الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالصِّدْقُ مِنَ الْأَمَانَةِ، لِأَنَّ الْكَذِبَ الْخَبَرُ بِأَمْرٍ غَيْرِ وَاقِعٍ فِي صُورَةٍ تُوهِمُ السَّامِعَ وَاقِعٌ، فَذَلِكَ خِيَانَةٌ لِلسَّامِعِ، وَالصِّدْقُ إِبْلَاغُ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ كَمَا هُوَ فَهُوَ أَدَاءٌ لِأَمَانَةِ مَا عَلِمَهُ الْمُخْبِرُ، فَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ أَمِينٌ وَصْفٌ يَجْمَعُ الصِّفَاتِ الَّتِي تَجْعَلُهُ بِمَحَلِّ الثِّقَةِ مِنْ قَوْمِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِبْطَالُ كَوْنِهِ مِنَ الْكَاذِبِينَ.
وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى عَامِلِهِ لِلْإِيذَانِ بِاهْتِمَامِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ.
[69]
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 69]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ.
هَذَا مُمَاثِلٌ قَوْلَ نُوحٍ لِقَوْمِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا سَبَبُ الْمُمَاثَلَةِ. وَتَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
يَجُوزُ أَنْ يكون قَوْله: لِيُنْذِرَكُمْ عَطْفًا عَلَى قَوْله: اعْبُدُوا [الْأَعْرَاف: 65] وَيَكُونَ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا حُكِيَ بِهِ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي قَاطَعُوهُ بِهَا عَقِبَ قَوْلِهِ لَهُمُ اعْبُدُوا اللَّهَ [الْأَعْرَاف: 65] ، فَلَمَّا أَتَمَّ جَوَابَهُمْ عَمَّا قَاطَعُوا بِهِ كَلَامَهُ عَادَ إِلَى دَعْوَتِهِ، فَيَكُونُ رُجُوعًا إِلَى الدَّعْوَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: لَا تُنْكِرُوا أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، فَيَكُونُ تَكْمِلَةً لِلِاسْتِدْلَالِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَآلُ وَاحِدٌ، وَانْتَقَلَ مِنْ أَمْرِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الَّتِي لَا يُنْكِرُونَ أَنَّهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. تَذْكِيرًا مِنْ شَأْنِهِ إِيصَالُهُمْ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ
بِالذِّكْرِ (بِضَمِّ الذَّالِ) لِأَنَّ النَّفْسَ تَنْسَى النِّعَمَ فَتَكْفُرُ الْمُنْعِمَ، فَإِذَا تَذَكَّرَتِ النِّعْمَةَ رَأَتْ حَقًّا عَلَيْهَا أَنْ تَشْكُرَ الْمُنْعِمَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مَسْأَلَةُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ مِنْ أَهَمِّ مَسَائِلِ التَّكْلِيفِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِحُسْنِهِ عَقْلًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ سَوَاءٌ مِنْهُمْ من اكْتفى بالحس الْعَقْلِيِّ وَمَنْ لَمْ يَكْتَفِ بِهِ وَاعْتَبَرَ التَّوَقُّفَ عَلَى الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ.
وإِذْ اسْمُ زَمَانٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَلَيْسَ ظَرْفًا لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ (إِذْ) لَا تُلَازِمُ الظَّرْفِيَّةَ بَلْ هِيَ ظَرْفٌ مُتَصَرِّفٌ، وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ، وَالْمَعْنَى: اذْكُرُوا الْوَقْتَ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ خِلَافَتُكُمْ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ فِي تَعْمِيرِ الْأَرْضِ وَالْهَيْمَنَةِ عَلَى الْأُمَمِ، فَإِنَّ عَادًا كَانُوا ذَوِي قُوَّةٍ وَنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] .
فَالْخُلَفَاءُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ، أَيْ يَتَوَلَّى عَمَلَ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ الْآخَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30]، فَالْمُرَادُ: جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي تَعْمِيرِ الْأَرْضِ، وَلَمَّا قَالَ: مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُمْ خُلَفَاءُ قَوْمِ نُوحٍ، فَعَادٌ أَوَّلُ أُمَّةٍ اضْطَلَعَتْ بِالْحَضَارَةِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَكَانَ بَنُو نُوحٍ قَدْ تَكَاثَرُوا وَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ، فِي أَرْمِينِيَّةَ وَالْمَوْصِلِ وَالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الْعَرَبِ، وَكَانُوا أُمَمًا كَثِيرَةً، أَوْ كَانَت عَاد عظم تِلْكَ الْأُمَمِ وَأَصْحَابَ السِّيَادَةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ خَلَّفُوا قَوْمَ نُوحٍ فِي دِيَارِهِمْ لِأَنَّ مَنَازِلَ عَادٍ غَيْرُ مُنَازِلِ قَوْمِ نُوحٍ عِنْدَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ تَصْرِيحٌ بِالنِّعْمَةِ، وَتَعْرِيضٌ بِالنِّذَارَةِ وَالْوَعِيدِ بِأَنَّ قَوْمَ نُوحٍ إِنَّمَا اسْتَأْصَلَهُمْ
وَأَبَادَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى شِرْكِهِمْ، فَمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِي صُنْعِهِمْ يُوشِكُ أَنْ يَحِلَّ بِهِ عَذَابٌ أَيْضًا.
والْخَلْقِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا خَالِصًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: بَصْطَةً ثَبَتَ فِي الْمَصَاحِفِ بِصَادٍّ قَبْلَ الطَّاءِ وَهُوَ مُرَادِفُ بَسْطَةٍ
الَّذِي هُوَ- بِسِينٍ- قَبْلَ الطَّاءِ. وَوَقَعَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. وَأَهْمَلَ الرَّاغِبُ (بَصْطَةً) الَّذِي بِالصَّادِّ. وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- بِسِينٍ- وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالْبَصْطَةُ: الْوَفْرَةُ وَالسَّعَةُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ.
فَإِنْ كَانَ (الْخَلْقُ) بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فَالْبَصْطَةُ الزِّيَادَةُ فِي الْقُوَى الْجِبِلِّيَّةِ أَيْ زَادَهُمْ قُوَّةً فِي عُقُولِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ فَخَلَقَهُمْ عُقَلَاءَ أَصِحَّاءَ، وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ نِسْبَةُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ إِلَى عَادٍ، وَنِسْبَةُ كَمَالِ قُوَى الْأَجْسَامِ إِلَيْهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ:
أَحْلَامُ عَادٍ وَأَجْسَامٌ مُطَهَّرَةٌ
…
مِنَ الْمَعَقَّةِ وَالْآفَاتِ وَالْإِثْمِ
وَقَالَ وَدَّاكُ بن ثميل المازتي فِي «الْحَمَاسَةِ» :
وَأَحْلَامُ عَادٍ لَا يَخَافُ جَلِيسُهُمْ
…
وَلَوْ نَطَقَ الْعُوَّارُ غَرْبَ لِسَانِ
وَقَالَ قِيسُ بْنُ عُبَادَةَ:
وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ
…
سَرَاوِيلُ عَادِيٍّ نَمَتْهُ ثَمُود
وعَلى هَذِه الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فِي الْخَلْقِ مُتَعَلِّقًا بِ بَصْطَةً، وَإِنْ كَانَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى النَّاسِ فَالْمَعْنَى: وَزَادَكُمْ بَصْطَةً فِي النَّاسِ بِأَنَّ جَعْلَكُمْ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِيمَا تَتَفَاضَلُ بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا، فَيَشْمَلُ رُجْحَانَ الْعُقُولِ وَقُوَّةَ الْأَجْسَامِ وَسَلَامَتَهَا مِنَ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ وَقُوَّةَ الْبَأْسِ، وَقَدْ نُسِبَتِ الدُّرُوعُ إِلَى عَادٍ فَيُقَالُ لَهَا: الْعَادِيَّةُ، وَكَذَلِكَ السُّيُوفُ الْعَادِيَّةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] وَحَكَى عَنْ هُودٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشُّعَرَاء:
129-
134] وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فِي الْخَلْقِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ فَصِيحَةٌ، أَيْ: إِنْ ذَكَرْتُمْ وَقْتَ جَعَلَكُمُ اللَّهُ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ وَوَقْتَ زَادَكُمْ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا نِعَمَهُ الْكَثِيرَةَ تَفْصِيلًا، فَالْكَلَامُ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْجُزْئِيِّ عَلَىِِ