الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: [34] :
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَأَنَّهُمْ لَوْ أَقْلَعُوا عَنْهَا لَتُرِكَ عَذَابُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ أَوْ إِلَى الْيَوْم الآخر.
[85- 87]
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 85 إِلَى 87]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)
تَفْسِيرُ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ كَتَفْسِيرِ نَظِيرِهَا فِي قِصَّةِ ثَمُودَ، سِوَى أَنَّ تَجْرِيدَ فِعْلِ قالَ يَا قَوْمِ مِنَ الْفَاءِ- هُنَا- يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ هَذَا لَيْسَ هُوَ الَّذِي فَاتَحَهُمْ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ بَلْ هُوَ مِمَّا خَاطَبَهُمْ بِهِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ مِرَارًا، وَبَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَمَا يَأْتِي.
وَمَدْيَنُ أُمَّةٌ سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَدِّهَا مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام، مِنْ زَوْجِهِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَهِيَ سُرِّيَّةٌ اسْمُهَا
قَطُورَا. وَتَزَوَّجَ مَدْيَنُ ابْنَةَ لُوطٍ عليه السلام وَوُلِدَ لَهُ أَبْنَاءٌ: هُمْ (عَيْفَةُ) وَ (عَفَرُ) وَ (حَنُوكُ) وَ (ابْيَدَاعُ) وَ (أَلْدَعَةُ) وَقَدْ أَسْكَنَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام فِي دِيَارِهِمْ، وَسَطًا بَيْنَ مَسْكَنِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام وَمَسْكَنِ ابْنِهِ إِسْحَاقَ عليه السلام، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ تَفَرَّعَتْ بُطُونُ مَدْيَنَ، وَكَانُوا يُعَدُّونَ نَحْوَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَمَوَاطِنُهُمْ بَيْنَ الْحِجَازِ وَخَلِيجِ الْعَقَبَةِ بِقُرْبِ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ، وَقَاعِدَةُ بِلَادِهِمْ (وَجُّ) عَلَى الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَتَنْتَهِي أَرْضُهُمْ مِنَ الشَّمَالِ إِلَى حُدُودِ مَعَانٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَإِلَى نَحْوِ تَبُوكَ مِنَ الْحِجَازِ، وَتُسَمَّى بِلَادُهُمُ (الْأَيْكَةَ) . وَيُقَالُ: إِنَّ الْأَيْكَةَ هِيَ (تَبُوكُ) فَعَلَى هَذَا هِيَ مِنْ بِلَادِ مَدْيَنَ، وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ قُرًى وَبَوَادِي، وَكَانَ شُعَيْبٌ عليه السلام مِنَ الْقَرْيَةِ وَهِيَ (الْأَيْكَةُ) ، وَقَدْ تَعَرَّبُوا بِمُجَاوَرَةِ الْأُمَمِ الْعَرَبِيَّةِ وَكَانُوا فِي مُدَّةِ شُعَيْبٍ عليه السلام تَحْتَ مُلُوكِ مِصْرَ، وَقَدِ اكْتَسَبُوا بِمُجَاوَرَةِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَمُخَالَطَتِهِمْ لِكَوْنِهِمْ فِي طَرِيقِ مِصْرَ، عَرَبِيَّةً فَأَصْبَحُوا فِي عِدَادِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، مِثْلَ بَنِي إِسْمَاعِيلَ عليه السلام، وَقَدْ كَانَ شَاعِرٌ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ يُعْرَفُ بِأَبِي الْهَمَيْسَعِ هُوَ مِنْ شُعَرَاءِ مَدْيَنَ وَهُوَ الْقَائِلُ:
إِنْ تَمْنَعِي صَوْبَكِ صَوْبَ الْمَدْمَعِ
…
يَجْرِي عَلَى الخدّ كضئب الثّغثع
مِنْ طَمْحَةٍ صَبِيرُهَا جَحْلَنْجَعِ وَيُقَالُ: إِنَّ الْخَطَّ الْعَرَبِيَّ أَوَّلُ مَا ظَهَرَ فِي مَدْيَنَ.
وَشُعَيْبٌ عليه السلام هُوَ رَسُولٌ لِأَهْلِ مَدْيَنَ، وَهُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، اسْمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ شُعَيْبٌ عليه السلام وَاسْمُهُ فِي التَّوْرَاةِ:(يَثْرُونُ) وَيُسَمَّى أَيْضًا (رَعْوَئِيلَ) وَهُوَ ابْنُ (نُوَيْلَى أَوْ نُوَيْبِ) بْنِ (رَعْوِيلَ) بْنِ (عَيْفَا) بْنِ (مَدْيَنَ) . وَكَانَ مُوسَى عليه السلام لَمَّا خَرَجَ مِنْ مِصْرَ نَزَلَ بِلَادَ مَدْيَنَ وَزَوَّجَهُ شُعَيْبٌ ابْنَتَهُ الْمُسَمَّاةَ (صَفُورَهْ) وَأَقَامَ مُوسَى عليه السلام عِنْدَهُ عَشْرَ سِنِينَ أَجِيرًا.
وَقَدْ خَبَطَ فِي نَسَبِ مَدْيَنَ وَنَسَبِ شُعَيْبٍ عليه السلام جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ، فَمَا وَجَدْتَ مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا فَانْبِذْهُ. وَعَدَّ الصَّفَدِيُّ شُعَيْبًا فِي الْعُمْيَانِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَقَدِ ابْتَدَأَ الدَّعْوَةَ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ بِهِ صَلَاحَ الِاعْتِقَادِ وَالْقَلْبِ، وَإِزَالَةَ الزَّيْفِ مِنَ الْعَقْلِ.
وَبَيِّنَةُ شُعَيْبٍ عليه السلام الَّتِي جَاءَتْ فِي كَلَامِهِ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُطْلِقَتْ عَلَى الْآيَةِ لِمُعْجِزَةٍ أَظْهَرَهَا لِقَوْمِهِ عَرَفُوهَا وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْقُرْآنُ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ حُجَّةً أَقَامَهَا عَلَى بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَسُوءِ الْفِعْلِ، وَعَجَزُوا عَنْ مُجَادَلَتِهِ فِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ مِثْلُ الْمُجَادَلَةِ الَّتِي حُكِيَتْ فِي سُورَةِ هُودٍ فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ أُطْلِقَتْ عَلَى مَا يُبَيِّنُ صِدْقَ الدَّعْوَى، لَا عَلَى خُصُوصِ خَارِقِ الْعَادَةِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْبَيِّنَةِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أَيْ يَكُونُ أَنْذَرَهُمْ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشُّعَرَاء: 187] فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَتْكُمْ مُرَادًا بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ الْقَرِيبُ، تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ آيَةً، أَيْ مُعْجِزَةً لِيُؤْمِنُوا، فَلَمْ يَسْأَلُوهَا وَبَادَرُوا بِالتَّكْذِيبِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى مِثْلَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عليه السلام: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها [الْأَعْرَاف: 105، 106] الْآيَةَ، فَيَكُونُ مَعْنَى: قَدْ جاءَتْكُمْ قَدْ أُعِدَّتْ لِأَنْ تَجِيئَكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ عِنْدَ مَجِيئِهَا.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَضْمُونِ مَعْنَى بَيِّنَةٌ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، فَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ وَكَانَ قَدْ أَمرهم بالتّوحيد بادىء بَدْءٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ الْقَلْبِ، شَرَعَ يَأْمُرُهُمْ بِالشَّرَائِعِ مِنَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَتِلْكَ دَعْوَةٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ بِأَنْ يُكْمِلُوا إِيمَانَهُمْ بِالْتِزَامِ الشَّرَائِعِ الْفَرْعِيَّةِ، وَإِبْلَاغٌ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَفِي دَعْوَةِ شُعَيْبٍ عليه السلام قَوْمَهُ إِلَى الْأَعْمَالِ الْفَرْعِيَّةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّتِ الدَّعْوَةُ إِلَى
التَّوْحِيدِ مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْبَشَرَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ قَدْ تَطَوَّرَتْ نُفُوسُهُمْ تَطَوُّرًا هَيَّأَهُمْ لِقَبُولِ الشَّرَائِعِ الْفَرْعِيَّةِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ شُعَيْبٍ عليه السلام كَانَتْ أَوْسَعَ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ هُودٍ وَصَالِحٍ عليهم السلام إِذْ كَانَ فِيهَا تَشْرِيعُ أَحْكَامٍ فَرْعِيَّةٍ وَقَدْ كَانَ عَصْرُ شُعَيْبٍ عليه السلام قَدْ أَظَلَّ عَصْرَ مُوسَى عليه السلام الَّذِي جَاءَ بِشَرِيعَةٍ عَظِيمَةٍ مَاسَّةٍ نَوَاحِيَ الْحَيَاةِ كُلِّهَا.
وَالْبَخْسُ فَسَّرُوهُ بِالنَّقْصِ، وَزَادَ الرَّاغِبُ فِي «الْمُفْرَدَاتِ» قَيْدًا، فَقَالَ: نَقْصُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ، وَأَحْسَنُ مَا رَأَيْتُ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» :«الْبَخْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ أَوِ الْمُخَادَعَةُ عَنِ الْقِيمَةِ أَوِ الِاحْتِيَالُ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ» فَلْنَبْنِ عَلَى أَسَاسِ كَلَامِهِ فَنَقُولُ:
الْبَخْسُ هُوَ إِنْقَاصُ شَيْءٍ مِنْ صِفَةٍ أَوْ مِقْدَارٍ هُوَ حَقِيقٌ بِكَمَالٍ فِي نَوْعِهِ. فَفِيهِ مَعْنَى الظُّلْمِ وَالتَّحَيُّلِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِيدَهْ فِي «الْمُخَصَّصِ» الْبَخْسُ فِي بَابِ الذَّهَابِ بِحَقِّ الْإِنْسَان، ولكنّه عِنْد مَا ذَكَرَهُ وَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ مُدَوِّنِي اللُّغَةِ، فَالْبَخْسُ حَدَثٌ يَتَّصِفُ بِهِ فَاعِلٌ وَلَيْسَ صِفَةً لِلشَّيْءِ الْمَبْخُوسِ فِي ذَاتِهِ، إِلَّا بِمَعْنَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يُوسُف: 20] أَيْ دُونَ قِيمَةِ أَمْثَالِهِ، (أَيْ تَسَاهَلَ بَائِعُوهُ فِي ثَمَنِهِ لِأَنَّهُمْ حَصَّلُوهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا كُلْفَةٍ) . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْبَخْسُ مُتَعَلِّقًا بِالْكَمِّيَّةِ كَمَا يَقُولُ الْمُشْتَرِيَ: هَذَا النِّحْيُ لَا يَزِنُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهُ يَزِنُ اثْنَيْ عَشَرَ رِطْلًا، أَوْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى هَذَا النَّخْلِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ قَنَاطِيرَ تَمْرًا فِي حِينِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْلُغُ عِشْرِينَ قِنْطَارًا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالصِّفَةِ كَمَا يَقُولُ: هَذَا الْبَعِيرُ شَرُودٌ وَهُوَ مِنَ الرَّوَاحِلِ، وَيَكُونُ طَرِيقُ الْبَخْسِ قَوْلًا، كَمَا مَثَّلْنَا، وَفِعْلًا كَمَا يَكُونُ مِنْ بَذْلِ ثَمَنٍ رَخِيصٍ فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَاعَ غَالِيًا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَخْسِ أَنْ يَنْتَفِعَ الْبَاخِسُ الرَّاغِبُ فِي السِّلْعَةِ الْمَبْخُوسَةِ بِأَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَتَبْقَى كَلًّا عَلَى جَالِبِهَا فَيَضْطَرُّ إِلَى بَيْعِهَا بِثَمَنٍ زَهِيدٍ، وَقَدْ يُقْصَدُ مِنْهُ إِلْقَاءُ الشَّكِّ فِي نَفْسِ جَالِبِ
السِّلْعَةِ بِأَنَّ سِلْعَتَهُ هِيَ دُونَ مَا
هُوَ رَائِجٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَدْخُلُهُ الْيَأْسُ مِنْ فَوَائِدِ نِتَاجِهِ فَتَكْسَلُ الْهِمَمُ.
وَمَا وَقَعَ فِي «اللِّسَانِ» مِنْ مَعَانِي الْبَخْسِ: أَنَّهُ الْخَسِيسُ فَلَعَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ أَوِ التَّوَسُّعِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْبَخْسَ هُوَ بِمَعْنَى النَّقْصِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْفَاعِلِ بِالْمَفْعُولِ، لَا النَّقْصُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الشَّيْءِ النَّاقِصِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْصِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا.
ثُمَّ إِنَّ حَقَّ فِعْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً [الْبَقَرَة: 282] فَإِذَا عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ فَذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّحْوِيلِ لِتَحْصِيلِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ:«وَلَا تَبْخَسُوا أَشْيَاءَ النَّاسِ» فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَشْياءَهُمْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: النَّاسَ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ بُنِيَ فِعْلُ بَخَسَ لِلْمَجْهُولِ لَقُلْتَ بُخِسَ فُلَانٌ شَيْئُهُ- بِرَفْعِ فُلَانٍ وَرَفْعِ شَيْئِهِ-. وَقَدْ جَعَلَهُ أَبُو الْبَقَاءِ مَفْعُولًا ثَانِيًا، فَعَلَى إِعْرَابِهِ لَوْ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ لَبَقِيَ (أَشْيَاءَهُمْ) مَنْصُوبًا. وَعَلَى إِعْرَابِنَا لَوْ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ لَصَارَ أَشْيَاؤُهُمْ مَرْفُوعًا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ النَّاسِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ بَيْنَ الْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ فَرْقًا قَدْ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ.
وَحَاصِلُ مَا أَمَرَ بِهِ شُعَيْبٌ عليه السلام قَوْمَهُ، بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أُصُولٍ: هِيَ حِفْظُ حُقُوقِ الْمُعَامَلَةِ الْمَالِيَّةِ، وَحِفْظُ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَحِفْظُ حُقُوقِ حُرِّيَّةِ الِاسْتِهْدَاءِ.
فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ فَإِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ حُقُوقِ الْمُشْتَرِينَ، لِأَنَّ الْكَائِلَ أَوِ الْوَازِنَ هُوَ الْبَائِعُ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُ حُبُّ الِاسْتِفْضَالِ عَلَى تَطْفِيفِ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ، لِيَكُونَ بَاعَ الشَّيْءَ النَّاقِصَ بِثَمَنِ الشَّيْءِ الْوَافِي، كَمَا يَحْسَبُهُ الْمُشْتَرِي.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ فَيَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ حُقُوقِ الْبَائِعِ لِأَنَّ
الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي يَبْخَسُ شَيْءَ الْبَائِعِ لِيُهَيِّئَهُ لِقَبُولِ الْغَبْنِ فِي ثَمَنِ شَيْئِهِ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حِيلَةٌ وَخِدَاعٌ لِتَحْصِيلِ رِبْحٍ مِنَ الْمَالِ.
وَالْكَيْلُ مَصْدَرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُكَالُ بِهِ، وَهُوَ الْمِكْيَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ [يُوسُف: 65] وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: لِمُقَابَلَتِهِ بِالْمِيزَانِ، وَلِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلا
تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ
[هود: 84] وَمَعْنَى. إِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ أَنْ تَكُونَ آلَةُ الْكَيْلِ وَآلَةُ الْوَزْنِ بِمِقْدَارِ مَا يُقَدَّرُ بِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُقَدَّرَةِ. وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ التَّحَيُّلَيْنِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَذْكُورَيْنِ: لِأَنَّهُمَا كَانَا شَائِعَيْنِ عِنْدَ مَدْيَنَ، وَلِأَنَّ التَّحَيُّلَاتِ فِي الْمُعَامَلَةِ الْمَالِيَّةِ تَنْحَصِرُ فِيهِمَا إِذْ كَانَ التَّعَامُلُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَوَادِي مُنْحَصِرًا فِي الْمُبَادَلَاتِ بِأَعْيَانِ الْأَشْيَاءِ:
عَرْضًا وَطَلَبًا.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ النَّهْيَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أَفَادَ مَعْنًى غَيْرَ الَّذِي أَفَادَهُ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ النَّهْيُ جَارِيًا مَجْرَى الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ، أَوِ التَّأْكِيدِ لِمَضْمُونِهِ، كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَمَا جَاءَ فِي هَذَا التَّشْرِيعِ هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ رَوَاجِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ تَعْتَمِدُ الثِّقَةَ الْمُتَبَادَلَةَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِشُيُوعِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ نَشِطَ النَّاسُ لِلتَّعَامُلِ فَالْمُنْتِجُ يَزْدَادُ إِنْتَاجًا وَعَرْضًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَالطَّالِبُ مِنْ تَاجِرٍ أَوْ مُسْتَهْلِكٍ يُقْبِلُ عَلَى الْأَسْوَاقِ آمِنًا لَا يَخْشَى غَبْنًا وَلَا خَدِيعَةً وَلَا خِلَابَةً، فَتَتَوَفَّرُ السِّلَعُ فِي الْأُمَّةِ، وَتَسْتَغْنِي عَنِ اجْتِلَابِ أَقْوَاتِهَا وَحَاجِيَّاتِهَا وَتَحْسِينِيَّاتِهَا، فَيَقُومُ نَمَاءُ الْمَدِينَةِ وَالْحَضَارَةِ عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ، وَيَعِيشُ النَّاسُ فِي رَخَاءٍ وَتَحَابُبٍ وَتَآخٍ، وَبِضِدِّ ذَلِكَ يَخْتَلُّ حَالُ الْأُمَّةِ بِمِقْدَارِ تَفَشِّي ضِدِّ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها هَذَا الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ دَعْوَةِ شُعَيْبٍ عليه السلام لِلنَّهْيِ عَنْ كُلِّ مَا يُفْضِي إِلَى إِفْسَادِ مَا هُوَ عَلَى
حَالَةِ الصَّلَاحِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ [56] .
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى مَجْمُوعِ مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ، وَلِذَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَالْمَذْكُورُ: هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَإِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَتَجَنُّبِ بَخْسِ أَشْيَاءِ النَّاسِ، وَتَجَنُّبِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ، أَيْ نَفْعٌ وَصَلَاحٌ تَنْتَظِمُ بِهِ أُمُورُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ [الْحَج: 36] . وَإِنَّمَا كَانَ مَا ذُكِرَ خَيْرًا: لِأَنَّهُ يُوجِبُ هَنَاءَ الْعَيْشِ وَاسْتِقْرَارَ الْأَمْنِ وَصَفَاءَ الْوُدِّ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَزَوَالَ الْإِحَنِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْخُصُومَاتِ وَالْمُقَاتَلَاتِ، فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ كَثُرَتِ الْأُمَّةُ وَعَزَّتْ وَهَابَهَا أَعْدَاؤُهَا وَحَسُنَتْ أُحْدُوثَتُهَا وَكَثُرَ مَالُهَا بِسَبَبِ رَغْبَةِ
النَّاسِ فِي التِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ لِأَمْنِ صَاحِبِ الْمَالِ مِنِ ابْتِزَازِ مَالِهِ. وَفِيهِ خَيْرُ الْآخِرَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ فَعَلُوهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ رَسُوله أكسبهم رضى اللَّهِ، فَنَجَوْا مِنَ الْعَذَابِ، وَسَكَنُوا دَارَ الثَّوَابِ، فَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالْكَمَالِ لِأَنَّهُ جَامِعُ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شَرْطٌ مُقَيِّدٌ لِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ لَقَبٌ لِلْمُتَّصِفِينَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الشَّرَائِعِ وَحَمْلُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُصَدِّقِينَ لِقَوْلِهِ، وَنُصْحِهِ، وَأَمَانَتِهِ: حَمْلٌ عَلَى مَا يَأْبَاهُ السِّيَاقُ، بَلِ الْمَعْنَى، أَنَّهُ يَكُونُ خَيْرًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى الدَّعْوَةِ لِلتَّوْحِيدِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فِي كَلَامِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ حُصُولَ الْخَيْرِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوهَا وَهُمْ مُشْرِكُونَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا الْخَيْرُ لِأَنَّ مَفَاسِدَ الشِّرْكِ تُفْسِدُ مَا فِي الْأَفْعَالِ مِنَ الْخَيْرِ، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الشِّرْكَ يَدْعُو إِلَى أَضْدَادِ تِلْكَ الْفَضَائِلِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101]
أَوْ يَدْعُو إِلَى مَفَاسِدَ لَا يَظْهَرُ مَعَهَا نَفْعُ تِلْكَ الْمَصَالِحِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقْيِيدِ نَفْيُ الْخَيْرِ الْكَامِلِ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلُوهَا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ حَقَّ الْإِيمَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 13- 17] وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ بِغَيْرِ هَذَا عُدُولٌ بِهَا عَنْ مَهْيَعِ الْوُضُوحِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ هَذَا الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ دَعْوَتِهِ وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ دُونَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي ذَلِكَ صَلَاحُ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ أَصْلِحُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَمْنَعُوا مَنْ يَرْغَبُ فِي إِصْلَاحِ نَفْسِهِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُدُّونَ وُفُودَ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا شُعَيْبٌ عليه السلام لِئَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ. فَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ الطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَى لِقَاءِ شُعَيْبٍ عليه السلام.
وَالْقُعُودُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ لَازِمَةٍ وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ وَالِاسْتِقْرَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [16] .
وَ (كُلِّ) لِلْعُمُومِ وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ كُلِّ صِرَاطٍ مُبَلِّغٍ إِلَى الْقَرْيَةِ أَوْ إِلَى مَنْزِلِ شُعَيْبٍ
عليه السلام، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (كُلِّ) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، أَوْ هِيَ بِمَعْنَى (فِي) كَشَأْنِهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى أَسْمَاءِ الْمَنَازِلِ. كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
بِسِقْطِ اللِّوَى الْبَيْتَ.
وَجُمْلَةُ: تُوعِدُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَقْعُدُوا وَالْإِيعَادُ: الْوَعْدُ بِالشَّرِّ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِيعَادِ الصَّدُّ، فَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةٍ وَتَصُدُّونَ عَطْفُ عِلَّةٍ عَلَى مَعْلُولٍ، أَوْ أُرِيدُ تُوعِدُونَ الْمُصَمِّمِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الْإِيمَانِ، وَتَصُدُّونَ الَّذِينَ لَمْ يُصَمِّمُوا فَهُوَ عَطْفُ عَامٍ عَلَى خَاصٍّ.
وَ (مَنْ آمَنَ) يَتَنَازَعُهُ كُلُّ مِنْ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ بِهِ عِوَضًا عَنِ الْمُضَارِعِ، حَيْثُ الْمُرَادُ بِمَنْ آمَنَ قَاصِدُ الْإِيمَانِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِتَحْقِيقِ عَزْمِ الْقَاصِدِ عَلَى الْإِيمَانِ فَهُوَ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَصُدُّونَهُ لَكَانَ قَدْ آمَنَ.
وسَبِيلِ اللَّهِ الدِّينُ لِأَنَّهُ مثل الطَّرِيق الْموصل إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى الْقُرْبِ مِنْ مَرْضَاتِهِ.
وَمَعْنَى تَبْغُونَها عِوَجاً تَبْغُونَ لِسَبِيلِ اللَّهِ عِوَجًا إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ شُعَيْبٌ بَاطِلٌ، يُقَالُ: بَغَاهُ بِمَعْنَى طَلَبَ لَهُ، فَأَصْلُهُ بَغَى لَهُ فَحَذَفُوا حَرْفَ الْجَرِّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ لِتَضْمِينِ بَغَى مَعْنَى أَعْطَى.
وَالْعِوَجُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- عَدَمُ الِاسْتِقَامَةِ فِي الْمَعَانِي، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ: عَدَمُ اسْتِقَامَةِ الذَّاتِ، وَالْمَعْنَى: تُحَاوِلُونَ أَنْ تَصِفُوا دَعْوَةَ شُعَيْبٍ الْمُسْتَقِيمَةَ بِأَنَّهَا بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، كَمَنْ يُحَاوِلُ اعْوِجَاجَ عُودٍ مُسْتَقِيمٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي ذِكْرِ نِدَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ.
وَإِنَّمَا أَخَّرَ النَّهْيَ عَنِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، بَعْدَ جُمْلَةِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ فِي نَسَقِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَاضِيَةِ ثُمَّ يُعَقِّبْهُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ رَتَّبَ الْكَلَامَ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْجَمِيعَ فِيهِ صَلَاحُ الْمُخَاطَبِينَ، فَأَعْقَبَهَا بِبَيَانِ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَأَعَادَ تَنْبِيهَهُمْ
إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صَلَاحِ الْأَعْمَالِ، وَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِيمَانِ عَادَ إِلَى النَّهْيِ عَنْ صَدِّ الرَّاغِبِينَ فِيهِ، فَهَذَا مِثْلُ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ
…
وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خُلْخَالِ
وَلَمْ أَسْبَأِ الرَّاحَ الْكُمَيْتَ وَلَمْ أَقُلْ
…
لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «شَرْحِ دِيوَانِ الْمُتَنَبِّي» أَنَّ الْمُتَنَبِّي لَمَّا أَنْشَدَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ قَوْلَهُ فِيهِ:
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ
…
كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهُوَ نَائِمُ
تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى حَزِينَةً
…
وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
أَنْكَرَ عَلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ تَطْبِيقَ عَجُزَيِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى صَدَرَيْهِمَا، وَقَالَ لَهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجْعَلَ الْعَجز الثَّانِي عَجزا للْأولِ وَالْعَكْسَ وَأَنْتَ فِي هَذَا مِثْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ:
كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ الْبَيْتَيْنِ، وَوَجْهُ الْكَلَامِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ بِالشِّعْرِ: أَنْ يَكُونَ عَجُزُ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي وَعَجُزُ الْبَيْتِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ لِيَكُونَ رُكُوبُ الْخَيْلِ مَعَ الْأَمْرِ لِلْخَيْلِ بِالْكَرِّ، وَيَكُونُ سِبَاءُ الْخَمْرِ مَعَ تَبَطُّنِ الْكَاعِبِ، فَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:«إِنْ صَحَّ أَنَّ الَّذِي اسْتَدْرَكَ عَلَى امْرِئِ الْقَيْسِ هَذَا أَعْلَمُ مِنْهُ بِالشِّعْرِ فَقَدْ أَخْطَأَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَأَخْطَأْتُ أَنَا، وَمَوْلَانَا الْأَمِيرُ يَعْلَمُ أَنَّ الثَّوْبَ لَا يَعْرِفُهُ الْبَزَّازُ مَعْرِفَةَ الْحَائِكِ، لِأَنَّ الْبَزَّازَ لَا يَعْرِفُ إِلَّا جُمْلَتَهُ، وَالْحَائِكَ يَعْرِفُ جُمْلَتَهُ وَتَفْصِيلَهُ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْغَزَلِيَّةِ إِلَى الثَّوْبِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَرَنَ امْرُؤُ الْقَيْسِ لَذَّةَ النِّسَاءِ بِلَذَّةِ الرُّكُوبِ لِلصَّيْدِ وَقَرَنَ السَّمَاحَةَ فِي شِرَاءِ الْخَمْرِ لِلْأَضْيَافِ بِالشَّجَاعَةِ فِي مُنَازَلَةِ الْأَعْدَاءِ، وَأَنَّا لَمَّا ذَكَرْتُ الْمَوْتَ فِي أَوَّلِ الْبَيْتِ أَتْبَعْتُهُ بِذِكْرِ الرَّدَى لِتَجَانُسِهِ، وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الْمُنْهَزِمِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَبُوسًا وَعَيْنُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاكِيَةً قُلْتُ: «وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ» لِأَجْمَعَ بَيْنَ الْأَضْدَادِ فِي الْمَعْنَى.
وَهُوَ يَعْنِي بِهَذَا أَنَّ وُجُوهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ تَخْتَلِفُ وَتَتَعَدَّدُ، وَأَنَّ بَعْضًا يَكُونُ أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ.
وَذَكَّرَهُمْ شُعَيْبٌ عليه السلام عَقِبَ ذَلِكَ بِتَكْثِيرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَلِيلًا، وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ، إِذْ صَارُوا أُمَّةً بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْشَرًا.
وَمَعْنَى تَكْثِيرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ تَيْسِيرُهُ أَسْبَابَ الْكَثْرَةِ لَهُمْ بِأَنْ قَوَّى فِيهِمْ قُوَّةَ التَّنَاسُلِ،
وَحَفِظَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوَتَانِ، وَيَسَّرَ لِنَسْلِهِمُ الْيِفَاعَةَ حَتَّى كَثُرَتْ مَوَالِيدُهُمْ وَقَلَّتْ وَفِيَّاتُهُمْ، فَصَارُوا عَدَدًا كَثِيرًا فِي زَمَنٍ لَا يُعْهَدُ فِي مِثْلِهِ مَصِيرُ أُمَّةٍ إِلَى عَدَدِهِمْ، فَيُعَدُّ مَنْعُهُمُ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ فِي دِينِ اللَّهِ سَعْيًا فِي تَقْلِيلِ حِزْبِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كُفْرَانٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ كَثَّرَهُمْ، وَلِيُقَابِلُوا اعْتِبَارَ
هَذِهِ النِّعْمَةِ بِاعْتِبَارِ نِقْمَتِهِ تَعَالَى مِنَ الَّذِينَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ، إِذِ اسْتَأْصَلَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا كَثِيرًا فَذَلِكَ مِنْ تَمَايُزِ الْأَشْيَاءِ بِأَضْدَادِهَا.
فَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ جَمْعٌ بَيْنَ طَرِيقَيِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
وَقَلِيلٌ وَصْفٌ يَلْزَمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ، مِثْلُ كَثِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَأَيِّنْ مِنْ نبيء قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [146] .
وَالْمُرَادُ بِ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ أَفْسَدُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ وَبِأَعْمَالِ الضَّلَالِ، وأفسدوا الْمُجْتَمع بمخالفة الشَّرَائِعِ، وَأَفْسَدُوا النَّاسَ بِإِمْدَادِهِمْ بِالضَّلَالِ وَصَدِّهِمْ عَنِ الْهُدَى، وَلِذَلِكَ لم يُؤْت: ل الْمُفْسِدِينَ بِمُتَعَلِّقٍ لِأَنَّهُ اعْتُبِرَ صِفَةً، وَقُطِعَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ، أَيِ الَّذِينَ عُرِفُوا بِالْإِفْسَادِ. وَهَذَا الْخِطَابُ مَقْصُودٌ مِنْهُ الْكَافِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ ابْتِدَاءً، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا تَشْمَلُهُمْ وَبِالِاعْتِبَارِ بِمَنْ مَضَوْا فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُمْ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَبِالتَّسْلِيَةِ لَهُمْ عَلَى مَا يُلَاقُونَهُ مِنْ مُفْسِدِي أَهْلِ الشِّرْكِ لِانْطِبَاقِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى حَالِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ عليه السلام.
وَ (إِذْ) فِي قَوْلِهِ: إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا اسْمُ زَمَانٍ، غَيْرُ ظَرْفٍ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ بِهِ أَيِ اذْكُرُوا زَمَانَ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَأَعْقَبَهُ بِأَنْ كَثَّرَكُمْ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ.
والطائفة الْجَمَاعَةُ ذَاتُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] .
وَالشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ أَفَادَ تَعْلِيقَ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَعْنِي مَا تَضَمَّنَهُ الْوَعِيدُ لِلْكَافِرِينَ بِهِ وَالْوَعْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ، عَلَى تَحَقُّقِ حُصُولِ مَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ، لَا عَلَى تَرَقُّبِ حُصُولِ مَضْمُونِهِ، لِأَنَّهُ
مَعْلُومُ الْحُصُولِ، فَالْمَاضِي الْوَاقِعُ فِعْلًا لِلشَّرْطِ هُنَا مَاضٍ حَقِيقِيّ وَلَيْسَ مؤولا بِالْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي وُقُوعِ الْمَاضِي فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ مَعْلُومَ الْحُصُولِ، وَبِقَرِينَةِ النَّفْيِ بِلَمِ الْمَعْطُوفِ عَلَى
الشَّرْطِ فَإِنَّ (لَمْ) صَرِيحَةٌ فِي الْمُضِيِّ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [الْمَائِدَة: 116] بِقَرِينَةٍ. (قَدْ) إِذِ الْمَاضِي الْمَدْخُول لقد لَا يُقْلَبُ إِلَى مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ.
فَالْمَعْنَى: إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ طَائِفَةً آمَنُوا وَطَائِفَةً كَفَرُوا فَسَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا فَاصْبِرُوا حتّى يحكم ويؤول الْمَعْنَى: إِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي تَصْدِيقِي فَسَيَظْهَرُ الْحُكْمُ بِأَنِّي صَادِقٌ.
وَلَيْسَتْ (إِنْ) بِمُفِيدَةِ الشَّكِّ فِي وُقُوعِ الشَّرْطِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ، بَلِ اجْتُلِبَتْ هُنَا لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ مَعْنَى الشَّكِّ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ إِذَا وَقَعَ الْعُدُولُ عَنِ اجْتِلَابِ (إِذَا) حِينَ يَصِحُّ اجْتِلَابُهَا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَصِحَّ اجْتِلَابُ (إِذَا) فَلَا تَدُلُّ (إِنْ) عَلَى شَكٍّ وَكَيْفَ تُفِيدُ الشَّكَّ مَعَ تَحَقُّقِ الْمُضِيِّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
لَئِنْ كُنْتَ قَدْ بُلِّغْتَ عَنِّي وِشَايَةً
…
لَمُبْلِغُكَ الْوَاشِي أَغَشُّ وَأَكْذَبُ
وَالصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ فِي حَالِ التَّرَقُّبِ، سَوَاءٌ كَانَ تَرَقُّبَ مَحْبُوبٍ أَمْ تَرَقُّبَ مَكْرُوهٍ، وَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى حَبْسِ النَّفْسِ فِي حَالِ فُقْدَانِ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّهُ خُوطِبَ بِهِ الْفَرِيقَانِ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، وَصَبْرُ كُلٍّ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَلَعَلَّهُ رَجَحَ فِيهِ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ، فَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَرَقَّبَ هُوَ فِي مَنْفَعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً.
وحَتَّى تُفِيدَ غَايَةً لِلصَّبْرِ، وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَسَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ.
وَحُكْمُ اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِ أَثَرِ غَضَبِهِ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَرِضَاهُ عَلَى الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ، فَيَظْهَرُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَهَذَا صَدَرَ عَنْ ثِقَةِ شُعَيْبٍ عليه السلام بِأَنَّ اللَّهَ سَيَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ اسْتِنَادًا لِوَعْدِ
اللَّهِ إِيَّاهُ بِالنَّصْرِ عَلَى قَوْمِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي رُسُلِهِ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ مِنْ كَلَامِهِ لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: فَاصْبِرُوا إِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ، فَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً صَحَّ إِرَادَةُ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا.
وَأَدْخَلَ نَفْسَهُ فِي الْمَحْكُومِ بَيْنَهُمْ بِضَمِيرِ الْمُشَارَكَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفَرِيقِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ يُعْتَبَرُ شَامِلًا لَهُ لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ تَذْيِيلٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّ حُكْمَهُ عَدْلٌ مَحْضٌ لَا يَحْتَمِلُ الظُّلْمَ عَمْدًا وَلَا خَطَأً، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَاكِمِينَ يَقَعُ مِنْهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا.
وخَيْرُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ أَصْلُهُ أَخْيَرُ فَخَفَّفُوهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ