الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي خُلُود أهل الْجنَّة فِيهَا وَأهل النَّار فِيهَا وَمَا جَاءَ فِي ذبح الْمَوْت
5760 -
عَن معَاذ بن جبل رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَعثه إِلَى الْيمن فَلَمَّا قدم عَلَيْهِم قَالَ يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَيْكُم يُخْبِركُمْ أَن المرد إِلَى الله إِلَى جنَّة أَو نَار خُلُود بِلَا موت وَإِقَامَة بِلَا ظعن. رواه الطبراني في الكبير
(1)
بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا. وتقدم حديث أبي هريرة في بناء الجنة، وَفِيه من يدخلهَا ينعم وَلَا يبأس ويخلد لَا يَمُوت لَا تبلى ثِيَابه وَلَا يفنى شبابه وَحَدِيث ابْن عمر أَيْضا بِمثلِهِ.
قوله: "عن معاذ بن جبل" تقدم الكلام على مناقب معاذ رضي الله تعالى عنه. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن"، واليمن إقليم معروف.
قوله: "خلود بلا موت"، الحديث، الخلود هو البقاء الدائم الغير المنقطع.
(1)
المعجم الأوسط (1651)، ومسند الشاميين (1117) أخرجه البزار (كشف الأستار 3688)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 236)، والخطيب: في موضح أوهام الجمع والتفريق (2/ 13)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 396): رواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه، وزاد فيه:"في أجساد لا تموت". وإسناد الكبير جيد إلا أن ابن سابط لم يدرك معاذا. ورواه موقوفا: الحاكم في المستدرك (1/ 83)، وعنه: البيهقي في البعث والنشور (586) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد رواته مكيون، ومسلم بن خالد الزنجي إمام أهل مكة ومفتيهم إلا أن الشيخين قد نسباه إلى أن الحديث ليس من صنعته، والله أعلم. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3770)، وصحيح الجامع الصغير (1946)، والصحيحة (1668).
قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ}
(1)
، دلّ الحديث على خلود أهل الجنة وأهل النار فيهما من غير انقطاع، وعلى مذهب أهل السنة، انتهى. قاله في شرح مشارق الأنوار.
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "وإقامة بلا ظعن"، الظعن هو بالظاء المشالة وفتح العين المهملة هو السفر. قوله:"وتقدم حديث أبي هريرة في بناء الجنة وفيه من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت" الحديث، ينعم بفتح أوله، والعين، معناه تدوم له النعمة.
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "ولا يبأس"، معناه لا يصيبه بأس وهو شدة الحال وتغيره، وهو البأس والبأساء والبُؤس والبُؤساء؛ والبؤس ضد النعيم، ففي هذا الحديث إشارة إلى بقاء الجنة وبقاء جميع ما فيها من النعيم، وأن صفات أهلها الكاملة من الشباب لا تتغير أبدًا وملابسهم التي عليهم من الثياب لا تبلى أبدا، وقد دل القرآن على مثل هذا في مواضع كثيرة كقوله تعالى:{وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}
(2)
، وقوله تعالى:{أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}
(3)
، وقوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}
(4)
، وفيما ذكره صلى الله تعالى من صفة من يدخلها تعريض بذم الدنيا الفانية فإنه من يدخلها وإن نعم فيها فإنه يبأس ومن أقام فيها فإنه يموت ولا يخلد ويفنى شبابه وتبلى ثيابه
(1)
سورة الأنبياء، الآية:34.
(2)
سورة التوبة، الآية:21.
(3)
سورة الرعد، الآية:35.
(4)
سورة الأحزاب، الآية:65.
وتبلى أجسامهم، وفي القرآن نظير هذا،
(1)
التعريض بذم الدنيا وفنائها مع مدح الآخرة وذكر كمالها وبقائها كما قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} إلى قوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
(2)
والآيات في ذلك كثيرة فما عيبت بأكثر من ذكر فنائها وتقلب أحوالها وهذا أدل دليل على انقضائها وزوالها فتتبدل صحتها بالسقم ووجودها بالعدم وشبيبتها بالهرم ونعيمها بالبؤس وحياتها بالموت فتفارق الأجسام النفوس وعمارتها بالخراب واجتماعها بفرقة الأحباب وكل ما فوق التراب تراب، قاله في اللطائف
(3)
.
5761 -
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي هُرَيْرَة رضي الله عنهما عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذا دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة يُنَادي مُنَاد إِن لكم أَن تصحوا فَلَا تسقموا أبدا وَإِن لكم أَن تحيوا فَلَا تَمُوتُوا أبدا وَإِن لكم أَن تشبوا فَلَا تهرموا أبدا وَإِن لكم أَن تنعموا فَلَا تبأسوا أبدا وَذَلِكَ قَول الله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
(4)
. رواه مسلم
(5)
والترمذي
(6)
.
(1)
هذان اللوحان 318 و 319 بين المعقوفين سقطًا من الأصل وأثبتا من النسخة الهندية.
(2)
سورة آل عمران، الآيتان: 14 - 15.
(3)
لطائف المعارف لابن رجب (ص: 28).
(4)
سورة الأعراف، الآية:43.
(5)
مسلم (22)(2837).
(6)
الترمذي (3246).
قوله: "وعن أبي سعيد الخدري" وأبي هريرة رضي الله عنهما، تقدم الكلام على مناقبهما. قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي منادٍ أن لكم أن تصحوا قلا تسقموا أبدا" الحديث، وهذه المناداة تكون في الجنة ويشهد لهذا القول لفظ الحديث، وقيل [تكون] إذا رأوها من بعيد. قاله في شرح مشارق الأنوار.
قوله: "وإن لكم" بكسر إِنّ. وقوله: "فلا تبأسوا أبدًا" والمبتئِس هو الكاره الحزين، قاله ابن الأثير
(1)
، وقال الفارسي: من يدخل الجنة لا يبأس أي لا يفتقر ولا يرى البؤس ولا تشتد حاجته فهو يائس أي لا تصيبهم شدة في [المال] ولا في النفس، والله أعلم. وتقدم الكلام على بقية ألفاظ الحديث في أحاديث الجنة المتقدمة.
5762 -
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتى بِالْمَوْتِ كَهَيئَةِ كَبْش أَمْلَح فينادي بِهِ مُنَاد يَا أهل الْجنَّة فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُول هَل تعرفُون هَذَا فَيَقُولُونَ نعم هَذَا الْمَوْت وَكلهمْ قد رَآهُ ثمَّ يُنَادي مُنَاد يَا أهل النَّار فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُول هَل تعرفُون هَذَا فَيَقُولُونَ نعم هَذَا الْمَوْت وَكلهمْ قد رَآهُ فَيذْبَح بَين الْجنَّة وَالنَّار ثمَّ يَقُول يَا أهل الْجنَّة خُلُود فَلَا موت وَيَا أهل النَّار خُلُود فَلَا موت ثمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}
(2)
وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا. رواه
(1)
النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 89).
(2)
مريم، الآية:93.
البخاري
(1)
ومسلم
(2)
والنسائي
(3)
والترمذي
(4)
، ولفظه: قَالَ إِذا كانَ يَوْم الْقِيَامَة أُتِي بِالْمَوْتِ كالكبش الأملح فَيُوقف بَين الْجنَّة وَالنَّار فَيذْبَح وهم ينظرُونَ فَلَو أَن أحدا مَاتَ فَرحا لمات أهل الْجنَّة وَلَو أَن أحدا مَاتَ حزنا لمات أهل النَّار.
[يشرئبون] بشين معجمة ساكنة ثم راء ثم همزة مكسورة ثم باء موحدة مشددة: أي يمدون أعناقهم لنظروا.
قوله: "وعن أبي سعيد الخدري" تقدم الكلام على ترجمته. قوله صلى الله عليه وسلم: "يُؤتى بالموت كهيئة كبش أملح" وفي لفظ آخر: "يُجاء بالموت كأنه كبش أملح" وهما بمعنى واحد قال: "هذا آخر ما وجد من هذا الجزء". [قال الإمام المازري رحمه الله تعالى
(5)
: الموت عند أهل السنة عرض من الأعراض يضاد الحياة. وقال بعض المعتزلة ليس بعرض بل معناه عدم الحياة، وهذا خطأ لقوله تعالى:{خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}
(6)
، فأثبت الموت مخلوقا، وقد اتفق مذهب أهل السنة والمعتزلة على أن الموت ليس بجسم وإنما المراد به التشبيه والتمثيل وبيان أنه لا يموت أحد بعد ذلك
(1)
صحيح البخاري (4730).
(2)
صحيح مسلم (40)(2849).
(3)
السنن الكبرى للنسائي (11254).
(4)
سنن الترمذي (3156).
(5)
شرح النووي على مسلم (17/ 184).
(6)
سورة الملك، الآية:2.
فيتناول الحديث عليه. الله سبحانه وتعالى يخلق هذا الجسم ثم يذبح مثالا لأن الموت لا يطرأ على أهل الآخرة، انتهى.
وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى
(1)
: الموت معنًى والكلام في ذلك وفي الأعمال فإنها لا تنقلب جواهر، فإن قيل كيف تنقلب الأعمال أشخاصا وهي في نفسها أعراض؟ الجواب أن الله تعالى يخلق من ثواب الأعمال أشخاصا حسنة وقبيحة لأن العرض ينقلب جواهرا إذ ليس من قبيل الجواهر، ومثل هذا ما صح في الحديث أنه يؤتى بالموت كأنه كبش أملح، الحديث. ومحال أن ينقلب الموت كبشا لأن الموت عرض، وإنما المعنى أن الله سبحانه وتعالى يخلق كبشا يسميه الموت فيذبح بين الجنة والنار، ويلقي في قلوب الفريقين أن هذا الموت يكون ذبحه دليلا على الخلود في الدارين، وهكذا كل ورد عليك من الهذا الباب التأويل فيه على ما ذكرت لك، والله تعالى أعلم، انتهى. وإنما جيء بالموت على هيئة كبش لما جاء أن ملك الموت لما أتى آدم عليهما الصلاة والسلام أتاه في صورة كبش أملح قد نشر من أجنحته أربعمائة جناح، وفي بعض النسخ أربعة آلاف جناح، وقال مقاتل والكلبي في قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}
(2)
، خلقهما جسمين جعل الموت على هيئة كبش لا يمر على شيء إلا مات، والحياة على هيئة فرس أنثى بلقاء وهي التي كان جبريل عليه الصلاة والسلام
(1)
التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 385).
(2)
سورة الملك، الآية:2.
والأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين يركبونها خطوها مد البصر لا تمر على شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السامري من ترابها فألقاه على العجل، وهذه هي الحكمة في فداء الذبيح بكبش ليكون فدى من الموت بشكل الموت، ولما سر برؤيته سر أهل الجنة بذبحه منة عليهم. والكبش هو الذبح العظيم الذي فدى الله تعالى به إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وإنما سمي عظيما لأنه رعى في الجنة أربعين عاما، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال: وهو الكبش الذي قرّبه هابيل فتقبل منه، قالوا: ولو تمت تلك الذبيحة لصارت سنة، وذبح الناس أبناءهم. واستشهد الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بهذه القصة على من نذر ذبح ولده يلزمه ذبح شاة، ومنع الجمهور ذلك لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم
(1)
: "لا نذر في معصية الله ولا نذر لابن آدم فيما لا يملك" والله تعالى أعلم.
فائدة: الصخرة في المسجد الأقصى كالحجر الأسود في المسجد الحرام. ولما فدى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالكبش ونحر إبراهيم عليهما الصلاة والسلام فاختار الله عز وجل ذلك الموضع للقربان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم. ومنّ عليه بفداء ابنه، فهو محل الرحمة. قال قاضي القضاة أبي سعد الدين الديري الحنفي أمتع الله تعالى بوجوده القائل بأن الذبح كان على الصخرة، فذهب إلى أن الذبيح إسحاق عليه الصلاة والسلام، ومن قال أنه إسماعيل صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: كان الذبح بمكة، كذا أفاده.
(1)
صحيح مسلم (8)(1641).
وأما قوله: "كهيئة كبش أملح"، اختلف أهل اللغة في الأملح، فقال الأصمعي هو الذي يشوب بياضه شيء من السواد، وقال أبو حاتم هو الذي يخالط بياضه حمرة، وقيل هو الذي يعلو سواد حمرة، وقال ابن الأعرابي هو النقي البياض.
وقال الخطابي
(1)
: هو الأبيض الذي في خلل صوفه طاقات سود، وقال الداودي هو المتغير الشعر بياض وسواد، وقال الكسائي هو الذي فيه بياض وسواد، والبياض أكثر، قاله صاحب العلم المشهور. قال في سلاح المؤمن، قال بعض أصحاب المعاني: يحتمل أن اختلاف اللونين على هذا في هذا المثال لاختلاف الحالين البياض لجهة أهل الجنة الذين ابيضت وجوههم والسواد لجهة أهل النار الذين اسودت وجوههم، انتهى.
وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى
(2)
: يحتمل أن تكون الحكمة في كون الكبش أملح أن البياض من جهة الجنة والسواد من جهة النار. ثم قال: وظاهر هذا الحديث مستحيل، وإذا تقرر ذلك استحال أن ينقلب الموت كبشا لأن ذلك من انقلاب الحقائق وهو محال، وقد تأول الناس هذا الخبر على وجهين أحدهما: أن الله تعالى خلق صورة كبش خلق فيها الموت، فلما أراه أهل الجنة وأهل النار وعرفوه فعل الله تعالى فيه فعلا يشبه الذبح أعدمه عند ذلك العقر حتى يأمن أهل الجنة فيزدادوا سرورا إلى
(1)
معالم السنن (2/ 228).
(2)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (23/ 50).
سرورهم وييأس منه أهل النار فيزدادوا حزنا إلى حزنهم، وعلى هذا يدل باقي الحديث، ولا إحالة في شيء من ذلك ولا بعد انتهى.
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "فينادي به مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون"، الحديث، يشرئبون قد ضبطه الحافظ وفسره فقال: أي يمدون أعناقهم لينظروا، انتهى، أي يتشوّفون ليبصروا ما عرض لهم. وقال ابن الأثير
(1)
وغيره: أي رافعي رؤوسهم متشوقين متطاولين لينظروا إليه، وكل رافع رأسه مشرئب، انتهى.
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "يجاء بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط"، الحديث. قال الإمام القرطبي في التذكرة
(2)
: قلت: هذه الأحاديث مع صحتها نص في خلود أهل النار فيها لا إلى غاية ولا إلى أمد مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة ولا راحة ولا نجاة، بل كما قال تعالى في كتابه الكريم وأوضح فيه من عذاب الكافرين والذين كفروا {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} إلى قوله تعالى:{مِنْ نَصِيرٍ}
(3)
، وقال تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}
(4)
الآية. وقال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا
(1)
النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 455).
(2)
التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 926).
(3)
سورة فاطر، الآية: 36 - 37.
(4)
سورة النساء، الآية:56.
قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}
(1)
الآية، فمن قال أنهم يخرجون منها وأن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها وأنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى المعقول، ومخالف لما جاء به الرسول، وما اجتمع عليه أهل السنة والأئمة العدول {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ}
(2)
الآية، وإنما تخلّى جهنم وهي الطبقة العليا التي فيها العصاة من أهل التوحيد، انتهى. قوله: "ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}
(3)
، وأشار بيده إلى الدنيا" الحديث. قال العلماء: إذ الآخرة ليست دار غفلة، ومعنى أنذرهم أعلمه وحذرهم، والنذارة إعلام بالشر والبشارة إعلام بالخير، ويوم الحسرة يعني به زمن ذبح الموت إذا سمعوا خلود فلا موت، وقضي يعن انختم وتُمِّم، والأمر يعني خلود أهل النار فيها. وقوله تعالى:{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، استئناف خبر عما كانوا عليه في الدنيا لا تعلق له بما قبله.
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في رواية الترمذي رحمه الله تعالى: "إذا كان يوم القيامة أتي بالموت كالكبش الأملح فيوقف بين الجنة والنار فيذبح"، الحديث
…
فقد استفتى بعض الناس علماء زمانه عن هذا الحديث، فذكر كلاما مطولا وفي آخره: ولا يجوز أن يظن أن الموت الذي
(1)
سورة الحج، الآية:19.
(2)
سورة النساء، الآية:115.
(3)
سورة مريم، الآية:93.
يذبح هو ملك الموت -معاذ الله من ذلك- فلا يظن بملائكة الله عز وجل المقربين صلوات الله تعالى عليهم وسلم شيء من ذلك، إنما الموت معنى من المعاني جسّده الله تبارك وتعالى يعرفه بها أهل الجنة لدوام سرورهم ويعرفه بها أهل النار لدوام حزنهم وحسرتهم ولم يكن يشهد أهل الجنة قبل ذبح الموت تكدير ولا خول فإنها دار أمن من أول دخلوهم. وإنما قال في الحديث:"يزدادون فرحا إلى فرحهم"، وهم لا يزالون في زيادة من الفرح لما أنعم الله تعالى عليهم ويرضاه عنهم ورؤيتهم لربهم الدائم الباقي جل جلاله، فيراه أهل الجنة بأعين باقية خالدة لا موت فيها. وقال بعضهم فظاهر عمومات أدلة الكتاب والسنة تدل على أن الموت ثمّ كغيره من الجن والإنس والملائكة، قال الله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}
(1)
، ولم يستثني بذكر الموت ولا أنه يذوق موتتين دون غيره، فكل مخلوق يموت وكل من يموت يحيى بعد موته، وإنما جيء بالموت في صورة كبش لتمام النعمة عليه إشارة إلى أني قد فديتكم من الموت بمثل ما فديت به يعني إسماعيل صادق الوعد أو إسحاق على الخلاف في ذلك، انتهى. وقال بعض الناس في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:"يؤتى بالموت كهيئة كبش" الحديث، الموت معنى من المعاني فالمذبوح الموت وهو غير ملك الموت.
(1)
سورة الدخان، الآية:56.
وجاء في سورة السجدة: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}
(1)
، وفي سورة الأنعام:{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}
(2)
، وفي الزمر:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}
(3)
، والوجه فيه أنه يتوفى الأنفس بقدرته عز وجل بواسطة الملائكة، وملك الموت هو المقدم على ملائكة القبض، والملائكة الأعوان بالمباشرة، فيقال: أنهم يعالجون الخروج إلى أن تبلغ الروح إلى الفم فيقبضها ملك الموت، وإنما جيء به في صورة كبش لتمام النعمة عليهم إشارة إلى أني قد فديتكم من الموت بمثل ما فديت به نببي إسماعيل صادق الوعد صلى الله تعالى عليه وسلم أو إسحاق عليه الصلاة والسلام على الخلاف فيه، انتهى.
قوله "كالكبش الأملح فيوقف بين الجنة والنار فيذبح" أيضا نقل القرطبي رحمه الله تعالى عن كتاب خلع النعلين: أن الذابح للكبش بين الجنة والنار يحيى بن زكريا صلى الله تعالى عليهما وسلم بين يدي النبي عليه أفضل الصلاة والسلام إذ في اسمه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى الحياة الأبدية
(4)
. وذكر صاحب كتاب العروس وكذا صاحب الفردوس أن الذي يذبحه جبريل عليه الصلاة والسلام
(5)
انتهى.
(1)
سورة السجدة، الآية:11.
(2)
سورة الأنعام، الآية:61.
(3)
سورة الزمر، الآية:42.
(4)
خلع النعلين (ص 317)، والتذكرة (ص 928).
(5)
التذكرة (ص 928).
5763 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتى بِالْمَوْتِ يَوْم الْقِيَامَة فَيُوقف على الصِّرَاط فَيُقَال يَا أهل الْجنَّة فيطلعون خَائِفين وجلين أَن يخرجُوا من مكانهم الَّذِي هم فِيهِ ثمَّ يُقَال يَا أهل النَّار فيطلعون مستبشرين فرحين أَن يخرجُوا من مكانهم الَّذِي هم فِيهِ فَيُقَال هَل تعرفُون هَذَا قَالُوا نعم هَذَا الْمَوْت قَالَ فَيُؤْمَر بِهِ فَيذْبَح على الصِّرَاط ثمَّ يُقَال لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا خُلُود فِيمَا يَجدونَ لَا موت فِيهَا أبدا. رواه ابن ماجه
(1)
بإسناد جيد.
قوله: "عن أبى هريرة" تقدم الكلام عليه رضي الله تعالى عنه.
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم ينادي مناد يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا قال فيقال هل تعرفون هذا فيقولون نعم ربنا هذا الموت" الحديث، وفي رواية للترمذي: فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيضطجع فيذبح، فلولا أن الله تعالى قضى لأهل الجنة بالحياة والبقاء لماتوا فرحا
(1)
سنن ابن ماجه (4327)، وأخرجه أحمد (7546) و (8906 و 10656)، وابن حبان (7450) وهناد في الزهد (212)، والحاكم (1/ 83)، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وقال البوصيري المصباح (4/ 264): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. وقال ابن كثير: إسناده جيد قوي على شرط الصحيح النهاية (ص 342) وأخرجه بنحوه ضمن حديث مطول الترمذي (2734) من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3773)، وصحيح الجامع الصغير (7999).
ولولا أن الله تعالى قضى لأهل النار بالحياة فيها والبقاء لماتوا ترحا، قاله في حادي الأرواح
(1)
.
وهذا الكبش والاضجاع والذبح ومعانيه الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحًا. وقال الموت عرض والعرض لا يتجسم فضلا عن أن يذبح وهذا لا يصح فإن الله سبحانه وتعالى ينشيء من الموت صورة كبش يذبح كما ينشيء من الأعمال صورا معاينة يثاب بها ويعاقب، والله تعالى ينشيء من الأعراض أجساما تكون الأعراض مادة لها، وينشئ من الأجسام أعراضا كما ينشئ سبحانه وتعالى من الأعراض أعراضا ومن الأجسام أجساما فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى ينشيء من الأعراض أجساما يجعلها مادة لها كما في الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم:"تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان"، الحديث، فهذه القراءة ينشئها الله تعالى غمامتين، وكذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث
(2)
:
(1)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 347).
(2)
أحمد (18362)، (18388)، وأخرجه ابن ماجه (3809)، وابن أبي شيبة (29906)، (36046) ومن طريقه الطبراني في الدعاء (1693)، وفي المعجم الكبير (21/ 21/ 24/ 2) البزار = البحر الزخار (3236)، والحاكم 1/ 500، وأبو نعيم في الحلية (4/ 269)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص: 212)، وقال العراقي في المغني عن حمل الأسفار (ص: 355) أخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه على شرط مسلم. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/ 132) هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رواه ابن أبي =
"إنهما يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتمجيده وتحميده ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن حول العرش" الحديث، رواه الإمام أحمد، وكذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الآخر في عذاب القبر ونعيمه للصور التي يراها فيقول من أنت فيقول أنا عملك الصالح، وأنا عملك الشيِّن. وهذا حقيقة لا خيال ولكن الله سبحانه وتعالى أنشأ له وعليه صورة حسنة وصورة قبيحة وهذا النور الذي يقسم بين المؤمنين يوم القيامة إلى نفس إيمانهم أنشأ الله سبحانه وتعالى لهم منه نورا يسعى بين أيديهم، فهذا أمر معقول لو لم يرد النص، فورود النص به من باب تطابق السمع والعقل انتهى. فهذا ملخص من كلام صاحب حادي الأرواح
(1)
.
5764 -
وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتى بِالْمَوْتِ يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُ كَبْش أَمْلَح فَيُوقف بَين الْجنَّة وَالنَّار ثمَّ يُنَادي مُنَاد يَا أهل الْجنَّة فَيَقُولُونَ لبيْك رَبنَا قَالَ فَيُقَال هَل تعرفُون هَذَا فَيَقُولُونَ نعم رَبنَا هَذَا الْمَوْت ثمَّ يُنَادي مُنَاد يَا أهل النَّار فَيَقُولُونَ لبيْك رَبنَا قَالَ فَيُقَال لَهُم هَل تعرفُون هَذَا فَيَقُولُونَ نعم رَبنَا هَذَا الْمَوْت فَيذْبَح كَمَا تذبح الشَّاة فَيَأْمَن هَؤُلَاءِ وَيَنْقَطِع رَجَاء
= الدنيا والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ورواه مسدد في مسنده ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3358)، وصحيح الترغيب والترهيب (1568).
(1)
انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 400) وما بعدها.
هَؤُلَاءِ. رواه أبو يعلى
(1)
واللفظ له والطبراني
(2)
والبزار
(3)
وأسانيدهم صحاح.
قوله رحمه الله تعالى: "وعن أنس"، هو ابن مالك، تقدم الكلام عليه رضي الله تعالى عنه. قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:"يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار"، الحديث، تقدم الكلام على الكبش الأملح في الأحاديث قبله. قوله صلى الله عليه وسلم:"ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! "، الحديث، تقدم الكلام على قوله:"لبيك ربنا" في الباب قبله وغيره. قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم ربنا، هذا الموت"، الحديث، كان يزيد الرقاشي رحمه الله تعالى يقول في كلامه:"أمن أهل الجنة من الموت فطاب لهم العبش، وأمنوا من الأسقام فهنأ لهم في جوار الله عز وجل طول المقام"، ثم يبكي حتى تجري دموعه على لحيته، قاله في حادي الأرواح
(4)
.
(1)
أخرجه أبو يعلى (2898)، وفي المعجم (311)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 395): رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط بنحوه والبزار ورجالهم رجال الصحيح غير نافع بن خالد الطاحي وهو ثقة. وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (8/ 276): رواه أبو يعلى والطبراني والبزار، وأسانيدهم صحاح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3774).
(2)
أخرجه الطبراني في "الأوسط "(3672).
(3)
أخرجه البزار (7240).
(4)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 403).
5765 -
وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا صَار أهل الْجنَّة إِلَى الْجنَّة وَأهل النَّار إِلَى النَّار جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يَجْعَل بَين الْجنَّة وَالنَّار فَيذْبَح ثمَّ يُنَادي مُنَاد يَا أهل الْجنَّة لَا موت يَا أهل النَّار لَا موت فَيَزْدَاد أهل الْجنَّة فَرحا إِلَى فَرَحهمْ وَأهل النَّار حزنا إِلَى حزنهمْ.
5766 -
وَفِي رِوَايَة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: يدْخل الله أهل الْجنَّة الْجنَّة وَأهل النَّار النَّار ثمَّ يقوم مُؤذن بَينهم فَيَقُول يَا أهل الْجنَّة لَا موت وَيَا أهل النَّار لَا موت كل خَالِد فِيمَا هُوَ فِيهِ رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم
(1)
ولنختم الْكتاب بِمَا ختم بِهِ البُخَارِيّ رحمه الله كِتَابه وَهُوَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كلمتان حبيبتان إِلَى الرَّحْمَن خفيفتان على اللِّسَان ثقيلتان فِي الْمِيزَان سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله الْعَظِيم
(2)
.
قَالَ الْحَافِظ زكي الدّين عبد الْعَظِيم مملي هَذَا الْكتاب رضي الله عنه وَقد تمّ مَا أرادنا الله بِهِ من هَذَا الْإِمْلَاء الْمُبَارك ونستغفر الله سُبْحَانَهُ مِمَّا زل بِهِ اللِّسَان أَو دَاخله ذُهُول أَو غلب عَلَيْهِ نِسْيَان فَإِن كل مُصَنف مَعَ التؤدة والتأني وإمعان النّظر وَطول الْفِكر قل أَن يَنْفَكّ عَن شَيْء من ذَلِك فَكيف بالمملى مَعَ ضيق وقته وترادف همومه واشتغال باله وغربة وَطنه وغيبة كتبه وَقد اتّفق إملاء عدَّة من الْأَبْوَاب فِي أَمَاكِن كَانَ الْأَلْيَق بهَا أَن تذكر فِي غَيرهَا وَسبب ذَلِك عدم استحضارها فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن ونذكرها فِي غَيرهَا فأمليناه حسب مَا اتّفق
(1)
أخرجه البخاري (6548)، ومسلم (42 و 43 - 2850).
(2)
أخرجه البخاري (6406) و (6682) و (7563)، ومسلم (31 - 2694).
وَقدمنَا فهرست الْأَبْوَاب أول الْكتاب لأجل ذَلِك وَكَذَلِكَ تقدم فِي هَذَا الْإِمْلَاء أَحَادِيث كَثِيرَة جدا صِحَاح وعَلى شَرط الشَّيْخَيْنِ أَو أَحدهمَا وَلَكِن لم ننبه على كثير من ذَلِك بل قلت غَالِبا إِسْنَاد جيد أَو رُوَاته ثِقَات أَو رُوَاة الصَّحِيح أَو نَحْو ذَلِك وَإِنَّمَا منع من النَّص على ذَلِك تَجْوِيز وجود عِلّة لم تحضرني مَعَ الْإِمْلَاء وَكذَلِكَ تقدم أَحَادِيث كَثِيرَة غَرِيبَة وشاذة متْنا أَو إِسْنَادًا لم أتعرض لذكر غرابتها وشذوذها وَالله أسأَل أَن يَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم وَأَن ينفع بِهِ إِنَّه ذُو الطول الْوَاسِع الْعَظِيم.
قوله رحمه الله تعالى: "وفي رواية: يدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت" الحديث. وهذا الأذان فإن كان بين الجنة والنار فهو يبلغ جميع أهل الجنة والنار، ولهم نداء آخر يوم زيارتهم ربهم تبارك وتعالى يرسل إليهم ملكا فيؤذن فيهم بذلك فيسارعون إلى الزيارة كما يؤذّن مؤذن الجمعة إليها، وذلك في مقدار يوم الجمعة كما مر فيباب زيارتهم الرب عز وجل، والله تعالى أعلم، قاله أيضا في حادي الأرواح
(1)
.
سؤال: ملك الموت هل يجيء بعدما يموت وهل قول من قال بأنه لا يجيء لئلا تكدر حياته عيش أهل الجنة حق أم لا؟ وهل في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو الآثار المعتمدة التي يرجع الحكم إليها في مثل هذه الواقعة ما يدل على ذلك أو لا. قال شيخ الإسلام
(1)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 164).
ابن حجر الشافعي رحمه الله تعالى
(1)
برحمته كلفني السائل الكتابة عن هذا السؤال فرأيت أن أتبع المنقول في ذلك لقول شيخنا حافظ العصر أبي الفضل رحمه الله تعالى في جوابه أنه لم ينقل لنا أن ملك الموت لا يجيء بعد موته، وأشار قبل ذلك إلى تصحيح أنه يموت مع من يموت. فأما كونه يموت مع من يموت فورد ذلك في عدة آثار منها ما أخرجه البيهقي في كتاب البعث والنشور
(2)
من طريق زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}
(3)
. قال: فكان ممن استثنى الله عز وجل ثلاثة جبريل وميكائيل وملك الموت. فيقول الله عز وجل -وهو أعلم- يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: بقي وجهك الكريم الباقي الكرم وعبدك جبريل وميكائيل وملك الموت. فيقول عز وجل: توف نفس ميكائيل. ثم يقول -وهو أعلم-: من بقي؟ فيقول: بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك جبريل وملك الموت. فيقول عز وجل: توف نفس جبريل. ثم يقول -وهو أعلم-: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: بقي وجهك الكريم الباقي وعبدك ملك الموت وهو ميت. فيقول عز وجل: مت، فيموت. ثم ينادي عز وجل: أنا بدأت الخلق ثم أعيدهم. هذا
(1)
فتح الباري (11/ 371).
(2)
البيهقي في البعث والنشور (239).
(3)
سورة الزمر، الآية:68.
حديث غريب قال البيهقي بعد تخريجه، في رواته من يُضعَّف. وجاء من طريق آخر، فوجدنا الطبري قد أخرج في التفسير
(1)
في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}
(2)
الآية من طريق الفضل بن عيسى عن يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية. فقيل: من هؤلاء الذين استثنى الله تعالى يا رسول الله؟ قال: جبريل وميكائيل وملك الموت، فإذا لم يبق غيرهم قال: يا ملك الموت من بقي -وهو سبحانه وتعالى أعلم- فذكر نحو رواية النميري إلا أنه خالف في بعض الترتيب فوافقه في أن أول من يموت من الملائكة ميكائيل. وقال في روايته: فيقع كالطود العظيم ثم يقول الله تبارك وتعالى: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: بقي جبريل وملك الموت، فيقول: يا ملك الموت مت، فيموت ثم يقول: يا جبريل من بقي، فيقول: بقي جبريل. فيقول: يا جبريل ما بُدٌّ من موتة، فيقع ساجدًا يخفق بجناحيه لا إله إلا أنت الحي الباقي وجبريل الميت الفاني، وهذا الإسناد أضعف من الذي قبله. ولأصل هذه القصة شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه
(3)
: إن الذين استثنوا في نفخة الفزع هم
(1)
الطبري في التفسير (20/ 254).
(2)
سورة الزمر، الآية:68.
(3)
هو حديث الصور الطويل: أخرجه ابن راهويه في "المسند"(10)، وابن أبي الدنيا في الأهوال (173)، والطبري في التفسير (20/ 542)، والطبراني في الأحاديث الطوال (36)، والشافعي في الغيلانيات (1111)، و (1126) أبو يعلى الموصلي في مسنده كما في البداية والنهاية (19/ 310)، وابن المقرئ في المعجم (1108)، والبيهقي في البعث =
الشهداء وإن الذين استثنوا في نفخة الصعق حملة العرش وجبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول الله عز وجل:"إني كتبت الموت على من كان تحت عرشي"، قال: فيأمر ملك الموت، فيقول: لِيمت حملة العرش فيموتون. فيقول تعالى -وهو أعلم- من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت أنا.
فيقول عز وجل أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت لا تحَيى، فيموت [
…
]
(1)
قاله الطبري
(2)
. وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه نحوه وزاد فيهم إسرافيل، فقال: جملتهم اثنا عشر. وحكى البكري والثعلبي وغيرهم اختلافا في تعيين الذين استثنى الله تعالى فقال البكري: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، زاد على الأخبار المرفوعة اسم إسرافيل، وكذا أخرجه البيهقي في تفسير مقاتل بن سليمان، ومن طريق سعيد بن المسيب قال: قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
= والنشور (609)، قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار (ص: 1898) قال البخاري ولم يصح وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (1/ 187) هذا إسناد ضعيف. وقال ابن حجر في فتح الباري (11/ 369) وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو بكر بن العربي في سراجه وتبعه القرطبي في التذكرة وقول عبد الحق في تضعيفه أولى وضعفه قبله البيهقي قوله: رواته كلهم ثقات غير إسماعيل بن رافع فإنهما لم يحتجا به وتعقبه الذهبي في التلخيص: في إسناده إسماعيل بن رافع هالك وضعف الألباني إسناده في تخريج العقيدة الطحاوية (ص 232) ..
(1)
ما بين المعقوفين عبارة غير واضحة.
(2)
الطبري في التفسير (20/ 254) وقوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله بالاستثناء في هذه الآية، فقال بعضهم عنى به جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}
(1)
ليس حملة العرش منهم لأنهم فوق السماوات وليسوا من سكان السماوات، وجبريل وميكائيل من الصافين حول العرش، وقيل المستثنى موسى عليه الصلاة والسلام، أخرجه الطبري
(2)
من طريق الحسن وقتادة والثعلبي من طريق جابر، وأخرج أيضا من طريق الحسن قال:{إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}
(3)
قال الله وحده.
وقيل: المستثنى الولدان الذين في الجنة والحور العين وقيل خزان الجنة والنار ومن فيهما من الحور والولدان ومن الحيات والعقارب، حكاه الثعلبي عن الضحاك بن مزاحم. قال الثعلبي
(4)
: استضعف بعض أهل النظر هذه الأخبار بأن الاستثناء في الآية الكريمة وقع في سكان السماوت والأرض وليس جميع من ذكر منهم إلا الشهداء وموسى عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم. وأما كونه يحيى مع من يحيى فإن الأخبار الواردة في ذلك مع ضعفها اختلفت هل يحيى بعد موته أو لا؟ فأما الخبر الذي جاء فيه أنه يحيى فأخرج إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في تفسيره عن جويبر بن سعيد عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو منقطع بين الضحاك وابن عباس، قال في قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}
(5)
(1)
سورة الزمر، الآية:68.
(2)
الطبري في التفسير (20/ 258) عن قتادة. الطبري في التفسير (20/ 259) عن الحسن.
(3)
سورة الزمر، الآية:68.
(4)
فتح الباري (11/ 371).
(5)
سورة الزمر، الآية:68.
الآية، فكان ممن استثنى إسرافيل وجبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول الله تعالى يا ملك الموت اقبض روح عبدي ميكائيل فيقبض روحه. ثم يقول عز وجل: اقبض روح عبدي جبريل فيقبض روحه. ثم يقول: اقبض روح عبدي إسرافيل، ثم يقول تعالى لملك الموت: مت فيموت وهو آخر الخلق موتا فيبقى الجبار عز وجل فردًا صمدًا فيمكثون أربعين لا أدري سنة أو شهرا أو يوما، فيحيى الله تعالى ملك الموت وجبريل وميكائيل وإسرافيل فذكر الحديث، وسيأتي في الفصل بعده عن وهب بن منبه التصريح بأن ملك الموت يموت ثم يحيى. وقد أنكر أبو محمد بن حزم في الملل والنحل موت الملائكة فقال: الملائكة أرواح لا أرواح فيها فلا يموتون أصلًا. وقسّم هو وغيره الخلق إلى أربعة أقسام، قسم كان معدوما ثم أوجد ثم يعدم فلا يوجد وهو -الجمادات- وقسم مثله لكن اختلف في إيجادهم بعد العدم ثم يعدمون وهم الخلق عدا الإنس والجن والملائكة والشياطين، وقسم يوجد ثم يعدم ثم يوجد فلا يعدم بعدها وهو الملائكة وما في الجنة والنار، والله تعالى أعلم.
وأما الخبر الذي جاء فيه أن ملك الموت لا يحيى بعد أن يموت، فذكر البيهقي في البعث والنشور
(1)
بعد سياق حديث الطور بطوله من طريق المكي عن إسماعيل بن رافع عن محمد بن يزيد ابن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه إسحاق بن راهويه في تفسيره، وذكر البيهقي أن في بعض طرق هذا الحديث أنه يقال لملك الموت:
(1)
هو حديث الصور الطويل، سبق تخريجه.
"مت موتة لا حياة بعدها"، وأشار البيهقي إلى شذوذ هذه الزيادة. وأما ما أورده المسئول عنه من المناسبة بكونه يموت فلا يحيى، وهو أن ذلك مراعاة لقلوب أهل الجنة حتى لا يقع لهم تكدير إذا رأوه مثلا أو يسمعون بوجوده فهي مناسبة لا بأس به إن ثبت الخبر بذلك ولا يقدح فيها كون الأصل في سكان الجنة أن لا يحصل لهم تكدير لأن ذلك لا يمنع من رفع أسبابه [
…
]
(1)
ولعل الذي استنبط هذه المناسبة تلقاها من تصوير الموت في صورة الكبش وذبحه بين الجنة والنار الحديث، وقد سبق إيراده في الأجوبة، وأشير في نفس سياق الحديث إلى نفس المناسبة المذكورة وهو أن أهل الجنة يزدادون فرحا إلى فرحهم وأهل النار حزنا إلى حزنهم، فيقال في جواب هذا لا يحتاج أهل الجنة إلى زيادة فرح لأنهم كل يوم في مزيد الفرح كذلك أسباب الفرح كثيرة وأنواعه متعددة بإيجاد ما يقتضيه وإعدام ما يقتضي عكسه.
وأما قول من قال: أن الكبش الذي يؤتى به بين الجنة والنار فيذبح هو ملك الموت نفسه فلم أر في ذلك بعد طول البحث والتفتيش نقلا. ولعل شبهة من زعم ذلك ما ورد من بعض الأخبار الواهية أن ملك الموت نفسه على صورة كبش، وها أنا أذكر ذلك وأبيّن وَهَاهُ وأئمة على تقدير وثبوته لم يرد التصريح بأنه الذي يذبح بل الوارد يقدم على تقدير ثبوته، ربنا يقول:"مت ولا تحيى بعدها" وذلك قبل -الصعقة- والنشر والقصاص، يموت أولا ثم يعيش ثم يذبح لأنه مخالف قوله:"لا تحيى بعدها"، ولا أنه يذبح حين يقال له مت لأن
(1)
كلمة غير واضحة.
ذلك قبل استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. والكبش إنما يذبح بعد الاستقرار جزما، فبطل ما تجبله الذكر فإن الخبر الذي أشرت إليه.
فأخرج أبو الشيخ ابن حيان وهو الحافظ أبو محمد عبد الله بن جعفر بن حيان بمهملة وياء آخر الحروف ثقيلة، وأبو الشيخ لقبه. في كتاب الآخرة من كتاب المبتدأ، فذكر في موضع منه بسنده إلى وهب قال: ثم قال الله تعالى: "كن"، فكان الصور وهو من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة. ثم قال للعرش خذ الصور فتعلق به، ثم قال:"كن" فكان إسرافيل وهو من أقرب الملائكة إلى الله تعالى، فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة فذكر صفة الصور مطولًا
(1)
، ثم قال في موضع آخر بسنده فإذا كان يوم القيامة، يقول الله عز وجل:"يا إسرافيل هات ما وكلتك به"، فيقول: نعم يا رب في الصور كذا وكذا ثقبة، وللإنس منها كذا وكذا، وللجن كذا وكذا، وللحيتان والبهائم كذا وكذا، وللوحش كذا وكذا، وللمطر كذا وكذا، فيقول انظره في اللوح المحفوظ، فإذا هو مثل بمثل لا يزيد ولا ينقص، فذكر الحديث بطوله، وفيه ذكر خلق جبريل وميكائيل، ثم يقول لملك الموت يا عزرائيل هات ما وكلتك، فيقول قبضت روح كذا وكذا إنسي وكذا وكذا جني وكذا وكذا شيطان وكذا كذا غريق، وكذا كذا حريق، فذكره بطوله
(2)
، وقال في موضع بسنده: ثم يجمعون في الصور، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل
(1)
العظمة (3/ 840 - 842).
(2)
العظمة (3/ 847 - 848).
عليه الصلاة والسلام فينفخ فتدخل كل روح في جسدها بإذن الله عز وجل
(1)
.
وقال في موضع آخر منه -بسنده عن وهب- ثم قال: كن فكان عزرائيل، ثم قال عز وجل: كن فيكون كبشا أملح مستتر السواد وبياض، له أربعة أجنحة جناح تحت العرش وجناح في العرش وجناح في المشرق وجناح في المغرب إلى أن قال: ثم يقول للموت أبرز، فيبرز الموت لعزرائيل فذلك قوله تعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}
(2)
، قال فهؤلاء الأربعة الأملاك جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت [أول من خلقهم الله عز وجل من الخلق، وآخر من يميتهم الله وأول من يحييهم وهم المدبرات أمرا والمقسمات أمرًا
(3)
].]
(4)
.
(5)
* * *
(1)
العظمة (3/ 849).
(2)
سورة السجدة، الآية:11.
(3)
العظمة (3/ 899 - 900).
(4)
اللوحات: من 321 إلى 325 بين [] سقطت من الأصل وأثبتها من النسخة الهندية وهى آخر الشرح.
(5)
هذا آخر الكتاب والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، حمدا دائما بدوامه، باقيا ببقائه. وأفضل الصلاة والسلام، على عبده ورسوله محمد خير الأنام، وعلى آله وصحبه البررة الكرام. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. وكان الفراغ منه في خاتمة جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية. كتب محققه محمد إسحاق محمد آل إبراهيم لطف الله به وبوالديه وغفر لهم وعفا عنهم.