الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يَجُوزُ كَوْنُهَا اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ يَخْصِفانِ أَيْ يَخْصِفَانِ بَعْضَ وَرَقِ الْجَنَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا بَيَانِيَّةً لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ يَقْتَضِيهِ: «يَخْصِفانِ وَالتَّقْدِيرُ: يَخْصِفَانِ خَصْفًا مِنْ ورق الْجنَّة.
[23]
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 23]
قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ (لَمَّا) ، فَهُوَ مِمَّا حَصَلَ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ رُتِّبَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمُورِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ ذَوْقِ الشَّجَرَةِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ حُصُولِهَا فِي الْوُجُودِ. فَإِنَّهُمَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا فَطَفِقَا يَخْصِفَانِ. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ نِدَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمَا.
وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ الْجُمَلِ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ، إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمَقَامُ الْعُدُولَ عَنْ ذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْتِيبِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: 77] وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْإِنْشَاءِ وَالْخَطَابَةِ»
وَلَمْ أَعْلَمْ أَنِّي سُبِقْتُ إِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ تَأَخَّرَ نِدَاءُ الرَّبِّ إِيَّاهُمَا إِلَى أَنْ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَتَحَيَّلَا لِسَتْرِ عَوْرَاتِهِمَا لِيَكُونَ لِلتَّوْبِيخِ وَقْعٌ مَكِينٌ مِنْ نُفُوسِهِمَا، حِينَ يَقَعُ بَعْدَ أَنْ تَظْهَرَ لَهُمَا مَفَاسِدُ عِصْيَانِهِمَا، فَيَعْلَمَا أَنَّ الْخَيْرَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ فِي عِصْيَانِهِ ضُرًّا.
وَالنِّدَاءُ حَقِيقَتُهُ ارْتِفَاعُ الصَّوْتِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدَى- بِفَتْحِ النُّونِ وَالْقَصْرِ- وَهُوَ بُعْدُ الصَّوْتِ، قَالَ مِدْثَارُ بْنُ شَيْبَانَ النَّمِرِيُّ:
فَقلت ادعِي وأدعوا إِنَّ أَنْدَى
…
لِصَوْتٍ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ
وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ طَلَبُ إِقْبَالِ أَحَدٍ إِلَيْكَ، وَلَهُ حُرُوفٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ: تَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ النِّدَاءِ عَلَى هَذَا حَتَّى صَارَ مِنَ الْحَقِيقَةِ، وَتَفَرَّعَ عَنْهُ طَلَبُ الْإِصْغَاءِ وَإِقْبَالُ الذِّهْنِ مِنَ الْقَرِيبِ مِنْكَ، وَهُوَ إِقْبَالٌ مَجَازِيٌّ.
وَناداهُما رَبُّهُما مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ: وَهُوَ طَلَبُ الْإِقْبَالِ، عَلَى أَنَّ الْإِقْبَالَ مَجَازِيٌّ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ كَقَوْلِه تَعَالَى: وزكرياء إِذْ نَادَى رَبَّهُ [الْأَنْبِيَاء: 89] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْكَلَامِ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [الْبَقَرَة: 171] وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها [الْأَعْرَاف: 43] وَقَوْلُ بَشَّارٍ:
نَادَيْتُ إِنَّ الْحُبَّ أَشْعَرَنِي
…
قَتْلًا وَمَا أَحْدَثْتُ مِنْ ذَنْبِ
وَرَفْعُ الصَّوْتِ يَكُونُ لِأَغْرَاضٍ، وَمَحْمَلُهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُ صَوْتُ غَضَبٍ وَتَوْبِيخٍ.
وَظَاهِرُ إِسْنَادِ النِّدَاءِ إِلَى اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ نَادَاهُمَا بِكَلَامٍ بِدُونِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ مُرْسَلٍ، مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى، وَهَذَا وَاقِعٌ قَبْلَ الْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مُوسَى هُوَ أَوَّلُ نَبِيءٍ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِدَاءُ آدَمَ بِوَاسِطَةِ أَحَدِ الْمَلَائِكَةِ.
وَجُمْلَة: ألم أنهاكما فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ (نَادَاهُمَا) ، وَلِهَذَا فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي ألم أنهاكما لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، وَأُولِيَ حَرْفُ النَّفْيِ زِيَادَةً فِي
التَّقْرِيرِ، لِأَنَّ نَهْيَ اللَّهِ إِيَّاهُمَا وَاقع فانتفاؤه منتفا، فَإِذَا أُدْخِلَتْ أَدَاةُ التَّقْرِيرِ وَأَقَرَّ الْمُقَرِّرُ بِضِدِّ النَّفْيِ كَانَ إِقْرَارُهُ أَقْوَى فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِمُوجَبِهِ، لأنّه قد هييء لَهُ سَبِيلُ الْإِنْكَارِ، لَوْ كَانَ يَسْتَطِيعُ إِنْكَارًا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [130] ، وَلِذَلِكَ اعْتَرَفَا بِأَنَّهُمَا ظَلَمَا أَنْفَسَهُمَا.