المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وأما وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته في - فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب - جـ ١٠

[محمد نصر الدين محمد عويضة]

الفصل: وأما وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته في

وأما وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته في حجة الوداع وخطبته عليها، فذاك غير ما نهى عنه، فإن هذا عارض لمصلحة عامة في وقت ما، لا يكون دائماً، ولا يلحق الدابة منه من التعب والكلال ما يلحقها من اعتياد ذلك لا لمصلحة، بل يستوطنها ويتخذها مقعداً يناجي عليها الرجل، ولا ينزل إلى الأرض، فإن ذلك يتكرر ويطول، بخلاف خطبته صلى الله عليه وسلم على راحلته ليسمع الناس، ويعلمهم أمور الإسلام وأحكام النسك، فإن هذا لا يتكرر ولا يطول ومصلحته عامة (1).

‌آداب الطريق:

آداب الطريق:

للطريق آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب الطريق جملةً وتفصيلا:

أولاً آداب الطريق جملةً:

(1)

وجوب أداء حقوق الطريق:

(2)

إزالة الأذى من الطريق:

(3)

اجتناب الملاعن الثلاث:

(4)

الرجال أحق بوسط الطريق من النساء:

(5)

إعانة الرجل في حمله على دابته أو رفع متاعه عليها:

ثانيا آداب الطريق تفصيلا:

(1)

وجوب أداء حقوق الطريق:

وحقوق الطريق بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي: (غض البصر، وكفُّ الأذى، ورد السلام، وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر) وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:

(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ.

وهذه الحقوق ليست من باب الحصر، وإنما هي بعضها، وقد بينت أحاديث أخر حقوقاً للطريق غيره هذه، فعُلم أن المذكورات التي في الحديث ليست من باب الحصر.

(1). عون المعبود: المجلد الرابع (7/ 168)(الحاشية)

ص: 169

أ- غض البصر: الأمر بغض البصر يشترك فيه الرجال والنساء على حدٍ سواء، وذلك لأن إطلاق البصر فيما يحرم يجلب عذاب القلب وألمه، وهو يظن أنه يروح عن نفسه ويبهج قلبه، ولكن هيهات. وأعظمهم عذاباً مدمنهم، وكما قال ابن تيمية: تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان، وإن قويت حتى صارت غراماً وعشقاً زاد العذاب الأليم، سواء قدر أنه قادر على المحبوب أو عاجر عنه، فإن كان عاجزاً فهو في عذاب أليم من الحزن والهم والغم، وإن كان قادراً فهو في عذاب أليم من خوف فراقه، ومن السعي في تأليفه وأسباب رضاه! (1). وأصل ذلك ومبدؤه من النظر، فلو أنه غض بصره لارتاحت نفسه وارتاح قلبه.

والشرع المطهر لم يغفل ما قد يقع من الناس بدون قصد منهم، بل أمر من نظر إلى امرأة أجنبية بدون قصد منه أن يصرف بصره عنها ولا يتمادى، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة

قال تعالى: (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىَ لَهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[سورة: النور - الآية: 30]

الشاهد: قوله تعالى [قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ]

هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه وأن يغمضوا أبصارهم عن المحارم فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعا كما في الحديث الآتي:

(حديث جرير بن عبد الله البجلي الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ (2) فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي.

(1) الفتاوى (14/ 156 - 157)

(2)

معنى نظر الفجأة: أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد فلا إثم عليه في أول ذلك، ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال، فإن صرف في الحال فلا إثم عليه، وإن استدام النظر أثم لهذا الحديث قاله النووي.

ص: 170

(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَتْ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ.

(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ.

الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما هو حقُ الطريق؟ قال: غض البصر]

(حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُنَّ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا تَرْفَعْ رَأْسَهَا حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ رُءُوسَهُمْ كَرَاهَةَ أَنْ يَرَيْنَ مِنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ.

(حديث أَبِي رَيْحَانَةَ رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ، حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ.

ص: 171

(حديث بُريدة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَلِي يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ.

(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ إِنَّ لَكَ كَنْزاً فِي الجَنَّةِ وَإِنَّكَ ذُو قَرْنَيْهَا فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ.

(حديث سهل بن سعد الثابت في الصحيحين) قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِعَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ.

اعلم وفقك الله أن البصر صاحب خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات وينقش فيه صورها فيجول فيها الفكر فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة.

ولما كان إطلاق البصر سببا لوقوع الهوى في القلب أمرك الشرع بغض البصر عما يخاف عواقبه فإذا تعرضت بالتخليط وقد أمرت بالحمية فوقعت إذا في أذى فلم تضج من أليم الألم.

[*] قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

قال تعالى: (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىَ لَهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا)[النور 30: 31] ثم أشار إلى مسبب هذا السبب ونبه على ما يئول إليه هذا الشر بقوله ويحفظوا فروجهم ويحفظن فروجهن.

[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:

ص: 172

هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه (8)، وأن يغضوا (9) أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرَّم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعًا، كما رواه مسلم في صحيحه، من حديث يونس بن عُبَيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن جده جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم، عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرفَ بَصَري.

قال القرطبي رحمه الله: البصر هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه وغضه واجب عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله وفي صحيح مسلم عن جرير عن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري وهذا يقوي قول من يقول إن من للتبعيض لأن النظرة الأولى لاتملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف.

[وقال:] وبدأ بالغض قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب كما أن الحمى رائدة الموت وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال: ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف ا. هـ[تفسير القرطبي 12/ 222]

ويقول ابن القيم كذلك كما في كتابه الجواب الكافي عندما تكلم عن الزنا فقال:

ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدمًا على حفظ الفرج فإن كل الحوادث مبدؤها من النظر تكون نظرة - ثم تكون خطرة - ثم خطوة - ثم خطيئة فإما اللحظات فهى رائدة الشهوة ورسولها وحفظها أصل حفظ الفرج فمن أطلق نظرة أورد نفسه موارد الهلاك والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان ومن آفاته. أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات فيرى الإنسان ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه وهذا من أعظم العذاب.

(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال كان الفضلُ رَدِيْفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت امرأةٌ من خثعم، فجعل الفضلُ ينظرُ إليها وتنظرُ إليه، وجعل رسول الله يصرفُ وجه الفضل إلى الشقِ الآخر، فقالت يا رسول الله: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت شيخاً كبيراً لا يثبتُ على الراحلة، أفأحجُ عنه؟ قال نعم. وذلك في حجة الوداع.

ص: 173

(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر و الأذنان زناهما الاستماع و اللسان زناه الكلام و اليد زناها البطش و الرجل زناها الخطا و القلب يهوى و يتمنى و يصدق ذلك الفرج أو يكذبه.

الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[فالعينان زناهما النظر] فبدا الرسول صلى الله عليه وسلم بزنى العين لأنه اصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصى بالنظر وان ذلك زناها.

قال الغزالي رحمه الله تعالى: ونبه به على أنه لا يصل إلى حفظ الفرج إلا بحفظ العين عن النظر وحفظ القلب عن الفكرة وحفظ البطن عن الشبهة وعن الشبع فإن هذه محركات للشهوة ومغارسها قال عيسى عليه السلام: إياكم والنظر فإنه يزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة ثم قال الغزالي: وزنا العين من كبار الصغائر وهو يؤدي إلى الكبيرة الفاحشة وهي زنا الفرج ومن لم يقدر على غض بصره لم يقدر على حفظ دينه.

[فيض القدير ج: 4 ص: 65]

(حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رءوسهم كراهة أن يرين من عورات الرجال.

ولهذا جعل الرسول غض البصر من حقوق الطريق التي تلزم كل جالس فيها حتى لا تتخذ الطرقات ذرائع للترفه بمحاسن النساء وتأمل مفاتن الغاديات والرائحات.

(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم و الجلوس في الطرقات، قالوا يا رسول الله مل لنا منها بدٌ إنها مجالسنا نتحدثُ فيها، قال فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما هو حقُ الطريق؟ قال: غض البصر و كف الأذى و رد السلام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

قال النووي رحمه الله تعالى:

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى علة النهي من التعرض من الفتنة و الإثم بمرور النساء وغيرهن وقد يمتد النظر إليهن أو فكر فيهن.

ص: 174

{تنبيه} : وفي الحديث مشروعية سد الذرائع التي بنيت عليها فروع كثير فقهية، فهذه الخصال من حقوق الطريق التي يُلزم بها الجالس عليها ومنها غض البصر وكفه عن النظر إلى النساء وذلك في الأماكن العامة التي هي مظنة مرور العرايا والمتبرجات فان الجلوس في مثل هذه الأماكن جريمة ومنكر ولاسيما إذا اعتاده الإنسان فانه يفسق بذلك وهذه صرخة إنذار لمن يعتادون الجلوس على الطرقات ويتخذون من المقاهي مجالس للتسلية والنظر لما حرم عليه.

ولله درًّ من قال:

كل الحوادث مبدأها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة بلغت في قلب صاحبها

كمبلغ السهم بين القوس والوتر

والعبد ما دام ذا طرفٍ يقلبه

في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسرُ مُقْلَتَه ما ضَر مُهْجَتَه

لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة بغض البصر ومن ذلك ما يلي:

(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب و إذا ائتمن فلا يخن وإذا وعد فلا يخلف و غضوا أبصاركم و كفوا أيديكم و احفظوا فروجكم.

(حديث سهل بن سعد في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة.

وقد كان السلف الصالح أشد إيمانا وأكثر عملا ومع هذا فإنهم لا يأمنون على أنفسهم فتنة النساء.

فكان انس يقول: إذا مرت بك امرأة فغض عينك حتى تجاوزك

وكان الربيع ابن خثيم:

يمشى فمر به نسوه فغض بصره وأطرق حتى ظن النسوة انه أعمى فتعوذن بالله من العمى.

وقال وكيع خرجنا مع الثوري في يوم عيد فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا غض أبصارنا

وخرج حسان بن أبي سنان يوم عيد: فلما عاد فقالت له امرأته كم من امرأة حسناء قد رأيت؟ فقال: والله ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك إلى أن رجعت إليك.

الله اكبر إنها قلوب غفت عن الحرام فعوضها الله خيرا وأذاقها حلاوة الإيمان.

أين هؤلاء ممن يطلقون البصر ليل نهار.

أين هؤلاء ممن يتابع مشاهد الفجور في التلفاز والفضائيات.

أين هؤلاء ممن يجلسون على المقاهي والطرقات ينظرون إلى الغاديات والرائحات.

أين هؤلاء ممن يجلسون في الأندية ينظرون إلى كل رائحة وغادية.

ص: 175

قال الأصمعي: رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة فجعلت أنظر إليها وأملأ عيني من محاسنها فقالت لي: يا هذا ما شأنك قلت: وما عليك من النظر فأنشأت تقول:

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا

لقلبك يوما أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر

عليه ولا عن بعضه أنت صابر

نظر رجل إلى امرأة عفيفة فقالت: يا هذا غض بصرك عما ليس لك تنفتح بصيرتك فترى ما هو لك. نفح الطيب للتلمساني 5/ 314

والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية فإن لم تقتله جرحته وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل:

كل الحوادث مبدأها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها

فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها

في أعين الغير موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته

لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه.

ولله درُ من قال:

يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا

أنت القتيل بما ترمي فلا تصب

وباعث الطرف يرتاد الشفاء له

توقه إنه يأتيك بالعطب

ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب، كما قال بعض السلف:"النظر سهام سم إلى القلب"؛ ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك، فقال:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} . وحفظُ الفَرج تارةً يكون بمنعه من الزنى، كما قال {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:29، 30] أهـ.

ذم فضول النظر:

(حديث جرير بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم) قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.

(حديث بُريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي يا علي لا تتبع النظرةَ النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة.

وكذلك النظرة إذا أثرت في القلب فإن عجل الحازم بغضها وحسم المادة من أولها سهل علاجه وإن كرر النظر نقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب متفرغ فنقشها فيه فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقى بها الشجرة فلا تزال تنمي فيفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به ويخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات ويلقى في التلف.

ص: 176

[*] قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

والسبب في هذا الهلاك أن الناظر أول نظرة التذ بها فكررها يطلب الالتذاذ بالنظر مستهينا بذلك فأعقبه ما استهان به التلف ولو أنه غض عند أول نظرة لسلم في باقي عمره.

ولله درُ من قال:

أنا ما بين عدوين هما قلبي وطرفي

ينظر الطرف ويهوى القلب والمقصود حتفي.

وقال ابن الحريري.

فتبصر ولا تشم كل برق

رب برق فيه صواعق حين.

واغضض الطرف تسترح من غرام

تكتسي فيه ثوب ذل وشين.

فبلاء الفتى موافقة النفس

وبدء الهوى طموح العين.

التحذير من شر النظر:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه.

[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:

قال ابن بطال: سُمِّيَ النظر والنطق زنا لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي ولذلك قال والفرج يصدق ذلك ويكذبه.

كم من نظرة تحلو في العاجلة، مرارتها لا تطاق في الآجلة، يا بن آدم قلبك قلب ضعيف، ورأيك في إطلاق الطرف رأي سخيف، يا طفل الهوى متى يؤنس منك رشد، عينك مطلقة في الحرام ولسانك مهمل في الآثام، وجسدك يتعب في كسب الحطام، كم نظرة محتقرة زلت بها الأقدام.

يا عجباً للمشغولين بأوطارهم، عن ذكر أخطارهم، لو تفكروا في حال صفائهم في أكدارهم، لما سلكوا طريق اغترارهم، ما يكفي في وعظهم وازدجارهم (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ)

أين أرباب الهوى والشهوات، ذهبت والله اللذات وبقيت التبعات، وندموا إذ قدموا على ما فات، وتمنوا العودة وهيهات، فتلمح في الآثار سوء أذكارهم (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ)

احذروا نظرة تفسد القلوب، وتجني عليكم الذم والعيوب، وتسخط مولاكم عالم الغيوب.

أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي عثمان سعيد بن الحكم ـ تلميذ ذي النون ـ قال، سئل ذو النون: ما سبب الذنب؟ قال: اعقل ويحك ما تقول، فإنها من مسائل الصديقين. سبب الذنب النظرة، ومن النظرة الخطرة، فإن تداركت الخطرة بالرجوع إلى الله ذهبت، وإن لم تذكرها امتزجت بالوساوس فتتولد منها الشهوة وكل ذلك بعد باطن لم يظهر على الجوارح، فإن تذكرت الشهوة وإلا تولد منها الطلب، فإن تداركت الطلب وإلا تولد منه العقل.

ص: 177

أورد ابن الجزري رحمه الله تعالى في الزهر الفاتح عن الشبلي رحمه الله تعالى قال: رأيت فتى في الطواف تفرست فيه الخير، فنظر الفتى إلى امرأة كانت تطوف، وإذا بسهم قد أصاب عينه، فذهبت إليه وأخرجت من عينه السهم فإذا عليه مكتوب: نظرت بعينك إلى غيرنا فأعميناها، ولو نظرت بقلبك إلى غيرنا لكويناه.

وقال أيضاً رحمه الله تعالى:

قال بعض الصالحين: رأيت حداداً وهو يخرج الحديد من النار بيده ويقلبها باًصابعه، فقلت في نفسي: هذا عبد صالح، فدنوت منه وسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت له: يا سيدي، بالذي عليك بهذه المنزلة ألا ما دعوت الله لي، فبكى وقال: يا أخي، ما أنا من القوم الذين تزعم، ولكن أحدثك أمري، وذلك أني كنت كثير المعاصي والذنوب، فوقعت على امرأة من أحسن الناس وجهاً، فقالت لي: هل عندك شيء لله تعالى، فأخذت قلبي؟ فقلت لها أمضي معي إلى البيت وادفع لك ما يكفيك، فتركتني وذهبت ثم عادت وهي تبكي، وقالت: والله لقد أحوجني الوقت إلى أن رجعت إليك، فأخذتها ومضيت بها إلى البيت ثم أجلستها، وتقدمت أليها، فإذا هي تضطرب كالسفينة في الريح العاصف، فقلت: مم اضطرابك، فقالت: خوفا من الله تعالى أن يرانا على هذه الحالة، فإن تركتني ولم تصبني فلا أحرقك الله بناره لا في الدنيا ولا في الآخرة.

فقمت عنها ودفعت لها ما كان عندي لله تعالى، فخرجت من عندي، وأغمي علي، فرأيت في النوم امرأة أحسن منها، فقلت لها: من أنت؟ فقالت: أنا أم الصبية التي جاءت إليك، هي من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يا أخي جزاك الله عني خيراً، ولا أحرقك الله بناره لا في الدنيا ولا في الآخرة، فانتبهت وأنا فرح مسرور فأنا من ذلك اليوم تركت ما كنت عليه من المعاصي، ورجعت إلى الله تعالى.

قال ابن الجزري رحمه الله تعالى في الزهر الفاتح:

حكي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه مشى خلف جزارة، فلما بلغ سكة الجزارة وقف وبكى بكاء شديداً، فقيل له في ذلك، لقال: كان ههنا رجل عابد، فدخل يوما هذه السكة، فرأى امرأة نصرانية، فافتتن بها فخاطبها، فامتنعت منه إلا أن يدخل في دين النصرانية، فغلب عليه الشيطان، ودخل في دينها، فلما سمعت المرأة بذلك خرجت إليه وبصقت في وجهه، وقالت له: أفٍ لك من رجل تركت دين الإسلام لشهوة ساعة، وأنا تركت دين النصرانية لشهوة الأبد، فأسلمت وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وحسن إسلامها.

ص: 178

{تنبيه} : ويجب على المسلم أن يغض بصره عن بيوت الناس:

[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن النظر الحرام النظر إلى العورات وهي قسمان: عورة وراء الثياب، وعورة وراء الأبواب. ا. هـ مدارج السالكين ج: 1 ص: 117

[*] وقال ابن تيمية: وكما يتناول غض البصر عن عورة الغير وما اشبهها من النظر إلى المحرمات فإنه يتناول الغض عن بيوت الناس فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره ثيابه وقد ذكر سبحانه غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان، وذلك أن البيوت سترة كالثياب التي على البدن، كما جمع بين اللباسين فى قوله تعالى {والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم} فكل منهما وقاية من الأذى الذى يكون سموما مؤذيا كالحر والشمس والبرد وما يكون من بنى آدم من النظر بالعين واليد وغير ذلك. ا. هـ مجموع الفتاوى 15/ 379

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة أنما جعل الاستئذان من أجل البصر.

(حديث سهل بن سعد في الصحيحين) قال: اطَّلع رجلٌ من جحرٍ في حجرِ النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مِدْرى يحكُ به رأسه فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر.

(حديث عبد الله بن بسر في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه و لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر و يقول: السلام عليكم السلام عليكم.

كلمة إلى الذين يُطْلِقون أبصارهم ولا يغضونها:

إلى كل رجل أو امرأة نظرا إلى الحرام فليعلم الجميع:

أن هذه النظرة ما هي إلا سهم مسموم فان أصابك سهم قتلك فكيف وان هذا السهم مسموم.

لا تظن أن هذه النظرة ستروى ظمئك فما أنت بذلك إلا كالذي يشرب ن ماء البحر فكلما ازداد شربا ازداد عطشا ويظل هكذا حتى يقتله.

ولخطورة الأمر انظر إلى هذا الرجل الذي نظر إلى امرأة نصرانية فأعجبته ووقع حُبُها في قلبه فراودها عن نفسها فطلبت منه أن يتنصر فتنصر ومات على النصرانية ولو غض الطرف ما كان هذا.

ألم تسمع قوله تعالي: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر/19]

ص: 179

[*] قال ابن عباس في هذه الآية: هو الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها فان رأى منهم غفلة نظر إليها فان خاف أن يفطنوا إليه غض بصره وقد اطلع الله عز وجل من قلبه انه يود لو نظر إلى عورتها.

[*] سئل الجنيد بما يستعان على غض البصر؟

قال بعلمك أن نظر الله إليك اسبق إلى ما تنظر إليه.

[*] قال الإمام احمد:

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل

خلوت ولكن قل على رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة

ولا أن ما تخفي عليه يغيب

[*] وصدق أبو الأعلى المودودي حيث قال:

من الذي يكابر في أن كل ما يحدث في الدنيا إلى هذا اليوم ولا يزال يحدث فيها من الفحشاء والفجور باعثه الأول والأعظم هو فتنة النظر.

[*] غض البصر للنساء:

[*] قال النووي رحمه الله في شرحه على مسلم (10/ 96):" الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وأكثر الصحابة أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها لقوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ولأن الفتنة مشتركة ".

[*] قال ابن الجوزي في أحكام النساء (60):

" وينبغي للمرأة أن تغض طرفها عن الرجال، كما يؤمر الرجال بالغض عنها، وقد اختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل رحمه الله فيما يجوز للمرأة أن ترى من الرجل الأجنبي، فروى عنه، أنه يجوز لها أن ترى منه ما ليس بعورة، وروي عنه أنه يحرم عليها أن تنظر منه ما يحرم عليه أن ينظر منها. واعلم أن أصل العشق إطلاق البصر، وكما يخاف على الرجل من ذلك يخاف على المرأة، وقد ذهب دين خلق كثير من المتعبدين بإطلاق البصر وما جلبه، فليحذر من ذلك ".

وقال أيضاً في (43): " ومن المنكرات اطلاع النساء على الشباب إذا اجتمعوا في الدعوات لأنه لا يؤمن الفتنة "(1).

كيفية معالجة الهم والفكر المتولد عن النظر:

[*] قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

(1) ينظر لزاماً: أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه ، وفوائد غض البصر في فتاوى ابن تيمية (15/ 140) تفسير سورة النور ، وكتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين للإمام ابن القيم (ص83).

ص: 180

اعلم وفقك الله أنك إذا امتثلت المأمور به من غض البصر عند أول نظرة سلمت من آفات لا تحصى فإذا كررت النظر لم تأمن أن يزرع في قلبك زرعا يصعب قلعه فإن كان قد حصل ذلك فعلاجه الحمية بالغض فيما بعد وقطع مراد الفكر بسد باب النظر فحينئذ يسهل علاج الحاصل في القلب لأنه إذا اجتمع سيل فسد مجراه سهل نزف الحاصل ولا علاج للحاصل في القلب أقوى من قطع أسبابه ثم زجر الاهتمام به خوفا من عقوبة الله تعالى فمتى شرعت في استعمال هذا الدواء رُجِيَ لك قرب السلامة وإن ساكنت الهم ترقى إلى درجة العزم ثم حرك الجوارح.

[*] أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن أبي بكر القرشي قال قيل لبعض الحكماء ما سبب الذنب؟ قال الخطرة، فإن تداركت الخطرة بالرجوع إلى الله ذهبت وإن لم تفعل تولدت عنها الفكرة، فإن تداركتها بالرجوع إلى الله بطلت وإلا فعند ذلك تخالط الوسوسة.

من ابتلي بنظر الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته:

(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه.

(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها.

[*] أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن الربيع بن خيثم أنه جاء إلى علقمة فدخل المسجد، وكان في جانب المسجد جماعة من النساء فجعلن يمررن عليه في المسجد، فغض بصره، فلا يلتفت يمينا ولا شمالا.

ذكر ثواب من غض بصره عن الحرام:

تأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب و إذا ائتمن فلا يخن وإذا وعد فلا يخلف و غضوا أبصاركم و كفوا أيديكم و احفظوا فروجكم.

في النهي عن النظر إلى المردان ومجالستهم:

ص: 181

[*] قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

اعلم وفقك الله أن هذا الباب من أعظم أبواب الفتن قد أهمل كثير من الناس مراعاته فإن الشيطان إنما يدخل على العبد من حيث يمكنه الدخول إلى أن يدرجه إلى غاية ما يمكنه من الفتن فإنه لا يأتي إلى العابد فيحسن له الزنا في الأول وإنما يزين له النظر والعابد والعالم قد أغلقا على أنفسهما باب النظر إلى النساء الأجانب لبعد مصاحبتهن وامتناع مخالطتهن والصبي مخالط لهما فليحذر من فتنته فكم قد زل فيها قدم وكم قد حلت من عزم وقل من قارب هذه الفتنة إلا وقع فيها.

وعلى منهج الحذر مضى سلف هذه الأمة وبه أمر العلماء الأئمة.

[*] أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن أبي سهل قال سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطيون على ثلاثة اصناف فصنف ينظرون وصنف يصافحون وصنف يعملون ذلك العمل.

قال أبو بكر بن أيوب: سمعت إبراهيم الحربي يقول جنبوا أولادكم قرناء السوء قبل أن تصبغوهم في البلاء كما يصبغ الثوب.

قال وسمعته يقول أول فساد الصبيان بعضهم من بعض.

وقال علي بن محمد بن أبي صابر الدلال: وقفت علي الشبلي في قبة الشعراء في جامع المنصور والناس مجتمعون عليه فوقف عليه في الحلقة غلام لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجها منه يعرف بابن مسلم فقال له تنح فلم يتنح فقال له الثانية تنح يا شيطان عنا فلم يتنح فقال له الثالثة تنح وإلا والله خرقت كل ما عليك.

فوائد غض البصر:

[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:

غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر:

(الفائدة الأولى): حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز وجل خيرا منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب. فيبعث رائده لنظر ما هناك، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله، تحرك اشتياقا إليه، وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما قيل:

وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا لِقلبكَ يَوْماً أتْعَبَتْكَ المنَاظِرُ

رَأَيْتَ الذي لا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌِ عَلَيْه وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابرُ

ص: 182

فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، " فمن أطلق لحظاته دامت حسراته"، فإن النظر يولد المحبة. فتبدأ علاقة يتعلق بها القلب بالمنظور إليه. ثم تقوى فتصير صبابة. ينصب إليه القلب بكليته. ثم تقوى فتصير غراما يلزم القلب، كلزوم الغريم الذي لا يفارق غريمه. ثم يقوى فيصير عشقا. وهو الحب المفرط. ثم يقوى فيصير شغفا. وهو الحب الذي قد وصل إلى شَغاف القلب وداخله. ثم يقوى فيصير تتيماً. والتتيم التعبد ومنه تيمه الحب إذا عَبَّده. وتيم الله عبد الله. فيصير القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدا له. وهذا كله جناية النظر فحينئذ يقع القلب في الأسر. فيصير أسيرا بعد أن كان ملكا، ومسجونا بعد أن كان مطلقا. يتظلم من الطرْف ويشكوه. والطرْف يقول: أنا رائدك ورسولك، وأنت بعثتني، "وهذا إنما ابتُلى به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له"، فإن القلب لا بد له من التعلق بمحبوب. فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلا بد أن ينعقد قلبه لغيره. قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام:

{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].

فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه، مع كونها ذات زوج، ويوسف عليه السلام لما كان مخلصا لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شابا عزَبا غريبا مملوكا.

(الفائدة الثانية): نور القلب وصحة الفراسة.

[*] قال أبو شجاع الكرماني: " من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة"وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به، ثم قال بعد ذلك:

{إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75].

وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة، وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم:

{اللهُ نُورُ السَّمواتِ وَالأرْضِ} [النور: 35].

ص: 183

وسر هذا الخبر: أن الجزاء من جنس العمل. فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نَوَّرَ بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه. فإن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها. فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صورة الحقائق كما هي عليه. وإذا صدئت لم ينطبع فيها صورة المعلومات. فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون.

(الفائدة الثالثة):قوة القلب وثباته وشجاعته، فيعطيه الله تعالى بقوته سلطان النُصْرَة، كما أعطاه بنوره سلطان الحجة، فيجمع له بين السلطانين، ويهرب الشيطان منه، كما في الأثر:

"إنَّ الذي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ".ولهذا يوجد في المُتَبِعِ هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه. قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُريِدُ الْعِزَّةَ فَللَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر: 10].

أي "من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب، والعمل الصالح"، وقال بعض السلف:"الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله"

وقال الحسن: "وإن هَمْلَجَتْ بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم، "أبى الله عز وجل إلا أن يُذِلَّ من عصاه"، وذلك أن من أطاع الله تعالى فقد والاه، ولا يذل من والاه الله، كما في دعاء القنوت:

"إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ".

الحذر طريق السلامة:

[*] قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه صيد الخاطر:

من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، و من ادعى الصبر، و كل إلى نفسه.

و رب نظرة لم تناظر! و أحق الأشياء بالضبط و القهر: اللسان و العين. فإياك إياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى، مع مقاربة الفتنة، فإن الهوى مكايد، و كم من شجاع في صف الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه! واذكر حمزة مع وحشي.

ص: 184

ب- كف الأذى: ومن حقوق الطريق، كف الأذى، وعدم إيذاء الناس في أبدانهم أو أعراضهم.

وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة

قال تعالى: (وَالّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً)[الأحزاب: 58]

(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.

والحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وآله وسلم، فيشمل اللسان من تكلم بلسانه وآذى الناس في أعراضهم أو سبهم، ويشمل من أخرج لسانه استهزاء وسخرية. وكذا اليد فإن أذيتها لا تنحصر في الضرب، بل تتعداها إلى أمور أخر كالوشاة بالناس والسعي في الاضرار بهم عن طريق الكتابة، أو القتل ونحو ذلك.

(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَفْضَلُ المُؤْمِنِينَ إِسٍْلَامَا مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَأَفْضَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانَاً أَحْسَنُهُم خُلُقَاً وَأَفْضَلُ المُهَاجِرِينَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَفْضَلُ الجِهَادِ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللهِ عز وجل.

(حديث أسود بن أصرم رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَبْسُطْ يَدَكَ إِلَا إِلَى خَيْرٍ وَلَا تَقُلْ بِلِسَانِكَ إِلَا مَعْرُوفَاً.

(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا.

(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ.

ص: 185

(حديث ابن عباس الثابت في صحيح ابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.

(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ.

بل إن من محاسن هذا الدين أن كان كف المرء شره وأذه عن الناس صدقة يتصدق بها على نفسه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:

(حديث أبي موسى الأشعري الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ.

ت-رد السلام:

ومن حقوق الطريق: رد السلام، وهو واجب، ومن حق المسلم على أخيه، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ قِيلَ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ.

ص: 186

وقد قصَّر في هذا الباب خلقٌ كثير، واقتصر سلامهم على المعرفة، فمن عرفوه سلموا عليه أو ردوا عليه سلامه، ومن لم يعرفوه لم يعيروه اهتماماً. وهذا خللٌ ومخالفة للسنة.

ث-وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه من أفضل الأعمال وأجل القربات لأنه قطب الدين العظيم والمهمة التي بعث الله تعالى بها الأنبياء والمرسلين، وهو كذلك سبب خيرية هذه الأمة، وبه يحصل النجاة من الهلكة.

قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[سورة: آل عمران - الآية: 110]

[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:

قوله تعالى: [كنتم خير أمة أخرجت للناس] ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم

قوله تعالى: " تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به. فإذا تركوا التغيير وتواطأوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم. أهـ

وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة

(حديث معاوية ابن حيدة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: في قوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال إنكم تُتِمُّونَ سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله.

قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:

(تُتِمُّونَ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ مِنَ الْإِتْمَامِ، أَيْ تُكْمِلُونَ.

ص: 187

(سَبْعِينَ أُمَّةً) أَيْ يَتِمُّ الْعَدَدُ بِكُمْ سَبْعِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ، فَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِسَبْعِينَ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ لِيُنَاسِبَ إِضَافَةَ الْخَيْرِ إِلَى الْمُفْرَدِ النَّكِرَةِ لِأَنَّهُ لِاسْتِغْرَاقِ الْأُمَمِ الْفَائِتَةِ لِلْحَصْرِ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهَا، أَيْ إِذَا نَقَصَتْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ كُنْتُمْ خَيْرَهَا وَتُتِمُّونَ عِلَّةٌ لِلْخَيْرِيَّةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخَتْمُ، فَكَمَا أَنَّ نَبِيَّكُمْ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ أَنْتُمْ خَاتَمُ الْأُمَمِ. انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُمَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَّةً.

وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[سورة: التوبة - الآية: 71]

وقال تعالى: (فَلَماّ نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)[سورة: الأعراف - الآية: 165]

قال تعالى [فلما نسوا ما ذكروا به] أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة

[أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ] أي ارتكبوا المعصية "بعذاب بئيس" فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين.

مَرَاتِبُ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ:

" أَعْلَاهُ بِالْيَدِ ثُمَّ بِاللِّسَانِ ، ثُمَّ بِالْقَلْبِ "" ولَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ " وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أبي سعيد في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان.

ص: 188

(حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ.

قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ ، لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ وَلِهَذَا قَالَ:" لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ " فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ فَكُلٌّ مِنْهُمْ فَعَلَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ قَالَ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. {تنبيه} : إن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُنافَحُ بها عن الدين، ويُنصح للمسلمين عن التردي في هوة صيحات العابثين، وبه تُحْرَسُ الفضائل، وتكبت الرذائل، ويؤخذ على أيدي السفهاء،

{تنبيه} : إذا أدى تغيير المنكر إلى منكراً أشد فإنه لا يجوز تغييره.

قال تعالى: (وَلَا تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 108]

الشاهد: قوله تعالى (وَلَا تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ)

ص: 189

يقول الله تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين وهو "الله لا إله إلا هو"

خطر التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إن التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمره خطير وشره مستطير، وقد يكون سبباً في تعميم العقاب وعدم استجابة الدعاء.

قال تعالى: (لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)[سورة: المائدة /78، 79]

قوله تعالى: [لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ] أي لعنهم الله سبحانه "على لسان داود وعيسى ابن مريم" أي في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى بما فعلوه من المعاصي كاعتدائهم في السبت وكفرهم بعيسى.

قوله: [ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا] أي ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر.

ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله تعالى [كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه] أي لا ينهي بعضهم بعضاً عن فعل المعاصي، وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر لأن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكاً لفاعل المعصية ومستحقاً لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت، فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعاً قردة وخنازير "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" ثم إن الله سبحانه قال مقبحاً لعدم التناهي عن المنكر "لبئس ما كانوا يفعلون" أي من تركهم لإنكار ما يجب عليهم إنكاره.

(حديث أبي بكر الصديق في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.

(إن الناس) المطيقين لإزالة الظلم مع سلامة العافية

(إذا رأوا الظالم) أي علموا بظلمه

(فلم يأخذوا على يديه) أي لم يمنعوه من الظلم بفعل أو قول.

(أوشك) أي قارب أو أسرع

ص: 190

(أن يعمهم اللّه بعقاب منه) إما في الدنيا أو الأخرى أو فيهما لتضييع فرض اللّه بغير عذر وزاد قوله منه زيادة في التهويل والزجر والتحذير وقد أفاد بالخبر أن من الذنوب ما يعجل اللّه عقوبته في الدنيا ومنه ما يمهله إلى الآخرة والسكوت على المنكر يتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من المظلمة للخلق وقد تبين بهذا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية لا عين، إذ القصد إيجاد مصلحة أو دفع مفسدة لا تكليف فرد فرد فإذا أطبقوا على تركه استحقوا عموم العقاب لهم وفيه تحذير عظيم لمن سكت عن النهي فكيف بمن داهن فكيف بمن رضى فكيف بمن أعان؟ نسأل اللّه السلامة.

(حديث حذيفة في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتأمُرنّ بالمعروف و لتنهَوْنَّ عن المنكر أو يبعث الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لهم.

تغليظ عقوبة من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وخالف قوله فعله:

قال تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[سورة: البقرة - الآية: 44]

[أتأمرون الناس بالبر] استفهام معناه التوبيخ، بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله:"وتنسون أنفسكم" مع التطهر بتزكية النفس والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس وتلبيساً عليهم، والنسيان هنا بمعنى الترك: أي وتتركون أنفسكم،

وقوله: "وأنتم تتلون الكتاب" جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع وأشد توبيخ وأبلغ تبكيت. أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أصل العلم العارفين بقبح هذا الفعل وشدة الوعيد عليه، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه والآيات التي تقرأونها من التوراة.

اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر، ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوماً كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها، وبخهم به توبيخاً يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال:"أتأمرون الناس بالبر" الآية.

و قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ)[سورة: الصف /2،3]

الشاهد قوله تعالى [كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ]

و المقت أشد البغض.

ص: 191

(حديث أسامة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤتى بالعالم يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ويحك ما لك كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.

معنى [أقتابه]: أي أمعاءه

(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتيت ليلة أسري بي على قوم تُقْرَضُ شفاهُهم بمقاريضَ من نار كلما قُرِضَتْ وَفَتْ فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون و يقرءون كتاب الله و لا يعملون به.

ج-هداية السائل عن الطريق:

ومن حقوق الطريق-أيضاً- إرشاد السائل عن الطريق، وهدايته إليه، سواءٌ كان ضالاً أو أعمى.

وجاء هذا الحق مصرحاً به في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حق الطريق- قال: (وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ)(1).

وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة، أن هداية السبيل من الصدقات، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.

(2)

إزالة الأذى من الطريق:

من الآداب المستحبة في الطريق؛ إزالة الأذى عن الطريق، بل هي شعبة من شعب من الإيمان بنص السنة الصحيحة وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:

(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ.

وهي من الصدقات، وبسببها أُدخل رجلٍ الجنة.

(1).صحيح أبي داوود.

ص: 192

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَه.

(3)

اجتناب الملاعن الثلاث:

(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ (1) وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قَالُوا وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ.

وحديث معاذ انفرد بذكر الموارد والموردة وهي: الطريق إلى الماء ذكره في اللسان (2). وهي المجاري والطرق إلى الماء واحدها مورد، يقال: وردت الماء إذا حضرته لتشرب (3).

(1) هي المجاري والطرق إلى الماء واحدها مورد، يقال: وردت الماء إذا حضرته لتشرب.

(2)

. (3/ 456) مادة: (ورد)

(3)

. عون المعبود بشرح سنن أبي داود. المجلد الأول (1/ 31)

ص: 193

والحديثان صُدر أحدهما باجتناب الملاعن الثلاث، والآخر باتقاء اللاعنين، فما المراد بذلك. قال الخطابي: المراد باللاعنين الأمرين الجالبين للعن، الحاملين الناس عليه والداعيين إليه، وذلك أن من فعلهما شتم ولعن يعني عادة الناس لعنه، فلما صارا سبباً لذلك أضيف اللعن إليهما، قال: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون والملاعن مواضع اللعن، قلت: فعلى هذا يكون التقدير: اتقوا الأمرين الملعون فاعلهما، وهذا على رواية أبي داود. وأما على رواية مسلم فمعنا والله أعلم: اتقوا فعل اللعانين أي صاحبي اللعن وهما اللذان يلعنهما الناس في العادة والله أعلم (1).

وعلة النهي عن التخلي في هذه المواضع الثلاثة، هو أن تقذير هذه المواضع وتنجيسها بالقذر فيه إيذاءٌ للمؤمنين وإيذاءهم محرم بنص الكتاب، قال تعالى:(وَالّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً)[الأحزاب: 58]

{تنبيه} : يُلحق بالظل، المكان الذي يتشمس فيه الناس أيام الشتاء، قال الشيخ ابن عثيمين: وهذ قياسٌ جلي (2). وعلى هذا فلا يجوز التخلي في هذا المكان، لأن العلة في النهي عن الظل موجودة هنا والحكم يدور مع علته وجوداً وعدما ً.

{فائدة} : الأحاديث تشير إلى أن النهي ينصبُ على حال التغوط فقط دون التبول. وإلى هذا ذهب النووي فقال في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم) قال: فمعناه يتغوط في موضع يمر به الناس. ورد ذلك العظيم آبادي فقال: [و] لا يصح تفسير النووي بالتغوط، ولو سلم فالبول يلحق به قياساً

وقال: وقد علمت أن المراد بالتخلي التفرد لقضاء الحادة غائطاً كان أو بولاً

وأنت تعلم أن البراز اسم للفضاء الواسع من الأرض، وكنوا به عن حاجة الإنسان، يقال: تبرز الرجل إذا تغوط، فإنه وإن كان اسماً للغائط لكن يلحق به البول (3).

مسألة: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستتر عند قضاء حاجته بحائش نخلٍ، والحائش له ظل. فكيف نجمع بين فعله صلى الله عليه وسلم وبين نهيه؟

(1). شرح مسلم للنووي. المجلد الثاني (3/ 132)

(2)

. الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/ 102). دار آسام. ط. الثانية 1414هـ

(3)

. انظر شرح مسلم للنووي. المجلد الثاني (3/ 132)، وعون المعبود. المجلد الأول (1/ 30 - 31)

ص: 194

الجواب: إن الظل الذي يحرم التخلي فيه، هو الظل الذي يقصده الناس ويجلسون فيه، ويجعلونه مقيلاً لهم، وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيحمل على أن هذا الظل غير مقصود ولا مرغوب فيه، وحاشا أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء ثم يفعله.

(4)

الرجال أحق بوسط الطريق من النساء:

من حرص صاحب الشرع-صلى الله عليه وآله وسلم على تميز النساء عن الرجال، وقطع كل طريق يؤدي إلى الفتنة بهن، أن جعل حافة الطريق للنساء وأوسطه للرجال، حتى لا يختلط الرجال بالنساء وتعظم الفتنة-كما هو الحال الآن إلا من رحم الله-.

(حديث أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ (1) عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ.

وسير النساء بمحاذاة جوانب الطريق أستر لهن، وأقرب للحياء، لا أن ينافسن الرجال في طريقهم ويقتحمونه معرضين أنفسهن وغيرهن للفتنة. وأول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وهلاكها كان بسبب ذلك.

(5)

إعانة الرجل في حمله على دابته أو رفع متاعه عليها:

ومن آداب الطريق المستحب فعلها أنك إذا رأيت رجلاً يريد أن يركب دابته وكان ذلك يشق عليه، فإنك تعينه على ذلك، أو تعينه في حمل متاعه، ويمكن فعل ذلك الآن، فإن بعض كبار السن قد لا يتمكن من الركوب في (العربات المتحركة) بسهولة، وخصوصاً إذا كانت كبيرة.

وفعل ذلك كله من الصدقة التي يؤجر المسلم عليها، بنص السنة الصحيحة وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:

(1). في النهاية: (أن تحققن): وهو أن يركبن حُقَّها وهو وسطها. اهـ. ذكره في عون المعبود. المجلد السابع (14/ 127)

ص: 195