المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الأعراف (7) : آية 43] - التحرير والتنوير - ٨-ب

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌7- سُورَةُ الْأَعْرَافِ

- ‌أغراضها

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 4 إِلَى 5]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 6 إِلَى 7]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 8 إِلَى 9]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 11 إِلَى 13]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 14 إِلَى 15]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 16 إِلَى 17]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 20 إِلَى 21]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 22]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 23]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 24]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 25]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 26]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 27]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 28]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 29 إِلَى 30]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 33]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 34]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 35 إِلَى 36]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 37 الى 39]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 40 إِلَى 41]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 42]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 44 إِلَى 45]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 46 إِلَى 47]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 48 إِلَى 49]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 50 الى 51]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 52]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 53]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 55]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 56]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 57]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 58]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 59]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 60]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 61]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 62]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 63]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 64]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 65 إِلَى 66]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 67 إِلَى 68]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 69]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 70 إِلَى 71]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 72]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 73]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 74]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 75 إِلَى 76]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 77 إِلَى 78]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 79]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 80 إِلَى 81]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 82]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 83 إِلَى 84]

- ‌[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 85 إِلَى 87]

الفصل: ‌[سورة الأعراف (7) : آية 43]

وَكَمَالِ

الِانْقِطَاعِ، وَهُوَ التَّضَادُّ بَيْنَ وَصْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْآيَاتِ وَالْإِيمَانُ بِهَا، وَبَيْنَ حُكْمِ الْمُسْنَدَيْنِ وَهُوَ الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْجَامِعِ الْوَهْمِيِّ الْمَذْكُورِ فِي أَحْكَامِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ مِنْ عِلْمِ الْمَعَانِي.

وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقٌ لِ آمَنُوا لِأَنَّ الْإِيمَانَ صَارَ كَاللَّقَبِ لِلْإِيمَانِ الْخَاصِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وأَصْحابُ الْجَنَّةِ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا. وَجُمْلَةُ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِدْمَاجِ الِارْتِفَاقُ بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى فِعْلِ الصَّالِحَاتِ أَطْمَنَ قُلُوبَهُمْ بِأَنْ لَا يُطْلَبُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِمَا يَخْرُجُ عَنِ الطَّاقَةِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْلُغُوا إِلَيْهِ أَيِسُوا مِنَ الْجَنَّةِ، بَلْ إِنَّمَا يُطْلَبُونَ مِنْهَا بِمَا فِي وُسْعِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُرْضِي رَبَّهُمْ.

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا يُسْرَهَا لَا عُسْرَهَا أَيْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ لَا أَنَّهُ قِرَاءَةٌ.

وَالْوُسْعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [286] .

وَدَلَّ قَوْلُهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ عَلَى قَصْرِ مُلَازَمَةِ الْجَنَّةِ عَلَيْهِمْ، دُونَ غَيْرِهِمْ، فَفِيهِ تَأْيِيسٌ آخَرُ لِلْمُشْرِكِينَ بِحَيْثُ قَوِيَتْ نَصِّيَّةُ حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَجُمْلَةُ: هُمْ فِيها خالِدُونَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ.

[43]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 43]

وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

ص: 130

(43)

اتِسَاقُ النَّظْمِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: 42]، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: وَنَزَعْنا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ:

أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: 42]، وَجُمْلَةُ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَخْ، اعْتِرَاضًا بُيِّنَ بِهِ حَالُ نُفُوسِهِمْ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي الْجَنَّةِ، لِيُقَابِلَ الِاعْتِرَاضَ الَّذِي أُدْمِجَ فِي

أَثْنَاءِ وَصْفِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ، وَالْمُبِيَّنُ بِهِ حَالُ نُفُوسِهِمْ فِي الْمُعَامَلَةِ بِقَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَاف: 38] .

وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، أَيْ: وَنَنْزِعُ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، وَهُوَ تَعْبِيرٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] .

وَالنَّزْعُ حَقِيقَتُهُ قَلْعُ الشَّيْءِ مِنْ مَوْضِعِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ فِي آلِ عِمْرَانَ [26]، وَنَزْعُ الْغِلِّ مِنْ قُلُوبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: هُوَ إِزَالَةُ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغِلِّ عِنْدَ تَلَقِّي مَا يَسُوءُ مِنَ الْغَيْرِ، بِحَيْثُ طَهَّرَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ فِي حَيَاتِهَا الثَّانِيَةِ عَنِ الِانْفِعَالِ بِالْخَوَاطِرِ الشَّرِّيَّةِ الَّتِي مِنْهَا الْغِلُّ، فَزَالَ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ غِلِّ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا، أَيْ أَزَالَ مَا كَانَ حَاصِلًا مِنْ غِلٍّ وَأَزَالَ طِبَاعَ الْغِلِّ الَّتِي فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَخْطُرُ فِي نُفُوسِهِمْ.

وَالْغِلُّ: الْحِقْدُ وَالْإِحْنَةُ وَالضِّغْنُ، الَّتِي تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ عِنْدَ إِدْرَاك مَا يسوؤها مِنْ عَمَلِ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ الْحَسَدُ مِنَ الْغِلِّ بَلْ هُوَ إِحْسَاسٌ بَاطِنِيٌّ آخَرُ.

ص: 131

وَجُمْلَةُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ هُمْ فِي أَمْكِنَةٍ عَالِيَةٍ تُشْرِفُ عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ.

وَجُمْلَةُ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: 42] .

وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي مُرَادٌ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَنَزَعْنا وَهَذَا الْقَوْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا يَقُولُونَهُ فِي خَاصَّتِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، عَلَى مَعْنَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِحَمْدِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا يَقُولُونَهُ بَيْنَهُمْ فِي مَجَامِعِهِمْ.

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِمْ: لِهذا إِلَى جَمِيعِ مَا هُوَ حَاضِرٌ مِنَ النَّعِيمِ فِي وَقْتِ ذَلِكَ الْحَمْدِ، وَالْهِدَايَةُ لَهُ هِيَ الْإِرْشَادُ إِلَى أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْأَعْرَاف: 42]، وَقَالَ تَعَالَى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يُونُس: 9] الْآيَةَ، وَجَعَلَ الْهِدَايَةَ لِنَفْسِ النَّعِيمِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى مَا يُوَصِّلُ إِلَى الشَّيْءِ إِنَّمَا هِيَ هِدَايَةٌ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ الْهِدَايَةِ وَتَعْدِيَتِهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [6] .

وَالْمُرَادُ بِهَدْيِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ إرْسَاله محمّدا صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَأَيْقَظَهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ فَاتَّبَعُوهُ،

وَلَمْ يُعَانِدُوا، وَلَمْ يَسْتَكْبِرُوا، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ مَعَ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ قَبُولِهِمُ الدَّعْوَةَ وَامْتِثَالِهِمُ الْأَمْرَ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْمِنَّةِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّيْسِيرُ هُوَ الَّذِي حُرِمَهُ الْمُكَذِّبُونَ الْمُسْتَكْبِرُونَ لِأَجْلِ ابْتِدَائِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ والاستكبار، دون النّظر وَالِاعْتِبَارِ.

وَجُمْلَةُ وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، أَيْ هدَانَا فِي هَذِه الْحَالِ حَالِ بُعْدِنَا عَنِ الِاهْتِدَاءِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِنُ بِكِبَرِ مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَبِتَعْظِيمِ حَمْدِهِمْ وَتَجْزِيلِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءُوا بِجُمْلَةِ الْحَمْدِ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَقْصَى مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ

ص: 132

وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ عَلَى بُعْدِ حَالِهِمُ السَّالِفَةِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ، كَمَا أَفَادَهُ نَفْيُ الْكَوْنِ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ، حَسَبَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْغَمِسِينَ فِي ضَلَالَاتٍ قَدِيمَةٍ قَدْ رَسَخَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَمَّا قَادَتُهُمْ فَقَدْ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لَهُمْ حَتَّى اعْتَقَدُوهَا وَسَنُّوهَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَمَّا دَهْمَاؤُهُمْ وَأَخْلَافُهُمْ فَقَدْ رَأَوْا قُدْوَتَهُمْ عَلَى تِلْكَ الضَّلَالَاتِ. وَتَأَصَّلَتْ فِيهِمْ، فَمَا كَانَ مِنَ السَّهْلِ اهْتِدَاؤُهُمْ، لَوْلَا أَنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَسِيَاسَتِهِمْ فِي دَعْوَتِهِمْ، وَأَنْ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ قَبُولَ الدَّعْوَةِ.

وَلِذَلِكَ عَقَّبُوا تَحْمِيدَهُمْ وَثَنَاءَهُمْ عَلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَتِلْكَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ، اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، لِصُدُورِهَا عَنِ ابْتِهَاجِ نُفُوسِهِمْ وَاغْتِبَاطِهِمْ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، فَجَعَلُوا يَتَذَكَّرُونَ أَسْبَابَ هِدَايَتِهِمْ وَيَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ وَيَغْتَبِطُونَ. تَلَذُّذًا بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، لِأَنَّ تَذَكُّرَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ وَالْحَدِيثَ عَنْهُ مِمَّا تَلَذُّ بِهِ النُّفُوسُ، مَعَ قَصْدِ الثَّنَاءِ عَلَى الرُّسُلِ.

وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَبِقَدْ، مَعَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْكِرِينَ لِمَجِيءِ الرُّسُلِ: إِمَّا لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْجَابِ بِمُطَابَقَةِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ النَّعِيمِ لِمَا وَجَدُوهُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71]

وَقَول النّبيء صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ»

. وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا الثَّنَاءَ عَلَى الرُّسُلِ والشّهادة بصدقهم جمعا مَعَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، فَأَتَوْا بِالْخَبَرِ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي لَا تَرَدُّدَ فِيهَا.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ- بِدُونِ وَاوٍ قَبْلَ (مَا) - وَكَذَلِكَ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الشَّامِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي

قَبْلَهَا، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِهَا كَالتَّعْلِيلِ لِلْحَمْدِ، وَالتَّنْوِيهِ بِأَنَّهُ حَمْدٌ عَظِيمٌ عَلَى نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

ص: 133

وَجُمْلَةُ: وَنُودُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَقالُوا فَتَكُونُ حَالًا أَيْضًا، لِأَنَّ هَذَا النِّدَاءَ جَوَابٌ لِثَنَائِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ مَا أَثْنَوْا بِهِ، وعَلى رضى اللَّهِ عَنْهُمْ، وَالنِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ فِعْلُهُ إِلَى الْمَجْهُولِ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ. وَالنِّدَاءُ إِعْلَانُ الْخِطَابِ، وَهُوَ أَصْلُ حَقِيقَتِهِ فِي اللُّغَةِ، وَيُطْلَقُ النِّدَاءُ غَالِبًا عَلَى دُعَاءِ أَحَدٍ لِيُقْبِلَ بِذَاتِهِ أَوْ بِفَهْمِهِ لِسَمَاعِ كَلَامٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِرَفْعِ صَوْتٍ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مَرْيَم: 3] وَلِهَذَا الْمَعْنَى حُرُوفٌ خَاصَّةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَناداهُما رَبُّهُما فِي هَذِهِ السُّورَةِ [22] .

وَ (أَنْ) تَفْسِيرٌ لِ نُودُوا، لِأَنَّ النِّدَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجَنَّةِ بِ تِلْكُمُ، الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ الْبَعِيدِ، مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَاضِرَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِمْ، لِقَصْدِ رِفْعَةِ شَأْنِهَا وَتَعْظِيمِ الْمِنَّةِ بِهَا.

وَالْإِرْثُ حَقِيقَتُهُ مَصِيرُ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: أَوْرَثَ الْمَيِّتُ أَقْرِبَاءَهُ مَالَهُ، بِمَعْنَى جَعَلَهُمْ يَرِثُونَهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِغَيْرِهِ فَقَدْ تَرَكَهُ لَهُمْ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَصِيرِ شَيْء إِلَى حد بِدُونِ عِوَضٍ وَلَا غَصْبٍ تَشْبِيهًا بِإِرْثِ الْمَيِّتِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: أُورِثْتُمُوها أُعْطِيتُمُوهَا عَطِيَّةً هَنِيئَةً لَا تَعَبَ فِيهَا وَلَا مُنَازَعَةَ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سَبَبِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ، وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهَذَا الْكَلَامُ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ شَكَرَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فَأَعْطَاهُمْ هَذَا النَّعِيمَ الْخَالِدَ لِأَجْلِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا عَمِلُوا مَا عَمِلُوهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا كَانُوا ينوون بعلمهم إِلَّا السَّلَامَةَ مِنْ غَضَبِ رَبِّهِمْ وَتَطَلُّبَ مَرْضَاتِهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى نَعْمَائِهِ، وَمَا كَانُوا يَمْتُونَ بِأَنْ تُوَصِّلَهُمْ أَعْمَالُهُمْ إِلَى مَا نالوه، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الطَّمَعَ فِي ثَوَابِهِ وَالنَّجَاةَ مِنْ عِقَابِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ أُورِثْتُمُوها وَبَيْنَ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ.

فَالْإِيرَاثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا عَطِيَّةٌ بِدُونِ قَصْدِ تَعَاوُضٍ وَلَا تَعَاقُدٍ، وَأَنَّهَا فَضْلٌ مَحْضٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ إِيمَانَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ وَطَاعَتَهُ إِيَّاهُ لَا يُوجِبُ عَقْلًا وَلَا عَدْلًا

ص: 134