المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في سوق الجنة - فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب - جـ ١٥

[حسن بن علي الفيومي]

الفصل: ‌فصل في سوق الجنة

‌فصل في سوق الجنة

5727 -

عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن فِي الْجنَّة لسوقا يأتونها كل جُمُعَة فتهب ريح الشمَال فتحثو فِي وجوهم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إِلَى أَهْليهمْ وَقد ازدادوا حسنا وجمالا فَتَقول لَهُم أهلوهم وَالله لقد ازددتم بَعدنَا حسنا وجمالا فَيَقُولُونَ وَأَنْتُم وَالله لقد ازددتم بَعدنَا حسنا وجمالا. رواه مسلم

(1)

.

قوله: "عن أنس بن مالك" تقدم. قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لَسوقا يأتونها كل جمعة" الحديث. قال النووي

(2)

: المراد بالسوق هنا مجمع لهم يجتمعون فيه كما تجتمع الناس في الدنيا في السوق، والسوق يذكر ويؤنث وهو أفصح وسميت السوق سوقا لسوق من يأتيها من الناس بضائعهم إليها. وقيل سميت سوقا لقيام الناس فيها على سوقهم وقيل لسوق الناس بعضهم بعضا إليها، [فيحتمل] أن يكون سوق الجنة هذا عبارة عن مجتمع أهل الجنة ومحل تزاورهم ويسمى سوقا بالمعنى الأول ويؤيد هذا أن أهل الجنة لا يفقدون شيئا حتى يحتاجوا إلى شرائه من السوق ويحتمل أن يكون سوقا مشتملا على محاسن ومشتهيات ومستلذات تجمع هنالك مرتبة محسنة كما تجمع في الأسواق حتى إذا جاء أهل الجنة فرأوها فمن اشتهى شيئا وصل

(1)

صحيح مسلم (13)(2833).

(2)

شرح النووي على مسلم (17/ 170).

ص: 102

إليه من غير ممانعة ولا معارضة، ونعيم الجنة وخيرها أعظم وأوسع من ذلك كله وخص يوم الجمعة بذلك لتفضيله ولما خصه الله تعالى به من الأمور التي تقدم ذكرها ولأنه يوم المزيد أي اليوم الذي يوفى لهم ما وعدوا به من الزيادة وأيام الجنة تقديرات إذ لا ليل هناك ولا نهار وإنما هناك أنوار متوالية لا ظلمة معها، اهـ. ومعنى يأتونها في كل جمعة أي في مقدار كل جمعة أي أسبوع وليس هناك حقيقة أسبوع لفقد الشمس والليل والنهار.

قوله: "فتهب ريح الشمال" الحديث. الشمال بفتح الشين والميم بغير همز هكذا الرواية في صحيح مسلم. قال صاحب العين هي الشمال والشمْأل بإسكان الميم مهموز والشأملة بهمزة قبل الميم والشَمْل بفتح الميم بغير ألف والشمول بفتح الشين وضم الميم، اهـ. والشمال بكسر الشين ضد اليمين وريح الشمال بفتح الشين والجمع شمالات وغديو مشمول إذا هبت عليه ريح الشمال [والشمول] الخمر. اهـ.

[وريح الشمال]

(1)

[و] هي التي تهب من نواحي القبلة وعبارة بعضهم من دبر القبلة، قال القاضي عياض

(2)

: وخص ريح الجنة بالشمال لأنها ريح المطر عند العرب كانت تهب من جهة الشمال وبها يأتي سحاب المطر وكانوا يرجون السحابة الشآمية وجاء في الحديث تسمية هذه الريح المثيرة أي المحركة لأنه تثير في وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة وغيره من

(1)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(2)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 364).

ص: 103

نعيمها، قاله النووي في شرح مسلم

(1)

. وريح الشمال مقابلة الجنوب. وقال الجوهري: الشمال الريح التي تمر من ناحية القطب.

فائدة لطيفة: والرياح أربع: التي من تجاه الكعبة الصبا وهي مقصورة وهي الشرقية. فالصبا هي الريح التي تجيء من ظهرك إذا استقبلت القبلة وهذا في يوم [حُصِر] هو وقريظة بالمدينة يوم الخندق ونزلوا قريبا بالمدينة وهي التي تأتي من المشرق [و] قيل التي تخرج من وسط المشرق إلى القطب الأعلى [على]

(2)

حذاء الجدي فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نصرت بالصبا. روي أن الأحزاب لما حاصروا المدينة يوم الخندق وهبت ريح الصبا وكانت شديدة فقطعت خيامهم وألقى الله في قلوبهم الرعب فهزموا. قاله الكرماني

(3)

. والتي من الكعبة الدبور بفتح الدال الريح الغربية التي [تجري] من قبل وجهك إذا استقبلت القبلة وأهلكت عاد بالدبور وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به.

وفي الحديث: لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ونعوذ بك من شر

(1)

شرح النووي على مسلم (17/ 171).

(2)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(3)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (13/ 162).

ص: 104

هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به. عن ابن عباس

(1)

.

قال: ما هبت ريح قط إلَّا جثى النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه "أي من التواضع والشفقة على أمته" وقال: اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا اللهم اجعلها رياحًا "أي مبشرات" ولا تجعلها ريحًا. قال في ابن عباس في كتاب الله عز وجل: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا}

(2)

، {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}

(3)

وقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}

(4)

{يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}

(5)

. وعن ابن عمر

(6)

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد

(1)

وأخرجه الشافعي (1/ 81)، وعنه: البيهقي في الدعوات الكبير (369)، وفي معرفة السنن والآثار (2096)، والبغوي في التفسير (4/ 376) ابن عدي في الكامل (3/ 579)، الطبراني في معجمه الكبير (11/ 214/ 11533) وأبو يعلى (2456)، وقال الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (3/ 59) ورواه ابن عدي في الكامل وأعله بحسين بن قيس ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي. وقال الألباني في ضعيف الجامع (4461)، والضعيفة (4217): ضعيف جدًا.

(2)

سورة القمر، الآية:19.

(3)

سورة الذاريات: الآية: 41.

(4)

سورة الحجر، الآية:22.

(5)

سورة الروم، الآية:46.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة (29217)، وأحمد (5763)، والبخاري في "الأدب المفرد"(721)، والترمذي (3450)، والنسائي في "الكبرى"(10698)، وأبو يعلى (5507)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 318/ 13230)، والحاكم (4/ 286) - والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 505)، وقال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. الحاكم فقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في ضعيف =

ص: 105

والصواعق قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك. الرعد الصوت الذي يسمع من السحاب والصاعقة بأن تسقط من السماء. وقيل الصاعقة صيحة العذاب أيضا. و [أما الريح]

(1)

التي من جهة يمين الكعبة [تسمى] الجنوب والتي من شمال الكعبة تسمى الشمال بفتح الشين وفيها خمس لغات كما تقدم نقله عن صاحب العين ولكل من هذه الرياح طبع ونفع لفصول السنة فالصبا حارة يابسة والدبور رطبة باردة والجنوب حارة رطبة وهي الأرنب وفي الحديث اسمها عند الله الأرنب وعندكم الجنوب وأهل مكة يستعملون هذا الاسم كثيرا والشمال باردة يابسة وهي ريح الجنة التي تهب عليهم كما في حديث أنس هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

تنبيه: يكره سب الريح لأنه خلق من خلق الله تعالى وجند من أجناده، وفي الحديث

(2)

: الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا

= الجامع (4421)، والسلسلة الضعيفة (1042). قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار (ص: 387) أخرجه الترمذي وقال غريب والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن عمر وابن السني بإسناد حسن.، وقال: النووي في خلاصة الأحكام (2/ 889) رواه البيهقي بإسناد ضعيف، من رواية الحجاج بن أرطأة.

(1)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(2)

أخرجه البخاري في الأدب (906، 720)، وأبو داود (5097)، والحاكم (4/ 318)، وعبد الرزاق (20004). وابن أبي شيبة (26302 و 29209)، وأحمد (2/ 250 و 436 و 267 و 409 و 518)، وابن ماجه (3727)، والنسائي في الكبرى (10701 و 10702)، وأبو يعلى (6142). وابن حبان (1007 و 5732)، والطحاوي في المشكل (3/ 380)، و أبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (4/ 1313 و 1314) وقال النووي في الخلاصة =

ص: 106

تسبوها وسألوا الله خيرها واستعيذوا به من شرها. قوله: "من روح الله" بفتح الراء ومعناه من رحمة الله بعباده. وروى الإمام الشافعي رحمه الله أن رجلا شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الفقر فقال: لعلك تسب الريح؟ وكان السبب في ذلك [أنها] لما كانت سبب المطر والمطر سبب الرزق فمن سبها منع الرزق بذلك، اهـ. ذكره الكمال الدميري

(1)

.

5728 -

وَعَن سعيد بن الْمسيب أَنه لَقِي أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة أسأَل الله أَن يجمع بيني وَبَيْنك فِي سوق الْجنَّة قَالَ سعيد أَو فِيهَا سوق قَالَ نعم أَخْبرنِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن أهل الْجنَّة إِذا دخلوها نزلُوا فِيهَا بِفضل أَعْمَالهم فَيُؤذن لَهُم فِي مِقْدَار يَوْم الْجُمُعَة من أَيَّام الدُّنْيَا فيزورون الله ويبرز لَهُم عَرْشه ويتبدى لَهُم فِي رَوْضَة من رياض الْجنَّة فتوضع لَهُم مَنَابِر من نور ومنابر من لُؤْلُؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضَّة وَيجْلس أَدْنَاهُم وَمَا فيهم دنيء على كُثْبَان الْمسك والكافور مَا يرَوْنَ أَن أَصْحَاب الكراسي أفضل مِنْهُم مَجْلِسا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة قلت يَا رَسُول الله هَل نرى رَبنَا قَالَ نعم هَل تتمارون فِي رُؤْيَة الشَمْس وَالْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر قُلْنَا لَا قَالَ كَذَلِك لَا تتمارون فِي رُؤْيَة ربكُم عز وجل وَلَا يبْقى فِي ذَلِك الْمجْلس أحد إِلَّا حاضره الله محاضرة حَتَّى إِنَّه ليقول للرجل مِنْكُم أَلا تذكر يَا فلَان

= (2/ 886): رواه أبو داود بإسناد حسن وصححه الألباني في صحيح الجامع (3564)، والصحيحة (2756).

(1)

النجم الوهاج في شرح المنهاج (2/ 586).

ص: 107

يَوْم عملت كذَا وَكَذَا يذكرهُ بعض غدراته فِي الدُّنْيَا فَيَقُول يَا رب أفلم تغْفر لي فَيَقُول بلَى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هَذِه فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك غشيتهم سَحَابَة من فَوْقهم فأمطرت عَلَيْهِم طيبا لم يَجدوا مثل رِيحه شَيْئا قطّ ثمَّ يَقُول رَبنَا تبارك وتعالى قومُوا إِلَى مَا أَعدَدْت لكم من الْكَرَامَة فَخُذُوا مَا اشتهيتم قَالَ فنأتي سوقا قد حفت بِهِ الْمَلَائِكَة فِيهِ مَا لم تنظر الْعُيُون إِلَى مثله وَلم تسمع الآذان وَلم يخْطر على الْقُلُوب قَالَ فَيحمل لنا مَا اشتهينا لَيْسَ يُبَاع فِيهِ شَيْء وَلَا يشترى وَفِي ذَلِك السُّوق يلقى أهل الْجنَّة بَعضهم بَعْضًا قَالَ فَيقبل الرجل ذُو الْمنزلَة المرتفعة فَيلقى من دونه وَمَا فيهم دنيء فيروعه مَا يرى عَلَيْهِ من اللبَاس فَمَا يَنْقَضِي آخر حَدِيثه حَتَّى يتَمَثَّل عَلَيْهِ أحسن مِنْهُ وَذَلِكَ أَنه لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يحزن فِيهَا قَالَ ثمَّ ننصرف إِلَى مَنَازلنَا فتتلقانا أَزوَاجنَا فيقلن مرْحَبًا وَأهلا لقد جِئْت وَإِن بك من الْجمال وَالطّيب أفضل مِمَّا فارقتنا عَلَيْهِ فَيَقُول إِنَّا جالسنا الْيَوْم رَبنَا الْجَبَّار عز وجل وبحقنا أَن ننقلب بِمثل مَا انقلبنا. رواه الترمذي

(1)

. وابن ماجه

(2)

. كلاهما من رواية عبد الحميد بن حبيب ابن أبي العشرين عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد، وقال الترمذي حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

[قال الحافظ]: وعبد الحميد هو كاتب الأوزاعي مختلف فيه كما سيأتي وبقية

(1)

الترمذي (2725).

(2)

سنن ابن ماجه (4336) وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (2234)، وفي السلسلة الضعيفة (1722).

ص: 108

رواة الإسناد ثقات، وقد رواه ابن أبي الدنيا عن هقل بن زياد كاتب الأوزاعي أيضا، واسمه محمد، وقيل عبد الله، وهو ثقة ثبت احتج به مسلم وغيره، عن الأوزاعي قال: نبئت أن سعيد بن المسيب لقي أبا هريرة فذكر الحديث.

قوله: "وعن سعيد بن المسيب" هو الإمام الجليل أبو محمد سعيد بن المسيب ابن حزن بن أبى وهب بن عمرو بن عائذ، بالذال المعجمة، ابن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب القريشى المخزومي التابعي، إمام التابعين. وأبوه المسيب، وجده حزن صحابيان، أسلما يوم فتح مكة، ويقال: المسيب، بفتح الياء وكسرها، والفتح هو المشهور، وحكى عنه أنه كان يكرهه، ومذهب أهل المدينة الكسر.

ولد سعيد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب، وقيل: لأربع سنين، ورأى عمر وسمع منه، ومن عثمان، وعلى، وسعد بن أبى وقاص، وغيرهم، روى عنه جماعات من أعلام التابعين، منهم عطاء بن أبى رباح، ومحمد الباقر، وعمرو بن دينار، ويحيى الأنصاري، والزهري، وأكثر عنه، وخلائق غيرهم. واتفق العلماء على إمامته، وجلالته، وتقدمه على أهل عصره في العلم، والفضيلة، ووجوه الخير.

قال محمد بن يحيى بن حبان: كان رأس أهل المدينة في دهره، المقدم عليهم في الفتوى سعيد بن المسيب، ويقال له: فقيه الفقهاء. وقال قتادة: ما رأيت أحدا أعلم بحلال الله وحرامه من سعيد بن المسيب. وقال مكحول: طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أحدا أعلم من سعيد بن

ص: 109

المسيب. وقال سليمان بن موسى: كان سعيد بن المسيب أفقه التابعين.

وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل من سعيد بن المسيب، وهو أثبتهم في أبى هريرة. قال الحافظ: كان أعلم الناس بحديث أبى هريرة سعيد بن المسيب، وكان زوج بنت أبى هريرة. قال أحمد بن عبد الله: كان سعيد فقيها، صالحا، لا يأخذ العطاء، له بضاعة أربعمائة دينار يتجر فيها في الزيت. وروى البخاري في تاريخه أن ابن المسيب حج أربعين حجة. وأقوال السلف والخلف متظاهرة على إمامته، وجلالته، وعظم محله في العلم والدين.

توفى سنة ثلاث وتسعين، وقيل: سنة أربع وتسعين، وكان يقال لهذه السنة: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات فيها من الفقهاء، وقد ذكرنا مرارا أن سعيد بن المسيب أحد فقهاء المدينة السبعة، وسبق بيانهم في ترجمة خارجة بن زيد.

قوله: "أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة" الحديث، المراد بالسوق هنا مجمع لهم يجتمعون فيه كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق كما تقدم أول الباب في حديث أنس.

قوله: "قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله هل نرى ربنا؟ قال: نعم، هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: قال: كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم عز وجل" الحديث. اعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا وأجمعوا أيضا على وقوعها في الآخرة وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله

ص: 110

تعالى في الآخرة للمؤمنين ورواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن فيها مشهورة وزعمت طوائف من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه وأن رؤيته مستحيلة عقلا وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح والله أعلم. قوله: "ولا يبقى أحد في ذلك المجلس إلا حاضره الله محاضرة" وحاضره هو بالحاء المهملة والضاد المعجمة أي كالمه الله بكلام بحيث لا يسمع الكلام غيره ممن هو حاضر معه فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة ويا قرة عين الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}

(1)

. قاله في حادي الأرواح

(2)

.

قوله: "فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عليه من اللباس" الحديث، يروعه أي يعجبه حسنه ومنه حديث عطاء يكره [للمحرم] كل زينة رائعة أي حسنة وقيل معجبة رائقة. قاله في النهاية

(3)

.

قوله: "فيتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبًا وأهلًا" تقدم الكلام على ذلك. قوله: "عبد الحميد بن حبيب" قال الحافظ هو كاتب الأوزاعي والأوزاعي هو

(1)

سورة القيامة، الآيات: 22 - 25.

(2)

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 284).

(3)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 278).

ص: 111

الإمام الكبير الجليل عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد كثيته أبو عمرو الشامي الدمشقي، كان إمام أهل الشام في عصره بلا مدافعة ولا مخالفة، كان أهل الشام والمغرب على مذهبه قبل انتقالهم إلى مذهب مالك رحمه الله، روينا عن الإمام الحافظ الحاكم محمد بن محمد بن إسحاق، وهو شيخ الحاكم أبى عبد الله بن البيع النيسابوري، قال: هو منسوب إلى الأوزاع من حمير، قال: وقيل: الأوزاع قرية بدمشق خارج باب الفراديس. قال: وعرضت هذا القول على أحمد بن عمير، يعنى ابن جوصا، بفتح الجيم وإسكان الواو وبالصاد المهملة، قال: وكان علامة بحديث الشام وأنساب أهلها، فلم يرضه، وقال: إنما قيل: الأوزاعي؛ لأنه من أوزاع القبائل. ولد الأوزاعي، رضى الله عنه، سنة ثمان وثمانين من الهجرة، ومات سنة سبع وخمسين ومائة. قال أبو زرعة الدمشقي: كان اسم الأوزاعي: عبد العزيز، فسمى نفسه عبد الرحمن.

قلت: وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي، وجلالته، وعلو مرتبته، وكمال فضله، وأقاويل السلف، رحمهم الله، كثيرة مشهورة مصرحة بورعه، وزهده، وعبادته، وقيامه بالحق، وكثرة حديثه، وغزارة فقهه، وشدة تمسكه بالسنة، وبراعته في الفصاحة، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له، واعترافهم بمرتبته، وروينا عن هقل، بكسر الهاء وإسكان القاف، وهو أثبت الناس بالرواية عن الأوزاعي، قال: أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة أو نحوها. وعن غيره: أنه أفتى في ثمانين ألف مسألة.

ص: 112

وقوله: "عن حسان بن عطية" وحسان بن عطية هو أبو بكر: حسان بن عطية المحاربي مولاهم. من ثقات الشاميين، روى عن نافع مولى ابن عمر، وأبي صالح الأشعري، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن المنكدر وقال بن أبي خيثمة عن بن معين كان قدريا وقال سعيد بن عبد العزيز هو قدري فبلغ ذلك الأوزاعي فقال ما أغر سعيدا بالله ما أدركت أحدًا أشد اجتهادًا ولا أعمل منه وقال الجوزجاني كان ممن يتوهم عليه القدر وقال العجلي شامي ثقة وقال الأوزاعي كان حسان يتنحى إذا صلى العصر في ناحية المسجد فيذكر الله حتى تغيب الشمس وقال خالد بن نزار قلت للأوزاعي حسان بن عطية عن من قال فقال لي مثل حسان كنا نقول له عن من قلت وذكره بن حبان في الثقات وذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات من العشرين إلى الثلاثين ومائة وقال كان من أفاضل أهل زمانه، سمع منه الأوزاعي، وعبد الرحمن بن ثابت.

5729 -

وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن فِي الْجنَّة لسوقا مَا فِيهَا شِرَاء وَلَا بيع إِلَّا الصُّور من الرِّجَال وَالنِّسَاء فَإِذا اشْتهى الرجل صُورَة دخل فِيهَا. رواه ابن أبي الدنيا

(1)

. والترمذي

(2)

، وقال: حديث غريب.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (33971)، وأحمد (1343)، والمروزي في زياداته على زهد ابن المبارك (1487)، والترمذي (2550) و (2564)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (244)، والبزار (703)، وأبو يعلى (429)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (2231).

(2)

الترمذي (2564).

ص: 113

وَتقدم فِي عقوق الْوَالِدين حَدِيث جَابر عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَفِيه وَإِن فِي الْجنَّة لسوقا مَا يُبَاع فِيهَا وَلَا يشترى لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الصُّور فَمن أحب صُورَة من رجل أَو امْرَأَة دخل فِيهَا. رواه الطبراني في الأوسط

(1)

.

قوله: "عن علي بن أبي طالب" تقدم. قوله: "إن في الجنة لسوقا ما فيها شراء ولا بيع إلا الصور من الرجال والنساء فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها" الحديث، [في معنى الحديث تأويلان: أحدهما: أنه أراد بالصورة التي يختار الإنسان ما يكون عليها من التزين والتلبس، ويشهد لهذا التأويل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث:"فيروعه ما يرى عليه من اللباس" أي يعجبه حسنه، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل عليه ما هو أحسن منه. وثانيهما: أن] المراد الصورة التي تمثل للشخص من الصور المستحسنة فإذا اشتهى المرء صورة منها غيّره تعالى بها وبدّله بصورته فتتغير الهيئة والذات باقية كما كان، اهـ والله أعلم. وقال ابن اللبان: وإن نزّلت على ما قررناه علمت أن تلك الصور حقائق آيات من آيات أسمائه وصفاته تعالى وأخلاقه فما من آية تخلّق بها العبد في الدنيا إلا وقد تعرف الله تعالى إليه بها فإذا دخل

(1)

المعجم الأوسط (5664) وقال ابن كثير في البداية والنهاية (20/ 375) جابر بن يزيد الجعفي ضعيف الحديث. والله أعلم. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 125) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن كثير الكوفي، وهو ضعيف جدا. وقال في (8/ 149) رواه الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن كثير، عن جابر الجعفي، وكلاهما ضعيف جدا. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (5369)، وضعيف الترغيب والترهيب (1485) جدًا.

ص: 114

الجنة [ورآها] في سوق المعرفة عرفها فدخل فيها فكانت زيادة في معرفته بربه وتجلّيه له بنعيم رؤيته.

فإن قلت: فما معنى قوله: إلا الصور من الرجال والنساء وما مناسبة الرجال والنساء لصور آيات الصفات والأسماء؟ قلت: ما من آية يتخلق بها عبد إلا وقد اشتقها الله من اسمه الرحمن للرحمة الإيمانية وانتقلت إليه إرثا من أب إيماني أم أم إيمانية {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}

(1)

وهو أب لهم [فلعل هذا معنى قوله من الرجال والنساء، اهـ، والله أعلم]

(2)

.

5730 -

وَعَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ يَقُول أهل الْجنَّة انْطَلقُوا إِلَى السُّوق فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى كُثْبَان الْمسك فَإِذا رجعُوا إِلَى أَزوَاجهم قَالُوا إِنَّا لنجد لَكِن ريحًا مَا كانَت لَكِن قَالَ فيقلن وَلَقَد رجعتم برِيح مَا كَانَت لكم إِذْ خَرجْتُمْ من عندنَا. رواه ابن أبي الدنيا

(3)

. موقوفا بإسناد جيد.

قوله: "وعن أنس بن مالك" تقدم. قوله: "قال يقول أهل الجنة انطلقوا بنا إلى السوق، فينطلقون إلى كثبان المسك" الحديث، تقدم الكلام على ذكر السوق والكثبان جمع كثيب وهو ما تراكم من الرمل. تقدم أيضًا.

(1)

سورة الأحزاب، الآية:60.

(2)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(3)

ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (246) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3753).

ص: 115

تنبيه: وحيث ذكر الله تعالى في كتابه العزيز أهل الجنة لم يذكر قسيمهم من أهل النار إلا [الكافرين أو] المكذبين أو المجرمين أو الضالين أو الظالمين أو الفاسقين ونحو ذلك يريد بذلك كله أهل الكفر على اختلاف طبقاتهم وتعدد جهالاتهم، اهـ، قاله ابن الميلق في حادي القلوب.

5731 -

وَعنهُ رضي الله عنه قَالَ إِن فِي الْجنَّة لسوقا كُثْبَان مسك يخرجُون إِلَيْهَا ويجتمعون إِلَيْهَا فيبعث الله ريحًا فيدخلها بُيُوتهم فَيَقُول لَهُم أهلوهم إِذا رجعُوا إِلَيْهِم قد ازددتم حسنا بَعدنَا فَيَقُولُونَ لأهليهم قد ازددتم أَيْضا حسنا بَعدنَا. رواه ابن أبي الدنيا

(1)

. موقوفا أيضا والبيهقي

(2)

.

قوله: "وعنه رضي الله عنه" تقدم. قوله: "فيبعث الله ريحا فيدخلها بيوتهم" الحديث، هذه الريح تسمى المثيرة، تقدم ذكرها. قوله:"فيقول لهم أهلوهم إذا رجعوا إليهم قد ازددتم بعدنا حسنا" المراد بالأهل زوجاته من الآدميات والسراري من الحور العين.

(1)

ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (255) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3754).

(2)

البيهقي في البعث والنشور (375).

ص: 116