الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وُجُودِهِ، وَفِيهَا آيَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ سَتَكُونَ أُمَّةٌ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الضَّلَالُ فَيَكُونُونَ فِي حَجِّهِمْ عُرَاةً، فَلِذَلِكَ أَكَّدَ الْوِصَايَةَ بِهِ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ، بِالْإِشَارَةِ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، عَيْنُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى وَلِلِاهْتِمَامِ بِكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ جُعِلَتِ الثَّانِيَةُ مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ رَفْعِ: وَلِباسُ التَّقْوى تَكُونُ جُمْلَةُ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ اسْتِئْنَاف وَاحِدًا وَالْإِشَارَةُ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَائِدَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلُ مِنْ أَصْنَافِ اللِّبَاسِ حَتَّى الْمَجَازِيِّ عَلَى تَفْسِيرِ لِبَاسِ التَّقْوَى بِالْمَجَازِيِّ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ الْتِفَاتٌ أَيْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ آيَةً لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ عَظِيمَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَاللُّطْفِ، وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ تَعْرِيضٌ بِمَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ مِنْ بَنِي آدَمَ فَكَأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ حَضْرَةِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّ ضَمَائِرَ الْغَيْبَةِ، فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فِي الْقُرْآنِ، كَثِيرًا مَا يُقْصَدُ بِهَا مشركو الْعَرَب.
[27]
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 27]
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
أُعِيدَ خِطَابُ بَنِي آدَمَ، فَهَذَا النِّدَاءُ تَكْمِلَةٌ لِلْآيِ قَبْلَهُ، بُنِيَ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ مُتَابَعَةِ
الشَّيْطَانِ إِلَى إِظْهَارِ كَيْدِهِ لِلنَّاسِ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِهِمْ، إِذْ كَادَ لِأَصْلِهِمْ.
وَالنِّدَاءُ بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ: لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، مَعَ زِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِمِنَّةِ اللِّبَاسِ تَوْكِيدًا لِلتَّعْرِيضِ بِحَمَاقَةِ الَّذِينَ يَحُجُّونَ عُرَاةً.
وَقَدْ نُهُوا عَنْ أَنْ يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ، وَفُتُونُ الشَّيْطَانِ حُصُولُ آثَارِ وَسْوَسَتِهِ، أَيْ لَا تُمَكِّنُوا الشَّيْطَانَ مِنْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ، وَالْمَعْنَى النَّهْيُ عَنْ طَاعَتِهِ، وَهَذَا مِنْ مُبَالَغَةِ النَّهْيِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا: أَيْ لَا تَفْعَلَنَّ فَأَعْرِفُ فِعْلَكَ، لَا أَرَيَنَّكَ هُنَا: أَيْ لَا تَحْضُرَنَّ هُنَا فَأَرَاكَ، فَالْمَعْنَى لَا تُطِيعُوا الشَّيْطَانَ فِي فِتَنِهِ فَيَفْتِنَكُمْ وَمِثْلُ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنْ فِعْلٍ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَسْبَابِهِ.
وَشُبِّهَ الْفُتُونُ الصَّادِرُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِلنَّاسِ بِفَتْنِهِ آدَمَ وَزَوْجَهُ إِذْ أَقْدَمَهُمَا عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ نَعِيمٍ كَانَا فِيهِ، تَذْكِيرًا لِلْبَشَرِ بِأَعْظَمِ فِتْنَةٍ فَتَنَ الشَّيْطَانُ بِهَا نَوْعَهُمْ، وَشَمَلَتْ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّوْعِ، إِذْ حُرِمَ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي كَانَ يَتَحَقَّقُ لَهُ لَوْ بَقِيَ أَبَوَاهُ فِي الْجَنَّةِ وَتَنَاسَلَا فِيهَا، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِأَنَّ عَدَاوَةَ الْبَشَرِ لِلشَّيْطَانِ مَوْرُوثَةٌ، فَيَكُونُ أَبْعَثَ لَهُمْ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ كَيْدِهِ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِيَفْتِنَنَّكُمُ، وَالتَّقْدِيرُ: فُتُونًا كَإِخْرَاجِهِ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ إِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فُتُونٌ عَظِيمٌ يُشَبَّهُ بِهِ فُتُونُ الشَّيْطَانِ حِينَ يُرَادُ تَقْرِيبُ مَعْنَاهُ لِلْبَشَرِ وَتَخْوِيفُهُمْ مِنْهُ.
وَالْأَبَوَانِ تَثْنِيَةُ الْأَبِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ تَغْلِيبٌ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِأَبَوَيْهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [11] . وَأُطْلِقَ الْأَبُ هُنَا عَنِ الْجَدِّ لِأَنَّهُ أَبٌ أَعْلَى، كَمَا فِي
قَول النّبيء صلى الله عليه وسلم: «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»
. وَجُمْلَةُ: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُقَارِنَةِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي:
أَخْرَجَ أَوْ مِنْ: أَبَوَيْكُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ تَفْظِيعُ هَيْئَةِ الْإِخْرَاجِ بِكَوْنِهَا حَاصِلَةً فِي حَالِ انْكِشَافِ سَوْآتِهِمَا لِأَنَّ انْكِشَافَ السَّوْءَةِ
مِنْ أَعْظَمِ الْفَظَائِعِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا مَضَى بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُمَا عُرْيَانَيْنِ.
وَاللِّبَاسُ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَيَجُوزُ هُنَا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً وَهُوَ لِبَاسٌ جَلَّلَهُمَا اللَّهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ يَحْجُبُ سَوْآتِهِمَا، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ حِجَابٌ مِنْ نُورٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَقِشْرِ الْأَظْفَارِ وَهِيَ
رِوَايَاتٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ نَزْعَ اللِّبَاسِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ التَّسَبُّبِ فِي ظُهُورِ السَّوْءَةِ.
وَكَرَّرَ التَّنْوِيهَ بِاللِّبَاسِ تَمْكِينًا لِلتَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الْأَعْرَاف: 31] .
وَإِسْنَادُ الْإِخْرَاجِ وَالنَّزْعِ وَالْإِرَاءَةِ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، مَبْنِيٌّ عَلَى التَّسَامُحِ فِي الْإِسْنَادِ بِتَنْزِيلِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ الْفَاعِلِ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَ النَّزْعُ حَقِيقَةً أَمْ تَمْثِيلًا، فَإِنَّ أَطْرَافَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ الْعَقْلِيِّ تَكُونُ حَقَائِقَ، وَتَكُونُ مَجَازَاتٍ، وَتَكُونُ مُخْتَلِفَةً، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما لَامُ التَّعْلِيلِ الِادِّعَائِيِّ، تَبَعًا لِلْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُسْنِدَ الْإِخْرَاج والنّزع والإراءة إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ فَاعِلُ الْإِخْرَاجِ وَنَزْعِ لِبَاسِهِمَا وَإِرَاءَتِهِمَا سَوْآتِهِمَا، نَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ غَرَضٌ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَال وَهُوَ أَن يريهما سوآتهما ليتم ادّعاء كَونه فَاعل تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُضِرَّةِ، وَكَوْنُهُ قَاصِدًا مِنْ ذَلِكَ الشَّنَاعَةَ وَالْفَظَاعَةَ، كَشَأْنِ الْفَاعِلِينَ أَنْ تَكُونَ لَهُم علل غائية مِنْ أَفْعَالِهِمْ إِتْمَامًا لِلْكَيْدِ، وَإِنَّمَا الشَّيْطَانُ فِي الْوَاقِعِ سَبَبٌ لِرُؤْيَتِهِمَا سَوْآتِهِمَا، فَانْتَظَمَ الْإِسْنَادُ الِادِّعَائِيُّ مَعَ التَّعْلِيلِ الِادِّعَائِيِّ، فَكَانَتْ لَامُ الْعِلَّةِ تَقْوِيَةً لِلْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَتَرْشِيحًا لَهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ نَجْعَلِ اللَّامَ هُنَا لِلْعَاقِبَةِ كَمَا جَعَلْنَاهَا فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما [الْأَعْرَاف: 20] إِذْ لَمْ تُقَارَنِ اللَّامُ هُنَالِكَ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَهْتَمُّ بِكَشْفِ سَوْأَةِ ابْنِ آدَمَ لِأَنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرَاهُ فِي حَالَةِ سُوءٍ وَفَظَاعَةٍ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الِافْتِتَانِ بِفِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ كَيْدِهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْحَذِرِ أَنْ يَرْصُدَ الشَّيْءَ الْمَخُوفَ بِنَظَرِهِ لِيَحْتَرِسَ مِنْهُ إِذَا رَأَى بَوَادِرَهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ النَّاسَ بِأَنَّ الشَّيَاطِينَ تَرَى الْبَشَرَ، وَأَنَّ الْبَشَرَ لَا يَرَوْنَهَا، إِظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ جَانِبِ كَيْدِهِمْ وَجَانِبِ حَذَرِ النَّاسِ مِنْهُم ضَعِيف، فَإِنَّ جَانِبَ كَيْدِهِمْ قَوِيٌّ مُتَمَكِّنٌ وَجَانِبُ حَذَرِ النَّاسِ مِنْهُمْ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ الْمَكِيدَ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي.
فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ تَعْلِيمُ حَقِيقَةٍ مِنْ حَقَائِقِ الْأَجْسَامِ الْخَفِيَّةِ عَنِ الْحَوَاسِّ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُجَرَّدَاتِ فِي اصْطِلَاحِ الْحُكَمَاءِ وَيُسَمِّيهَا عُلَمَاؤُنَا الْأَرْوَاحَ السُّفْلِيَّةَ إِذْ لَيْسَ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ التَّصَدِّي لِتَعْلِيمٍ مِثْلِ هَذَا إِلَّا مَا
لَهُ أَثَرٌ فِي التَّزْكِيَةِ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَوْعِظَةِ.
وَالضَّمِيرُ الَّذِي اتَّصَلَتْ بِهِ (إِنَّ) عَائِدٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَعُطِفَ: وَقَبِيلُهُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: يَراكُمْ وَلِذَلِكَ فُصِلَ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ. وَذُكِرَ الْقَبِيلُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْقَبِيلَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْصَارًا يَنْصُرُونَهُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيبُ حَالِ عَدَاوَةِ الشَّيَاطِينِ بِمَا يَعْهَدُهُ الْعَرَبُ مِنْ شِدَّةِ أَخْذِ الْعَدُوِّ عَدُوَّهُ عَلَى غِرَّةٍ مِنَ الْمَأْخُوذِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَتَاهُمُ الْعَدُوُّ وَهُمْ غَارُّونَ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَذَرِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ يَرَاهُمْ وَفِي أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُ.
ومِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ابْتِدَاءُ مَكَانِ مُبْهَمٍ تَنْتَفِي فِيهِ رُؤْيَةُ الْبَشَرِ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ لَا تَرَوْنَهُمْ فِيهِ، فَيُفِيدُ: إِنَّهُ يَرَاكُمْ وَقَبِيلُهُ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَهُ قَرِيبًا كَانُوا أَوْ بَعِيدًا، فَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ مَحْجُوبِينَ عَنْ أَبْصَارِ الْبَشَرِ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ مِنَ الْجِنْسَيْنِ، فَرُؤْيَةُ ذَوَاتِ الشَّيَاطِينِ مُنْتَفِيَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يُخَوِّلُ اللَّهُ رُؤْيَةَ الشَّيَاطِينِ أَوِ الْجِنِّ مُتَشَكِّلَةً فِي أَشْكَالِ الْجُسْمَانِيَّاتِ،
مُعْجِزَةً لِلْأَنْبِيَاءِ كَمَا
وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ فِي صَلَاتِي فَهَمَمْتُ أَنْ أُوثِقُهُ فِي سَارِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ»
الْحَدِيثَ، أَوْ كَرَامَةً لِلصَّالِحِينَ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا فِي حَدِيثِ الَّذِي جَاءَ يَسْرِقُ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَقَول النّبيء صلى الله عليه وسلم لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «ذَلِكَ شَيْطَانٌ»
كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَشَكُّلِ الشَّيْطَانِ أَوِ الْجِنِّ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بِتَسْخِيرِ اللَّهِ لِتَتَمَكَّنَ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ الْبَشَرِيَّةُ، فَالْمَرْئِيُّ فِي الْحَقِيقَةِ الشَّكْلُ الَّذِي مَاهِيَّةُ الشَّيْطَانِ مِنْ وَرَائِهِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَةِ مَكَانٍ يُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ شَيْطَانًا، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ هُوَ الْخَبَرُ الصَّادِقُ، فَلَوْلَا الْخَبَرُ لَمَا عُلِمَ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا قُصِدَ مِنْهُ الِانْتِقَالُ إِلَى أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي ائْتِمَارِهِمْ بِأَمْرِ الشَّيْطَانِ، تَحْذِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِانْتِظَامِ فِي سَلْكِهِمْ، وَتَنْفِيرًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ التَّحْذِيرُ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعَلُّقٌ بِجُمْلَةِ:
إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْجَعْلُ هُنَا جَعْلُ التَّكْوِينِ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْأَعْرَاف: 24] بِمَعْنَى خَلَقْنَا الشَّيَاطِينَ.
وأَوْلِياءَ حَالٌ مِنَ الشَّياطِينَ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ خَلَقْنَاهُمْ مُقَدَّرَةٌ وِلَايَتُهُمْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَبَلَ أَنْوَاعَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَجْنَاسَهَا عَلَى طَبَائِعَ لَا تَنْتَقِلُ عَنْهَا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِتَغْيِيرِهَا: كَالِافْتِرَاسِ فِي الْأَسَدِ، وَاللَّسْعِ فِي الْعَقْرَبِ، وَخَلَقَ لِلْإِنْسَانِ الْعَقْلَ وَالْفِكْرَ فَجَعَلَهُ قَادِرًا عَلَى اكْتِسَابِ مَا يُخْتَارُ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ جِبِلَّةِ الشَّيَاطِينِ حُبُّ مَا هُوَ فَسَادٌ، وَكَانَ مِنْ قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ وَكَسْبِهِ أَنَّهُ قَدْ يَتَطَلَّبُ الْأَمْرَ الْعَائِدَ بِالْفَسَادِ، إِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ عَاجِلُ شَهْوَةٍ أَوْ كَانَ يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ