الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مذهبه لِيَسَارَةِ الزيادة، ولقصد المعروف بين الجيران، والتساوي فيها من كل وجه قد يصعب، والذي يترجح عندي في هذه المسألة خصوصاً الجواز لما ذكرته.
رد ابن سراج على تعقيب القربَاقي على هذه الفتوى
لم يبينّ هذا المعترض وجهاً للاعتراض، ولا أبدى مانعاً في الفقه، ولا نقل قول إمام يعارض به، فقلت وبالله التوفيق:
سلف الدقيق بالميزان جائز، لا أعرف أحداً ممن يقتدى به منعه، وذلك أنه يطلب في السلف معرفة المقدار المسلف ليعلم قدر ما يؤخذ، وقد حصل بالوزن، وبه أيضاً يعرف التساوي، وقد أجاز ابن القصار رحمهالله مبادلة الحنطة بدقيقها وزناً، وفسّر به قول مالك، وكذلك أجاز مبادلة القمح بالقمح وزناً لأن المقصود المساواة، وقد حصلت، وعلى هذا يكون قول ابن القصار نصاً في مسألتنا، لأنه إذا أجاز ذلك في المبادلة كانت إجازته في السلف أولى وأحرى، ولا أعلم لهذا المانع وجهاً، فإن كان استند إلى القول بالمنع من مبادلة القمح بالقمح وزناً فلا دليل له، لأن باب المبادلة أشد، لأنه يمنع فيه التفاضل في الصنف الواحد الربوي، وإن كان التفاضل يسيراً جداً، ولذلك منعت الزيادة اليسيرة في المراطلة، وإن كانت حبةً بإجماع لحصول الربا بذلك، وباب السلف أخف لما فيه من الرفق
والمعروف بين الناس، لا سيما الدقيق بين الجيران، ولأن قضاءً أقل إذا رضيه المسلف جائز باتفاق، وقضاء أكثر من غير شرط، إذا رضي المتسلّف، جائز مطلقاً على قول ابن حبيب وعيسىبن دينار، ويجوز عند أشهب إن كانت الزيادة يسيرة، ووجه الجواز مطلقاً قولهصلى الله عليه وسلم: خَيَارُكُمْ أحْسَنَكُمْ قضاءً، فحمله على إطلاقه في زيادة الصفة، وروى البزَّار عن ابن عباس رضيالله عنه أن رسولاللهصلى الله عليه وسلم: اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ أرْبعينَ صَاعاً فَرَدَّ إلَيْهِ ثمانين: أَرْبَعِينَ عَنْ سَلَفِهِ، وأَرْبَعِينَ فَضْلاً.
فقد تبينّ من هذا أن باب المبادلة لا يُسْمَح فيه بِشَيْءٍ من التفاضل اختياراً بخلاف القرض، ولا يقاس فرع على أصل إلا بشرط اتفاقهما في العلّة، ومهما حصل فرق لم يصح القياس.
ووجه آخر: وهو أن العلة في منع الزيادة في المبادلة التفاضل، وفي السلف عند من منع ردّ الأكثر الوقوع في سلف جرّ منفعة، وهو ممنوع لا للتفاضل بدليل أنه منع ذلك في سلف العروض وهي لا يدخلها الربا، وقد أجاز اقتضاء أقل في الطعام وغيره، والطعام يدخله الربا، وإذا اختلفت العلة لم تقس إحدى المسألتين على الأخرى.
ووجه آخر: وهو أنه من باع طعاماً بثمن لم يجز أن يَقتضيَ بعد المفارقة من ذلك الثمن طعاماً من جنس الطعام المبيع أجود أو أكثر باتفاق، وقد نصّ في المدونة أنه من أسلف آخر مائة درهم تنقص نصفاً أنه يجوز أن يقتضي منها مائة وازنة.
ووجه آخر: أن المبادلة في الربويات لا يجوز فيها التأخير، والقرض مبادلة بالتأخير، لكن جاز لما فيه من الرفق.
فهذه الأمور تدل على افتراق حكم البابين، وأنه يسمح في باب القرض ما لا يسمح فيه في باب المبادلة، فلا يلزم على هذا القائل باعتبار المعيار الشرعي في المبادلة
أن يقوله في القرض، فينبغي الجواز في مسألتنا، لأن معرفة المساواة تحصل بالميزان، وهو المعروف عندنا في الدقيق، على أنه لا يجوز عندنا بيعه إلا به، لأن المبايعة إنما تكون بالمعيار المعروف، وإن خالفت العادة عادة الشرع، كالتمر مثلاً لايجوز بيعه عندنا بالكيل، وإن كان ذلك هو المعروف في عادة الشرع له لما يقع في الغرر المنهي عنه، ويعتضد في مسألتنا بما تقدم عن ابن القصار.
إذا تقرر هذا فيقال: قد جرى العرف عند الناس والجيران في سلف الدقيق بالميزان، وهو يحصل به التساوي المطلوب في السلف، ولا يعرفون فيه الكيل، وله وجه صحيح، فلا يمنعون منه، لأن الناس إذا جرى عملهم على شيء له وجه صحيح يستند إليه لا ينبغي أن يحمل الناس على قول إمام، ويلزمون ذلك، إن كانوا مستندين في عملهم لقول إمام معتمد، أمّا إن كان المانع لا مستند له إلا مجرد نظره من غير نص ولا مشاورة فمنعه خطأ، فقد نصّ العلماء على أن من شرط تغيير المنكر أن يحقق كونه منكراً، وإلا فلا يجوز، ومن شرطه أيضاً أن يكون متفقاً عليه عند العلماء.
فحسب هذا الرجل إن كان ظهر له المنع أن يمتنع منه في خاصة نفسه، ويتورع في ذاته، ولا يحمل الناس عليه ويدخل عليهم شغباً في
أنفسهم وحيرة في دينهم لمجرد نظره من غير استناد لمن يعتمد عليه من العلماء، فهذا ما يتعلق بالمسألة من الفقه.
وأما جواب هذا الإنسان، الذي أتى بسجع كسجع الكهان، فهو أن يقال: ثَبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بِغرّة: عبدٍ أو وليدةٍ، فقال المقضي عليه: كيف أغرم ما لا شرب ولا أكَلَ، ولا نطق ولا اسْتَهَلَّ، ومثل ذلك بطل؟! وفي رواية أخرى: يُطَلُّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّمَا ذَلِكَ مِنْ إخْوَانِ الكُهَّانِ، قال الراوي: من أجل سجعه
الذي يسجع، وَوَجْهُ إنكاره صلى الله عليه وسلم أنه أتى بالاسجاع ليستميل بها القلوب لغير الحق لأجل الفصاحة، وروى أبو داوود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ تَعلَّمَ صَرْفَ الكَلَام لِيَسْبِي بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالٍ والنِّسَاءِ لَمْ يَقْبَل اللَّهُ مِنْهُ يوم الْقِيَامَةِ صَرْفاً ولا عَدْلاً وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إلَيَّ وَأقْرَبِكُمْ مِنّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامة أَحاسِنَكُمْ أخْلاقاً. وإنَّ أبغَضَكُمْ إلَيَّ وَأبْعَدَكُمْ مِنّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُون والمُتَشَدِّقُون والْمُتَفَيْهقُونَ. قالوا: يا رَسُول الله: قَدْ عَلمْنا الثرِّثَّارِينَ والْمُتَشَّدَّقِين فَمَا الْمُتَفَيْهُقُون؟ قال: الْمُتَكَبِّرُونَ قال الترمذي: الثرثار هو كثير الكلام، والمتشدق الذي يتطاول على الناس في الكلام ويبدو عليهم.
ففي هذا وأشباهه عظة لهذا الرجل، فإن الذي كان ينبغي له ويليق به أن يبين وجه الصواب ممّا قال، ويستدل على صحة ما ادّعاه، وأمّا ما أتى به من الأسجاع الرديئة فإن كان لم يرها قبيحة في حق نفسه فإنها قبيحة، وعدم صدق الطريقة التي انتسب إليها، فإن من أقامهالله مقام الاقتداء، وانتسب للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وجعل في رتبة الإمامة، وحلّ محلّ من تُرجى شفاعته يوم القيامة، فيجب عليه أن يتأدّب بأدب الشرع ويَقتدي بأهله. ولا يضع الشيء في غير محله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنْزلُوَا الناس مَنَازِلَهُمْ وروي أن مالكاً رضي الله عنه كانت أمه ترسله وهو صغير إلى حلقة ربيعة وتقول له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل أن تتعلّم من علمه، وروي عن ربيعة أنه قال: لا تعلموا العلم سفهاءكم فيصرفوا أخلاقهم فيه.
فمن أقامه الله تعالى في تعليم العلم وبثّه للناس والفتيا به واسطة بين الربّ وعباده، فيجب عليه أن يشكر مولاه على ما أقامه فيه، ويسأل من ربِّه التوفيق والتسديد، ويفكّر في جوابه إذا وقف عند ربّه ويسأله عن كل مسألة أفتى فيها وفيما يكون
خلاصه.
والبحث عن المسائل من أحسن العمل إذا صحّت النية، وكان على