فما ثمنها رحمك الله؟ قال: اليسير المبذول، أن تفرّغ ساعة في ليلك فتصلي ركعتين تخلصهما لربك، وأن يوضع طعامك فتذكر جائعك فتؤثر الله على شهوتك، وأن تقطع أيامك بالبُلغة، وترفع همتك عن دار الغفلة، فتعيش في الدنيا بعز القنوع، وتأتي غداً إلى موقف الكرامة آمناً، وتنزل غداً في الجنة مخلّدًا.

فقال الرجل: يا جارية أسمعتِ ما قال شيخنا هذا؟ قالت: نعم، قال: أفصدق أم كذب؟ قالت: بل صدق وبرّ ونصح، قال: فأنت إذاً حرة لوجه الله، وضيْعة كذا وكذا صدقة عليك، وأنتم أيها الخدام أحرار، وضيْعة كذا وكذا لكم، وهذه الدار بما فيها صدقة مع

ص: 88

جميع مالي في سبيل الله، ثم مَدّ يده إلى ستر خشن كان على بعض أبوابه فاجتذبه وخلع جميع ما كان عليه واستتر به.

قالت الجارية: لا عيش لي بعدك يا مولاي، فَرَمَتْ بكسوتها ولبست ثوباً خشناً وخرجت معه فودعهما مالك ودعا لهما وأخذ طريقاً وأخذا غيره، فتعبّدا جميعاً حتى جاء الموت فنقلهما على حال العبادة رحمة الله عليهما.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه /

عبد الكريم بن صالح الحميد

جمادى الآخرة - 1423هـ

ص: 89