الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صورة روح الإنسان المستمر
على الفطرة والإيمان
يوضح ما تقدم الكلام على الروح وصورتها وصفاتها فهذا هو الكاشف على الحقيقة لِسِرِّ العبودية وحقيقة التألّه والكاشف بجلاء لتأثير الحسنات والسيئات المباشر في هذه الحياة.
روح الإنسان يخلقها الإله عز وجل من نفخة الملَك الموكّل بنفخ الروح في الرِّحم كما أنه سبحانه هو الخالق لِلمَلك ونفخته.
ففي حال النفخ يخلق الله الروح فتدخل في الجنين سارية فيه سريان الماء في الإسفنج، وإن شئت قلت: تلابسه في كل جزء منه وهذه الروح لها صورة جميلة وهي صورة الإنسان نفسه في الحقيقة، وغاية البدن أنه
مركباً لها.
ولها استنارة وإشراق، وقد أوْدَعَها بارؤها معرفته ومحبته وإرادته فِطرْةً فطرها عليها.
وهذا شامل لكل أرواح بني آدم المؤمن والكافر إذْ أن الخير والصلاح والجمال والكمال والنضرة وطِيب الرائحة أصليّ في فطرة الروح وخِلْقتها.
أما الشر والفساد والقبح والنقص والظلمة ونَتَنُ الرائحة فطارئ دخيل، وهو مقارن وملازم للتغيير {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1).
كذلك فإن الأُنس والسرور أصيل والهم والغم طاريء دخيل مع التغيير، إن هذا الذي فُطر عليه الإنسان في الغاية من الحُسْن والكمال لكنه لا يكفي وحده بل لابد من مُكَمِّل لهذا الكمال ومُجَمِّل لهذا الحسن والجمال
(1) سورة الرعد، الآية: 11
وهو معرفة الروح لما يحبه معبودها فتعمله بتوفيقه ومعرفة ما يبغضه فتجتنبه بتوفيقه أيضاً لتتم عليها النعمة.
والمراد بالتوفيق هنا خلق العمل وإبرازه إلى الوجود على مقتضى ما يحبه الإله باختيار العبد وإرادته.
وهذا لا يستقل عقل الإنسان بمعرفته كما أن قدرته لا تستقل بإيجاده بل لابد فيه من الرسل، وهذه وظيفتهم وهي إبلاغ العباد تفاصيل ما يحبه معبودهم ليعلموه وليس هو بالغريب عليهم بل إن في فطرتهم الأصلية إرادته ومحبته لأن معبودهم يحبه كما تقدمت الإشارة إلى هذا.
وكذلك وظيفتهم إبلاغ العباد تفاصيل ما يبغضه معبودهم ليجتنبوه ويبغضوه، وكما أن محبة ما يحبه معبودهم سبحانه ليست غريبة عليهم وأنها مركوزة في فطرهم فكذلك بغض ما يبغضه.
إذا تبين ما تقدم فيقال هنا: إن الإنسان إذا نشأ ولم يعرض لِفطرته وخِلْقته عارض صارف لها عما فُطِرتْ عليه فإن روحه تبقى على الأصل الذي تقدم بيانه فتطلب وتستدعي ما جاءت به الرسل طلباً بإرادة ومحبة كما يطلب البدن السليم ويستدعي الأغذية والأشربة الملائمة الطيبة التي فيها قوام حياته إذْ أن ما أتتْ به الرسل هو قوام الأرواح وحياتها والعمل به هو رَوْحِها وفيه سرورها ونعيمها، وبالقيام به يحفظ الله لها ما أصَّلَ فيها في الخِلْقة الأولى ويُنَمِّيه ويزيده كل بحسب إخلاصه ومتابعته.
فبالعمل بالشريعة تقوم الروح بوظيفتها التي من أجلها خُلِقت، ومن هنا تترقى في درجات الجمال والكمال بتوافق الفطرة والشرْعة، حتى تصل إلى المقام والحد الذي سبق لها بتقدير فاطرها الوصول إليه في ختام حياتها، وهنا اسْتَحْضِرْ ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
شأن الأرواح وقت المغادرة للدنيا والقدوم على الآخرة، فروح المؤمن لها إشراق هو نور جمالها وكمالها وروح الكافر والفاجر ضدّ ذلك، وكذلك الرائحة طيبة وخبيثة.
إذا تبين ما تقدم وظهر عُلِمَ منه سِرّ العبودية والتألّه، وهو أن في قلب العبد وروحه تأّله مُوجب للإرادة والطلب وأن ذلك فطرة وخِلْقة تُغَذيها وتنميها الشِّرعة، وأن المراد من ذلك التهيئة الصالحة المناسبة للقرب من المعبود وسكنى داره، وكمال النعيم بجواره، حيث لا يصلح لهذا المقام كل أحد.
إن مسالك هذه الغاية مقفلة مغلقة، مع محمد صلى الله عليه وسلم مفاتيحها، وفي هذا معنى كبيراً من معاني شهادة أن محمداً رسول الله.
وحيث أن الكلام هنا صار في الطلب والإرادة والمحبة الفطرية التي تُغذيها وتُنميها الرسالة الشرعية فما زلنا في
مجال ومحيط التعلّق فلابد من الكلام في مُتَعَلَّق ذلك وغايته لكن يأتي هذا إن شاء الله بعد بيان المسلك الآخر للروح والقلب وهو المضادّ لِما تقدم وصْفه ففي ذكر الشيء ومضادّه تنكشف حقائق وتتجلّى علوم لا تحصل بدون ذلك.