الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إجارة على خدمة الجباح بجزء من غلتها
سئل عن إعطاء الجباح لمن يخدمها بجزءٍ من غلتِها؟
فأجاب: هي إجارة مجهولة.
وكذلك في الأفران والأرْحَى، وإنَّمَا يجوزُ ذلك من يستبيح القياسَ على المساقاة والقراض، وحكي هذا عن ابن سيرِين وجماعة.
وعليه يُخْرَجُ اليوم عملُ الناس في أجرة الدلَاّل لحاجة الناس إليه، وعليه الضمان لقلة الأمانة وكثرة الخيانة، كما اعتذر مالك بمثل هذا في إباحة تأخير الأجرة في الكراء المضمون في طريق الحج، لأن الأكرياء ربما لا يوفون. فعند مالك هذا ضرورة.
كراء المناسج
وسئل عن أهلِ صنعةِ الحِيَاكة، وذلك أنهم كانوا يكترون المناسج من النَّيَّارِين على عمل معلوم وأجرة معلومة، من غير أجل، فمُنعوا من ذلك، وقالوا: لا يجوز ولا يكون الكراء إلا لأجلٍ معلوم وأجرةٍ معلومة وكراء معلوم، وأنه يلغى في ذلك أنهم يعقدون الأجرة لأجل معلوم كالشهر ونحوه والجمعة ونحوها، ومع ذلك يقول النيار للصانع: إن عملتَ مثلاً
مِلْحَفَةً واحدةً إلى ذلك الأجل تعطني خسمة دراهم، وإن عملت اثنين تعطني عشرة؛ وقد لا يقول النيارُ شيئاً، على ما ذكر بعضُهم، ولكنه إذا جاءه بالمنسج يقول له: ما عملت فيه؟ فإن قال له: ملحفةً واحدةً، أخذ منه خمسةَ دراهم، وإن قال له اثنين: أخذ منه عشرة دراهم.
فهل يجوز ما قصدوه من جهة الفقه أم لا؟
وهل بنوا على وجه صحيح سائغٍ من جهة الفقه فيما مضى علينا من السنين الماضية؟.
فبينوا لنا ذلك وأجركم على الله.
وجوابكم رضي الله عنكم في مسألة ثانيةٍ أنَّ أهلَ الصناعة المذكورة كانوا إذا جاءهم صاحب شغل اتفقوا معه على أجرةٍ معلومةٍ، فإذا تمَّ الشغلُ أخبر بقدر ما نقص من غزله في خدمة الشغل وبقدر البجول كذا الذي بقي في المنسج فيسلم في ذلك من غير اعتراض لكون أصحاب الأشغال يعرفون ذلك عادةً وعرفاً، لا بد من ذلك للضرورة، فبيّنُوا لنا ذلك متفضلين، ثم بعد ذلك يحْملون المنسج ويأخذون آخر غيره، فلا الحائك يذكر البجول له الذي بقي في المنسج ولا النيار يذكر بجوله الذي في منسجه للحائك ويبقى عنده؛ فهل يجوز له تملكه أم لا؟ بينوا ذلك من جهة الفقه وثوابكم عندالله عظيم.
فأجاب: العمل الذي كان الناس عليه فيه إشكالٌ من وجهين:
الأول: ما فيه من بيع وسلف على مقتضى المذهب، إنَّ سلَمَ الشيءِ في مثلِهِ سلفٌ
والإجارة كالبيع.
الوجه الثاني: ما فيه من الغرر بعدم وصف البجول الثاني، وليس ما جرى به العمل في ذلك بالحرام البيّن ولا بالمنكر المجمع على منعه، بل يتخرج جوازه من أقوال عاليةٍ ومذهبية.
أمَّا أوَّلاً ففي اللخمي ما نصه: قال الشافعي يجوز بيعُ ثوبٍ بثوبين
مؤجلة؛ فعلى هذا يجوز أن يبيعه عبداً بمائة دينار ويسلفه ثوباً، لأنَّ التقديرَ: عبد وثوب، هذا بمائة دينار وثوب مؤجل انتهى.
وهو كالنص في المسألة.
وأيضاً فمن المشهورات عن أبي حنيفة جواز بيع سلعةٍ ودراهمَ بسلعةٍ ودراهمَ إلى أجل يوزع ذلك، لأن الوجه الجائز بجعل الدرهم المؤجل في مقابلة السلعة المؤجلة والسلعة المعجلة في مقابلة الدرهم المؤجل.
وقصارى ما يكون البجول في المسألة هذه كالدرهم في مسألة أبي حنيفة، فإذا وزعت على الوجه الجائز جعلت البجول الأول في مقابلة الدراهم، والبجول الثاني في مقابلة المنافع، وقد راعى ابن القاسم، رحمهالله، في هذا الباب. أعني سلف العروض في مثلها - هذه الطريقة من التوزيع على الوجه الجائز، فقد أجاز سلم فسطاطية في فسطاطيتين مثلها إحداهما معجلة والأخرى مؤجلة جعل المعجلة في مقابلة المؤجلة والمؤجلة هبة، ولا يجوز في المذهب سلم درهم في درهمين أحدهما معجل، وأيضاً فإنما كان يتصور سلف البجول في هذه النازلة متمماً لو كان خارجاً عن النسج، وأما وهو به منتظم مرتبط فلا يتبين في ذلك البيان إنما هو جزء من المنسج الذي وقعت الإجارة عليه؛ وابن الماجشون وسحنون قد أجازا
بيع السيف المُحَلَّى بجنس ما حُلِّي به إلى أجل وهما لا يجيزان البيع والسلف.
وهذه المسألة أشبه شيء بمسألتنا، إذ حاصلها أنَّ السيفَ مثلاً قد اشتمل على
عرض ونقد أخذ في مقابلته نقداً. والنقدُ بالنقد عين السلف، ولم يراعه مجيزُ هذه المسألةِ، ولا أذكر أيضاً من اعتلَّ لمنعها بأنه بيعٌ وسلف، بل قد راعى في المدونة القول بالجواز حيث أمضى البيع في المحلَّى بتفصيل حليته، وإنما كرهه مالك ولم يشدِّدْ فيه الكراهة، وكأنه نُحِيَ به ناحية العروض، هكذا في المدونة.
فإن قلتَ: إنما جاء هذا فيما تكون حِليته تبعاً: الثلث فأدنى؟
فالجواب: أن المتلقي من السائلين هو أَنَّك إذا نظرتَ إلى ما يخص البجول من الكراء وقيمة البجول الثاني وجدته الثلث فأقل على كل تقدير.
فإن قلت: إن المُحَلَّى كله بحليته معه فيتبع بعضه بعضاً، وهذه ليست كذلك فإن البجول مبيع والمنسج مكترى؟
فالجواب: أنه لا ينبني على هذا شيء، فحكم عقدة الكراء - كحكم عقدة البيع، وقد أجازوا كراءَ الدار واشتراطَ غلةِ شجرتها، وإن لم تُخلق غلتُها، أو لم يبد صلاحُها، وهي - أعني المسألة - قد اشتملتْ على كراءٍ وبيع، ألغي المبيعُ لكونه تبعاً للكراء، وفي مسألتنا - إذا ألغيتَ المبيعَ ارتفع
مانعُ السلف، وكذلك أجاز في المدونة كراءَ البقرةِ للحرث واشتراط لبنها، وهي أيضاً قد اشتملتْ على كراءٍ وبيع أُلغي اللبن لما كان تابعاً لكراء البقرة، وهذه أيضاً مثل مسألتنا، بل كان المنعُ إليها أقرب، إذ بيع لبنِ بقرةٍ على انفراده لا يجوز.
أما ثانياً فلأنَّ عدم وصف البجول الثاني فيه غرر لا ربا فيه، وإنما هو من الغرر، وله حكمه، ومن حكمه اعتفارُهُ إذا كان يسيراً غيرَ مقصود، أما يسارتُه فبينةٌ لأنَّ المنسج مما يضبط رِقة البجول أو خشونته وكذلك يضبط عرضه، وإنما يبقَى غيرَ معلوم طولُه، وذلك عندهم غير كثير، ولأنَّ العادةَ إذا جرت بالمسامحة فيه وعدم المناقشة والرضى به أيًّا ما كان، فهي غيرُ مقصود، كما ذكر في السؤال، ولأنه تبع أيضاً لغيره، والغرر أيضاً في الأتباع ليس منعه بذلك، فقد
أجازوا بيع الثوب في داخله القطن، ولا يجوز بيعُ القطن وحده غير مرئيٍّ.
الباجي والمازري: يجوز الغرر اليسيرُ غير المقصود، وأصله جواز بيع الثمرة بعد بدوِّ صلاحها، وإن كانت العاهة غير مأمونة، والشرب من فم السقي والناس يختلفون في مقدار حاجتهم.
هذا وللنظر أيضاً في هذه المسألة مجالٌ لِمَا تقرَّرَ من أنَّ مذهب مالك - رضيالله عنه - القولُ بالمصالح المرسلة وهي أن تكون المصلحةُ كليةً محتاجاً إليها، كقوله بجواز تأخير الإجارة في الكراءِ المضمونِ - أعني كراء الدابة إذا نقد الدينارُ أو نحوه، وعلَّله بأنَّ الأكرياء اقتطعوا أموال الناس، فانظر كيف أجاز بالتَّبَع للضرورة، فمن باب أولى أن لا يمنعَ بالتبع إذا كانت الضرورةُ موجودة، إلى غير ذلك من المسائل التي اعتلَّ في إجازتها بحاجة