الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْمُرَادُ بِ الْمُعْتَدِينَ: الْمُشْركُونَ، لأنّ يُرَادِفُ الظَّالِمِينَ.
وَالْمَعْنَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ لِأَنَّهُ يُحِبُّكُمْ وَلَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، كَقَوْلِهِ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: 60] تَعْرِيضٌ
بِالْوَعْدِ بِإِجَابَةِ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرَّعْد: 14] عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِيهَا. وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ التَّضَرُّعَ عَلَى الْخُضُوعِ، فَجَعَلُوا الْآيَةَ مَقْصُورَةً عَلَى طَلَبِ الدُّعَاءِ الْخَفِيِّ حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَجَعَلَ الْجَهْرَ بِالدُّعَاءِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَتَجَاوَزَ بَعْضُهُمْ فَجَعَلَ قَوْلَهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْأَمْرِ بِإِخْفَاءِ الدُّعَاءِ، وَجَعَلَ الْجَهْرَ بِالدُّعَاءِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ وَالْجَاهِرِينَ بِهِ مِنَ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللَّهُ. وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ نَقْلٌ عَنْهُ غَيْرُ مَضْبُوطِ الْعِبَارَةِ، كَيْفَ وَقَدْ دَعَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جَهْرًا ودعا أَصْحَابه.
[56]
[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : آيَة 56]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها.
عُطِفَ النَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الْأَعْرَاف: 55] عَطْفًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَمَّا أَنْبَأَ عَنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَتَقْرِيبِهِ إِيَّاهُمْ إِذْ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوَهُ وَشَرَّفَهُمْ بِذَلِكَ الْعُنْوَانِ الْعَظِيمِ فِي قَوْله: رَبَّكُمْ [الْأَعْرَاف: 55] ، وَعَرَّضَ لَهُمْ بِمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمْ دُونَ أَعْدَائِهِمُ الْمُعْتَدِينَ، أَعْقَبَهُ بِمَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِدْلَالِ عَلَى اللَّهِ بِالِاسْتِرْسَالِ فِيمَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ شَهَوَاتُهُمْ مِنْ ثَوَرَانِ الْقُوَّتَيْنِ الشَّهْوِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ، فَإِنَّهُمَا تَجْنِيَانِ فَسَادًا فِي الْغَالِبِ، فَذَكَّرَهُمْ بِتَرْكِ الْإِفْسَادِ لِيَكُونَ صَلَاحُهُمْ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يُخَالِطَهُ فَسَادٌ، فَإِنَّهُمْ إِنْ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ أَفْسَدُوا مَخْلُوقَاتٍ كَثِيرَةً وَأَفْسَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْإِفْسَادِ، فَأَشْبَهَ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ، وَكَذَلِكَ دَأْبُ الْقُرْآنِ أَنْ يُعَقِّبَ التَّرْغِيبَ بِالتَّرْهِيبِ، وَبِالْعَكْسِ، لِئَلَّا يَقَعَ النَّاسُ فِي الْيَأْسِ أَوِ الْأَمْنِ.
وَالِاهْتِمَامُ بِدَرْءِ الْفَسَادِ كَانَ مَقَامًا هُنَا مُقْتَضِيًا التَّعْجِيلَ بِهَذَا النَّهْيِ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ.
وَفِي إِيقَاعِ هَذَا النَّهْيِ عَقِبَ قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الْأَعْرَاف: 55] تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُعْتَدِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَإِرْبَاءٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ مُشَابِهَتِهِمْ، أَيْ لَا يَلِيقُ بِكُمْ وَأَنْتُمُ الْمُقَرَّبُونَ مِنْ رَبِّكُمْ، الْمَأْذُونُ لَكُمْ بِدُعَائِهِ، أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ الْمُبْعَدِينَ مِنْهُ الْمُبْغَضِينَ.
وَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ وَالْإِصْلَاحُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [11] ، وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أُصُولَ الْفَسَادِ وَحَقَائِقَ الْإِصْلَاحِ، وَمَرَّ هُنَالِكَ الْقَوْلُ فِي حَذْفِ مَفْعُولِ تُفْسِدُوا مِمَّا هُوَ نَظِيرُ مَا هُنَا.
والْأَرْضِ هُنَا هِيَ الْجِسْمُ الْكُرَوِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالدُّنْيَا.
وَالْإِفْسَادُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْأَرْضِ هُوَ إِفْسَادٌ لِمَجْمُوعِ الْأَرْضِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْإِفْسَادِ مُؤَدِّيًا إِلَى صَلَاحٍ أَعْظَمَ مِمَّا جَرَّهُ الْإِفْسَادُ مِنَ الْمَضَرَّةِ، فَيَتَرَجَّحُ الْإِفْسَادُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُ صَلَاحٍ ضَرُورِيٍّ إِلَّا بِهِ، فَقَدْ قَطَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَنَهَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَنْ قَطْعِ شَجَرِ الْعَدُوِّ، لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.
وَالْبَعْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَ إِصْلاحِها بَعْدِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، لِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهَا عَلَى صَلَاحٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: 10] عَلَى نِظَامٍ صَالِحٍ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَبِخَاصَّةٍ الْإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَخَلَقَ لَهُ مَا فِي الْأَرْضِ، وَعَزَّزَ ذَلِكَ النِّظَامَ بِقَوَانِينَ وَضْعَهَا اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ وَالصَّالِحِينَ وَالْحُكَمَاءِ مِنْ عِبَادِهِ، الَّذِينَ أَيَّدَهُمْ بِالْوَحْيِ وَالْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ، أَوْ بِالْإِلْهَامِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْحِكْمَةِ، فَعَلَّمُوا النَّاسَ كَيْفَ يَسْتَعْمِلُونَ مَا فِي الْأَرْضِ عَلَى نِظَامٍ يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِفَاعُ بِنَفْعِ النَّافِعِ وَإِزَالَةِ مَا فِي بعض النَّافِعِ مِنَ الضُّرِّ وَتَجَنُّبِ ضُرِّ الضَّارِّ، فَذَلِكَ النِّظَامُ الْأَصْلِيُّ، وَالْقَانُونُ الْمُعَزِّزُ لَهُ، كِلَاهُمَا
إِصْلَاحٌ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِيجَادُ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَالَثَانِي جَعْلُ الضَّارِّ صَالِحًا بِالتَّهْذِيبِ أَوْ بِالْإِزَالَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [11] ، أَنَّ الْإِصْلَاحَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ إِيجَادِ الشَّيْءِ صَالِحًا وَبَيْنَ جَعْلِ الْفَاسِدِ صَالِحًا. فَالْإِصْلَاحُ هُنَا مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الِاسْمِ الْجَامِدِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إِصْلَاحٌ حَاصِلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ لَا إِصْلَاحٌ هُوَ بِصَدَدِ الْحُصُولِ، فَإِذَا غُيِّرَ ذَلِكَ النِّظَامُ فَأُفْسِدَ الصَّالِحُ، وَاسْتُعْمِلَ الضَّارُّ عَلَى ضُرِّهِ، أَوِ اسْتُبِقِيَ مَعَ إِمْكَانِ إِزَالَتِهِ، كَانَ إِفْسَادًا بَعْدَ إِصْلَاحٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الْأَنْفَال: 73] .
وَالتَّصْرِيحُ بِالْبَعْدِيَّةِ هُنَا تَسْجِيلٌ لِفَظَاعَةِ الْإِفْسَادِ بِأَنَّهُ إِفْسَادٌ لِمَا هُوَ حَسَنٌ وَنَافِعٌ، فَلَا مَعْذِرَةَ لِفَاعِلِهِ وَلَا مَسَاغَ لِفِعْلِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
عَوْدٌ إِلَى أَمْرِ الدُّعَاءِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ أَشْبَهَ الِاحْتِرَاسَ الْمُعْتَرِضَ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ، وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خَوْفاً وَطَمَعاً قَصْدًا لِتَعْلِيمِ الْبَاعِثِ عَلَى الدُّعَاءِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا كَيْفِيَّتَهُ، وَهَذَا الْبَاعِثُ تَنْطَوِي تَحْتَهُ أَغْرَاضُ الدُّعَاءِ وَأَنْوَاعُهُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ عَلَى مِثْلِهِ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقَاتِهِمَا.
وَالْخَوْفُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 229] .
وَالطَّمَعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [75] .
وَانْتِصَابُ خَوْفاً وَطَمَعاً هُنَا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ أَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ لِأَجْلِ خَوْفٍ مِنْهُ وَطَمَعٍ فِيهِ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ لِدَلَالَةِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي ادْعُوهُ.
وَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ لِلدُّعَاءِ بِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ:
فَالْخَوْفُ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَالطَّمَعُ فِي رِضَاهُ وَثَوَابِهِ، وَالدُّعَاءُ لِأَجْلِ الْخَوْفِ نَحْوَ الدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالدُّعَاءُ لِأَجَلِ الطَّمَعِ نَحْوَ الدُّعَاءِ بِالتَّوْفِيقِ وَبِالرَّحْمَةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الدُّعَاءَ يَشْتَمِلُ عَلَى خَوْفٍ وَطَمَعٍ فِي ذَاتِهِ كَمَا فَسَّرَ بِهِ الْفَخْرُ فِي السُّؤَالِ الثَّالِثِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ صَحَّ فِي الطَّمَعِ لَا يَصِحُّ فِي الْخَوْفِ إِلَّا بِسَمَاجَةٍ. وَفِي الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ خَوْفًا وَطَمَعًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ حُظُوظِ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ مُرَاعَاةَ جَانِبِ الْخَوْفِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَالطَّمَعِ فِي ثَوَابِهِ، وَهَذَا مِمَّا طَفَحَتْ بِهِ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ أَتَى الْفَخْرُ فِي السُّؤَالِ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِكَلَامٍ غَيْرِ مُلَاقٍ لِلْمَعْرُوفِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَنَزَعَ بِهِ نَزْعَةَ الْمُتَصَوِّفَةِ الْغُلَاةِ. وَتَعَقُّبُهُ يَطُولُ، فَدُونَكَ فَانْظُرْهُ إِنْ شِئْتَ.
وَقَدْ شَمِلَ الْخَوْفُ وَالطَّمَعُ جَمِيعَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَغْرَاضُ الْمُسْلِمِينَ نَحْوَ رَبِّهِمْ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ، لِيَدْعُوا اللَّهَ بِأَنْ يُيَسِّرَ لَهُمْ أَسْبَابَ حُصُولِ مَا يَطْمَعُونَ، وَأَنْ يُجَنِّبَهُمْ أَسْبَابَ حُصُولِ مَا يَخَافُونَ. وَهَذَا يَقْتَضِي تَوَجُّهَ هِمَّتِهِمْ إِلَى اجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ لِأَجْلِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ، وَإِلَى امْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ لِأَجْلِ الطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ اقْتَضَى الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ عِبَادَةَ مَنْ هُوَ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ يَعْصِيَهُ، فَالتَّقْدِيرُ: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا وَأَحْسِنُوا بِقَرِينَةِ تَعْقِيبِهِ بقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. وَهَذَا إِيجَازٌ.
وَجُمْلَة: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ وَادْعُوهُ، فَلِذَلِكَ قُرِنَتْ بِ إِنَّ الدَّالَّةَ عَلَى التَّوْكِيدِ، وَهُوَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، إِذْ لَيْسَ الْمُخَاطَبُونَ بِمُتَرَدِّدِينَ فِي مَضْمُونِ الْخَبَرِ، وَمِنْ شَأْنِ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تُفِيدَ التَّعْلِيلَ وَرَبْطَ مَضْمُونِ جُمْلَتِهَا بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَتُغْنِي عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلَمْ تُعْطَفْ لِإِغْنَاءِ (إِنَّ) عَنِ الْعَاطِفِ.
ورَحْمَةِ اللَّهِ: إحسانه وإيتاؤه الْخَبَر.
وَالْقُرْبُ حَقِيقَتُهُ دُنُوُّ الْمَكَانِ وَتَجَاوُرُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الرَّجَاءِ مَجَازًا يُقَالُ: هَذَا قَرِيبٌ، أَيْ مُمْكِنٌ مَرْجُوٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: 6، 7] فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ وَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَالْقَرِيبُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْجُوِّ الْحُصُولِ وَلَيْسَ بِقُرْبِ مَكَانٍ. وَدَلَّ قَوْلُهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ عَلَى مُقَدَّرٍ فِي الْكَلَامِ، أَيْ وَأَحْسِنُوا لِأَنَّهُمْ إِذَا دعوا خوفًا وطعما فَقَدْ تَهَيَّأُوا لِنَبْذِ مَا يُوجِبُ الْخَوْفَ، وَاكْتِسَابِ مَا يُوجِبُ الطَّمَعَ، لِئَلَّا يَكُونَ الْخَوْفُ وَالطَّمَعُ كَاذِبِينَ، لِأَنَّ مَنْ خَافَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْمَخُوفِ، وَمَنْ طَمَعَ لَا يَتْرُكُ طَلَبَ الْمَطْمُوعِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْعَمَلِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْإِحْسَانِ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ، فَلَا جَرَمَ تَكُونُ رَحْمَةُ اللَّهِ قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَسَكَتَ عَنْ ضِدِّ الْمُحْسِنِينَ رِفْقًا بِالْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَا يَظُنُّ بِهِمْ أَنْ يُسِيئُوا فَتَبْعُدُ الرَّحْمَةُ عَنْهُمْ.
وَعَدَمُ لِحَاقِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِوَصْفِ قَرِيبٌ مَعَ أَنَّ مَوْصُوفَهُ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ، وَجَّهَهُ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ بِوُجُوهٍ كَثِيرَة، وَأَشَارَ إِلَيْهَا فِي «الْكَشَّافِ» .
وَجُلُّهَا يَحُومُ حَوْلَ تَأْوِيلِ الِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ بِمَا يُرَادِفُهُ مِنِ اسْمٍ مُذَكَّرٍ، أَوِ الِاعْتِذَارِ بِأَنَّ بَعْضَ الْمَوْصُوفِ بِهِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ التَّأْنِيثِ كَمَا هُنَا، وَأَحْسَنُهَا- عِنْدِي- قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا إِذَا أُطْلِقَ عَلَى قَرَابَةِ النَّسَبِ أَوْ بُعْدِ النَّسَبِ فَهُوَ مَعَ الْمُؤَنَّثِ بِتَاءٍ وَلَا بُدَّ، وَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى قُرْبِ الْمَسَافَةِ أَوْ بُعْدِهَا جَازَ فِيهِ مُطَابَقَةُ مَوْصُوفِهِ وَجَازَ فِيهِ التَّذْكِيرُ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:
83] وَقَالَ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَاب: 63] . وَلَمَّا كَانَ إِطْلَاقُهُ فِي هَذِه الْآيَة عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ قُرْبِ الْمَسَافَةِ جَرَى عَلَى الشَّائِعِ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهَذَا مِنْ لَطِيفِ الْفُرُوقِ الْعَرَبِيَّةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ إِزَالَةً لِلْإِبْهَامِ بِقدر الْإِمْكَان.