الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيِ الدَّلَائِلِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ يَشْكُرُونَ: الْمُؤْمِنُونَ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ مَوْرِدُ التَّمْثِيلِ بِالْبَلَدِ الطَّيِّبِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ مَوْرِدُ التَّمْثِيلِ بِالْبَلَدِ الْخَبِيثِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] .
[59]
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 59]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
اسْتِئْنَافٌ انْتَقَلَ بِهِ الْغَرَضُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْمِنَّةِ (الْمُبْتَدِئَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: 10] ، وَتَنْبِيهِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَنَّهُمْ غَارِقُونَ فِي كَيْدِ الشَّيْطَانِ، الَّذِي هُوَ عَدُوُّ نَوْعِهِمْ، مِنْ قَوْلِهِ: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ- إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: 16- 33] ، ثُمَّ بِالتَّهْدِيدِ بِوَصْفِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثَالِ وَالتَّعْرِيضِ) إِلَى غَرَضِ الِاعْتِبَارِ وَالْمَوْعِظَةِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ لَهُ مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِقَوْلِهِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ [4] : وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها الْآيَةَ، وَقَدْ أُفِيضَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي مُعْظَمِ السُّورَةِ وَتَتْبَعُ هَذَا الِاعْتِبَارَ أَغْرَاضٌ أُخْرَى: وَهِيَ تَسْلِيَة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وَتَعْلِيمُ أُمَّتِهِ بِتَارِيخِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنَ الْأُمَمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، لِيَعْلَمَ الْمُكَذِّبُونَ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ لَا غَضَاضَةَ على محمّد صلى الله عليه وسلم وَلَا عَلَى رِسَالَتِهِ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ، وَلَا يَجْعَلُهُ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ، بَلْهَ أَنْ يُؤَيِّدَ زَعْمَهُمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَادِقًا فِي رِسَالَتِهِ لَأَيَّدَهُ الله بعقاب مكذّيبه (لَمَّا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ أَوِ الْحِجَاجِ:«اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» ) . وَلِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ مَا لقِيه محمّد صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْمِهِ هُوَ شِنْشِنَةُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ تِلْقَاءَ دَعْوَةِ رُسُلِ اللَّهِ. وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ
تَنْظِيرُ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا بِحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي تَكْذِيبِهِمْ رِسَالَة محمّد صلى الله عليه وسلم.
وَكَثُرَ فِي الْكَلَامِ اقْتِرَانُ جُمْلَةِ جَوَابِ الْقسم: بقد لأنّ الْقسم يهيىء نَفْسَ السَّامِعِ
لِتَوَقُّعِ خَبَرٍ مُهِمٍّ فَيُؤْتَى بِقَدْ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ أَمْرٍ مُتَوَقَّعٍ، كَمَا أَثْبَتَهُ الْخَلِيلُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَالتَّوَقُّعُ قَدْ يَكُونُ تَوَقُّعًا لِلْمُخْبَرِ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ تَوَقُّعًا لِلْخَبَرِ كَمَا هُنَا.
وَتَقَدَّمَ التَّعْرِيفُ بِنُوحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [33] . وَكَانَ قَوْمُ نُوحٍ يَسْكُنُونَ الْجَزِيرَةَ وَالْعِرَاقَ، حَسَبَ ظَنِّ الْمُؤَرِّخِينَ. وَعَبَّرَ عَنْهُمُ الْقُرْآنُ بِطَرِيقِ الْقَوْمِيَّةِ الْمُضَافَةِ إِلَى نُوحٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْمٌ خَاصٌّ مِنْ أَسْمَاءِ الْأُمَمِ يُعْرَفُونَ بِهِ، فَالتَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ هُنَا لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ.
وَعَطَفَ جُمْلَةَ فَقالَ يَا قَوْمِ عَلَى جُمْلَةِ أَرْسَلْنا بِالْفَاءِ إِشْعَارًا بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَدَرَ مِنْهُ بِفَوْرِ إِرْسَالِهِ، فَهِيَ مَضْمُونُ مَا أُرْسِلَ بِهِ.
وَخَاطَبَ نُوحٌ قَوْمَهُ كُلَّهُمْ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَامَّةً لَهُمْ، وَعَبَّرَ فِي نِدَائِهِمْ بِوَصْفِ الْقَوْمِ لِتَذْكِيرِهِمْ بِآصِرَةِ الْقَرَابَةِ، لِيَتَحَقَّقُوا أَنَّهُ نَاصِحٌ وَمُرِيدٌ خَيْرَهُمْ وَمُشْفِقٌ عَلَيْهِمْ، وَأَضَافَ (الْقَوْمَ) إِلَى ضَمِيرِهِ لِلتَّحْبِيبِ وَالتَّرْقِيقِ لِاسْتِجْلَابِ اهْتِدَائِهِمْ.
وَقَوْلُهُ لَهُمُ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِبْطَالٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَهِيَ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَالَةُ شِرْكٍ كَحَالَةِ الْعَرَبِ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَالَةَ وَثَنِيَّةٍ بِاقْتِصَارِهِمْ على عبَادَة لأصنام دُونَ اللَّهِ تَعَالَى، كَحَالَةِ الصَّابِئَةِ وَقُدَمَاءِ الْيُونَانِ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ صَالِحَةٌ لِلْحَالَيْنِ، وَالْمَنْقُولُ فِي الْقَصَصِ: أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آلِهَةَ قَوْمِ نُوحٍ أَسْمَاءُ جَمَاعَةٍ مِنْ صَالِحِيهِمْ فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ
قَوْمُهُمْ: لَوِ اتَّخَذْنَا فِي مَجَالِسِهِمْ أَنْصَابًا فَاتَّخَذُوهَا وَسَمَّوْهَا بِأَسْمَائِهِمْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ.
وَظَاهِرُ مَا فِي سُورَةِ نُوحٍ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ لِقَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [نوح: 3] وَظَاهِرُ مَا فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ لِقَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: 14] مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ فَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ كَانَ أَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُقَيَّدًا بِمَدْلُولِ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَيْ أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ وَلَا تُشْرِكُوا مَعَهُ الْأَصْنَامَ، وَإِنْ كَانُوا مُقْتَصِرِينَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَانَ قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ تَعْلِيلًا لِلْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، أَي هُوَ الْإِلَه لَا أَوْثَانُكُمْ.
وَجُمْلَةُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَيَانٌ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِهَا، أَيْ أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ، إِذْ لَيْسَ غَيره لكم بالإله.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِلْأَمْرِ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ غَيْرُهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ (لِإِلَهٍ) بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ إِذْ هُوَ مُبْتَدَأٌ وَإِنَّمَا جُرَّ لِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ وَلَا يُعْتَدُّ بِجَرِّهِ، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ:
بِجَرِّ غَيْرِ عَلَى النّعت للّفظ (إلاه) نَظَرًا لِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ.
وَجُمْلَةُ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» : أَيْ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: اتْرُكُوا عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَبُنِيَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى خَوْفِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِمْ، دَلَالَةً عَلَى إِمْحَاضِهِ النُّصْحَ لَهُمْ وَحِرْصِهِ عَلَى سَلَامَتِهِمْ، حَتَّى جَعَلَ مَا يَضُرُّ بِهِمْ كَأَنَّهُ يَضُرُّ بِهِ، فَهُوَ يَخَافُهُ كَمَا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا كَانَ فِي مَبْدَأِ خِطَابِهِمْ بِمَا أُرْسِلُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَهُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَخَافُونَ عَذَابًا فَإِنِّي أَخَافُهُ