الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والكظم قد يكون عن طريق التحكم بالفم ومنعه من انفتاحه، وقد يكون بضغط الأسنان على الشفة، وقد يكون بوضع اليد أو الثوب على الفم ونحو ذلك.
آداب معاشرة الإخوان:
آداب معاشرة الإخوان:
لمعاشرة الإخوان آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب معاشرة الإخوان جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب معاشرة الإخوان جملةً:
(1)
تحقيق رابطة المؤاخاة في الله:
(2)
اختيار الصحبة الصالحة:
(3)
المحبة في الله:
(4)
البشاشة واللين والتودد للإخوان:
(5)
استحباب بذل النصيحة وهي من تمام الأخوة:
(6)
التعاون فيما بين الإخوان:
(7)
تواضع الإخوان فيما بينهم وعدم التكبر أو الفخر عليهم:
(8)
حسن الخلق:
(9)
سلامة الصدر:
(10)
إحسان الظن بالإخوان وعدم التجسس عليهم:
(11)
كظم الغيظ والعفو عن الناس:
(12)
النهي عن التحاسد والتباغض والهجر:
(13)
النهي عن التنابز (1) بالألقاب:
(14)
استحباب الإصلاح بين الإخوان:
(15)
تحريم المنّ:
(16)
حفظ السر وعدم إفشاؤه:
(17)
ذم ذي الوجهين:
(18)
التحلي بالسَمْتِ الصالح:
(19)
التحلي بفضيلتي الحِلمِ والأناة:
(20)
التحلي بفضيلة الرفق:
(21)
التحلي بفضيلة احتمال الأذى:
(22)
التحلي بفضيلة الجود والسخاء والإنفاق في وجوه الخير:
(23)
التحلي بفضيلة الإيثار:
(24)
التحلي بفضيلة المواساة في السَنَةِ والمجاعة:
(25)
التحلي بفضيلة إقراض القرض والتجاوز عن المعسر:
(26)
التحلي بفضيلة التكسب والتجارة والاستغناء عن الناس:
(27)
التحلي بفضيلة الوفاء بالوعد:
(28)
التحلي بحُسْنِ الظَّنِّ بِأَهْلِ الدِّينِ:
(29)
التحلي بالْتِزَامِ الْمَشُورَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا:
(30)
التحلي بفضيلة مدارة الناس:
(31)
التآلف مع الإخوان:
(32)
النهي عن مصاحبة أهل الأهواء والبدع:
(33)
أن يعيش بين إخوانه بالمودة والرحمة:
(34)
دفع السيئة بالحسنة:
(35)
قضاء حوائج الإخوان والشفاعةِ فيها:
(36)
صنع المعروف:
(37)
شكر المعروف والمجازاة على صنعه:
(38)
الزهد فيما عند الناس:
(39)
مراعاة أحاسيس الناس ومشاعرهم:
(40)
إدخال السرور على المسلم:
(41)
الإنصاف لأخيك:
(42)
عدم تتبع عورات المسلمين وزلاتهم:
(43)
التعاون على البر والتقوى:
(1). في اللسان: وتنابزوا بالالقاب أي لقب بعضهم بعضاً، والتنابز: التداعي بالألقاب وهو يكثر فيما كان ذماً. (5/ 413) مادة: نبز
(44)
رحمة الصغير وتوقير الكبير:
(45)
أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر:
(46)
مشورة أهل الصلاح:
(47)
اجتناب العصبية فإنها هلاكٌ مُحَقَّق:
(48)
اجتناب الغش والخداع للمسلمين:
(49)
اجتناب الغدر للمسلمين:
(50)
اجتناب ظلم العباد:
(51)
اجتناب مجالس الظالمين:
(52)
اجتناب إيذاء المسلمين:
(53)
اجتناب احتقار المسلمين:
(54)
اجتناب التجسس على المسلمين:
(55)
الاقتصاد في العزلة والمخالطة:
(56)
الإحسان إلى من يعمل تحت يديه:
(57)
التخلي عن شهوة الخصومة:
(58)
الاحتراز من رذيلة الحرص والطمع:
(59)
صحبة من يُسْتَحْيَا منه ليزجره ذلك من المخالفات:
(60)
المشورة مع الإخوان وقبول ما يشيرون به عليه:
(61)
قلة مخالفة الإخوان في أسباب الدنيا:
(62)
الحرص على اجتماع الكلمة والحذر من الخلاف:
(63)
أن يلزم التجارة والصناعة ويستغني بالله عن الناس:
(64)
النهي عن إغضاب المسلم:
(65)
إكرام ضعفاء المسلمين وفقرائهم:
(66)
إكرام اليتيم:
(67)
الاقتصاد في الحب والكره:
(68)
الاحتراز من الشح والبخل:
(69)
أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر:
(70)
التخلي عن رزيلة هجر المسلم:
(71)
ترك الاستكثار من الأصدقاء وما يستحب من قلة الالتقاء:
(72)
تركُهُ ما لا يعنيه:
(73)
التحلي بالقناعة:
(74)
إقالة ذوي الهيئات عثراتهم:
ثانيا آداب معاشرة الإخوان تفصيلا:
(1)
تحقيق رابطة المؤاخاة في الله:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(مهيم يا عبد الرحمن). قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، قال:(فما سقت فيها). فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أولم ولو بشاة).
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن محمد بن واسع لم يبق من العيش إلا ثلاث الصلاة في الجماعة ترزق فضلها وتكفي سهوها وكفاف من معاش ليست لأحد من الناس عليك فيه مِنَّة ولا لله عليك فيه تبعه وأخ محسن العشرة.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أيوب السختياني أنه قال يزيدني حرصا على الحج لقاء إخوان لي لا ألقاهم بغير الموسم.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سعيد بن المسيب قال وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس ثمانية عشر كلمة كلها حكم قال ما كافأت من يعصي الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا ومن تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن ومن كتم سره كانت الخيرة في يديه وعليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء وعليك بالصدق وإن قتلك الصدق ولا تعرض لما لا يعنيك ولا تسأل عما لم يكن فإن فيما كان شغلا عما لم يكن ولا تطلبن حاجتك إلى من لا يحب لك نجاحها ولا تصحبن الفاجر فتعلم فجوره واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله وتخشع عند القول وذل عند الطاعه واعتصم عند المعصية واستشر في أمرك الذين يخشون الله فإن الله يقول: (إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28]
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن شعبة قال خرج عبد الله بن مسعود على أصحابه فقال أنتم جلاء حزني.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن خالد بن صفوان لم يبق من لذات الدينا إلا ثلاث مجالسة النسوان وشم الولدان ولقيا الإخوان.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان أنه قيل له ما ماء العيش قال لقاء الإخوان.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان قال: لربما لقيت الأخ من إخواني فأقيم شهرا عاقلا بلقائه.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ربيعة قال: المروءة مروءتان فللسفر مروءة وللحضر مروءة فأما مروءة السفر فبذل الزاد وقلة الخلاف على أصحابك وكثرة المزاح في غير مساخط الله وأما مروءة الحضر فالإدمان إلى المساجد وكثرة الإخوان في الله وتلاوة القرآن.
{تنبيه} : العاقل يستخبر أمور إخوانه قبل أن يؤاخيهم ومن أصح الخبرة للمرء
وجود حالته بعد هيجان الغضب هل سينصفك عند الغضب أم الله، هذا هو فصل الخطاب في معدن الإخوان، فمن لم ينصفك عند غضبه لم تودك أيامه.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن عوانة بن الحكم قال: قال لقمان لابنه يا بني إذا أردت أن تواخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فدعه.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان قال أصحب من شئت ثم أغضبه ثم دس إليه من يسأله عنك.
(2)
اختيار الصحبة الصالحة:
إن اختيار الصحبة الصالحة من أهم الآداب التي يجب على المسلم أن يعتني بها اهتماماً بالغاً لأن الطباع سَرَّاقة والناس مجبولون على تقليد بعضهم البعض، والمرء على دين خليله بنص السنة الصحيحة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ.
والمعنى: أن الإنسان على عادة صاحبه وطريقته وسيرته، فليتأمل ويتدبر (من يخالل) فمن رضي دينه وخلقه خالله ومن لا تجنبه، فإن الطبع سراقه، قاله في عون المعبود (1)
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ.
و لا يأكل طعامك إلا تقي.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
[لا تصاحب إلا مؤمناً]: وكامل الإيمان أولى لأن الطباع سراقة، ومن ثم قيل صحبة الأخيار تورث الخير وصحبة الأشرار تورث الشر كالريح إذا مرت على النتن حملت نتناً، وإذا مرت على الطيب حملت طيباً.
[ولا يأكل طعامك إلا تقي]: لأن المطاعمة توجب الألفة وتؤدي إلى الخلطة بل هي أوثق عرى المداخلة ومخالطة غير التقي يخل بالدين ويوقع في الشبه والمحظورات فكأنه ينهى عن مخالطة الفجار إذ لا تخلو عن فساد إما بمتابعة في فعل أو مسامحة في إغضاء عن منكر فإن سلم من ذلك ولا يكاد فلا تخطئه فتنة الغير به وليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم أطعم المشركين وأعطى المؤلفة المئين بل يطعمه ولا يخالطه.
(1). شرح سنن أبي داود. المجلد السابع (13/ 123)
والنهي في المصاحبة يشمل النهي عن مصاحبة أهل الكبائر والفجور، لأنهم ارتكبوا ما حرم الله، ومصاحبتهم تضر بالدين، ويشمل النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين من باب أولى. وقوله:(ولا يأكل طعامك إلا تقي). قال الخطابي: إنما جاء هذا في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وذلك لأن الله سبحانه قال:(وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)[الإنسان: 8] ومعلوم أن أسراءهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء، وإنما حذر عليه السلام من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، فإن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب (1).
ورفيق السوء وجليس السوء مضرته متحققة لا محالة مهما كانت وسائل التحرز، بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
بين به النهي عن مجالسة من يتأذى به ديناً أو دنيا والترغيب فيمن ينتفع بمجالسته فيهما وجواز بيع المسك وطهارته.
(1). عون المعبود بشرح سنن أبي داود. المجلد السابع ((13123)
قال الراغب: نبه بهذا الحديث على أن حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار ومجالستهم فهي قد تجعل الشرير خيراً كما أن صحبة الأشرار قد تجعل الخير شريراً قال الحكماء: من صحب خيراً أصاب بركته فجليس أولياء اللّه لا يشقى وإن كان كلباً ككلب أهل الكهف ولهذا أوصت الحكماء الأحداث بالبعد عن مجالسة السفهاء، قال علي كرم اللّه وجهه: لا تصحب الفاجر فإنه يزين لك فعله ويود لو أنك مثله، وقالوا: إياك ومجالسة الأشرار فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري وليس إعداء الجليس جليسة بمقاله وفعاله فقط بل بالنظر إليه والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه فإن من دامت رؤيته للمسرور سر أو للمحزون حزن وليس ذلك في الإنسان فقط بل في الحيوان والنبات فالحمل الصعب يصير ذلولاً بمقاربة الجمل الذلول والذلول قد ينقلب صعباً بمقارنة الصعاب والريحانة الغضة تذبل بمجاورة الذابلة ولهذا يلتقط أهل الفلاحة الرمم عن الزرع لئلا تفسدها ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة فما الظن بالنفوس البشرية التي موضعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها؟ فقد قيل سمي الإنس لأنه يأنس بما يراه خيراً أو شراً. أهـ
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ.
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آداب الصحبة معاشرة من يثق بدينه وأمانته في ظاهره وباطن لقول الله تبارك وتعالى: قال تعالى: (لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الَاخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّهَ وَرَسُولَهُ)[المجادلة: 22].
والصحبة والمعاشرة على وجوه، فالمعاشرة مع الأكابر والمشايخ بالحرية والخدمة لهم والقيام بأشغالهم. والمعاشرة مع الأقران والأوساط بالنصيحة وبذل الموجود، والكون عند الأحكام ما لم يكن إثما. والمعاشرة مع الأصاغر والمريدين بالإرشاد والتأديب والحمل على ما يوجبه ظاهر العلم، وآداب السنة وأحكام البواطن، والهداية التي تقويمها بحسن الأدب.
ولله درُّ من قال:
عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ: فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وَصَاحِبْ أُولِي التَّقْوَى تَنَلْ مِنْ تُقَاهُمْ: وَلَا تَصْحَبْ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدَي
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زينةٌ في الرخاء وعدةٌ في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقيلك منه، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: " لَا تُؤَاخِي الْأَحْمَقَ وَلَا الْفَاجِرَ ، أَمَّا الْأَحْمَقُ فَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ شَيْنٌ عَلَيْك ، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَيُزَيِّنُ لَك فِعْلَهُ وَيَوَدُّ أَنَّك مِثْلَهُ ". وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه " لَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ: مَنْ إذَا حَدَّثَك كَذَبَك ، وَإِذَا ائْتَمَنْتَهُ خَانَك ، وَإِذَا ائْتَمَنَك اتَّهَمَك وَإِذَا أَنْعَمْت عَلَيْهِ كَفَرَك وَإِذَا أَنْعَمَ عَلَيْك مَنَّ عَلَيْك ". وَقَالَ أَيْضًا: " اصْحَبْ مَنْ يَنْسَى مَعْرُوفَهُ عِنْدَك وَيُذَكِّرُك حُقُوقَك عَلَيْهِ ".
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَا لَك عِنْدَ صَدِيقِك فَأَغْضِبْهُ فَإِنْ أَنْصَفَك وَإِلَّا فَاجْتَنِبْهُ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يُصَاحِبَ خَمْسَةً: الْمَاجِنَ وَالْكَذَّابَ ، وَالْأَحْمَقَ وَالْبَخِيلَ ، وَالْجَبَانَ فَأَمَّا الْمَاجِنُ فَعَيْبٌ إنْ دَخَلَ عَلَيْك ، وَعَيْبٌ إنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِك ، لَا يُعِينُ عَلَى مُعَادٍ وَيَتَمَنَّى أَنَّك مِثْلُهُ ، وَأَمَّا الْكَذَّابُ فَإِنَّهُ يَنْقُلُ حَدِيثَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ ، وَيُلْقِي الشِّحْنَةِ فِي الصُّدُورِ وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَإِنَّهُ لَا يُرْشِدُ لِسُوءٍ يَصْرِفُهُ عَنْك ، وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرّكَ فَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ وَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَأَحْوَجُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ أَبْعَدَ مَا تَكُونُ مِنْهُ ، فَفِي أَشَدِّ حَالَاتِهِ يَهْرُبُ وَيَدَعُك.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة، قال: كان يقال جالس الحكماء فإن مجالستهم غنيمة، وصحبتهم سليمة، ومؤاخاتهم كريمة.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسين بن أبي جعفر، قال: سمعت مالك بن دينار، يقول: لا يصطلح المؤمن والمنافق حتى يصطلح الذئب والحمل.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك، حدثني من أرضي أن عمر بن الخطاب أوصى رجلاً، فقال: لا تعترض فيما لا يعنيك، واجتنب عدوك، واحذر خليلك، ولا أمير من القوم إلا من خشي الله، والأمين من القوم لا تعدل به شيئاً، ولا تصحبن فاجراً كي تعلم من فجوره، ولا تفش إليه سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: لا تتخذوا من القرناء إلا ما فيه ثلاث خصال: من حذرك غوائل الذنوب وعرفك مدانس العيوب وسايرك إلى علام الغيوب.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون يقول: بالعقول يجتني ثمر القلوب، وبحسن الصوت تستمال أعنة الأبصار، وبالتوفيق تنال الحظوة وبصحبة الصالحين تطيب الحياة. والخير مجموع في القرين الصالح، إن نسيت ذكرك، وإن ذكرت أعانك.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان ابن عيينه يقول من أحب رجلا صالحا فإنما يحب الله تبارك وتعالى.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن مالك بن دينار يقول إنك أن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجار.
صفات خير الأصحاب:
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: ألا يصحب إلا عاقلا وعالما وحليما تقيا.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن ذي النون يقول: " ما خلع الله على عبد من عبيده خلعة أحسن من العقل، ولا قلده الله قلادة أجمل من العلم، ولا زينه بزينة أفضل من الحلم، وكمال ذلك التقوى.
[*] قال الإمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى في مختصر منهاج القاصدين:
ينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمسُ خصال:
1) العقل: فهو رأس مال، ولا خير في صحبة الأحمق لأنه يريد أن ينفعك فيضرك.
2) حسن الخلق: فلا بد منه إذ رُبَّ عاقلٍ يغلبه غضبه أو شهوة فيطيع هواه فلا خير في صحبته.
3) غير فاسق: لأن الفاسق لا يخاف الله، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته ولا يوثق به، ومن خان أولَ منعم ٍ لا يفي لك أبداً
4) غير مبتدع: لأن المبتدع يُخافُ من صحبته لأن في صحبتك له الشر كله إما سراية البدعة أو عدم الإنكار عليه أو تتعلم من بدعته فيحصل لك انتكاسة.
5) غير حريصٍ على الدنيا لأن الحرص على المال يفسد الدين بقدر أكبر من الفساد الحاصل من إرسال ذئبين جائعين على غنم، أي يفسد فساداً بيناً بلا روية
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه.
مقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك و نافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك وإما أن تبتاع منه وإما تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
بين به النهي عن مجالسة من يتأذى به ديناً أو دنيا والترغيب فيمن ينتفع بمجالسته فيهما وجواز بيع المسك وطهارته.
قال الراغب: نبه بهذا الحديث على أن حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار ومجالستهم فهي قد تجعل الشرير خيراً كما أن صحبة الأشرار قد تجعل الخير شريراً قال الحكماء: من صحب خيراً أصاب بركته فجليس أولياء اللّه لا يشقى وإن كان كلباً ككلب أهل الكهف ولهذا أوصت الحكماء الأحداث بالبعد عن مجالسة السفهاء، قال علي كرم اللّه وجهه: لا تصحب الفاجر فإنه يزين لك فعله ويود لو أنك مثله، وقالوا: إياك ومجالسة الأشرار فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري وليس إعداء الجليس جليسة بمقاله وفعاله فقط بل بالنظر إليه والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه فإن من دامت رؤيته للمسرور سر أو للمحزون حزن وليس ذلك في الإنسان فقط بل في الحيوان والنبات فالحمل الصعب يصير ذلولاً بمقاربة الجمل الذلول والذلول قد ينقلب صعباً بمقارنة الصعاب والريحانة الغضة تذبل بمجاورة الذابلة ولهذا يلتقط أهل الفلاحة الرمم عن الزرع لئلا تفسدها ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة فما الظن بالنفوس البشرية التي موضعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها؟ فقد قيل سمي الإنس لأنه يأنس بما يراه خيراً أو شراً.
تجنب صحبة أهل الدنيا:
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
لا تعاشر أبناء الدنيا وواجب على المؤمن أن يتجنب عِشْرَةَ طلاب الدنيا؛ فإنهم يدلونه على طلبها، وجمعها، ومنعها، وذاك الذي يبعده عن طلب نجاته، ويقطعه عنها، ويجتهد في معاشرة أهل الخير ومن يدله على طلب الآخرة، وطلب مولاه كذلك
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن يوسف بن الحسين يقول: قلت لذي النون وقت مفارقته: أوصني فقال: " عليك بصحبة من تسلم منه في ظاهر أمرك، ويبعثك على الخير صحبته، ويذكرك الله رؤيته "
ولله درُّ من قال:
فَلَا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى حَلِيمًا حِينَ وَاخَاهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ إذَا هُوَ مَاشَاهُ
(3)
المحبة في الله:
أعظم مقامات الأخوة أن تكون في الله ولله، لا لنيل منصب، ولا لتحصيل منفعة عاجلة أو آجلة، ولا من أجل كسب مادي، أو غير ذلك. ومن كانت محبته في الله وأخوته في الله فقد بلغ الغاية، وليحذر أن يشوبها شيءٌ من حظوظ الدنيا فيفسدها. ومن كانت محبته في الله فليبشر بموعود الله ونجاته من هول الموقف يوم القيامة، ودخوله في ظل عرش الجبار جل جلاله، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ.
وكلما زادت المحبة بين المؤمنين كان هذا أقرب إلى الله:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا تَحَابَ رَجُلَانِ فِي اللهِ؛ إِلَا كَانَ أَحَبَهُمَا إِلَى اللهِ عز وجل أَشَدُهُمَا حُبَاً لِصَاحِبِهِ.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَوْثَقُ عُرَى الإِيْمَانِ: المُوَالَاةِ فِي اللهِ وَالمُعَادَاةُ فِي اللهِ وَالحُبُ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ عز وجل.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(أوثق عرى الإيمان) أي أقواها أو أثبتها وأحكمها جمع عروة وهي في الأصل ما يعلق به نحو دلو أو كوز فاستعير لما يتمسك به من أمر الدين ويتعلق به من شعب الإيمان وقال الحرالي: العروة ما يشد به العباءة ونحوها يتداخل بعضها في بعض دخولاً لا ينفصم بعضه من بعض إلا بفصم طرفه فإذا انفصمت منه عروة انفصم جميعه وقال الزمخشري: هذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فبحكم اعتقاده والتيقن به
(الموالاة) أي التحابب والمعاونة
(في اللّه) أي فيما يرضيه
(والمعاداة في اللّه) أي فيما يبغضه ويكرهه
(والحب في اللّه والبغض في اللّه عز وجل قال مجاهد: عن ابن عمر فإنك لا تنال الولاية إلا بذلك ولا تجد طعم الإيمان حتى تكون كذلك اهـ. ومن البغض في اللّه بغض كثير ممن ينسب نفسه للعلم في زمننا لما أشرق عليهم من مظاهر النفاق وبغضهم [ص 70] لأهل الخير فيتعين على من سلم قلبه من المرض أن يبغضهم في اللّه لما هم عليه من التكبر والغلظة والأذى للناس قال الشافعي: عاشر الكرام تعش كريماً ولا تعاشر اللئام فتنسب إلى اللؤم ومن ثم قيل مخالطة الأشرار خطر ومبالغة في الغرر كراكب بحر إن سلم من التلف لم يسلم قلبه من الحذر. أهـ
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي.
(حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَتِي لِلْمُتَحَابِينَ فِي وَالمُتَجَالِسِيَن فِي وَالمُتَبَاذِلِينَ فِي وَالمُتَزَاوِرِينَ فِي.
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ.
(حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ.
(حديث عمر الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ قَالَ هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
[يونس: 62].
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ يَوْمَ لَا ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ)
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى النبيِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّكَ لأَحَبُ إليَّ مِنْ نَفْسِي، وَإنَّكَ لأَحَبَ إليَّ مِنْ وَلَدِي، وَإنِّي لأَكُونُ فِي البَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَى آتِي فَأَنْظُرُ إِليْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتِكَ عَرَفَتُ أنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعْ النَّبيِّين، وَإنِّي إِذَا دَخَلْتَ الجَنَّةَ خَشِيْتُ أَنْ لا أَرَاكَ؛ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً حَتَى نَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام بهذه الآية:(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَآء وَالصَّالِحِينَ)[النساء: 69].
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَعْدَدْتَ لَهَا قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أَحَبَ عَبْدٌ عَبْداً لِلهِ إِلا أَكْرَمَه الله "
(حديث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُحِبُ رَجُلٌ قَومَاً إِلَا حُشِرَ مَعَهُم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ (1) مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عز وجل قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ.
(1). في اللسان: المدرجة: ممرُّ الأشياء على الطريق وغيره. (2/ 267) مادة (درج).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا.
(حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِرَجَالِكُم مِنْ َأهْلِ الجَنَّةِ؟ النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ وَالشَهِيدُ فِي الْجَنَّةِ وَالصِّدِّيقُ فِي الْجَنَّةِ وَالمَولُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالرَجُلُ يَزورُ أَخَاهُ فِي نَاحِيَةِ المِصْرِ فِي اللهِ فِي الْجَنَّةِ; أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُم مِنْ َأهْلِ الجَنَّةِ؟ الوَدُودُ الوَلُودُ العَئُودُ التِي إِذَا ظُلِمَتْ قَالَتْ: هَذِهِ يَدِي فِي يَدِكَ لَا أَذُوقُ غَمْضَاً حَتَى تَرْضَى.
دلالة المحبة وشواهدها:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر اختلف.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
قال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد وأن "الخير من الناس يحن إلى شكله والشرير نظير ذلك" يميل إلى نظيره فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر فإذا اتفقت تعارفت وإذا اختلفت تناكرت.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الأرواح) التي تقوم بها الأجساد.
(جنود مجندة) أي جموع متجمعة وأنواع مختلفة.
(فما تعارف) توافق في الصفات وتناسب في الأخلاق.
(منها ائتلف) أي ألف قلبه قلب الآخر وإن تباعدا كما يقال ألوف مؤلفة وقناطير مقنطرة.
(وما تناكر منها) أي لم يتوافق ولم يتناسب.
(اختلف) أي نافر قلبه قلب الآخر وإن تقاربا جسداً فالائتلاف والاختلاف للقلوب والأرواح البشرية التي هي النفوس الناطقة مجبولة على ضرائب مختلفة وشواكل متباينة فكل ما تشاكل منها في عالم الأمر تعارف في عالم الخلق وكل ما كان في غير ذلك في عالم الأمر تناكر في عالم الخلق فالمراد بالتعارف ما بينهما من التناسب والتشابه وبالتناكر ما بينهما من التباين والتنافر وذلك لأنه سبحانه عرف ذاته للأرواح [ص 175] بنعوته فعرفها بعض بالقهر والجلال وبعض باللطف والجمال وبعض بصفات أخر ثم استنطقها بقوله {ألست بربكم} ثم أوردها في الأبدان فالتعارف والتنافر يقع بحسب ذلك والتعارف والتناكر بحسب الطباع التي جبل عليها من خير وشر وكل شكل يميل إلى شكله فالتعارف والتناكر من جهة المناسبة المحكمة بين الفريقين فيميل الطيب للطيب والخبيث للخبيث ويألفه ومنشأ ذلك أحكام التناسب ولهذا قال الشافعي: العلم جهل عند أهل الجهل كما أن الجهل جهل عند أهل العلم. (حكى) الشيرواني أن تمرلنك كان يحب رجلاً من معتقدي العجم ويتردد إليه فوجد الرجل في قلبه ميلاً لتمرلنك فتخوف وقال: ما المناسبة فمنع تيموراً من دخوله عليه فسأله عن سببه فذكر ما خطر له فقال تمرلنك: بيني وبينك مناسبة وهي أنك تحب بيت آل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا واللّه أحبهم وأنت رجل كريم وأنا أحب الكرم فهذه المناسبة المقتضية للميل لا ما فيَّ من الشر وقد يتفق اجتماع مادّتي الخبيث والطيب في شخص واحد فيصدران منه ويميل لكل منهما بكل من الوصفين (نكتة) حكى بعضهم أن اثنين اصطحبا في سفينة فقعد أحدهما على طرفها والآخر بوسطها فسقط من على الطرف في البحر فرما الآخر نفسه عليه فأخرجا بالحياة فقال الأول للثاني: أنا كنت بطرفها فوقعت فمالك أنت قال لما وقعت: أنت غبت بك عني * فحسبت أنك أني. أهـ
إعلام المحبوب بما تجنه القلوب:
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ.
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح الأدب المفرد) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ أَنَّهُ أَحَبَهُ.
(إذا أحب أحدكم) محبة دينية قال الحراني: من الحب وهو إحساس بوصلة لا يدرك كنهها.
(أخاه) في الدين كما يرشد إليه قوله في رواية صاحبه وفي أخرى عبداً.
(فليعلمه) ندباً مؤكداً أنه أي بأنه.
(يحبه) لله سبحانه وتعالى لأنه إذا أخبره به فقد استمال قلبه واجتلب وده فإنه إذا علم أنه يحبه قبل نصحه ولم يرد عليه قوله في عيب فيه أخبره به ليتركه فتحصل البركة. قال البغدادي: إنما حث على الإعلام بالمحبة إذا كانت لله لا لطمع في الدنيا ولا هوى بل يستجلب مودته فإن إظهار المحبة لأجل الدنيا والعطاء تملق وهو نقص والله أعلم
(تنبيه) ظاهر الحديث لا يتناول النساء فإن اللفظ أحد بمعنى واحد وإذا أريد المؤنث إنما يقال إحدى لكنه يشمل الإناث على التغليب وهو مجاز معروف مألوف وإنما خص الرجال لوقوع الخطاب لهم غالباً وحينئذٍ إذا أحبت المرأة أخرى لله ندب إعلامها. أهـ
{تنبيه} : مما ينبغي -أيضاً- على المتحابين في الله، أن يتفقدوا أنفسهم وقلوبهم بين وقت وآخر، وينظروا هل خالط هذه المحبة ما ينغصها ويكدرها ويخرجها عن حقيقتها أم لا، لأن المحبة في أول أمرها قد تكون خالصة لله، ولكن لا تلبث -إن غفل عنها أهلها- أن تتحول إلى أخوة تبادل المنافع، وقد تتحول مع التمادي والمجاوزة إلى شيء من العشق والغرام، فمخالطة المردان باسم الأخوة في الله، وتجاوز بعض النساء عن الحد المشروع مع بنات جنسهن قد يُفضي إلى مثل ذلك.
مسألة: ما هي الأمور التي تجلب المحبة في قلوب العباد:
[*] الأمور التي تجلب المحبة في قلوب العباد هي ما يلي:
1) الإيمان والعمل الصالح: قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمََنُ وُدّاً)[سورة: مريم - الآية: 96]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى [إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا]: أي حباً في قلوب عباده.
(حديث أبي هريرة الأشعري في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض.
2) إفشاء السلام:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
3) لا يتناجى يتناجى رجلان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس.
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس فإن ذلك يحزنه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى) التناجي التحادث سراً.
(رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس) أي تنضموا إليهم وتمتزجوا ويتحدث بعضهم مع بعض
(فإن ذلك يحزنه)
…
ثم علل ذكر النهي بقوله فإن ذلك يحزنه، أي التناجي مع انفراد واحد، وذلك لئلا يقع في نفسه أنهما يتحدثون عنه بما يشينه أو أنهما لم يشاركاه في الحديث احتقاراً له.
4) تعاهد الإخوان بالهدايا فإنها تجلب المحبة بنص السنة الصحيحة:
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تهادوا تحابوا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية و يثيب عليها
(حديث عائشة في صحيح البخاري) قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية و يثيب عليها.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(كان يقبل الهدية ويثيب عليها) بأن يعطي بدلها فيسن التأسي به في ذلك بأن يجازي المهدي بهدية أيضاً.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية ولا تضربوا المسلمين.
مسألة: ما هي الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها من أراد الإهداء أو قبول الهدية إذا أراد التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم؟
[*] الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها من أراد الإهداء إذا أراد التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم هي ما يلي:
1) الإهداء ولو بالشيء القليل كذلك على قبول الهدية ولو كانت شيئاً قليلاً لأن العبرة بمعناها.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها و لو فِرْسَن شاة.
معنى فرسن شاة: الفِرسن للشاة كالقدم للإنسان، وفي الحديث دليل واضح جَلِيٌ على تعاهد الجار
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو دُعيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِي إليَّ ذِراعٍ أو كُراعٍ لقبلت.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح:
وخصَّ الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير لأن الذراع كانت أحب إليه من غيرها والكراع لا قيمة لها.
2) ومن السنة أنك إذا رددت الهدية تبين سبب ردها تطيباً لخاطر صاحبها.
(حديث الصعب بن جثامة الليثي في الصحيحين) أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودَّان فردَّه عليه فلما رأى ما في وجهه قال إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم.
3) يكره الرجوع في الهدية.
(حديث ابن عباس في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه.
4) أن يجتنب المنّ فإنه يبطل ثواب الهدية.
(حديث أبي ذر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا ينظر إليهم و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم: المسبل إزاره و المنَّان الذي لا يعطي شيئا إلا منه و المنفق سلعته بالحلف الكاذب.
5) الْهَدِيَّةُ لِمَنْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ لَا لِمَنْ حَضَرَ:
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
الْهَدِيَّةُ إنْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ يَخُصُّ بِهَا مَنْ شَاءَ ، وَلَا يَصِحُّ الْخَبَرُ إنَّهَا لِمَنْ حَضَرَ ، وَمِمَّا يُسْتَحَبُّ شَرْعًا وَعُرْفًا الْهَدِيَّةُ أَوَائِلُ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْهَا لَا سِيَّمَا إلَى الْكَبِيرِ الصَّالِحِ وَدُعَائِهِ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْبَرَكَةِ ، وَأَنَّهُ يُخَصِّصُ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ بَعْضَ مَنْ يُحْضِرُهُ مِنْ الصِّغَارِ ; لِأَنَّهُ يَقَعُ لِذَلِكَ مَوْقِعًا عَظِيمًا بِخِلَافِ الْكِبَار. أهـ
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِأَوَّلِ الثَّمَرِ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَفِي مُدِّنَا وَفِي صَاعِنَا وَفِي ثِمَارِنَا بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يُحْضِرُهُ مِنْ الْوِلْدَانِ.
(4)
البشاشة واللين والتودد للإخوان:
إن أقل ما يتلقى به الأخ أخيه، هو وجه طلق، وثغر باسم، وهو من المعروف والأدب الذي ينبغي أن يكون بين الأخ وأخيه؛ أن يهش ويبش في وجهه كلما لاقاه أو رآه، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث جرير ابن عبد الله الثابت في الصحيحين) قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي.
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ.
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي حاتم قال: البشاشه إدام العلماء وسجية الحكماء لأن البشر يطفيء نار المعاندة ويحرق هيجان المباغضه وفيه تحصين من الباغي ومنجاة من الساعي ومن بش للناس وجها لم يكن عندهم بدون الباذل لهم ما يملك.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي قال يعجبني من القراء كل سهل طلق مضحاك فأما من تلقاه يبشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعمله فلا أكثر الله في القراء ضرب هذا.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن حبيب بن أبي ثابت قال من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو يبتسم.
واللين والرفق والتودد مما يقوي الروابط بين الإخوان، ويعمق الصلة بينهم، فـ (الله يحب الرفق في الأمر كله) وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ.
(حديث جرير ابن عبد الله الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ وَعَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوْ الْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا.
ومادام ذلك كذلك، فالإخوان أحرى وأولى أن يرفق بعضهم ببعض، وأن يلين بعضهم لبعض.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ.
ومن الأمور التي تعين على استدامة المحبة، وإزالة الشحناء من القلوب؛ التهادي بين الإخوان، (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَهَادُوا تَحَابُوا.
ولله درُ من قال:
هدايا الناس بعضهم لبعض
…
تولد في قلوبهم الوصالا
وتزرع في الضمير هوى وودا
…
وتكسوهم إذا حضروا جمالا
(5)
استحباب بذل النصيحة وهي من تمام الأخوة:
النصيحة مطلبٌ شرعي مُرغبٌ فيه من لدن الشارع، وهي من الأمور التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبايع عليها أصحابه، والنصيحة من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولا سيما إن كانت النصائح الأخوية صادرةٌ عن إخلاص وحسن طوية ليس فيها مجالاً للحقد والحسد أو اتِّباع الهوى، فإنها إن خلت من ذلك وجدت للسامع في سمعه مسمعاً وفي قلبه موقعا، وعليه أن يتقبلها بقبولٍ حسن عسى الله أن ينفعه بها ويوفقه إلى تطبيقها.
قال تعالى (وَالْعَصْرِ إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ)[العصر: من 1: 3]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره:
فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم " وتواصوا بالحق " وهو أداء الطاعات وترك المحرمات.
والسنة الصحيحة طافحة بالحث على النصيحة بين المؤمنين
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول اللّه قال: للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.
قوله: (الدين النصيحة) أي: أن النصيحة أفضل الدين وأكمله (1). وقال ابن الجوزي: اعلم أن النصيحة لله عز وجل المناضلة عن دينه والمدافعة عن الإشراك به وإن كان غنياً عن ذلك، ولكن نفعه عائد على العبد، وكذلك النصح لكتابه الذب عنه والمحافظة على تلاوته، والنصيحة لرسوله إقامة سنته والدعاء إلى دعوته، والنصيحة لأئمة المسلمين طاعتهم، والجهاد معهم، والمحافظة على بيعتهم، وإهداء النصائح إليهم دون المدائح التي تغر، والنصيحة لعامة المسلمين إرادة الخير لهم، ويدخل في ذلك تعليمهم وتعريفهم اللازم، وهدايتهم إلى الحق (2).
(1). كشف المشكل من حديث الصحيحين. لابن الجوزي (4/ 219)
(2)
. كشف المشكل من حديث الصحيحين. لابن الجوزي (4/ 219)
وعلى هذا فتكون نصيحة الإخوان بإرادة الخير لهم، وبيان الحق لهم، ودلالتهم عليه، وعدم غشهم ومجاملتهم في دين الله، ويدخل فيه أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولو خالف هواهم وطريقتهم. وأما مسايرتهم في طريقتهم، ومجاملتهم في دين الله باسم الأخوة، وحتى لا ينفضوا أو ينفروا، فهذا ليس من النصح الذي أمر به نبينا عليه الصلاة والسلام. نعم، الحكمة مطلوبة عند عرض النصيحة عليهم، ولكن الحق لابد أن يبين ويعلم، وخصوصاً إذا كان ذلك بين الإخوان فهو مقدورٌ عليه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(الدين النصيحة) أي عماده وقوامه النصيحة على وزان الحج عرفة فبولغ في النصيحة حتى جعل الدين كله إياها
(للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم) قال بعضهم: هذا الحديث ربع الإسلام أي أحد أحاديث أربعة يدور عليها وقال النووي: بل المدار عليه وحده ولما نظر السلف إلى ذلك جعلوا النصيحة أعظم وصاياهم قال بعض العارفين: أوصيك بالنصح نصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويطردونه ويأبى إلا أن يحوطهم ويحفظهم وظاهر الخبر وجوب النصح وإن علم أنه لا يفيد في المنصوح ومن قبل النصيحة أمن الفضيحة ومن أبى فلا يلومن إلا نفسه
(حديث جرير بن عبد الله في الصحيحين) قال بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم يقرنها مع الصلاة والزكاة التي هي من أركان الإسلام، ليدلنا على عظم شأنها وعلو منزلتها.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن مرآة المؤمن و المؤمن أخو المؤمن يكفُّ عليه ضيعته و يحُوطُه من ورائه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(المؤمن مرآة المؤمن) فأنت مرآة لأخيك يبصر حاله فيك وهو مرآة لك تبصر حالك فيه فإن شهدت في أخيك خيراً فهو لك وإن شهدت غيره فهو لك وكل إنسان مشهده عائد عليه ومن ثم قالوا: من مشهدك يأتيك روح مددك
(والمؤمن أخو المؤمن) أي بينه وبينه أخوه ثابتة بسبب الإيمان {إنما المؤمنون إخوة}
(يكف عليه ضيعته) أي يجمع عليه معيشته ويضمها له وضيعة الرجل ما منه معاشه.
(ويحوطه من ورائه) أي يحفظه ويصونه ويذب عنه ويدفع عنه من يغتابه أو يلحق به ضرراً ويعامله بالإحسان بقدر الطاقة والشفقة والنصيحة وغير ذلك قال بعض العارفين: كن رداءاً وقميصاً لأخيك المؤمن وحطه من ورائه واحفظه في نفسه وعرضه وأهله فإنك أخوه بالنص القرآني فاجعله مرآة ترى فيها نفسك فكما يزبل عنك كل أذى تكشفه لك المرآة فأزل عنه كل أذى به عن نفسه.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة عليك بالنصح لله في خلقه فلن تلقى الله بعمل أفضل منه.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال: لا تعمل بالخديعة فإنها خلق اللئام وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحه وزل معه حيث زال.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الحسن قال المؤمن شعبة من المؤمن وهو مرآة أخيه إن رأى منه مالا يعجبه سدده وقومه ونصحه السر والعلانية.
النصيحة سراً:
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابن المبارك قال كان الرجل إذا رأى من أخيه ما يكره أمره في ستر ونهاه في ستر فيؤجر في ستره ويؤجر في نهيه فأما اليوم فإذا رأى أحد من أحد ما يكره استغضب أخاه وهتك ستره.
كيفية النصيحة:
(1)
أن يقصد النصح وليس التوبيخ أو التعيير بالذنب:
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير:
إذا أخبر أحد أخاه بعيب ليجتنبه كان ذلك حسناً لمن أُخبر بعيب من عيوبه أن يعتذر منها إن كان له منها عذر، وإن كان ذلك على وجه التوبيخ بالذنب فهو قبح مذموم.
وقيل لبعض السلف: أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال:"إن كان يريد أن يوبخني فلا "
فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُثَرَّبَ الأمة الزانية مع أمره بجلدها فتجلد حداً ولا تعير بالذنب ولا توبخ به. أهـ
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: زَنَتْ الْأَمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ.
لا يُثَرِّب: أي لا يُعَيِّر.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ.
(2)
أن تكون النصيحة سراً:
أورد ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير عن الفضيل قال: (المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعيِّر).
فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير، وهو أن النصح يقترن به الستر والتعيير يقترن به الإعلان.
وكان يقال: (من أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيَّره) أو بهذا المعنى.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه.
ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إلَيَّ عُيُوبِي فِي سِرٍّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، فَإِنَّ النَّصِيحَةَ فِي الْمَلَأِ تَقْرِيعٌ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: أَخُوك مَنْ ذَكَّرَك الْعُيُوبَ وَصَدِيقُك مَنْ حَذَّرَك الذُّنُوبَ.
وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه ويحبون أن يكون سراً فيما بين الآمر والمأمور فإن هذا من علامات النصح " فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها". وأما إشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله ورسوله قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(النور:19)
والأحاديث في فضل السر كثيرةٌ جدَّاً منها ما يلي:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ.
وقال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف: (واجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام أحقُّ شيء بالستر: العورة).
فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير وهما من خصال الفجار لأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن وهتك عرضه فهو يعيد ذلك ويبديه ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساويه للناس ليُدخل عليه الضرر في الدنيا.
وأما الناصح فغرضُه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن واجتنابه له وبذلك وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة:128)
ووصف بذلك أصحابه فقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(الفتح:29).
ووصف المؤمنين بالصبر والتواصي بالمرحمة.
وأما الحامل للفاجر على إشاعة السوء وهتكه فهو القوة والغلظة ومحبته إيذاء أخيه المؤمن وإدخال الضرر عليه وهذه صفة الشيطان الذي يزيِّن لبني آدم الكفر والفسوق والعصيان ليصيروا بذلك من أهل النيران كما قال الله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(فاطر:6).
وقال بعد أن قص علينا قصته مع نبي الله آدم عليه السلام ومكرَه به حتى توصل إلى إخراجه من الجنة: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)(لأعراف: من الآية27).
"فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة" ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة.
عقوبة من أشاع السوء على أخيه المؤمن وتتبع عيوبه وكَشَفَ عورته:
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير:
عقوبة من أشاع السوء على أخيه المؤمن وتتبع عيوبه وكَشَفَ عورته أن يتبع الله عورته ويفضحه ولو في جوف بيته. أهـ
(حديث أبي برزة الأسلمي الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ.
أورد ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير أن ابن سيرين لما ركبه الدَّيْن وحبس به قال: (إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا عيَّرت رجلاً منذ أربعين سنة فقلت له: يا مفلس).
ذم من أظهر النصح وأبطن التعيير:
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير:
ومِن أظهرِ التعيير: إظهارُ السوء وإشاعتُه في قالب النصح وزعمُ أنه إنما يحمله على ذلك العيوب إما عاماً أو خاصاً "وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى" فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه في مواضع فإن الله تعالى ذم من أظهر فعلاً أو قولاً حسناً وأراد به التوصل إلى غرض فاسد يقصده في الباطن وعدَّ ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتك فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(التوبة:107).
وقال تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(آل عمران:188)، وهذه الآية نزلت في اليهود لما سألهم النبي صلى اله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك عليه وفرحوا بما أتوا من كتمانه وما سألهم عنه. كذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما وحديثه بذلك مخرّج في الصحيحين وغيرهما.
(حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ {لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الْآيَةَ.
فهذه الخصال خصال اليهود والمنافقين وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولاً أو فعلاً وهو في الصورة التي ظهر عليها حسن ومقصوده بذلك التوصل إلى غرض فاسد فيحمده على ما أظهر من ذلك الحسن ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو أبطنه ويفرح هو بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن وفي الباطن شيء وعلى توصله في الباطن إلى غرضه السيء فتتم له الفائدة وتُنَفَّذُ له الحيلة بهذا الخداع.
ومن كانت هذه همته فهو داخل في هذه الآية ولا بد فهو متوعد بالعذاب الأليم، ومثال ذلك: أن يريد الإنسان ذمَّ رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه إما محبة لإيذائه [أو] لعداوته أو مخافة من مزاحمته على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني مثل: أن يكون قد ردَّ قولاً ضعيفاً من أقوال عالم مشهور فيشيع بين من يعظِّم ذلك العالم أن فلاناً يُبغِضُ هذا العالم ويذمُّه ويطعن عليه فيغرُّ بذلك كل من يعظِّمه ويوهمهم أن بغض الراد وأذاه من أعمال العرب لأنه ذبٌّ عن ذلك العالم ورفع الأذى عنه وذلك قُربة إلى تعالى وطاعته فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرَّمين:
أحدهما: أن يحمل ردُّ العالم القول الآخر على البغض والطعن والهوى وقد يكون إنما أراد به النصح للمؤمنين وإظهار ما لا له كتمانه من العلم.
والثاني: أن يظهر الطعن عليه ليتوصل بذلك إلى هواه وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن علماء الشرع وبمثل هذه المكيدة كان ظلم بني مروان وأتباعهم يستميلون الناس إليهم وينفِّرون قلوبهم عن علي بن أبي طالب والحسن والحسين وذريتهم رضي الله عنهم أجمعين.
وأنه لما قُتِل عثمان رضي الله عنه لم ترَ الأمة أحق من علي رضي الله عنه فبايعوه فتوصل من توصل إلى التنفير عنه بأن أظهر تعظيم قتل عثمان وقُبحه وهو في نفس الأمر كذلك ضُمَّ إلى ذلك أن المؤلَّب على قتله والساعي فيه علي رضي الله عنه وهذا كان كذباً وبهتاً. وكان علي رضي الله عنه يحلف ويغلِّظ الحلف على نفي ذلك وهو الصادق البارُّ في يمينه رضي الله عنه وبادروا إلى قتاله ديانةً وتقرُّباً ثم إلى قتال أولاده رضوان الله عليهم واجتهد أولئك في إظهار ذلك وإشاعته على المنابر في أيام الجُمَع وغيرها من المجامع العظيمة حتى استقر في قلوب أتباعهم أن الأمر على ما قالوه وأن بني مروان أحق بالأمر من علي وولده لقربهم من عثمان وأخذهم بثأره فتوصلوا بذلك إلى تأليف قلوب الناس عليهم وقتالهم لعلي وولده من بعده ويثبُت بذلك لهم الملك واستوثق لهم الأمر.
وكان بعضهم يقول في الخلوة لمن يثق إليه كلاماً ما معناه: (لم يكن أحد من الصحابة أكفأ عن عثمان من علي) فيقال له: لِمَ يسبُّونه إذاً؟ فيقول: (إن المُلك لا يقوم إلا بذلك).
ومراده أنه لولا تنفير قلوب الناس على علي وولده ونسبتُهم إلى ظلم عثمان لما مالت قلوب الناس إليهم لما علموه من صفاتهم الجميلة وخصائصهم الجليلة فكانوا يسرعون إلى متابعتهم ومبايعتهم فيزول بذلك ملك أمية وينصرف الناس عن طاعتهم.
مسألة: من ابتلي بشيءٍ من هذا المكر فما يصنع؟
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير:
ومن بُلي بشيء من هذا المكر فليتق الله ويستعن به ويصبر فإن العاقبة للتقوى. كما قال الله تعالى: بعد أن قصَّ قِصَّة يوسف وما حصل له من أنواع الأذى بالمكر والمخادعة:
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ)(يوسف: من الآية21)، وقال الله تعالى حكاية عه أنه قال لإخوته:(أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا)(يوسف: من الآية90)، وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام وما حصل له ولقومه من أذى فرعون وكيده قال لقومه:(اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا)(لأعراف: من الآية128)، وقد أخبر الله تعالى أن المكر يعود وباله على صاحبه قال تعالى:(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)(فاطر: من الآية43)، وقال تعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)(الأنعام: من الآية123)، والواقع يشهد بذلك فإن من سبر أخبار الناس وتواريخ العالم وقف على أخبار من مكر بأخيه فعاد مكره عليه وكان ذلك سبباً في نجاته وسلامته على العجب العجاب.
(6)
التعاون فيما بين الإخوان:
ولنا في ذلك قدوة وأسوة، وأعظم به من قدوة-رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وما كان جناب الرسالة مانعاً له صلى الله عليه وآله وسلم من مشاركته أصحابه، وتقديم العون لهم. ومن ذلك مشاركته صلى الله عليه وسلم أصحابه في بناء مسجده في المدينة.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ.
ومثله يوم الخندق:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا.
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
والإخوان يحتاج بعضهم بعضاً، فيتعاونون فيما بينهم في سد خلة فقيرهم، أو الشفاعة الحسنة في قضاء حاجة محتاجهم، أو غير ذلك من شتى صور التعاون، (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ.
(7)
تواضع الإخوان فيما بينهم وعدم التكبر أو الفخر عليهم:
[*] عناصر تواضع الإخوان فيما بينهم وعدم التكبر أو الفخر عليهم:
تعريف التواضع:
فضل التواضع:
أمورٌ من التواضع:
التواضع في اللباس:
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم:
ما جاء في الخمول:
ما جاء في الشهرة:
ذم الكبر:
أسباب الكبر:
ذم الاختيال:
أسباب الإعجاب والاختيال:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
تعريف التواضع:
التواضع هو: عقد القلب على صَغار النفس المؤثر في عواطفه وميوله وجوارحه في مقابل اللَّه سبحانه وتعالى، وفي مقابل رسله وأوليائه المعصومين، وفي مقابل المؤمنين.
قال الشوكاني رحمه الله في السلوك الإسلامي القويم:
وأما التواضع فهو أن لا يرى لنفسه حقاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض وسُئِلَ: ما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته منه، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه. وسألته: ما الصبر على المصيبة? قال: أن لا تبث.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له
ويقبله ممن قاله.
وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب وهذا مذهب الفضيل وغيره.
وقال الجنيد بن محمد: هو خفض الجناح ولين الجانب.
وقال أبو يزيد البسطامي: هو أن لا يرى لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى في الخلق شراً منه.
وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان والعز في التواضع فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار.
وقال إبراهيم بن شيبان: الشرف في التواضع والعز في التقوي والحرية في القناعة ويذكر عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد وفقيه صوفي وغني متواضع وفقير شاكر وشريف سني.
وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها.
وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره يقول طرقوا للأمير.
وركب زيد بن ثابت مرة فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال: مه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا فقال: أرني يدك فأخرجها إليه فقبلها فقال: هكذا أمرنا نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة رضي الله عنهم حللا فبعث إلى معاذ حلة مثمنة فباعها واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم فبلغ ذلك عمر فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها فعاتبه معاذ فقال عمر: لأنك بعت الأولى فقال معاذ وما عليك ادفع لي نصيبي وقد حلفت لأضربن بها رأسك فقال عمر رضي الله عنه: رأسي بين يديك وقد يرفق الشاب بالشيخ.
أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن أباه سعدا كان في غنم له فجاء إبنه عمر فلما رآه قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فلما إنتهى أليه قال يا أبة أرضيت أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة فضرب صدر عمر وقال أسكت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله عز وجل يحب العبد التقي الغني الخفي.
ومر الحسن بن علي صبيان معهم كسر خبز فاستضافوه فنزل فأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وقال: اليد لهم لأنهم لا يجدون شيئا غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه.
ويذكر أن أبا ذر رضي الله عنه عَيَّرَ بلالا رضي الله عنه بسواده ثم ندم فألقى بنفسه فحلف: لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال.
وقال رجاء بن حيوة: قومت ثياب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباء وعمامة وقميصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة.
ورأى محمد بن واسع ابنا له يمشي مشية منكرة فقال: تدري بكم شريت أمك بثلاثمائة درهم وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله أنا وأنت تمشي هذه المشية.
وقال حمدون القصار: التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة لا في الدين ولا في الدنيا.
وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك كان يقول: كنا في بلاد الترك فأخذ العلج هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي ويهزني لأنه لم يكن في تلك السفينة أحد أحقر مني والأخرى: كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال: اخرج فلم أطق فأخذ برجلي وجرني إلى خارج والأخرى: كنت بالشام وعلي فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته فسرني ذلك وفي رواية: كنت يوما جالسا فجاء إنسان فبال علي.
وقال بعضهم: رأيت في الطواف رجلا بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عن الطواف ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل شيئا فتعجبت منه فقال لي: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه.
وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه.
{تنبيه} : إن من أهم الأسباب التي تعين الإنسان على التواضع أن يمقت الإنسان نفسه في جنب الله تعالى.
[*] قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً ".
[*] وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة (اللهم لا ترد الناس لأجلي)!،
[*] وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ.
مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة.
[*] قال يونس بن عبيد: " إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة ".
[*] دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: (يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك).
[*] وقال جعفر بن زيد: (خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال:(أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال:(اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت!
[*] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل:(يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم.
[*] أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن مالك بن دينار قال: " رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله تعالى، فكان لها قائدا "
[*] وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن عن وهب بن منبه: " أن رجلا، تعبد زمانا، ثم بدت له إلى الله تبارك وتعالى حاجة، فصام تسعين سبتا، يأكل كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم سأل حاجته فلم يعطها، فرجع إلى نفسه، فقال: منك أوتيت، لو كان فيك خير أعطيت حاجتك، فنزل إليه عند ذلك ملك، فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه التي أزريت فيها على نفسك خير من عبادتك التي قد مضت، وقد قضى الله حاجتك "
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال: كيف ترى حال من كثرت ذنوبه وضعف علمه وفني عمره ولم يتزود لمعاده.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال: يا مسكين أنت مسيء وترى أنك محسن وأنت جاهل وترى أنك عالم وتبخل وترى أنك كريم وأحمق وترى أنك عاقل أجلك قصير وأملك طويل.
قال الذهبي رحمه الله: قلت إي والله صدق وأنت ظالم وترى أنك مظلوم وآكل للحرام وترى أنك متورع وفاسق وتعتقد أنك عدل وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن حرب، قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل يمد ثوبي من خلفي فالتفت فإذا بفضيل بن عياض، فقال: لو شفع في وفيك أهل السماء كنا أهلاً أن لا يشفع فينا، قال شعيب: ولم أكن رأيته قبل ذلك بسنة، قال: فكسرني وتمنيت أني لم أكن رأيته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن إبراهيم بن الأشعث قال سألت الفضيل عن التواضع قال التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته منه ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي صالح الفراء قال سمعت بن المبارك يقول رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن كعب قال ما أنعم الله عز وجل على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله عز وجل نفعها في الدنيا ورفع له بها درجة في الآخرة وما أنعم الله عز وجل على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله ولم يتواضع بها لله عز وجل إلا منعه الله عز وجل نفعها في الدنيا وفتح له طبقا من النار يعذبه به إن شاء الله أو يتجاوز عنه.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الأصبغ بن نباتة قال كأني أنظر إلى عمر بن الخطاب معلقا لحما في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن صالح بياع الأكسية عن أمه أو جدته قالت رأيت عليا اشترى تمرا بدرهم فحمله في ملحفته فقلت أحمل عنك يا أمير المؤمنين قال لا أبو العيال أحق أن يحمله.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن حماد بن زيد قال ما رأيت محمد بن واسع إلا وكأنه يبكي وكان يجلس مع المساكين والبكائين.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن بكر بن عبد الله المزني أنه كان يلبس الكسوة تساوي أربعة آلاف ويجالس المساكين ومعه الصرر فيها الدراهم فيدسها إلى ذا وإلى ذا قال وكان موسرا فمات ولم يخلف شيئا فقال الحسن رحمه الله إن بكرا عاش عيش الأغنياء ومات موت الفقراء.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن مسعر قال مر الحسين بن علي على مساكين وقد بسطوا كساء وبين أيديهم كسرا فقالوا هلم يا أبا عبد الله فحول وركه وقرأ (إِنّهُ لَا يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) فأكل معهم ثم قال قد أجبتكم فأجيبوني فقال للرباب يعني امرأته أخرجي ما كنت تدخرين.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن صالح المري قال خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التواضع فقال لهما الحسن وهل تدرون ما التواضع التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلما إلا رأيت له عليك فضلا.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن يحيى بن كثير قال رأس التواضع ثلاث أن ترضى بالدون من شرف المجلس وأن تبدأ من لقيته بالسلام وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر.
فضل التواضع:
إن للتواضع فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهو نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهو من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات والتواضع يزيد الحكمة بنص السنة الصحيحة، وكفى بذلك فضلاً فإنه من يؤتى الحكمة فقد أُوتيَ خيراً كثيراً، والتواضع خلق حميد، وجوهر لطيف يستهوي القلوب، ويستثير الإعجاب والتقدير وهو من أخصّ خصال المؤمنين المتّقين، ومن كريم سجايا العاملين الصادقين، ومن شِيَم الصالحين المخبتين. التواضع هدوء وسكينة ووقار واتزان، التواضع ابتسامة ثغر وبشاشة وجه ولطافة خلق وحسن معاملة، بتمامه وصفائه يتميّز الخبيث من الطيب، والأبيض من الأسود والصادق من الكاذب، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، إن المتواضع يبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه، كريم الطبع، جميل العشرة، طلق الوجه، باسم الثغر رقيق القلب، متواضعا من غير ذلة، جواداً من غير سرف.
نعم .. فاقد التواضع عديم الإحساس، بعيد المشاعر، إلى الشقاوة أقرب وعن السعادة أبعد، لا يستحضر أن موطئ قدمه قد وطأه قبله آلاف الأقدام، وأن من بعده في الانتظار، فاقد التواضع لا عقل له، لأنه بعجبه وأنفته يرفع الخسيس، ويخفض النفيس، كالبحر الخضم تسهل فيه الجواهر والدرر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش. فاقد التواضع قائده الكبر وأستاذه العجب، فهو قبيح النفس ثقيل الطباع يرى لنفسه الفضل على غيره.
إن التواضع لله تعالى خُلُق يتولّد من قلب عالم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله. إن التواضع هو انكسار القلب للرب جل وعلا وخفض الجناح والذل والرحمة للعباد، فلا يرى المتواضع له على أحد فضلاً ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. فما أجمل التواضع، به يزول الكِبَرُ، وينشرح الصدر، ويعم الإيثار، وتزول القسوة والأنانية والتشفّي وحب الذات.
والكتاب والسنة طافحان بما يحث على التواضع وخفض الجناح وهاك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في ذلك.
قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان: 63] أي سكينة ووقارا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين.
قال الحسن: علماء حلماء.
وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا والهون بالفتح في اللغة: الرفق واللين و الهون بالضم: الهوان فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان والمضموم صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة على تضمينا لمعاني هذه الأفعال فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول فالمؤمن ذلول كما في الحديث: "المؤمن كالجمل الذلول والمنافق والفاسق ذليل وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق: الكذاب والنمام والبخيل والجبار" وقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هو من عزة القوة والمنعة والغلبة قال عطاء رضي الله عنه: للمؤمنين كالوالد لولده وعلى الكافرين كالسبع على فريسته كما قال في الآية الأخرى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وهذا عكس حال من قيل فيهم:
كبر علينا وجبنا عن عدوكم لبئست الخلتان الكبر والجبن
قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[سورة: الشعراء - الآية: 215]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عِياضِ بن حمار في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغي أحد على أحد
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(حديث أنس في الصحيحين) أنه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
(حديث الأسود بن يزيد في صحيح البخاري) قال سُئلت عائشةُ رضي الله تعالى عنها ما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِيَ إليَّ ذراعٍ أو كُرَاعٍ لقبلت
…
.
(حديث أنس في صحيح البخاري) قال: كانت ناقةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين فقالوا: سُبقت العضباء! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد مَلك فإذا تواضع قيل للمَلك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دَعْ حكمته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما من آدمي) من زائدة كما سبق وهي هنا تفيد عموم النفي وتحسين دخول ما على النكرة.
(إلا في رأسه حكمة) وهي بالتحريك ما يجعل تحت حنك الدابة يمنعها المخالفة كاللجام والحنك متصل بالرأس.
(بيد ملك) موكل به.
(فإذا تواضع) للحق والخلق.
(قيل للملك) من قبل اللّه تعالى.
(ارفع حكمته) أي قدره ومنزلته يقال فلان عالي الحكمة، فرفعها كناية عن الأعذار.
(فإذا تكبر قيل للملك ضع حكمته) كناية عن إذلاله فإن من صفة الذليل تنكيس رأسه فثمرة التكبر في الدنيا الذلة بين عباد اللّه وفي الآخرة نار الإيثار وهي عصارة أهل النار كما جاء في بعض الأخبار.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو جعفر الحذاء، قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال: إذا عرف الرجل قدر نفسه يصير عند نفسه أذل من الكلب.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت إنكم لتغفلون أفضل العبادة التواضع.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عون بن عبد الله قال كان يقال من كان في صورة حسنة وموضع لا يشينه ووسع عليه في الرزق ثم تواضع لله عز وجل كان من خالص الله عز وجل.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ صَالِحٌ ابن الإمام ألأحمد: كَانَ أَبِي إذَا دَعَا لَهُ رَجُلٌ يَقُولُ الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا.
وَقَالَ عَامِرٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّك رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ فَمِنْ أَيِّ الْعَرَبِ أَنْتَ؟ فَقَالَ لِي يَا أَبَا النُّعْمَانِ نَحْنُ قَوْمٌ مَسَاكِينُ وَمَا نَصْنَعُ بِهَذَا؟ فَكَانَ رُبَّمَا جَاءَنِي أُرِيدُهُ عَلَى أَنْ يُخْبِرَنِي فَيُعِيدُ عَلَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَلَا يُخْبِرُنِي بِشَيْءٍ.
وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إنَّ لِي وَالِدَةً مُقْعَدَةً تَسْأَلُك أَنْ تَدْعُوَ لَهَا قَالَ: فَغَضِبَ وَقَالَ: كَيْف قَصَدَتْنِي؟ قُلْ لِوَالِدَتِك تَدْعُو لِي ، هَذِهِ مُبْتَلَاةٌ ، وَأَنَا مُعَافًى. ثُمَّ دَعَا لَهَا وَعُوفِيَتْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَشْتَرِي مِنْ السُّوقِ الْخُبْزَ وَيَحْمِلُ بِنَفْسِهِ فِي الزِّنْبِيلِ ، وَرَأَيْتَهُ يَشْتَرِي الْبَاقِلَّا غَيْرَ مَرَّةً وَيَجْعَلُهُ فِي زُبْدِيَّةٍ أَوْ شَيْءٍ آخَرَ فَيَحْمِلُهُ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِهِ وَقَالَ صَالِحٌ كَانَ أَبِي رُبَّمَا خَرَجَ إلَى الْبَقَّالِ فَيَشْتَرِي جِرْزَةَ حَطَبٍ فَيَحْمِلُهَا.
{تنبيه} : التواضع تواضعان أحدهما محمود والآخر مذموم والتواضع المحمود ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم والتواضع المذموم هو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه، فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها.
أمورٌ من التواضع:
(1)
اتّهام النفس والاجتهاد في علاج عيوبها وكشف كروبها وزلاتها {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}
(2)
مداومة استحضار الآخرة واحتقار الدنيا، والحرص على الفوز بالجنة والنجاة من النار، وإنك لن تدخل الجنة بعملك، وإنما برحمة ربك لك.
(3)
التواضع للمسلمين والوفاء بحقوقهم ولين الجانب لهم، واحتمال الأذى منهم والصبر عليهم قال تعالى:(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الحجر / 88]
(4)
معرفة الإنسان قدره بين أهله من إخوانه وأصحابه ووزنه إذا قُورن بهم
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(5)
غلبة الخوف في قلب المؤمن على الرجاء، واليقين بما سيكون يوم القيامة
قال تعالى: {وبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر /47]
(6)
التواضع للدين والاستسلام للشرع، فلا يُعارض بمعقول ولا رأي ولا هوى.
(7)
الانقياد التام لما جاء به خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وأن يُعبد الله وفق ما أمر، وأن لا يكون الباعث على ذلك داعي العادة.
(8)
ترك الشهوات المباحة، والملذّات الكمالية احتساباً لله وتواضعاً له مع القدرة عليها، والتمكن منها
(حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.
معنى قوله (حلل الإيمان) يعني ما يعطى أهل الإيمان من حلل الجنة
(9)
التواضع في جنب الوالدين ببرّهما وإكرامهما وطاعتهما في غير معصية، والحنو عليهما والبِشْرُ في وجههما والتلطّف في الخطاب معهما وتوقيرهما والإكثار من الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما
قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} .
[الإسراء /24]
(10)
التواضع للمرضى بعيادتهم والوقوف بجانبهم وكشف كربتهم، وتذكيرهم بالاحتساب والرضا والصبر على القضاء
(11)
تفقّد ذوي الفقر والمسكنة، وتصفّح وجوه الفقراء والمحاويج وذوي التعفف والحياء في الطلب، ومواساتهم بالمال والتواضع لهم في الحَسَب، يقول بشر بن الحارث:"ما رأيت أحسن من غني جالسٍ بين يدي فقير".
التواضع في اللباس:
(حديث أبي أُمامةَ في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البذاذةُ من الإيمان.
(البذاذة): رثاثة الهيئة وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس إيثاراً للخمول بين الناس.
(حديث عائشة في الصحيحين) أنها أخرجت كساءاً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين.
(حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.
معنى قوله (حلل الإيمان) يعني ما يعطى أهل الإيمان من حلل الجنة.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن زيد بن وهب قال رأيت عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه خرج إلى السوق وبيده الدرة وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها آدم.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عن أنس قال رأيت بين كتفي عمر رحمه الله أربع رقاع.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أم عفيف قالت رأيت علي بن أبي طالب مؤتزرا ببرد أحمر من برود الحمالين فيه رقعة بيضاء.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عمر بن قيس أن عليا رضى الله تعالى عنه رئي عليه إزار مرقوع فعوتب في لبوسه فقال يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي سعيد رضيع عائشة قال دخلت عليها فرأيتها تخيط نقبة لها فقلت لها يا أم المؤمنين أليس قد أوسع الله عز وجل عليك قالت لا جديد لمن لا يلبس الخلق.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سعد بن الحسن التميمي قال كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده يعني من التواضع في الزي.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سعيد بن سويد من حرس عمر بن عبد العزيز قال صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد أعطاك فلو لبست وصنعت فنكس مليا حتى عرفنا أن ذلك قد ساءه ثم رفع رأسه إليه فقال إن أفضل القصد عند الجدة وأفضل العفو عند المقدرة.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سفيان الثوري يقول أنفع ثيابك لك أهونها عليك.
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم:
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم صنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِيَ إليَّ ذراعٍ أو كُرَاعٍ لقبلت
…
.
(حديث أنس في صحيح البخاري) قال: كانت ناقةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين فقالوا: سُبقت العضباء! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.
{تنبيه} : وكلما زاد تواضع طالب العلم زاد مقدار الحكمة عنده وتعلم العلم ومتى تكبر قلَّت حكمته ومنع العلم
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دع حكمته.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
(حديث عائشة رضي الله عنهاالثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و رسوله.
(حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي ضعفاء المسلمين و يزورهم و يعود مرضاهم و يشهد جنائزهم.
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس على الأرض و يأكل على الأرض و يعتقل الشاة و يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم".
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت الأمة من إماء أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت.
(حديث أبي مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد.
(القديد): هو اللحم المملح المجفف في الشمس
ما جاء في الخمول:
إن للخمول فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهو نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهو من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك.
(حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علىَّ أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك)
ومعنى يتألى عليَّ: أي يقسم ويحلف.
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حَوْضِي مِنْ عَدَنَ إِلَى عَمَّانَ الْبَلْقَاءِ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَأَكَاوِيبُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ "الشُّعْثُ رُءُوسًا الدُّنْسُ ثِيَابًا" الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ وَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ السُّدَدُ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(إِلَى عُمَانَ الْبَلْقَاءِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَخِفَّةِ الْمِيمِ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ لَا بِفَتْحِهَا وَشَدِّ الْمِيمِ فَإِنَّهَا قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، وَقِيلَ بَلْ هِيَ الْمُرَادَةُ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ. وَقَالَ الْحَافِظُ: عَمَّانُ هَذِهِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ لِلْأَكْثَرِ وَحُكِيَ تَخْفِيفُهَا وَتُنْسَبُ إِلَى الْبَلْقَاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا وَالْبَلْقَاءُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا قَافٌ وَبِالْمَدِّ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ مِنْ فِلَسْطِينَ (وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ) أَيِ الَّذِي مِنْهُ الجزء السابع (وَأَكْوَابُهُ) جَمْعُ كُوبٍ وَهُوَ الْكُوزُ الَّذِي لَا عُرْوَةَ لَهُ عَلَى مَا فِي الشُّرُوحِ، أَوْ لَا خُرْطُومَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ عَدَدُ أَكْوَابِهِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ (أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْحَوْضِ (فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ) الْمُرَادُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم سَيِّدُهُمْ (الشُّعْثُ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ أَشْعَثَ بِالْمُثَلَّثَةِ أَيِ الْمُتَفَرِّقُو الشَّعْرِ (رُءُوسًا) تَمْيِيزٌ (الدُّنْسُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ يُسَكَّنُ الدُّنْسُ وَهُوَ الْوَسَخُ (الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيِ الَّذِينَ لَا يَتَزَوَّجُونَ (الْمُتَنَعِّمَاتِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ التَّنَعُّمِ، وَقِيلَ هُوَ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْكَافِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَوْ خَطَبُوا الْمُتَنَعِّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ لَمْ يُجَابُوا (وَلَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ) بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْأُولَى الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ سُدَّةٍ وَهِيَ بَابُ الدَّارِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَدْخَلَ يُسَدُّ بِهِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ دَقُّوا الْأَبْوَابَ وَاسْتَأْذَنُوا الدُّخُولَ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ وَلَمْ يُؤْذَنْ.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن عبد الله بن المبارك قال:
ألا رب ذي طمرين في منزل غدا
…
زرابيه مبثوثة ونمارقه
قد أطردت أنهاره حول قصره
…
وأشرق والتفت عليه حدائقه
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن محمد بن المنكدر قال كنت في المسجد فإذا أنا برجل عند المنبر يدعو بالمطر فجاء المطر بصوت ورعد فقال يا رب ليس هكذا قال فمطرت فتبعته حتى تدخل دار حزم أو آل عمر فعرفت مكانه فجئت من الغد فعرضت عليه شيئا فأبى وقال لا حاجة لي بهذا فقلت فحج معي فقال هذا شيء لك فيه أجر فأكره أن أنفس عليك وأما شيء آخذه فلا.
[*] وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن ابن مسعود قال كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل "جدد القلوب خلقان الثياب" تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض.
[*] وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم وسلوا الله رزق يوم بيوم وعدوا أنفسكم مع الموتى ولا يضركم ألا يكثر لكم.
[*] وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن إبراهيم بن أدهم قال: ما فزت في الدنيا قط إلا مرة بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان في البطن فجر المؤذن رجلي حتى أخرجني من المسجد.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: كان يقال كن شاهداً لغائب ولا تكن غائباً لشاهد، قال: كأنه يقول: إذا كنت في جماعة الناس فأخف شخصك وأحضر قلبك وسمعك، وعما تسمع، فهذا شاهد لغائب، ولا تكن غائباً لشاهد، قال: كأنه يقول: تحضر المجالس بيديك وسمعك وقلبك لاه ساه، قال: وسمعت الفضيل يقول: عامة الزهد في الناس- يعني إذا لم يحب ثناء الناس عليه ولم يبال بمذمتهم-وسمعته يقول: إن قدرت أن لا تعرف فافعل وما عليك أن لم يثن عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت عند الله محموداً، وسمعته يقول: من أحب أن يذكر لم يذكر ومن كره أن يذكر ذكر.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل، كلام المؤمن حكم، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر، وإذا كنت كذا لم تزل في عبادة.
ما جاء في الشهرة:
إن الحرص على الشهرة داءٌ وبيل، بل وهو داءٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ حِرْصًا عَلَى الشَّيْءِ وَنَشَاطًا وَرَغْبَةً فِي الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ (وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ أَيْ وَهَنًا وَضَعْفًا وَسُكُونًا (فَإِنْ) شَرْطِيَّةٌ (صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ) أَيْ جَعَلَ صَاحِبُ الشِّرَّةِ عَمَلَهُ مُتَوَسِّطًا وَتَجَنَّبَ طَرَفَيْ إِفْرَاطِ الشِّرَّةِ وَتَفْرِيطِ الْفَتْرَةِ (فَأَرْجُوهُ) أَيْ أَرْجُو الْفَلَاحَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ الدَّوَامُ عَلَى الْوَسَطِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدُومُهَا (وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ) أَيِ اجْتَهَدَ وَبَالَغَ فِي الْعَمَلِ لِيَصِيرَ مَشْهُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَسَارَ مَشْهُورًا مُشَارًا إِلَيْهِ (فَلَا تَعُدُّوهُ) أَيْ لَا تَعْتَدُّوا بِهِ وَلَا تَحْسَبُوهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لِكَوْنِهِ مُرَائِيًا، وَلَمْ يَقُلْ فَلَا تَرْجُوهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قَدْ سَقَطَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ تَدَارُكُ مَا فَرَّطَ.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي بكر بن الفضل قال سمعت أيوب يقول ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن به محمد بن العلاء وإذا فيه يا أخي من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سفيان قال: كثرة الإخوان من سخافة الدين.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عثمان بن زائدة يقول كان يقال إذا رأيت الرجل كثير الأخلاء فاعلم أنه مخلط.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن فضالة بن صيفي قال كتب أبان بن عثمان إلى بعض إخوانه إن أحببت أن يسلم لك دينك فاقل من المعارف.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي بكر بن عياش قال سألت الأعمش كم رأيت أكثر ما رأيت عند إبراهيم قال أربعة خمسة.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي رجاء قال رأى طلحة قوما يمشون معه أكثر من عشرة فقال ذبان طمع وفراش النار.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سليم بن حنظلة قال بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة فقال انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع فقال إن هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال خرج بن مسعود ذات يوم من منزله فاتبعه الناس فالتفت إليهم فقال علام تتبعوني والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن إبراهيم قال لا تلبس من الثياب ما يشتهرك الفقهاء ولا يزدريك السفهاء.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سفيان الثوري قال كانوا يكرهون الشهرتين الثياب الجياد التي يشتهر فيها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستذل دينه.
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لبس ثوبَ شُهْرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مَذَلةٍ ثم يُلْهِبُ فيه النار.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال إن أقواما جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم فصاحب الكساء بكسائه أعجب من صاحب المطرف بمطرفه ما لم تفاقروا.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن ابن عمر أنه رأى على ابنه ثوبا قبيحا دونا فقال لا تلبس هذا فإن هذا ثوب شهرة
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن بن عبيد قال قال رجل لبشر بن الحارث أوصني قال أخمل ذكرك وطيب مطعمك.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال كان حوشب يبكي ويقول بلغ اسمي مسجد الجامع.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن بشر بن الحارث رحمه الله أنه قال: لا أعلم رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح قال وقال بشر بن الحارث لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس.
ذم الكبر:
الكبر والعياذ بالله داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل،
والتكبر هو: التعالي على اللَّه سبحانه، وهذا كفر باللَّه، أو على رسوله أو الإمام، وهذا كفر بالرسول أو الإمام، أو على المؤمنين، وهذا هو التكبُّر المألوف بين المسلمين الذين لم يهذِّبوا أنفسهم، وهي معصية عظيمة.
وفرق التكبُّر عن الكِبر هو: أنّ الكِبْر مجرد تعاليه على غيره في نفسه. أمّا التكبُّر فهو: إظهار الكِبْر وإبرازه بجوارحه. وفرق الكبر عن العُجْب: أن الكِبْر يكون بالقياس إلى غيره، وهو اللَّه أو الرسول والإمام أو المؤمنون. والعُجْب ما يكون في الإنسان من رؤيته إلى نفسه بالعظمة والزهو والتبختر بذلك ولو من دون قياس بغيره، وهذا - أيضاً - من المعاصي العظيمة.
وقد ذم الله تعالى الكبر في كتابه في أكثر من موضع، قال تعالى:
قال تعالى: (وَلَا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)[الإسراء / 37]
[*] قال ابن كثير رحمه الله:
يقول تعالى ناهيا عباده عن التجبر والتبختر في المشية
(وَلَا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً) أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): أي لن تقطع الأرض بمشيك
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده كما ثبت في الصحيح
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي في حُلةٍ تُعْجِبْه نَفْسُه مُرَّجِلٍ رأسَه إذ خسف الله به فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض
وفي الحديث " من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير ومن استكبر وضعه الله في نفسه كبير وعند الناس حقير حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير.
[*] قال القرطبي رحمه الله:
(وَلَا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً) هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأشر.
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها ويقال: خرق الثوب أي شقه ، وخرق الأرض قطعها. والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك. " ولن تبلغ الجبال طولا " بعظمتك ، أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ ، بل أنت عبد ذليل ، محاط بك من تحتك ومن فوقك ، والمحاط محصور ضعيف ، فلا يليق بك التكبر.
[*] قال الطبري رحمه الله:
(وَلَا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً): ولا تمش في الأرض مختالا مستكبرا
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): إنك لن تقطع الأرض باختيالك
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) بفخرك وكبرك
قال تعالى: (وَلَا تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[لقمان / 18]
إن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر، إنما هو في حقيقة الأمر معتدٍ على مقام الألوهية، طالباً لنفسه العظمة والكبرياء، متناسياً جاهلاً حق الله تعالى عليه، من عصاة بني البشر، متجرِّئٌ على مولاه وخالقه ورازقه، منازع إياه صفة من صفات كماله وجلاله وجماله، إذ الكبرياء والعظمة له وحده.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحاسدوا و لا تناجشوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و لا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخْذُلُه و لا يَحْقره التقوى هاهنا - و أشار إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ.
(حديث جندب بن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.
(حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ جعظري مستكبر.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون.
(العتل): الغليظ الجافي.
(الجواظ): الذي جمع ومنع،
(المستكبر): المتعاظم في نفسه، الذي يرد الحق، ويحتقر الناس كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غمطُ الناس.
بَطَرُ الحقِ: التكبر على الحق وعدم قبوله
غمطُ الناس: احتقارهم وازدرائهم
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ما من رجل يتعاظم في نفسه و يختال في مشيته إلا لقي الله تعالى و هو عليه غضبان.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الأحنف بن قيس أنه كان يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره فجاء يوما ومصعب ماد رجليه فلم يقبضهما وقعد الأحنف فزحم بعض الزحم فرأى ذلك فيه فقال عجبا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال من خصف نعليه ورقع ثوبه وعفر وجهه لله عز وجل فقد بريء من الكبر.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن يحيى بن جعدة قال من وضع وجهه لله عز وجل ساجدا فقد بريء من الكبر.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة يقول: من رأى أنه خير من غيره فقد استكبر، وذاك أن إبليس إنما منعه من السجود لآدم عليه السلام استكباره.
أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال من كانت معصيته في الشهوة فأرج له ومن كانت معصيته في الكبر فأخش عليه فإن آدم عصى مشتهيا فغفر له وإبليس متكبرا فَلُعِن.
أسباب الكبر:
لِلْكِبْرِ أَسْبَابٌ منها ما يلي:
(1)
مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِهِ عُلُوُّ الْيَدِ، وَنُفُوذُ الأمْرِ، وَقِلَّةُ مُخَالَطَةِ الأكْفَاءِ.
أورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا عن أَنَّ قَوْمًا مَشَوْا خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَقَالَ: أَبْعِدُوا عَنِّي خَفْقَ نِعَالِكُمْ فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِقُلُوبِ نَوْكَى الرِّجَالِ، وَمَشَوْا خَلْفَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ ارْجِعُوا فَإِنَّهَا زِلَّةٌ لِلتَّابِعِ وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ.
(حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد.
قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم حَسْمًا لِمَوَادِّ الْكِبْرِ، وَقَطْعًا لِذَرَائِعِ الاعْجَابِ، وَكَسْرًا لِأَشَرِ النَّفْسِ، وَتَذْلِيلًا لِسَطْوَةِ الاسْتِعْلَاءِ.
وأورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ نَادَى الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرْعَى عَلَى خَالاتِ لِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَيَقْبِضُ لِي الْقَبْضَةَ مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَأَظَلُّ الْيَوْمَ وَأَيَّ يَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِدْتَ عَلَى أَنْ قَصَّرْتَ بِنَفْسِك. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَيْحَك يَا ابْنَ عَوْفٍ إنِّي خَلَوْت فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي، فَقَالَتْ أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ ذَا أَفْضَلُ مِنْك فَأَرَدْتُ أَنْ أُعَرِّفَهَا نَفْسَهَا.
ذم الاختيال:
إن الاختيال داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينظرُ الله إلى من جرَّ إزاره بطراً.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر: يا رسول اللّه إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له: إنك لست ممن يفعله خيلاء.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي في حُلةٍ تُعْجِبْه نَفْسُه مُرَّجِلٍ رأسَه إذ خسف الله به فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال تلقى أحدهم يتحرك في مشيته يسحب عظامه عظما عظما لا يمشي بطبيعته.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه بن الأهتم يريد المقصورة وعليه جباب خز قد نضد بضعها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباه وهو يمشي يتبختر إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال أف لك شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أي حميق أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله عز وجل فيها ولا المؤدي حق الله منها والله إن يمشي أحدهم طبيعته أن يتخلج تخلج المجنون، في كل عضو من أعضائه لله نعمة وللشيطان به لعنة فسمع بن الأهتم فرجع يعتذر فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك عز وجل أما سمعت قوله تعالى:(وَلَا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)[الإسراء: 37]
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن محمد بن واسع أنه رأى ابنا له يخطر بيده فدعاه فقال تدري من أنت أما أمك فاشتريتها بمئتي درهم وأما أبوك فلا أكثر الله عز وجل في المسلمين ضربه.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن جميل بن زيد قال رأى بن عمر رجلا يجر إزاره فقال إن للشيطان إخوانا مرتين أو ثلاثا.
أسباب الإعجاب والاختيال:
مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِهِ كَثْرَةُ مَدِيحِ الْمُتَقَرِّبِينَ وَإِطْرَاءِ الْمُتَمَلِّقِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا النِّفَاقَ عَادَةً وَمَكْسَبًا، وَالتَّمَلُّقَ خَدِيعَةً وَمَلْعَبًا، فَإِذَا وَجَدُوهُ مَقْبُولًا فِي الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ أَغْرَوْا أَرْبَابَهَا بِاعْتِقَادِ كَذِبِهِمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال: أثنى رجلٌ على رجلٍ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ويلك! قطعت عنق صاحبك، مراراً، ثم قال: من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحْسِبُ فلانا و الله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسِبه كذا و كذا إن كان يعلم ذلك منه.
(حديث المقداد الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجههم التراب.
(حديث معاوية الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والتمادحَ فإنه الذبح.
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: قَابِلُ الْمَدْحِ كَمَادِحِ نَفْسِهِ.
وَرُبَّمَا آلَ حُبُّ الْمَدْحِ بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَصِيرَ مَادِحَ نَفْسِهِ، إمَّا لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ غَفَلُوا عَنْ فَضْلِهِ، وَأَخَلُّوا بِحَقِّهِ. وَإِمَّا لِيَخْدَعَهُمْ بِتَدْلِيسِ نَفْسِهِ بِالْمَدْحِ وَالإطْرَاءِ، فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ مُتَّبَعٌ، وَصِدْقٌ مُسْتَمَعٌ. وَإِمَّا لِتَلَذُّذِهِ بِسَمَاعِ الثَّنَاءِ وَسُرُورِ نَفْسِهِ بِالْمَدْحِ وَالإطْرَاءِ، مَا يَتَغَنَّى بِنَفْسِهِ طَرَبًا إذَا لَمْ يَسْمَعْ صَوْتًا مُطْرِبًا وَلَا غِنَاءً مُمْتِعًا. وَلِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ جهل صَّرِيحُ، ونقص الْقَبِيحُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا شَرَفٌ أَنْ يَمْدَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَلَكِنَّ أَعْمَالا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ
وَمَا كُلُّ حِينٍ يَصْدُقُ الْمَرْءُ ظَنُّهُ وَلَا كُلُّ أَصْحَابِ التِّجَارَةِ يَرْبَحُ
وَلَا كُلُّ مَنْ تَرْجُو لِغَيْبِك حَافِظًا وَلَا كُلُّ مَنْ ضَمَّ الْوَدِيعَةَ يَصْلُحُ
وَهَذَا أَمْرٌ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَضْبِطَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَسْتَفِزَّهَا، وَيَمْنَعَهَا مِنْ تَصْدِيقِ الْمَدْحِ لَهَا، فَإِنَّ لِلنَّفْسِ مَيْلًا لِحُبِّ الثَّنَاءِ وَسَمَاعِ الْمَدْحِ، فَإِذَا سَامَحَ نَفْسَهُ فِي مَدْحِ الصَّبْوَةِ، وَتَابَعَهَا عَلَى هَذِهِ الشَّهْوَةِ، تَشَاغَلَ بِهَا عَنْ الْفَضَائِلِ الْمَمْدُوحَةِ، وَلَهَا بِهَا عَنْ الْمَحَاسِنِ الْمَمْنُوحَةِ، فَصَارَ الظَّاهِرُ مِنْ مَدْحِهِ كَذِبًا، وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَمِّهِ صِدْقًا، وَعِنْدَ تَقَابُلِهِمَا يَكُونُ الصِّدْقُ أَلْزَمَ الأمْرَيْنِ. وَهَذِهِ خُدْعَةٌ لَا يَرْتَضِيهَا عَاقِلٌ وَلَا يَنْخَدِعُ بِهَا مُمَيِّزٌ. وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ بِالْمَدْحِ يُسْرِفُ مَعَ الْقَبُولِ وَيَكُفُّ مَعَ الإبَاءِ، فَلَا يَغْلِبُهُ حُسْنُ الظَّنِّ عَلَى تَصْدِيقِ مَدْحٍ هُوَ أَعْرَفُ بِحَقِيقَتِهِ وَلْتَكُنْ تُهْمَةُ الْمَادِحِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ. فَقَلَّ مَدْحٌ كَانَ جَمِيعُهُ صِدْقًا، وَقَلَّ ثَنَاءٌ كَانَ لَهُ حَقًّا. وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَهْلُ الْفَضْلِ أَنْ يُطْلِقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ تَحَرُّزًا مِنْ التَّجَاوُزِ فِيهِ، وَتَنْزِيهًا عَنْ التَّمَلُّقِ بِهِ.
غضب عمر رضي الله عنه على مدح المسلم:
وأخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا قعوداً عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدخل عليه رجل فسلَّم عليه، فأثنى عليه رجل من القوم في وجهه، فقال عمر: عَقَرتَ الرجل عقَرك الله، تثني عليه في وجهه في دينه، كذا في الكنز. وعند ابن أبي الدنيا في الصمت عن الحسن أن رجلاً أثنى على عمر رضي الله عنه فقال: تهلكني وتهلك نفسك كذا في الكنز.
قصة عمر رضي الله عنه مع الجارود:
وأخرج ابن أبي الدنيا في الصمت عن الحسن قال: كان عمر رضي الله عنه قاعداً ومعه الدِّرَّة والناس حوله إذا أقبل الجارود رضي الله عنه، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعه عمر ومن حوله وسمعه الجارود، فلما دنا منه خَفَقَه بالدِّرَّة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ فقال: مالي ولك؟ أمَا لقد سمعتها، قال: سمعتها فَمْه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطىء منك. كذا في الكنز.
عمل ابن عمر رضي الله عنهما وقوله في هذا الأمر:
وأخرج البخاري في الأدب (ص51) عن عطاء بن أبي رباح أن رجلاً كان يمدح رجلاً عند ابن عمر رضي الله عنهما، فجعل ابن عمر يحثو التراب نحو فيهِ وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم المدَّحين فاحثُوا في وجوههم التراب". وعند أحمد والطبراني عن عطاء بن أبي رباح قال: كان رجل يمدح ابن عمر رضي الله عنهما يقول هكذا: يحثو في وجهه التراب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوههم التراب". قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح. اهـ.
وعند أبي نُعَيم في الحلية عن نافع رضي الله عنه وغيره أن رجلاً قال لابن عمر رضي الله عنهما: يا خير الناس ـ أو: يا ابن خير الناس ـ فقال ابن عمر: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله أرجو الله تعالى وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل ليخرج ومعه دينه فيرجع وما معه شيء منه، يأتي الرجلَ لا يملك له ولا لنفسه ضَراً ولا نفعاً فيقسم له بالله: لأنت وأنت فيرجع ما حلَّ من حاجته بشيء وقد أسخط الله عليه. قال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدهما رجال الصحيح.
وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرْشِدَ إخْوَانَ الصِّدْقِ الَّذِينَ هُمْ أَصْفِيَاءُ الْقُلُوبِ، وَمُرَائِي الْمَحَاسِنِ وَالْعُيُوبِ، عَلَى مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاوِئِهِ الَّتِي صَرَفَهُ حَسَنُ الظَّنِّ عَنْهَا. فَإِنَّهُمْ أَمْكَنُ نَظَرًا، وَأَسْلَمُ فِكْرًا، وَيَجْعَلُونَ مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاوِئِهِ عِوَضًا عَنْ تَصْدِيقِ الْمَدْحِ فِيهِ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن مرآة المؤمن و المؤمن أخو المؤمن يكفُّ عليه ضيعته و يحُوطُه من ورائه.
أورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إلَيْنَا مَسَاوِئَنَا.
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: أَتُحِبُّ أَنْ تُهْدَى إلَيْك عُيُوبُك؟ قَالَ: نَعَمْ، مِنْ نَاصِحٍ.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ أَظْهَرَ عَيْبَ نَفْسِهِ فَقَدْ زَكَّاهَا.
فَإِذَا قَطَعَ أَسْبَابَ الْكِبْرِ وَحَسَمَ مَوَادَّ الْعُجْبِ اعْتَاضَ بِالْكِبْرِ تَوَاضُعًا وَبِالْعُجْبِ تَوَدُّدًا. وَذَلِكَ مِنْ أَوْكَدَ أَسْبَابِ الْكَرَامَةِ وَأَقْوَى مَوَادِّ النِّعَمِ وَأَبْلَغِ شَافِعٍ إلَى الْقُلُوبِ يَعْطِفُهَا إلَى الْمَحَبَّةِ وَيُثْنِيهَا عَنْ الْبُغْضِ.
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ: التَّوَاضُعُ مَصَائِدُ الشَّرَفِ.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ دَامَ تَوَاضُعُهُ كَثُرَ صَدِيقُهُ. وَقَدْ تُحْدِثُ الْمَنَازِلُ وَالْوِلَايَاتُ لِقَوْمٍ أَخْلَاقًا مَذْمُومَةً يُظْهِرُهَا سُوءُ طِبَاعِهِمْ، وَلِآخَرِينَ فَضَائِلَ مَحْمُودَةً يَبْعَثُ عَلَيْهَا زَكَاءُ شِيَمِهِمْ؛ لِأَنَّ تَقَلُّبَ الأحوالِ سَكَرَةٌ تُظْهِرُ مِنْ الأخْلَاقِ مَكْنُونَهَا، وَمِنْ السَّرَائِرِ مَخْزُونَهَا، لَا سِيَّمَا إذَا هَجَمَتْ مِنْ غَيْرِ تَدْرِيجٍ وَطَرَقَتْ مِنْ غَيْرِ تَأَهُّبٍ.
مسألة: ما الفرق بين الكبر والعجب؟
الكبر أن يحتقر الناس ويرى أنه فوقهم، والعجب أن ينظر إلى نفسه معجباً بها.
(8)
حسن الخلق:
طوبى لمن ألبسه الله ثوب حسن الخلق، فإنه ما من رجلٌ أُثر عنه ذلك، إلا طاب ذكره عند الناس، ورُفع قدره بينهم. وحسن الخلق هو بسط الوجه، واحتمال الأذى، وكظم الغيظ، وغير ذلك من المعاني والخصال الحميدة. قال ابن منصور: سألت أبا عبد الله: عن حسن الخلق: قال: أن لا تغضب ولا تحتد
…
وقال إسحاق بن راهويه: هو بسط الوجه وأن لا تغضب ونحو ذلك، ذكره الخلال
…
وروى الخلال عن سلام بن مطيع في تفسير حسن الخلق، فأنشد هذا البيت:
تراه إذا ما جئته متهللاً
…
كأنك معطيه الذي أنت سائله (1).
وخير الناس أحسنهم خلقاً بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(خياركم أحسنكم أخلاقا)(2). وكان من دعائه في الاستفتاح صلى الله عليه وآله وسلم (واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)(3).
ومن كان كذلك أحبه الناس، ورغبوا في مجلسه ومجالسته، واستأنسوا بحديثه، وبضده صاحب الخلق السيء؛ فحديثه ممل، ومجلسه ينفر عنه الناس، وهو مبغوضٌ ثقيل على القلب.
(1). الآداب الشرعية (2/ 191) بتصرف.
(2)
. رواه البخاري (6035)، وأحمد (6468)، والترمذي (1975)
(3)
. رواه مسلم (771)، وأحمد (805)، والترمذي (3421)، والنسائي (897)، وأبو داود (760)، والدارمي (1238)
أورد ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية عن الفضيل بن عياض أنه قال: من ساء خلقه ساء دينه، وحسبه ومودته (1).
ومعاشرة الإخوان لها نصيب من ذلك كبيرٌ، فبحسن الخلق تدوم العشرة، وتأتلف القلوب، وتُسل السخائم من الصدور. فحريٌ بالإخوان أن يبسطوا وجوههم لإخوانهم، وأن ينتقوا أطايب الكلام لهم، وأن يغضوا عن هناتهم وزلاتهم ويلتمسوا لهم المعاذير.
فضلُ حسن الخلق:
إن حسن الخلق له أهمية بالغة، وأثراً كبيراً في حياة الأفراد والجماعات والأمم؛ فالأخلاق الحسنة سبب للسعادة في الدنيا والآخرة، وعامل مهم من عوامل النجاح للأفراد والمؤسسات، ورافد مهم من روافد نهضة الأمم، "ولما كانت الأمة الإسلامية متمسكةً بأخلاقها دانت لها الأمم"، حتى إن كثيراً من البلاد دخلت في دين الله حين رأوا أخلاق المسلمين الحسنة ومعاملتهم الطيبة، وأمانتهم العظيمة، إن من مقاصد البعثة المحمدية إتمام صالح الأخلاق، فإن الله بعث محمداً على حين فترة من الرسل ليتم به صالح الأخلاق وفاضلها، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
قال تعالى مثنياً على نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم / 4]
(حديث أنس في الصحيحين) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً.
(حديث أنس في الصحيحين) قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخذ أبو طلحة بيدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أنساً غلامٌ كيسٌ فليخدمك، قال: فخدمته في الحضر والسفر فوالله ما قال لي لشيءٍ صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِمَ صَالِحَ الأَخْلَاق.
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين) قال لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً.
(1). الآداب الشرعية (2/ 191)
وقد جعل الله تزكية النفوس وإصلاحها بالفضائل والمكرمات إحدى وظائف النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] أيها المؤمنون إن شأن الأخلاق عظيم في هذه الشريعة المباركة إذ هي مبنية على القيام بحقوق الله تعالى والقيام بحقوق العباد ابتغاء وجه الله تعالى، فبقدر ما معك من استقامة الخلق بقدر ما معك من استقامة الدين قال الله تبارك و تعالى في بيان أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدق نبوته:
(وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ)[سورة: القلم - الآية: 4]
قال ابن عباس: أي على دين عظيم.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخلق من دلائل كمال الإيمان:
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أَكْمَلُ المُؤْمِنِيْنَ إِيْمَانَاً أَحْسَنُهُم خُلِقَا المُوَطَئُونَ أَكْنَافَاً الذِيْنَ يَأْلَفُوْنَ وَيُؤْلَفُوْنَ وَلَا خَيْرَ فِيْمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ.
قال ابن الجوزي: التوطئة التذليل والتمهيد. يُقال: فراش وطيء وثير، لا يُؤذِي جنب النائم.
وقال ابن الأثير: هذا مَثَل، وحقيقته من التوطئة، وهي التمهيد والتذليل، وفراش وطيء لا يُؤذِي جنب النائم، والأكناف الجوانب، أراد الذين جوانبهم وطيئة يَتَمَكَّن فيها من يُصَاحِبهم ولا يتأذى. اهـ.
فالمقصود بـ (الموطئون أكنافا): أي عندهم لين جانب يألفون ويؤلفون.
وهذا المثل المضروب للمؤمنين يُفسِّره ما جاء في الحديث نفسه، إذ جاء فيه:
إن أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقا، الموطَّؤون أكنافاً، الذين يَألفون ويُؤلفون.
ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: المؤمن كالجمل الأنف حيثما انْقِيد انْقَاد.
(حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا قال قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد.
فهذا يعني أن المؤمن يَألَف ويُؤلَف، وليس بِفظِّ ولا غليظ، فإن شرّ الناس من تَرَكه الناس مَخافَة فُحشِه.
(حديث جابر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن يألف و يؤلف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف و خير الناس أنفعهم للناس.
حسن الخلق أيها المؤمنون صفة من صفات الأنبياء والصديقين والصالحين، بها تنال الدرجات، وترفع المقامات، وهو واجب من الواجبات الدينية، وفريضة من الفرائض الشرعية، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن نخالق الناس بخلقٍ حسن:
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
أيها المؤمنون إن لحسن الخلق وطيب الشيم فضائل عديدة في الكتاب والسنة وكلام الأئمة
فمن فضائل حسن الخلق امتثال أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) فإن هذه الآية أجمع آية لمكارم الأخلاق وأصول الفضائل.
ومن فضائل حسن الخلق الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كل الخير والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة مرتهنة بالاقتداء به واتباع سنته، وهو صلى الله عليه وسلم أجمل الناس خلقاً، وأطيبهم شيماً قال الله تعالى:(وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ)[سورة: القلم - الآية: 4]
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) قالت: كَانَ خُلُقٌهُ القُرْآن.
ومن فضائل حسن الخلق أيها المؤمنون أن به يبلغ المؤمن درجة الصائم القائم:
(1) الأعراف:199.
(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ.
ومن فضائل حسن الخلق أيها المؤمنون أنه يثقل ميزان العبد يوم القيامة:
(حديث أبي الدرداء الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ.
ومن فضائل حسن الخلق أن حسن الخلق من أكثر الأشياء التي تكون سبباً في دخول الإنسان الجنة:
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يُدخل الناس النار؟ فقال الفم والفرج.
ومن فضائل حسن الخلق أنه من أسباب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة:
(حديث جابر الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من أحبكم إلي و أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا و إن من أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون و المتشدقون و المتفيهقون قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون.
عباد الله إن خيرية الرجل لا تقاس بصلاته وصيامه فحسب بل لا بد من النظر في أخلاقه وشيمه:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) قال لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقَاً.
ومن فضائل حسن الخلق أن النبي صلى الله عليه وسلم يضمن بيتاً في أعلى الجنة لمن حسن خلقه:
(حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا، و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا، و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
معنى زعيم: أي ضمين
معنى ربض الجنة: حولها خارجٌ عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدن.
ومن فضائل حسن الخلق أنه يجمع خصال الخير كلها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث النواس ابن سمعان في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البر حسن الخلق و الإثم ما حاك في صدرك و كرهت أن يطلع عليه الناس.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة وبمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق. أهـ
(البر) بالكسر أي الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبر في تغذية البدن وقوله البر أي معظمه فالحصر مجازي وضده الفجور والإثم ولذا قابله به وهو بهذا المعنى عبارة عما اقتضاه الشارع وجوباً أو ندباً والإثم ما ينهى عنه وتارة يقابل البر بالعقوق فيكون هو الإحسان والعقوق الإساءة.
(حسن الخلق) أي التخلق مع الخلق والخالق والمراد هنا المعروف وهو طلاقة الوجه وكف الإذى وبذل النداء وأن يحب للناس ما يحب لنفسه وهو راجع التفسير [ص 218] أهـ
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين "(1).
قَالَ الاحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: ألا أُخْبِرُكُمْ بِأَدْوَأِ الدَّاءِ؟ قَالُوا بَلَى. قَالَ الْخُلُقُ الدَّنِيُّ وَاللِّسَانُ الْبَذِيُّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ ضَاقَ رِزْقُهُ. وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرَةٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْحَسَنُ الْخُلُقِ مَنْ نَفْسُهُ فِي رَاحَةٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي سَلَامَةٍ. وَالسَّيِّئُ الْخُلُقِ النَّاسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ، وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي عَنَاءٍ،
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عَاشِرْ أَهْلَك بِأَحْسَنِ أَخْلَاقِك فَإِنَّ الثَّوَاءَ فِيهِمْ قَلِيلٌ.
قال يحيى بن معاذ: " في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق"(2).
وقال الجنيد: " أربع ترفع العبد إلى أعلى الدرجات وإن قل عمله وعلمه: الحلم والتواضع والسخاء وحسن الخلق، وهو كمال الإيمان"(3).
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: إذا خالطت فخالط حسن الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة، ولا تخالط سيىء الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى شر وصاحبه منه في عناء.
كمال خلق النبي صلى الله عليه وسلم:
مسألة: من أحسن الخلق أخلاقا؟
أحسن الخلق أخلاقا هو النَّبِيُّ وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(1) مدارج السالكين 2/ 320.)
(2)
إحياء علوم الدين 3/ 57.
(3)
إحياء علوم الدين 3/ 57.
قال تعالى مثنياً على نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ)[سورة: القلم - الآية: 4]
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) قالت: كَانَ خُلُقٌهُ القُرْآن.
[*] قال المناوي في فيض القدير:
أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك. وقال القاضي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن. فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به، وكل ما استهجنه ونهى عنه تجنبه وتخلى عنه. فكان القرآن بيان خلقه. انتهى. وقال في الديباج: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته. أهـ
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس خلقا في جميع محاسن الأخلاق وجميل الخصال والأفعال. والحوادث والوقائع التي وقعت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، تدل على حسن خلقه.
وهاك لمحات سريعة في إيجازٍ غير مُخِّل لمظاهر حسن خلق النبي في شتى المجالات:
خُلُقُ النبي في بيته:
مدارته مع أهله:
(حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي.
يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ: يتغيبن منه ويدخلن من وراء الستر.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) أنها: كانت مع النبي في سفر قالت فَسَابَقْتُه فَسَبَقْتُه على رجلي فلما حملت اللحم َسَابَقْتُه فَسَبَقَنِي فقال هذه بتلك.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل شيء ليس من ذكر الله لهو و لعب إلا أن يكون أربعة: ملاعبة الرجل امرأته و تأديب الرجل فرسه و مشي الرجل بين الغرضين و تعليم الرجل السباحة.
(حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ.
تواضعه في بيته:
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال سُئلت عائشةُ رضي الله تعالى عنها ما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
حسن خلق النبي مع أصحابه:
محبة النبي لأصحابه وملاطفته لهم والبشاشة في وجوههم والسؤال عن أحوالهم، وتطييب وخواطرهم؟ وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث جَرِيرٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي.
ولما اختصم علي وزيد وجعفر في ابنة حمزة رضي الله عنهم قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها فاطمة وقال: ((الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ))، وَقَالَ لِعَلِيٍّ:((أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ)). وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: ((أشبهت خَلقي وخُلقي)). وَقَالَ لِزَيْدٍ: ((أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا)) (1).
(1) أخرجه البخاري 7/ 624 ح 4251.
(حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَقِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَامَ مَعَهُ قَامَ مَعَهُ فَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَى يَكُونَ الرَجُلُ هُوَ الَذِي يَنْصَرِفُ عَنْهُ وَإِذَا لَقِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَتَنَاوَلَ يَدَهُ نَاوَلَهُ إِيَاهَا فَلَمْ يَنْزِع يَدَهُ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هو الذي يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْهُ وَإِذَا لَقِيِ أَحَدَاً مِنْ أَصْحَابِهِ فَتَنَاوَلَ أُذُنَهُ نَاوَلَهُ إِيَاهَا ثُمَّ لَمْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هو الذي يَنْزِعَهَا عَنْهُ.
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قَالَ مَا كَانَ شَخَصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا إِلَيْهِ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لَذَلِك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ.
(حديث عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ.
حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عليهم ويلاطفهم ويلاعبهم، وكان يقول لأحد الأطفال (يا أبا عمير، ما فعل النغَيْر؟)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.
(حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ.
وأبو عمير كنية لطفل وكان معه (نغير) وهو طائر صغير مثل العصفور هلك هذا النغير، فحزن عليه الصبي واغتم فكان عليه الصلاة والسلام يلاطفه قائلا (ماذا فعل النغير؟).
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
من مظاهر حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ورحمته بالخلق:
من مظاهر حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ورحمته بالخلق أن أعرابياً جاء وبال في المسجد، فزجره الناس ونهروه بشده، فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام فلما قضى بوله دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَهْ مَهْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عز وجل وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.
وجه حسن الخلق في هذه القصة ظاهر ، فهو لم يوبخ هذا الأعرابي ولم يأمر بضربه، بل إنه تركه حتى قضى بوله، ثم أعلمه أن المساجد لا تصلح لما فعل إنما هي للصلاة، والذكر، وقراءة القرآن.
وكذلك من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام ورحمته بالمؤمنين الحديث الآتي فتأمله بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجدُ رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال لا. فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال لا. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرقٍ فيه تمر، والعرقُ المكتل، قال: أين السائل؟ فقال أنا، قال: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجلُ أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها، يريد الحرتين، أهلُ بيتٍ أفقرُ من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك)
وحسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام في هذه القصة واضحاً وضوحاً جلياً: فإنه لم ينهر هذا الرجل، ولم يشتمه ولم يوبخه، لأنه جاء نادماً تائباً خائفاً، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام بعلمه وحكمته أن هذا الرجل لا يستحق أن يوبخ، بل يبين له الحق الذي جاء من عند الله، ويعامل بالرفق واللين وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم، التي مدحه الله تعالى بها في كتابه حيث قال (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ)] آل عمران159 [، وقال تعالى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)] التوبة 128 [.
صفاته صلى الله عليه وسلم:
وأما صفاته صلى الله عليه وسلم فهو المقدم في كل صفه حميدة عرفت شرعاً أو طبعاً.
جود النبي صلى الله عليه وسلم وكرمه:
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، و كان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيُدارسه القران فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.
(حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ، فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ.
(حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قَالَ:
مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لَا.
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ.
(حديث جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَعْطُونِي رِدَائِي لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ: أي ألجؤه إلى شجرة من شجر البادية ذات شوك.
لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا: الْعِضَاهِ بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة وفي آخره هاء هو شجر ذو شوك.
وكان صلى الله عليه وسلم يؤثر على نفسه، فيعطي العطاء و يمضي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار.
وكان كرمه صلى الله عليه وسلم كرماً في محله، ينفق المال له وبالله، إما لفقير، أو محتاج، أو في سبيل الله، أو تأليفا على الإسلام، أو تشريعا للأمة.
شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأمضاهم عزما و إقداما، كان الناس يفرون وهو ثابت، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أَبِي إِسْحَاقَ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ الْبَرَاءَ رضي الله عنه فَقَالَ يَا أَبَا عُمَارَةَ أَوَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ الْبَرَاءُ وَأَنَا أَسْمَعُ أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَلِّ يَوْمَئِذٍ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ قَالَ فَمَا رُئِيَ مِنْ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ.
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا ثُمَّ قَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا أَوْ قَالَ إِنَّهُ لَبَحْرٌ.
لينه وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم:
فقد كان صلى الله عليه وسلم لطيفا رحيما، فلم يكن فاحشا ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أنسا غلام كيس فليخدمك، قال: فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم تصنع هذا هكذا.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا.
ومن لينه وحسن خلقه أنه كان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم:
ففي المزاح إجماماً للقلوب وتفريجاً للكروب، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال: إني لا أقول إلا حقاً.
وهاك صور مشرقة من مزاح النبي صلى الله عليه وسلم:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني حاملك على ولد الناقة فقال يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تلد الإبل إلا النوق.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا ذا الأذنين.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الساسلة الصحيحة) قال: أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز قال: فولت تبكي فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز إن الله تعالى يقول " إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً. عُرُباً أَتْرَاباً "
(حديث معاوية ابن حيدة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ.
(حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ صلى الله عليه وسلم: أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ (1) الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) أنها كانت مع النبي في سفر، قالت: فسابَقْتُه فَسَبَقْتُه على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال هذه بتلك.
{تنبيه} : ومما يجب اجتنابه في المزح أن لا يأخذ متاع أخيه على سبيل المزاح، وكذلك يحرم عليه أن يروِّع أخيه على سبيل المزح.
(حديث يزيد ابن سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً و لا جاداً و من أخذ عصا أخيه فليرُدَّها.
(1). في اللسان: (7/ 152) مادة (ربض): قال ابن خالويه: رُبُض المدينة، بضم الراء والباء، أساسها، وبفتحهما: ما حولها. وفي الحديث: أنا زعيمٌ ببيت في رَبَض الجنة؛ وهو بفتح الباء، ما حولها خارجاً عنها تشبيهاً بالابنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع.
(حديث عبد الرحمن ابن أبي ليلى في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحلُ لمسلمٍ أن يُروِّعَ مسلماً.
ومن لينه وحسن خلقه أنه كان يُسَلِّمُ على صبيانهم ويداعبهم:
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.
(حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ.
ومن لينه وحسن خلقه أنه كان يقوم في الصلاة يريد أن يطول فيها فيسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته كراهية أن يشق على أمه.
(حديث أبي قتادة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ.
زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا ورغبته في الآخرة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة ، خيره الله تعالى بين أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً ، فاختار أن يكون عبداً نبياً ، وخيره بين أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش وبين ما عند الله فاختار ما عند الله.
إن من يطالع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أنه صلى الله عليه وسلم " سيدُ الزاهدين وإمام العابدين وخيرُ البشرِ أجمعين "" وكان زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا طواعيةً، كان زهده صلى الله عليه وسلم طوعاً لا كَرْهَا، ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة " ويتضح ذلك وضوحاً جلياً في " زهده وتواضعه في بيته، زهده في طعامه، زهده في لباسه، زهده في فراشه، زهده صلى الله عليه وسلم في المال "
وهاك غيضٌ من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في مظاهر زهد النبي صلى الله عليه وسلم:
زهده وتواضعه في بيته:
كان صلى الله عليه وسلم " زهده في الدنيا طواعيةً، كان زهده صلى الله عليه وسلم طوعاً لا كَرْهَا ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة "
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم) من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس إرشاداً للتواضع وترك التكبر لأنه مشرف بالوحي والنبوة ومكرم بالمعجزات والرسالة وفيه أن الإمام الأعظم يتولى أموره بنفسه وأنه من دأب الصالحين.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(كان يفلي ثوبه) بفتح فسكون من فلى يفلي كرمي يرمي ومن لازم التفلي وجود شيء يؤذي في الجملة كبرغوث وقمل فدعوى أنه لم يكن القمل يؤذيه ولا الذباب يعلوه دفعت بذلك وبعدم الثبوت ومحاولة الجمع بأن ما علق بثبوته من غيره لا منه ردت بأنه نفي أذاه وأذاه غذاؤه من البدن وإذا لم يتغذ لم يعش
(ويحلب شاته ويخدم نفسه) عطف عام على خاص فنكتته الإشارة إلى أنه كان يخدم نفسه عموماً وخصوصاً قال المصري: ويجب حمله على أحيان فقد ثبت أنه كان له خدم فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره وتارة بالمشاركة وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه وأن ذلك لا يخل بمنصبه وإن جل.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
(ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم):
قال العلماء الحكمة في إلهام الأنبياء من رعى الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياد من غيرها وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء
(كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة):
يعني كل شاة بقيراط يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم.
زهده في طعامه:
كان صلى الله عليه وسلم " زهده في الدنيا طواعيةً، كان زهده صلى الله عليه وسلم طوعاً لا كَرْهَا، ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة "
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: " ما شبع آلُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من خبز بُرٍ ثلاث ليال تباعاً حتى قبض ".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اجعل رزق آلِ محمد قوتا.
قوتاً: أي شيءٌ يسدُ الرمق.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
قوتاً: أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم الى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال.
والشاهد: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا، ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: يا خالة، ما كان يُعَيِّشُكُم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيرانٌ من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين: المراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث وهو يرى عند انقضاء الشهرين وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث.
وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار: لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ.
ما كان يُعَيِّشُكُم؟ بضم أوله يقال أعاشه الله أي أعطاه العيش.
الأسودان التمر والماء: الأسودان يطلق على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما.
منائح: جمع منيحة بنون وحاء مهملة
(حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
ورُزق كفافاً: الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف:
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً) أي ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحقه بأهل الترفهات. قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية.
(وقنعه اللّه بما آتاه) بمد الهمزة أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزياد لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له والفلاح الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما والمراد بالرزق الحلال منه فإن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح وذكر الأمرين وقيد الثاني بقنع أي رزق كفافاً وقنعه اللّه بالكفاف فلم يطلب الزيادة وأطلق الأوّل ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام ذكره الطيبي وصاحب هذه الحالة معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقراء إلا السلامة من قهر الرجال وذل المسألة.
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(من أصبح منكم آمنا في سربه) بكسر السين على الأشهر أي في نفسه وروي بفتحها أي في مسلكه وقيل بفتحتين أي في بيته
(معافى في جسده) أي صحيحاً بدنه
(عنده قوت يومه) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك، يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله فقد جمع اللّه له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها بأن يصرفها في طاعة المنعم لا في معصية ولا يفتر عن ذكره
(فكأنما حيزت) بكسر المهملة
(له الدنيا) أي ضمت وجمعت
(بحذافيرها) أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها، ومن ثم قال نفطويه: إذا ما كساك الدهر ثوب مصحة * ولم يخل من قوت يحلى ويعذب فلا تغبطن المترفين فإنه * على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب وقال: إذا القوت يأتي لك والصحة والأمن * وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن وفيه حجة لمن فضل الفقر على الغنى.
وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربط الحجر على بطنه من الغرث.
الغرث: الجوع.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً، ولا شاة مسموطة حتى لقي الله.
[*] قال الحافظ بن حجر في الفتح:
ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً: وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة.
ولا شاة مسموطة: المسموط الذي ازيل شعره بالماء المسخن وشوى بجلده أو يطبخ وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري وهو من فعل المترفين من وجهين أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه وثانيهما أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره.
زهده في لباسه:
" كان زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا طواعيةً، كان زهده صلى الله عليه وسلم طوعاً لا كَرْهَا، ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة "
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنها أخرجت كساءاً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذين.
وكيف لا وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن البذاذةُ من الإيمان.
(حديث أبي أُمامةَ الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البذاذةُ من الإيمان.
(البذاذة): رثاثة الهيئة وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس إيثاراً للخمول بين الناس.
زهده في فراشه:
" كان زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا طواعيةً، كان زهده صلى الله عليه وسلم طوعاً لا كَرْهَا، ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة "
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قالت دخلت علي امرأةٌ من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة مثنية فبعثت إلي بفراشٍ حشوه الصوف فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا يا عائشة قالت قلت يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فذهبت فبعثت إلي بهذا فقال رُدِّيْه يا عائشة فوالله لو شئتُ لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة.
"وكان صلى الله عليه وسلم ينام على حصير قد أثر في جنبه ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة "
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة) قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قال فجلست فإذا عليه إزار وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية في الغرفة وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي فقال ما يبكيك يا ابن الخطاب فقلت يا نبي الله ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذلك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك قال يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا قلت بلى.
زهده صلى الله عليه وسلم في المال:
كان صلى الله عليه وسلم " زهده في الدنيا طواعيةً ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة " فالمال لم يكن يخطر له ببال ولا يدور له في الخيال ولو كان له مثل أحدٍ ذهبا، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أن عندي مثلَ أحدٍ ذهباً ما يسرني أن لا يمَّر عليَّ ثلاث وعندي منه شيءٌ إلا شيءٌ أرْصُدُه لدين.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(لو أن عندي مثلَ أحدٍ) أي جبل أحد
(ذهباً) بالنصب على التمييز قال ابن مالك بوقوع التمييز بعد مثل قليل وجواب لو
(ما يسرني) من السرور بمعنى الفرح
(أن لا يمر عليَّ) بالتشديد
(ثلاث) من الليالي ويجوز الأيام بتكلف
(وعندي منه شيء) أي من الذهب، وفي التقييد بثلاث مبالغة في سرعة الإنفاق
(إلا شيء أرصده) بضم الهمزة وكسر الصاد أعدَّه
(لدين) أي أحفظه لأداء دين لأنه مقدم على الصدقة واستثنى الشيء من الشيء لكون الثاني مقيداً خاصاً ورفعه لكونه جواب لو في حكم النفي وجعل لو هنا للتمني متعقب بالرد وخص الذهب بضرب المثل لكونه أشرف المعادن وأعظم حائل بين الخليقة وبين فوزها الأكبر يوم معادها وأعظم شيء عصى اللّه به وله قطعت الأرحام وأريقت الدماء واستحلت المحارم ووقع التظالم وهو المرغب في الدنيا المزهد في الآخرة وكم أميت به من حق وأحيي به من باطل ونصر به ظالم وقهر به مظلوم فمن سره أن لا يكون عنده منه شيء فقد آثر الآخرة.
(حديث عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتِي كَانَ يَرْكَبُهَا وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا لِابْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً.
رِفْقِتهِ بِأُمَّتِهِ صلى الله عليه وسلم:
يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الْقَصِيرَةِ،
(حديث أبي قتادة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ.
(حديث مالك بن الحُويرث الثابت في الصحيحين) قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ.
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التأني من الله والعجلة من الشيطان.
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم:
رحمته بأمته ورأفته بها؟ فقد كان رحيماً رفيقاً رقيقاً كما وصفه ربه تعالى بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران: 159]
وقوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]
(حديث أبي قتادة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ.
حلم النبي وعفوه صلى الله عليه وسلم:
كان أحلم الناس:
(حديث أَنَسِ الثابت في الصحيحين) قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
فانظر أخي كيف قابل صلى الله عليه وسلم هذا الجفاء والغلظة بالحلم والضحك والإحسان.
حياء النبي صلى الله عليه وسلم:
(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه.
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم:
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخِيطُ ثَوبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِم.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ؟ فَقَالَ نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ.
(حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ وَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: سُبِقَتْ الْعَضْبَاءُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ.
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قَالَ مَا كَانَ شَخَصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا إِلَيْهِ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لَذَلِك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ.
(حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ.
(حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ
أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ.
(حديث عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ.
عَلَامَةِ رِضَاهُ وَعَلَامَةِ سَخَطِهِ صلى الله عليه وسلم:
(حديث كعب ابن مالك الثابت في الصحيحين) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ.
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجة) قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَضِبَ احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ.
صِفَةُ مَشْيِهِ وَالْتِفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم:
(حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثابت في صحيح ابن ماجة) قَالَ
كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَشَى مَشَى أَصْحَابُهُ أَمَامَهُ وَتَرَكُوا ظَهْرَهُ لِلْمَلَائِكَةِ.
صفة جلوسه صلى الله عليه وسلم:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَصْحَابِهِ جَالِسٌ، إِذْ جَاءَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالُوا: هَذَا الْأَمْغَرُ الْمُرْتَفِقُ.
: الْأَمْغَرُ: الْأَبْيَضُ مُشَرَّبًا حُمْرَةً
الْمُرْتَفِقُ: مُتَّكِئٌ عَلَى مِرْفَقِهِ.
هذه درر من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوها نبراساً لكم تأتمون به وتأخذون بهديه وتسيرون على منهاجه فتهتدوا ، فإن الله جبله على مكارم الأخلاق ، وأمرنا بالاقتداء به. قال الله تعالى (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتََدُون َ)] الأعراف 158 [.
رزقنا الله وإياكم محبة هذا النبي صلى الله عليه وسلم ، ووفقنا إلى اتباع سنته وهديه حتى يأتينا اليقين.
صور من أخلاق الصحابة والتابعين:
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير القرون، وأفضل الأمة، وأكملُ المؤمنين، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فرضي عنهم ورضوا عنه فهم كما قال الله عنهم:(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)[الفتح: 29]
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[المائدة: 54]
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال: من يضيف هذا الليلة رحمة الله.؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجب الله عز وجل من صنيعكم.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(مهيم يا عبد الرحمن). قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، قال:(فما سقت فيها). فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أولم ولو بشاة).
الله أكبر ما أحسن هذه الأخلاق، وأكرم هذه النفوس، وأطهر هذه القلوب.
وعن ميمون بن مهران قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: " ما بلغني عن أخ مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفلْ به. هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فأرض الله واسعة "(1).
(1) صفة الصفوة 1/ 754.
وَلَمَا دَخَلَ الْحُرُّ بْنِ حِصْن عَلَى عُمَرَ ابْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ فَقَالَ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ" (1).
وقال علي رضي الله عنه:" يا عجباً لرجل مسلم يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً، لقد كان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق، فإنها مما تدل على سبيل النجاة
…
".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " دعتني أم حبيبة عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك ذلك كلَّه وحللَّك من ذلك، فقالت: سررتني سَّرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك "(2).
هذه جملة من أخلاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاميذه الأطهار رضي الله عنهم:
صور من أخلاق سلف الأمة:
وعلى نهج أولئك الأصحاب سار سلف الأمة رحمهم الله تعالى، فضربوا أروع الأمثال في حسن الخلق وطيب المعشر وسلامة الصدر ورحابة النفس وجود اليد حتى إن الإنسان لا يملك عينيه وهو يتصفح سيرهم العطرة، ودونك طائفةً من أخبارهم:
خاصم رجل الأحنف رحمه الله فقال: لئن قلت واحدة لتسمعن عشراً، فقال له الأحنف: لكنك إن قلت واحدة لم تسمع واحدة.
ودخل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنونٌ أنت؟ فقال عمر: لا، فهمَّ به الحرس، فقال عمر: مه، إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا (3).
(1) أخرجه البخاري 8/ 386 ح4642.
(2)
سير أعلام النبلاء 2/ 223.
(3)
مختصر منهاج القاصدين لأحمد بن قدامة ص 199.
وقال رجل للإمام أبي حنيفة: اتق الله، فانتفض واصفرَّ وأطرق وقال: جزاك الله خيراً، ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا (1) لهذه الكلمة.
وعن بلال بن سعد عمن رأى عامرَ بن عبد الله التميمي بأرض الروم وله بغلة يركبها عقبة (أي نوبة) ويحمل المهاجرين عقبة، قال بلال:" كان إذا فصل غازياً يتوشَّم من يرافقه، فإذا رأى رفقة تعجبه، اشترط عليهم أن يخدمهم، وأن يؤذن، وأن ينفق عليهم طاقته "(2).
فلا إله إلا الله ما أعجب هذه الشروط.
وعن أبي قِلابة قال: " إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعل له عذراً لا أعلمه "(3).
رزقت أسمح ما في الناس من خلق
…
إذا رزقت التماس العذر في الشيم
وعن يونس الصَّدفي: "ما رأيت أعقلَ من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة "(4).
الله أكبر، هذه أخلاق الأئمة فأين الذين يوالون ويعادون عند أدنى خلاف؟!
وعن معاذ بن سعيد قال: كنا عند عطاء بن أبي رباح فتحدث رجل بحديث فاعترض له آخر في حديثه، فقال عطاء:" سبحان الله ما هذه الأخلاق؟ ما هذه الأخلاق؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم منه به فأريه أني لا أُحسن منه شيئاً "(5).
فأين هذا من قوم إذا تحدث فيهم الرجل اعترض له عشرة؟
وعن ابن مهروية الرازي، سمعت علي بن الحسين بن الجنيد: سمعت يحي بن معين يقول: " إنا لنطعن على أقوام، لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة "(6).
قال ابن مهروية: " فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا، فبكى، وارتعدت يداه، حتى سقط الكتاب وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية ".
قال الذهبي: " أصابه على طريق الوجل وخوف العاقبة، وإلاّ فكلام الناقد الورع في الضعفاء من النصح لدين الله، والذب عن السنة "(7).
فأين هذا من أقوام لم تشبعهم لحوم الأحياء فتطاولوا على أموات المسلمين يلغون في أعراضهم ويأكلون لحومهم؟ نسأل الله العافية.
(1) سير أعلام النبلاء 6/ 400.
(2)
سير أعلام النبلاء 4/ 17.
(3)
صفة الصفوة1/ 238.
(4)
سير أعلام النبلاء 10/ 16.
(5)
صفة الصفوة 2/ 214.
(6)
قال الذهبي: قلت: لعلها من مائة سنة فإن ذلك لا يبلغ في أيام يحيى هذا القدر.
(7)
سير أعلام النبلاء 13/ 268.
وكان بين حسن بن حسن وعلي بن الحسين بعضُ الأمر، فجاء حسن بن حسن إلى علي بن الحسين وهو في أصحابه في المسجد، فما ترك شيئاً إلا قاله له وعلي ساكت. فانصرف حسن فلما كان من الليل أتاه في منزله فقرع عليه بابه، فخرج إليه، فقال له علي: يا أخي إن كنت صادقاً فيما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عليكم. وولى، قال: فاتبعه حسن فالتزمه وبكى حتى رُثي له ثم قال: لا جرم لا عدتُ في أمر تكرهه. فقال علي: وأنت في حل مما قلت لي (1).
فانظر أخي الكريم إلى أخلاق أهل بيت النبوة فأين نحن منها؟ يختلف الرجلان فينا فيتهاجران الدهر كلَّه، وقد لا يشهد أحدُهما جنازةَ الآخر.
وعندما سُرق للربيع بن خُيثم فرس كان أعطي به عشرين ألفاً قالوا له: ادع الله عليه فقال: اللهم إن كان غنياً فاغفر له وإن كان فقيراً فأغنه.
فسبحان من منَّ عليهم بهذه القلوب الطاهرة.
وكان عبد الله بن المبارك رحمه الله إذا كان وقتُ الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتِكم، فيأخذ نفقاتهِم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيبَ الحلوى ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زيٍّ وأكمل مروءة حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرَفها؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو فيجصِّص بيوتهَم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم فإذا أكلوا وسرُّوا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه (2).
هذه صور قليلة من أخلاق السلف رحمهم الله، وأخبارهم في هذا الباب أكثر من أن تحصر.
طرق اكتساب حسن الخلق:
هناك طرق متعددة، وأسباب متنوعة تعين الشباب على التخلق بالأخلاق الإسلامية المحمودة (3)، فمنها ما يلي:
(1) صفة الصفوة 2/ 94.
(2)
سير أعلام النبلاء 8/ 385.
(3)
انظر موعظة المؤمنين للقاسمي ص271، والأخلاق الفاضلة لعبد الله الرحيلي ص117، وفصول في الأخلاق الإسلامية لعبد الله الأزدي ص77.
(1)
الإيمان؛ فإن للإيمان بالله - تعالى - أثراً كبيراً في تزكية النفوس، وتهذيب السلوك، وسمو الأخلاق، فالمؤمن الصادق يطبق شرع الله الحكيم الذي هو منبع الأخلاق الحميدة، ويتجرد من أمراض القلوب، وشهوات النفس .. التي هي منبع الأخلاق الذميمة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
(حديث عبد الله بن سلام الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ.
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في الصحيحين) أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلامُ خير؟ قال: تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
هذا ولفعل الطاعات واجتناب المحرمات أثر كبير في طيب النفس وحسن الخلق، وهذا أمر مشاهد.
(2)
مجالسة أهلِ الأخلاق الحسنة، فإن للمجالسة والمخالطة أثراً كبيراً في السلوك والأخلاق فالإنسان يتأثر بمن يصاحبه ويتخلق بأخلاقه وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
ولله درُ من قال:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكل قرين بالمقارَنِ يقتدي
بل إن الإنسان يتأثر بمخالطة البهائم ويكتسب بعض طباعها فكيف لا يتأثر بمخالط جنسه من البشر، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" إن الله تعالى جبل بني آدم، بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المتشابهة أكثرَ كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم
…
إلى أن قال: ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة. وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعاً من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه، ولهذا صارت الخيلاءُ والفخرُ في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم
…
" (1).
والواقع أيها الإخوة شاهد بذلك فكم رأينا من الناس من تغيرت أخلاقهم بسبب جلسائهم.
قال الفضيل بن عياض: " إذا خالطت فخالط حسنَ الخلق، فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة
…
".
(3)
محاسبة النفس، إن أعدى عدو للإنسان هو نفسه التي بين جنبيه، فقد خلقت أمارةً بالسوء، ميالة إلى الشر، فرارة من الخير، ولذلك أمر المسلم بتزكيتها وتقويمها، ومحاسبتها وحملها على ما يزينها من محاسن الأخلاق ومكارم الآداب، فينبغي للمسلم أن يتعاهد نفسه، ويمنعها من اقتراف المساوئ ويعاتبها على التقصير والتفريط، فإنها بذلك تزكو وتستقيم.
والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على
…
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وقد كان السلف رحمهم الله، يحاسبون أنفسهم ويتهمونها ويعاتبونها عند كل صغيرة وكبيرة.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري موقوفا) قَالَ إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُوبِقَاتِ.
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 487.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري موقوفا) قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا.
وقال مالك بن دينار:" رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟ ألستِ صاحبةَ كذا؟ ثم ذمّها ثم خطمها، ثم ألزمها كتابَ الله عز وجل، فكان لها قائداً ".
وقال مطرف بن عبد الله: " لولا ما أعلم من نفسي لقليتُ الناس ".
(4)
قراءة سير السلف الصالح رحمهم الله:
من الأسباب المعينة على التخلق بالأخلاق الحسنة الاطلاع على سير أهل الصلاح والتقى
…
فإن الإنسان إذا عرف أحوالهم، وتأمل أخلاقهم وصفاتهم انبعثت همتهُ نحو مشاكلتهم واشتاقت نفسه إلى الاقتداء بهم.
قال الإمام أبو حنيفة: " الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إليّ من كثير من الفقه، لأنها آدابُ القوم وأخلاقهم، وشاهده من كتاب الله تعالى قوله سبحانه:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111]
وقال بعضهم: " الحكايات جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوبَ أوليائه، وشاهده من كتاب الله تعالى قوله سبحانه:(وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود: 120]
وقال آخر:" استكثروا من الحكايات فإنها درر، وربما كانت فيها الدرة اليتيمة "(1).
وقد اتفق علماء النفس والتربية على أن القصص والأخبار والسير من أقوى عوامل التربية.
(5)
الدعاء، وهذا من أعظم الأسباب الموصلة إلى محاسن الأخلاق، فإن العبد ضعيف فقير إلى الله تعالى في جميع أحواله لا غنى له طرف عين عن خالقه،
وقد كان سيد البشر صلى الله عليه وسلم يسأل الله تَعالى أن يهديه لأحسن الأخلاق كما في حديث علي الطويل الوارد في دعاء الاستفتاح وفيه: ((واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت))
(1) انظر صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل لأبي غدة ص 17.
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَإِذَا رَكَعَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي وَإِذَا رَفَعَ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ وَإِذَا سَجَدَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم كما حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّن خُلُقِي.
(6)
ترويض النفس على حسن الخلق، فإنه من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوّقَّه.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوّقَّه.
فينبغي للعبد أن يتحر حسن الخلق ويحرص عليه ويجاهد نفسه ويتكلفه حتى ينعم الله تعالى عليه بهذه الفضيلة، وهذا حاصلٌ لا محالة إذا صدق العبد في ذلك.
(حديث شداد بن أوس في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن تصدق الله يصدقك.
(7)
لا بد من الصبر وطول النفس في تحصيل أي خير وليس له أن يستعجل فإنه من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. فعليه أن يتأنى جيداً وإياه والعجلة فبئست المطيةُ هي، تحول بينك وبين أي خير.
ما هو حسن الخلق:
قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
حُسْنُ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ "سَهْلَ الْعَرِيكَةِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، طَلِيقَ الْوَجْهِ، قَلِيلَ النُّفُورِ، طَيِّبَ الْكَلِمَةِ"
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حُرِّمَ على النار كل هين لين سهل قريب من الناس.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ أَنْ لَا تَغْضَبَ وَلَا تَحْتَدَّ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ وَأَنْ لَا تَغْضَبَ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ ، وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ.
وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: الْأَخْلَاقُ لِلْمُؤْمِنِ قُوَّةٌ فِي لِينٍ ، وَحَزْمٌ فِي دِينٍ ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ ، وَحِرْصٌ عَلَى الْعِلْمِ ، وَاقْتِصَادٌ فِي النَّفَقَةِ ، وَبَذْلٌ فِي السَّعَةِ ، وَقَنَاعَةٌ فِي الْفَاقَةِ ، وَرَحْمَةٌ لِلْجُمْهُورِ ، وَإِعْطَاءٌ فِي كَرَمٍ وَبِرٌّ فِي اسْتِقَامَةٍ.
حدود حسن الخلق:
لِمَحَاسِنِ الأخلاقِ حُدُودٌ مُقَدَّرَةٌ وَمَوَاضِعُ مُسْتَحَقَّةٌ فَإِنْ تَجَاوَزَ بِهَا الْحَدَّ صَارَتْ مَلَقًا وَإِنْ عَدْلَ بِهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا صَارَتْ نِفَاقًا. وَالْمَلَقُ ذُلٌّ، وَالنِّفَاقُ لُؤْمٌ، وَلَيْسَ لِمَنْ وُسِمَ بِهِمَا وُدٌّ مَبْرُورٌ وَلَا أَثَرٌ مَشْكُورٌ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
(حديث عمار ابن ياسر الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية تعليقاً على الحديث السابق:
لِأَنَّهُ نِفَاقٌ وَخِدَاعٌ وَكَذِبٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا ، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَعَهَا ، وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ قَالَ تَعَالَى:{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} . أَيْ: مَقْطُوعَةٌ مُمَالَةٌ إلَى الْحَائِطِ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا هِيَ ثَابِتَةٌ ، إنَّمَا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ إلَى مَنْ يَنْصُرُهُمْ ، وَإِلَى مَنْ يَتَظَاهَرُونَ بِهِ {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} لِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ {هُمْ الْعَدُوُّ} لِلتَّمَكُّنِ بَيْنَ الشَّرِّ بِالْمُخَاطَبَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ. أهـ
أورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا عن سَعِيدُ بْنُ عُرْوَةَ قال: لَانْ يَكُونَ لِي نِصْفُ وَجْهٍ وَنِصْفُ لِسَانٍ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنْ قُبْحِ الْمَنْظَرِ وَعَجْزِ الْمَخْبَرِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ ذَا وَجْهَيْنِ وَذَا لِسَانَيْنِ وَذَا قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ:
وَكَمْ مِنْ صَدِيقٍ وُدُّهُ بِلِسَانِهِ خَئُونٌ بِظَهْرِ الْغَيْبِ لَا يَتَذَمَّمُ
يُضَاحِكُنِي عَجَبًا إذَا مَا لَقِيتُهُ وَيَصْدُفُنِي مِنْهُ إذَا غِبْتُ أَسْهُمُ
كَذَلِكَ ذُو الْوَجْهَيْنِ يُرْضِيك شَاهِدًا وَفِي غَيْبِهِ إنْ غَابَ صَابٌ وَعَلْقَمُ.
أسباب تغير حسن الخلق إلى الشراسة والبذاء:
وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْوَطَاءُ إلَى الشَّرَاسَةِ وَالْبَذَاءِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، وَأُمُورٍ طَارِئَةٍ، تَجْعَلُ اللِّينَ خُشُونَةً وَالْوَطَاءَ غِلْظَةً وَالطَّلَاقَةَ عُبُوسًا. فَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ ما يلي:
(1)
الْوِلَايَةُ الَّتِي تُحْدِثُ فِي الأخلاقِ تَغَيُّرًا، وَعَلَى الْخُلَطَاءِ تَنَكُّرًا، إمَّا مِنْ لُؤْمِ طَبْعٍ، وَإِمَّا مِنْ ضِيقِ صَدْرٍ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ تَاهَ فِي وِلَايَتِهِ ذَلَّ فِي عَزْلِهِ. وَقِيلَ: ذُلُّ الْعَزْلِ يُضْحِكُ مِنْ تِيهِ الْوِلَايَةِ.
(2)
وَمِنْهَا: الْعَزْلُ فَقَدْ يَسُوءُ بِهِ الْخُلُقُ وَيَضِيقُ بِهِ الصَّدْرُ إمَّا لِشِدَّةِ أَسَفٍ أَوْ لِقِلَّةِ صَبْرٍ. حَكَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عُزِلَ عَنْ وِلَايَةٍ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنِّي وَجَدْتهَا حُلْوَةَ الرَّضَاعِ مَرَّةَ الْفِطَامِ.
(3)
وَمِنْهَا: الْغِنَى فَقَدْ تَتَغَيَّرُ بِهِ أَخْلَاقُ اللَّئِيمِ بَطَرًا، وَتَسُوءُ طَرَائِقُهُ أَشَرًا. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ نَالَ اسْتَطَالَ.
وَكَتَبَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ إلَى الْحَجَّاجِ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ الْتَاثُوا عَلَيْهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اقْطَعْ عَنْهُمْ الأرزاق، فَفَعَلَ فَسَاءَتْ حَالُهُمْ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: أَقِلْنَا. فَكَتَبَ إلَى الْحَجَّاجِ فِيهِمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنْ كُنْت آنَسْتَ مِنْهُمْ رُشْدًا فَأَجْرِ عَلَيْهِمْ مَا كُنْتَ تُجْرِي، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ جُنْدُ اللَّهِ الأكبرَ يُذِلُّ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يَتَكَبَّرُ.
(4)
وَمِنْهَا: الْفَقْرُ فَقَدْ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْخُلُقُ إمَّا أَنَفَةً مِنْ ذُلِّ الاسْتِكَانَةِ أَوْ أَسَفًا عَلَى فَائِتِ الْغِنَى.
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ: وَأَعْجَبُ حَالاتِ ابْنِ آدَمَ خَلْقُهُ يَضِلُّ إذَا فَكَّرْتَ فِي كُنْهِهِ الْفِكْرُ فَيَفْرَحُ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ بَقَاؤُهُ وَيَجْزَعُ مِمَّا صَارَ وَهُوَ لَهُ ذُخْرُ وَرُبَّمَا تَسَلَّى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بالأماني، وَإِنْ قَلَّ صِدْقُهَا. فَقَدْ قِيلَ: قَلَّمَا تَصْدُقُ الأمْنِيَّةُ وَلَكِنْ قَدْ يُعْتَاضُ بِهَا سَلْوَةً مِنْ هَمٍّ أَوْ مَسَرَّةٍ بِرَجَاءٍ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: حَرِّكْ مُنَاك إذَا اغْتَمَمْت فَإِنَّهُنَّ مَرَاوِحُ.
وَقَالَ آخَرُ: إذَا تَمَنَّيْت بِتَّ اللَّيْلَ مُغْتَبِطًا إنَّ الْمُنَى رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ.
(5)
وَمِنْهَا الْهُمُومُ الَّتِي تُذْهِلُ اللُّبَّ، وَتَشْغَلُ الْقَلْبَ، فَلَا تَتْبَعُ الاحْتِمَالَ وَلَا تَقْوَى عَلَى صَبْرٍ. وَقَدْ قِيلَ: الْهَمُّ كَالسُّمِّ.
وَقَالَ بَعْضُ الأدباء: الْحُزْنُ كَالدَّاءِ الْمَخْزُونِ فِي فُؤَادِ الْمَحْزُونِ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
هُمُومُك بِالْعَيْشِ مَقْرُونَةٌ فَمَا تَقْطَعُ الْعَيْشَ إلا بِهِمْ
إذَا تَمَّ أَمْرٌ بَدَا نَقْصُهُ تَرَقَّبْ زَوَالا إذَا قِيلَ تَمْ
إذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحَامِ عَلَيْهَا بِشُكْرِ الإله فَإِنَّ الإلهَ سَرِيعُ النِّقَمْ
حَلَاوَةُ دُنْيَاك مَسْمُومَةٌ فَمَا تَأْكُلُ الشَّهْدَ إلا بِسُمْ
فَكَمْ قَدَرٌ دَبَّ فِي مُهْلَةٍ فَلَمْ يَعْلَمْ النَّاسُ حَتَّى هَجَمْ.
(6)
وَمِنْهَا الأمْرَاضُ الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِهَا الطَّبْعُ مَا يَتَغَيَّرُ بِهَا الْجِسْمُ، فَلَا تَبْقَى الأخْلَاقُ عَلَى اعْتِدَالٍ وَلَا يُقْدَرُ مَعَهَا عَلَى احْتِمَالٍ.
قَالَ الْمُتَنَبِّي:
آلَةُ الْعَيْشِ صِحَّةٌ وَشَبَابُ فَإِذَا وَلَّيَا عَنْ الْمَرْءِ وَلَّى
وَإِذَا الشَّيْخُ قَالَ أُفٍّ فَمَا مَلَّ حَيَاةً وَإِنَّمَا الضَّعْفَ مَلَا
وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ النَّاسِ كُفُئًا ذَاتَ خِدْرٍ أَرَادَتْ الْمَوْتَ بَعْلَا أَبَدًا
تَسْتَرِدُّ مَا تَهَبُ الدُّنْيَا فَيَا لَيْتَ جُودَهَا كَانَ بُخْلَا
(7)
وَمِنْهَا عُلُوُّ السِّنِّ وَحُدُوثُ الْهَرَمِ لِتَأْثِيرِهِ فِي آلَةِ الْجَسَدِ كَذَلِكَ يَكُونُ تَأْثِيرُهُ فِي أَخْلَاقِ النَّفْسِ، فَكَمَا يَضْعُفُ الْجَسَدُ عَنْ احْتِمَالِ مَا كَانَ يُطِيقُهُ مِنْ أَثْقَالٍ فَكَذَلِكَ تَعْجِزُ النَّفْسُ عَنْ أَثْقَالِ مَا كَانَتْ تَصْبِرُ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْوِفَاقِ، وَمَضِيقِ الشِّقَاقِ. وَكَذَلِكَ مَا ضَاهَاهُ.
فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَسْبَابٍ أَحْدَثَتْ سُوءَ خُلُقٍ كَانَ عَامًّا. وَهَا هُنَا سَبَبٌ خَاصٌّ يُحْدِثُ سُوءَ خُلُقٍ خَاصٍّ وَهُوَ الْبُغْضُ الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ فَتُحْدِثُ نُفُورًا عَلَى الْمُبْغَضِ، فَيَؤُولُ إلَى سُوءِ خُلُقٍ يَخُصُّهُ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِذَا كَانَ سُوءُ الْخُلُقِ حَادِثًا بِسَبَبٍ كَانَ زَوَالُهُ مَقْرُونًا بِزَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ، ثُمَّ بِالضِّدِّ.
خطر فقدان الأخلاق:
إن انعدام الأخلاق السوية من المجتمع يفقد الدين معناه وجدواه ومبرر وجوده، وتصبح الحياة بذلك غابة يسودها الخوف والفوضى وغرائز اللذة والعدوان والنفعية الجافة المقيتة؛ لذلك بعث الله سبحانه رسله تترى، وجعل أخلاقهم في تمام السواء والكمال، كي تتعزز التوجيهات الربانية الشفوية بالقدوة العملية التي تمشي على قدمين، ويتغير سلوك الأمم والأقوام بتغير الأفكار والنفوس والعقائد (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد 11:].
إن استقراء التاريخ عبر حقبه الماضية والمعاصرة، ليكشف بكل وضوح تأثير الأخلاق ودورها في رقي الأمم أو اندحارها. فيوم مكن الله للأمة الإسلامية لم يكن النصر لسيوفهم بقدر ما كان لعقيدتهم وحسن أخلاقهم، وهو ما شهد به العدو قبل الصديق والنائي قبل الداني.
ويوم تحولت قصور الأندلس إلى مواخير لداعر وداعرة، هما ولادة والمعتمد، وأمثالهما من فسقة الأدباء والمتأدبين، ومترفي المخنثين والمتصابين، أخرج أهلها منها أذلة صاغرين.
وفي اليوم الذي كان فيه خليفة المسلمين يتلهى برقص جاريته ومخنثيه، دخل هولاكو بغداد منتصرا، وكان ما كان مما جرت بذكره الركبان ودونه التاريخ بدمع ودم.
وفي عصرنا هذا، ونحن نشهد من انحطاط الأخلاق وتسيب التصرفات ما يخجل القلم من تسطيره، واللسان من ذكره، والمخيلة من تصوره، سلط الله تعالى علينا شرقا وغربا ما دعاه المتداعون إلى القصعة "حرب الإرهاب" بقيادة الصهيونية العالمية، ومشاركة بعض المسلمين لهم من صغار النفوس ضعاف الهمة فسقة الجوارح أغبياء العقول فاسدي القول والعمل. أليس في هذا ما يشرح قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) [الطلاق: 8]، وقوله عز وجل (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الأنفال: 53]
(9)
سلامة الصدر:
معنى سلامة الصدر:
قال الشوكاني رحمه الله في السلوك الإسلامي القويم:
سلامة الصدر المراد به "عدم الحقد والغل والبغضاء".
ثم ذكر رحمه الله تعالى الأحاديث الآتية:
(حديث الزبير بن العوام الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دَبَّ إليكم داءُ الأممِ من قبلِكم: الحسدُ و البغضاء، والبُغْضةُ هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقةَ الدين، و الذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا و لن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يُثّبتُ ذلك أفشوا السلام بينكم.
دب إليكم: سار إليكم.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. أهـ
إنَّ من لوازم التقوى سلامة الصدر من الغل والحقد والحسد والضغائن والرذائل قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]
ولا يكون صلاح ذات البين إلا بسلامة الصدر من تلك الآفات.
لذا فإن دين الإسلام قد حرص حرصاً شديداً على أن تكون الأمة أمةً واحدة في قلبها وقالبها، وأن تكون الأمة على قلب رجلٍ واحد لا تحاسد بينهم ولا تباغض. تسودها عواطف الحب المشترك والود الشائع والتعاون على البر والتقوى، والتناصح البناء الذي يثمر إصلاح الأخطاء مع صفاء القلوب وتآلفها دون فرقة وغل وحسد ووقيعة وكيد وبغي. وقد جاءت الآيات القرآنية والآثار النبوية منسجمة متناسقة متضافرة لتحقيق ذلك المقصد الشرعي الكبير. فمن تلك الآيات قول الله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] فالأخوة الإيمانية تعلو على كل خلاف مهما اشتدت وطأته واضطرمت شدته وبلغ حد الاشتباك المسلح.
أما الأحاديث فمنها ما يلي:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ (1) وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ (2) سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى (3).
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم: (واسلل سخيمة صدري (4). كما في الحديث الآتي:
(1) توادهم: تحابهم
(2)
تداعى له: شاركه فيما هو فيه
(3)
الحُمَّى: علة يستحر بها الجسم
(4)
. السخيمة: الحقد والضغينة والموجدة في النفس. (لسان العرب: 12/ 282) مادة: سخم
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو يَقُولُ رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ (1) صَدْرِي.
وهذه منقبة وخلة عظيمة الشأن قليل هم الذين يتحلون بها؛ لأنه عسيرٌ على النفس أن تتجرد من حظوظها، وتتنازل عن حقوقها لغيرها، هذا مع ما يقع من كثير من الناس من التعدي والظلم، فإذا قابل المرء ظلم الناس وجهلهم وتعديهم بسلامة صدر، ولم يقابل إساءتهم بإساءة، ولم يحقد عليهم، نال مرتبة عالية من الأخلاق الرفيعة والسجايا النبيلة. وهو عزيز ونادر في الناس، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ.
قوله: (والمؤمن غرٌ كريم) قال المباركفوري: وفي النهاية: أي ليس بذي مكر، فهو ينخدع لانقياده ولينه، وهو ضد الخب، يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلاً، ولكنه كرم وحسن خلق، كذا في المرقاة. وقال المناوي: أي يغره كل أحد ويغيره كل شيء ولا يعرف الشر وليس بذي مكر، فهو ينخدع لسلامة صدره وحسن ظنه. وقوله:(والفاجر خب لئيم) أي بخيل لجوج سيء الخلق (2).
(1). السخيمة: الحقد والضغينة والموجدة في النفس. (لسان العرب: 12/ 282) مادة: سخم
(2)
. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6/ 84). وفيه تقديم وتأخير.
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في سلامة القلوب وطهارة الصدور، فكان لهم من هذه الصفة أوفر الحظ والنصيب، فلقد كانوا رضي الله عنهم صفاً واحداً يعطف بعضهم على بعض ويرحم بعضهم بعضاً ويحب بعضهم بعضاً كما وصفهم جل وعلا بذلك حيث قال:{وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وكما قال جل ذكره في وصفهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29]
ولقد كان لسلامة الصدر عندهم منزلة كبرى حتى إنهم جعلوها سبب التفاضل بينهم:
قال إياس بن معاوية بن قرة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدراً وأقلهم غيبة))
وقد قال سفيان بن دينار لأبي بشر أحد السلف الصالحين: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً. قال سفيان: ولم ذاك؟ قال أبو بشر: لسلامة صدورهم.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: سلامة الصدر للإخوان والأصحاب، والنصيحة لهم، وقبول النصيحة منهم، وأصله قوله تعالى:(إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 89]
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن سريا السقطي قال: " من أخلاق الأبدال (1) سلامة الصدر، والنصيحة للإخوان "
فضائل سلامة الصدر:
(1)
من فضائل سلامة الصدر أنها صفة أهل الجنة الذين هم خير أهل ومعشر قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء 88، 89]
وصاحب القلب السليم هو الذي سلم صدره وعوفي فؤاده من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدينار والرياسة فسلم من كل آفة تبعد عن الله تعالى.
(2)
ومن فضائل سلامة الصدر أن صاحبها خير الناس وأفضلهم بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(1) الأبدال: الأولياء والعُبَّاد، سُمُّوا بذلك لأنهم كلما مات واحد منهم أُبْدِلَ بآخر.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ ذُو القَلْبِ المَخْمُومِ وَاللِّسَانِ الصَّادِقِ، قِيلَ: مَا القَلبُ المَخْمُومُ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا حَسَد، قِيلَ: فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَشْنَأُ الدُّنْيَا وَيُحِبُ الْآخِرَةَ قِيلَ: فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي خُلُقٍ حَسَنٍ.
(3)
ومن فضائل سلامة الصدر جمعية القلب على الخير والبر والطاعة والصلاح فليس أروح للمرء ولا أطرد للهم ولا أقر للعين من سلامة الصدر على عباد الله المسلمين.
(4)
ومن فضائل سلامة الصدر أنها تقطع سلاسل العيوب وأسباب الذنوب فإن من سلم صدره وطهر قلبه عن الإرادات الفاسدة والظنون السيئة عف لسانه عن الغيبة والنميمة وقالة السوء.
(5)
ومن فضائل سلامة الصدر أن فيها صدق الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم أسلم الناس صدراً وأطيبهم قلباً وأصفاهم سريرة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
أسباب سلامة الصدر:
إن لسلامة الصدر أسباباً وطرقاً لابد من سلوكها. فمن تلك الأسباب ما يلي:
(1)
الإخلاص لله تعالى:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة أئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن الدعوة تحيط من ورائهم.
قال ابن الأثير عند هذا الحديث: إن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر.
(2)
ومن أسباب سلامة الصدر الإقبال على كتاب الله تعالى الذي أنزله شفاء لما في الصدور قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]
فكلما أقبلت ياعبد الله على كتاب الله تلاوة وحفظاً وتدبراً وفهماً صلح صدرك وسلم قلبك.
(3)
ومن أسباب سلامة الصدر دعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليماً من الضغائن والأحقاد على إخوانك المؤمنين قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
[الحشر: 10]
(4)
ومن طرق إصلاح القلب وسلامة الصدر إفشاء السلام بين المسلمين، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
(5)
ومن أسباب سلامة الصدر الابتعاد عن سوء الظن فإنه بئس سريرة الرجل قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن لأنه الذي عنه تصدر سائر الآفات المذكورة في الحديث فالواجب عليك ياعبد الله أن تطهر قلبك من سوء الظن ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
الآفات.
(10)
إحسان الظن بالإخوان وعدم التجسس عليهم:
ومن حسن المعاشرة بين الإخوان إحسان الظن بهم، وحمل كلامهم وما يصدر منهم من الأفعال على أحسن المحامل. ونُهينا عن ظن السوء فإنه أكذب الحديث، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
والمراد بالنهي هنا هو النهي عن ظن السوء. قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس؛ فإن ذلك لا يملك. ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه، دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به كما سبق في حديث:(تجاوز الله تعالى عما تحدثت به الأمة ما لم تتكلم أو تعمد) وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقر، قاله النووي (1). وقال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلاً بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عطف عليه قوله:{ولا تجسسوا} وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع، فنهي عن ذلك، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى:(يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسّسُواْ وَلَا يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ)[الحجرات: 12] فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة، لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان أبحث لأ تحقق، قيل له:{ولا تجسسوا} فإن قال تحققت من غير تجسس قيل له: {وَلَا يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً} (2).
{فائدة} : من إحسان الظن بالإخوان؛ حمل كلامهم على أحسن المحامل، فإذا بلغك شيءٌ تكرهه، فالتمس له العذر، وقل: لعله أراد كذا، ولعله أراد كذا، حتى لا تجد له محملاً.
ذم التجسس على المسلم:
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حُمَيد والخرائطي عن المِسْور بن مَخْرَمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ليلةً المدينة، فبينما هم يمشون شبَّ لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فلما دنوا منه إذا باب مُجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولَغَط. فقال عمر ـ وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف ـ: أتدري بيت من هذا؟ قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خَلَف وهم الآن شَرْب فما ترى؟ قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله:{وَلَا تَجَسَّسُواْ} (سورة الحجرات: الآية: 12) فقد تجسسنا فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم.
قصة عمر رضي الله عنه مع رجل ومع جماعة في هذا الشأن:
(1). شرح صحيح مسلم. المجلد الثامن (16/ 101)
(2)
. فتح الباري (10/ 496)
وأخرج ابن المنذر وسعيد بن منصور عن الشَّعْبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رجلاً من أصحابه، فقال لابن عوف رضي الله عنه: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر، فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحاً وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله إياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا. فقال ابن عوف لعمر: وما يُدريك ما في الإِناء؟ فقال عمر: أتخاف أن يكون هذا هو التجسس؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا؟ قال: لا تُعلمه بما اطَّلعت عليه من أمره، ولا يكونَنَّ في نفسك إلَاّ خيراً، ثم انصرفا. كذا في الكنز.
تسوّر عمر رضي الله عنه على المغني بيته:
وأخرج الخرائطي عن ثَوحر الكندي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يَعُس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنَّى، فتسوَّر عليه فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت في معصية فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل عليَّ؛ إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث قال: "ولا تجسسوا" وقد تجسست. وقال: {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا} (سورة البقرة، الآية: 189) وقد تسوَّرت عليَّ، ودخلت عليَّ بغير إذن وقال الله تعالى:{لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا} (سورة النور، الآية: 27) قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، فعفا عنه وخرج وتركه. كذا في الكنز.
قصة عمر رضي الله عنه مع شيخ كبير في هذا الشأن:
وأخرج أبو الشيخ عن السُّدِّي قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإذا هو بضوء نار ومعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتْبَع الضوء حتى دخل داراً فإذا بسراج في بيت، فدخل وذلك في جوف الليل، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقَيْنة تغنِّيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال عمر: ما رأيت كالليلة منظراً أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع رأسه إليه، فقال: بلى، يا أمير المؤمنين ما صنعت أنت أٌبح أتجسست وقد نُهي عن التجسس، ودخلت بغير إذن؟ فقال عمر: صدقت. ثم خرج عاضاً على ثوبه يبكي وقال: ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه، يجد هذا كان يستخفي به من أهله فيقول الآن رآني عمر فيتتابع فيه. وهجر الشيخ مجلس عمر حيناً، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس، فرآه عمر فقال: عليَّ بهذا اشيخ، فأُتي فقيل له: أجب، فقام وهو يرى أن عمر سيسوءه بما رأى منه، فقال عمر: ادنُ مني، فما زال يدنيه حتى أجلسه بجنبه، فقال: إدنِ مني أذنك، فالتقم أذنه فقال: أما والذي بعث محمداً بالحق رسولاً ما أخبرت أحداً من الناس بما رأيت منك ولا ابن مسعود فإنه كان معي، فقال: يا أمير المؤمنين أدنِ مني أذنك، فالتقم أذنه فقال: ولا أنا والذي بعث محمداً بالحق رسولاً ما عدت إليه حتى جلست مجلسي هذا، فرفع عمر صوته يكبِّر، فما يدري الناس من أي شيء يكبر. كذا في الكنز.
قصة عمر رضي الله عنه مع أبي محجن الثقفي:
وأخرج الطبراني عن أبي قِلابة أن عمر رضي الله عنه حُدِّث أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحاب له، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس؛ فقال عمر: ما يقول؟ فقال له زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم رضي الله عنهما: صدق يا أمير المؤمنين، هذا من التجسس، فخرج عمر وتركه. كذا في الكنز.
(11)
كظم الغيظ والعفو عن الناس:
لما كانت مخالطة الناس ومعاشرتهم ـ لا بد ـ وأن يعتريها شيءٌ من التقصير والتفريط والتعدي من بعضهم على بعض إما بقولٍ أو فعلٍ؛ أُستحب لمن ظُلم أن يكظم غيظه ويعفو عمن ظلمه، قال تعالى:(وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى: 37]
وقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 134] قوله: {والكاظمين الغيظ} أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
والكاظم غيظه مع قدرته على إنفاذه موعود على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخير جزيل بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث معاذ ابن أنس الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عز وجل عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ.
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي المتوكل أن أبا هريرة رضي الله عنه كانت له زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها السوط يوماً فقال: لولا القصاص لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك، اذهبي فأنت لله.
وَهُوَ قادرٌ على أَنْ يُنَفِّذَهُ: بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ يُمْضِيَهُ.
وقوله: {والعافين عن الناس} يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل. والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة، مع السماحة عن المسيء،
وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[سورة: الأعراف - الآية: 199]
وقال تعالى: (فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ)[سورة: الحجر - الآية: 85]
وقال تعالى: (وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوَاْ أَلَا تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ)[سورة: النور - الآية: 22]
وقال تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ)[سورة: الشورى - الآية: 43]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث عائشة في الصحيحين) أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يومٌ كان أشد من أحد؟ لقد لقيت من قومك ما لقيت، و كان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت و أنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا و أنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع كلام قومك لك و ما ردوا عليك و قد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد! فقال ذلك فما شئت إن شئت أطبق عليهم الأخشبين قلت: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا.
معنى الأخشبين: الجبلان المحيطان بمكة، والأخشب الجبل الغليظ.
والله تعالى يزيدك بعفوك عزاً بنص السنة الصحيحة:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهمت الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أَقْمَاعُ الْقَوْلِ: هُمْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يَفْهَمُونَهُ.
(حديثا ابن مسعود في الصحيحين) قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً ضربه قومُهُ فأدمَوه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله، رحمة بهم، وإحساناً إليهم، وكراهة حصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى:{فمن عفا وأصلح فأجره على الله} اهـ (1).
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
(1). تفسير الكلام المنان في تفسير كلام الرحمن. لابن سعدي (آل عمران آية 134)
قَالَ صَالِحٌ ابن الإمام أحمد: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يَوْمًا فَقُلْتُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى فَضْلٍ الْأَنْمَاطِيِّ فَقَالَ لَهُ: اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ إذَا لَمْ أَقُمْ بِنُصْرَتِكَ ، فَقَالَ فَضْلٌ: لَا جَعَلْتُ أَحَدًا فِي حِلٍّ ، فَتَبَسَّمَ أَبِي وَسَكَتَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابن الإمام أحمد: قَالَ أَبِي: وَجَّهَ إلَيَّ الْوَاثِقُ أَنْ اجْعَلْ الْمُعْتَصِمَ فِي حِلٍّ مِنْ ضَرْبِهِ إيَّاكَ ، فَقُلْتُ مَا خَرَجْتُ مِنْ دَارِهِ حَتَّى جَعَلْتُهُ فِي حِلٍّ. وَذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَا يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ عَفَا} فَعَفَوْتُ عَنْهُ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: أَفْضَلُ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ الْعَفْوُ. وَرَوَى أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كُلُّ النَّاسِ مِنِّي فِي حِلٍّ.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: الصفح عن عثرات الإخوان وترك تأنيبهم عليها، قال الله تعالى:(فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ)[الحجر: 85]
في التفسير: أن لا يكون فيه تقريع، ولا تأنيب، ولا توقيف، ولا معاتبة. وقيل أيضا: هو رضا بلا عتاب.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن الفضيل بن عياض يقول: " الفتوة: العفو عن عثرات الإخوان "
وأورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن الأصمعي قال: قال أعرابي: " تَنَاسَ مساوئَ الإخوان يدم لك ودهم "
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يونس بن عبد الأعلى يقول: قال لي الشافعي ذات يوم: يا يونس إذا بلغت عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادر بالعداوة وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وقل له: بلغني عنك كذا وكذا، وأجدر أن تسمى المبلغ، فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، ولا تزيدن على ذلك شيئاً. وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهاً بعذر فاقبل منه، وإن لم يرد ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ماله وجه من العذر فاقبله، وإن لم يذكر لذلك وجها لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة أتاها. ثم أنت في ذلك بالخيار، إن شئت كافئه بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أبلغ للتقوى وأبلغ في الكرم، لقول الله تعالى:(وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ لَا يُحِبّ الظّالِمِينَ)[الشورى: 40]. فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فاذكر فيما سبق له لديك، ولا تبخس باقي إحسانه السالف لهذه السيئة، فإن ذلك الظلم بعينه وقد كان الرجل الصالح يقول: رحم الله من كافأني على إساءتي من غير أن يزيد ولا يبخس حقاً لي. يا يونس، إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل. وقد كان الرجل الصالح يشبه سهولة مفارقة الصديق بصبي يطرح في البئر حجراً عظيماً فيسهل طرحه عليه، ويصعب إخراجه على الرجال البرك فهذه وصيتي لك. والسلام.
{تنبيه} : اعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن كظم الغيظ يمكن اكتسابه بترويض النفس فلا ينبغي للإنسان أن يستوطئ العجز ولا أن يقول أنني جُبلت على ذلك فإنه من يتحرى الخير يُعطه ومن يتق الشر يُوَقَّه بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُمِ وَإِنَّمَا الحِلْمُ بِالتَّحَلُمِ وَمَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ وَمَنْ يَتَقِ الشَّرَ يُوّقَّهُ.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إنما العلم) أي تحصيله.
(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه.
(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير.
(تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة.
{تنبيه} : العفو عن الزلات والهنات والمظلمات ليس ضعفاً ولا نقصاناً، بل هو رفعة لصاحبها وعزاً، بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ.
والمتآخيين في الله جديرٌ بهم أن يتجاوزوا عن زلات بعضهم، ويعفوا محسنهم عن مسيئهم، فإنهم إذا تم لهم ذلك سلمت قلوبهم وتصافت، وعاشوا في أحسن حال.
{فائدة} : من العفو قبول عذر المسيء، وفيه أقوالٌ بليغة:
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر في الأخرى، لقبلت عذره ما يعلم كذبه.
ولله درُ من قال:
قيل لي: قد أساء إليك فلانٌ
…
وقعود الفتى عن الضيم عارُ
قلت: قد جاءنا فأحدث عذراً
…
دية الذنب عندنا الاعتذارُ
وقال الأحنف: إن اعتذر إليك معتذرٌ فتلقه بالبشر (1).
(12)
النهي عن التحاسد والتباغض والهجر:
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ.
(حديث أبي خراش السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ.
(1). الآداب الشرعية (1/ 319)
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا]
(فيغفر فيهما لكل عبد لا يشرك باللّه شيئاً) أي ذنوبه الصغائر بغير وسيلة طاعة.
(إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء) أي عداوة
(فيقال انظروا) يعني أخروا
(هذين حتى يصطلحا)
[*] قال أبو داود: إذا كان الهجر للّه فليس من هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم هجر بعض نسائه أربعين يوماً وابن عمر هجر ابناً له حتى مات.
ذم الحسد:
الحسد داءٌ وبيل بل إنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب، والحسد مذموم وصاحبه مغموم،
والحسد ينم عن نفسِ خبيثةٍ إذ هو تمني زوال النعمة عن صاحبها والعياذ بالله وهذا يدل على سوء النية وقبح الطوية وسقامة الضمائر وخبث السرائر إذ لو كانت نفسه طيبة لطلب الفضل من الله تعالى الذي لا يعجزه شيءٌ أعطاه بدلاً من أن يحسد الناس على فضل الله تعالى.
قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مّلْكاً عَظِيماً)[سورة: النساء - الآية: 54]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى:" أم يحسدون" يعني اليهود" الناس " يعني النبي صل الله عليه وسلم خاصة عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما حسدوه على النبوة وأصحابه على الإيمان به وقال قتادة الناس العرب، حسدتهم اليهود على النبوة الضحاك: حسدت اليهود قريشا لأن النبوة فيهم والحسد مذموم وصاحبه مغموم:
وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الحسن: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد، نفس دائم وحزن لازم وعبرة لا تنفد وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله يقول الله تعالى في بعض الكتب الحسود عدو نعمت متسخط لقضائي غير راض بقسمتي.
[*] ولمنصور الفقيه:
إلا قل لمن ظل لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه إذا أنت لم ترض لي ما وهب
ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض فأما في السماء فحسد إبليس لآدم وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل:
[*] ولأبي العتاهية في الناس:
فيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبة فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحن إليهمو وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وقيل: إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك ولرجل من قريش:
حسدوا النعمة لما ظهرت فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة لم يضرها قول أعداء النعم
[*] ولقد أحسن من قال:
اصبر على حسد الحسو د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
[*] وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى:" ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين"[فصلت: 29] إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل، وذلك إن إبليس كان أول من سن الكفر، وقابيل كان أو من سن القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد.
[*] وقال الشاعر:
إن الغراب وكان يمشي مشيةً فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مشيها فأصابه ضب من التعقال
قوله تعالى:" فقد آتينا " ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكاً عظيماً قال همام بن الحارث: أيدوا بالملائكة وقيل: يعني ملك سليمان عن ابن عباس. وعنه أيضاً: المعنى أم يحسدون محمداً على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعاً وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم: لو كان نبياً ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، فقال لهم النبي صلى لاله عليه وسلم:
"ألف امرأة " قالوا: نعم ثلاثمائة مهرية، وسبعمائة سرية، وعند داود مائة امرأة فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة فسكتوا وكان له يومئذ تسع نسوة.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحاسدوا و لا تناجشوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و لا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخْذُلُه و لا يَحْقره التقوى هاهنا - و أشار إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[لا تحاسدوا]
(حديث الزبير بن العوام في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دَبَّ إليكم داءُ الأممِ من قبلِكم: الحسدُ و البغضاء، والبُغْضةُ هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقةَ الدين، و الذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا و لن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يُثّبتُ ذلك أفشوا السلام بينكم.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[دَبَّ إليكم داءُ الأممِ من قبلِكم: الحسدُ و البغضاء]
(دب إليكم) أي سار إليكم
(داء الأمم قبلكم) أي عادة الأمم الماضية
(الحسد والبغضاء)
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أُصُولُ الشَّرِّ ثَلَاثَةٌ: الْحِرْصُ ، وَالْحَسَدُ ، وَالْكِبْرُ ، فَالْكِبْرُ مَنَعَ إبْلِيسَ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ ، وَبِالْحِرْصِ أُخْرِجَ آدَم مِنْ الْجَنَّةِ ، وَالْحَسَدُ حَمَلَ ابْنَ آدَمَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: أن لا يحسد إخوانه على ما يرى عليهم من آثار نعم الله، بل يفرح بذلك ويحمد الله على ما يرى من النعمة عليهم، كما يحمده بنعمته على نفسه. قال تعالى:(أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ)[النساء: 54] وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " لا تحاسدوا "
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ومن آدابها: مجانبة التباغض والتحاسد فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن ذلك فقال: " لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا " أعلم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن التباغض والتحاسد يسقطان عن درجة الأخوة، وأن صحبة الأخوة وكرم الصحبة ما كان منزها عن هذه الخصال المذمومة، فلا تصح حسن العشرة إلا بصحبة الأخوة.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بكر بن عبد الله، قال: كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له حاجب يقربه ويدنيه، وكان هذا الحاجب يقول: أيها الملك أحسن إلى المحسن ودع المسيء تكفك إساءته، قال: فحسده رجل على قربه من الملك فسعى به، فقال: أيها الملك إن هذا الحاجب هوذا يخبر الناس أنك أبخر، قال: وكيف لي بأن أعلم ذلك? قال: إذا دخل عليك تدنيه لتكلمه فإنه يقبض على أنفه، قال فذهب الساعي فدعا الحاجب إلى دعوته واتخذ مرقة وأكثر فيها الثوم، فلما أن كان من الغد دخل الحاجب فأدناه الملك ليكلمه بشيء فقبض على فيه، فقال الملك: تنح فدعا بالدواة وكتب له كتاباً وختمه وقال اذهب بهذا إلى فلان وكانت جائزته مائة ألف، فلما أن خرج استقبله الساعي فقال: أي شيء هذا، قال: قد دفعه إلي الملك، فاستوهبه فوهبه له فأخذ الكتاب ومر به إلى فلان فلما أن فتحوا الكتاب دعوا بالذباحين فقال: اتقوا الله يا قوم فإن هذا غلط وقع علي، وعاودوا الملك؛ فقالوا: لا يتهيأ لنا معاودة الملك، وكان في الكتاب إذا أتاكم حامل كتابي هذا فاذبحوه واسلخوه واحشوه التبن ووجهوه إلي، فذبحوه وسلخوا جلده ووجهوا به إليه، فلما أن رأى الملك ذلك تعجب، فقال للحاجب تعال وحدثني وأصدقني لما أدنيتك لماذا قبضت على أنفك? قال: أيها الملك إن هذا دعاني إلى دعوته واتخذ مرقة وأكثر فيها الثوم فأطعمني فلما أن أدناني الملك قلت يتأذى الملك بريح الثوم، فقال: ارجع إلى مكانك وقل ما كنت تقوله ووصله بمال عظيم، أو كما ذكره.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي، قال: الحسد إنما يكون من لؤم العنصر، وتعادي الطبائع، واختلاف التركيب، وفساد مزاج البنية، وضعف عقد العقل. الحاسد طويل الحسرات عادم الدرجات.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: إن الله تعالى يقسم المحبة كما يقسم الرزق وكل ذا من الله تعالى، وإياكم والحسد، فإنه ليس له دواء، من عامل الله عز وجل بالصدق أورثه الله عز وجل الحكمة.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل، كلام المؤمن حكم، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر، وإذا كنت كذا لم تزل في عبادة.
أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال المؤمن يغبط ولا يحسد الغبطة من الإيمان والحسد من النفاق.
قال الذهبي رحمه الله: قلت هذا يفسر لك قوله عليه الصلاة والتسليم لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا ينفقه في الحق ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار فالحسد هنا معناه الغبطة أن تحسدوا أخاك على ما آتاه الله لا أنك تحسده بمعنى أنك تود زوال ذلك عنه فهذا بغي وخبث.
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا.
والتباغض ضد التحاب، والتدابر هو الهجران.
حُكْمُ هَجْرِ أَهْلِ الْمَعَاصِي:
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّة قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لَمْ يَأْثَمْ إنْ هُوَ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ ، وَإِلَّا كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُلِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرَ مُنْكِرًا وَلَا جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ؟ أهـ
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم.
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَضْحَكُ فِي جِنَازَةٍ. فَقَالَ: أَتَضْحَكُ مَعَ الْجِنَازَةِ؟ لَا أُكَلِّمُك أَبَدًا.
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ امْرَأَةٌ فِي خُلُقِهَا سُوءٌ ، فَكَانَ يَهْجُرُهَا السَّنَةَ وَالْأَشْهُرَ ، فَتَتَعَلَّقُ بِثَوْبِهِ فَتَقُولُ: أَنْشُدُك بِاَللَّهِ يَا ابْنَ مَالِكٍ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ يَا ابْنَ مَالِكٍ فَمَا يُكَلِّمُهَا.
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ وَقِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْمًا يُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَقَوْمًا يُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ ، قَالَ: لَا تُجَالِسُوهُمْ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ جَعَلَ فِي عَضُدِهِ خَيْطًا مِنْ الْحُمَّى: لَوْ مِتَّ وَهَذَا عَلَيْك لَمْ أُصَلِّ عَلَيْك.
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ أَتَيْتُك بِرَجُلٍ يَتَكَلَّمُ فِي الْقَدَرِ؟ فَقَالَ: لَوْ أَتَيْتَنِي بِهِ لَأَوْجَعْت رَأْسَك ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُكَلِّمْهُمْ وَلَا تُجَالِسْهُمْ.
{تنبيه} : الهجر قد يكون لحق الله وهو الهجر على وجه التأديب، وقد يكون لحظ النفس. فما كان لحظ النفس لم يُرخص فيه فوق ثلاث ليالٍ، وعليه يُنزل قوله صلى الله عليه وسلم:(تُفتح أبواب الجنة يوم الأثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا) ولفظ الترمذي: (إلا المتهجرين، يقال ردوا هذين حتى يصطلحا)(1). وما كان لحق الله؛ كهجران صاحب المنكرات حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلفوا حتى أنزل الله توبتهم. وهذه لم تحدد بوقت؛ بل متى ما حصل المقصود امتنع الهجر وحرُم (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(1). رواه مسلم (2565)، وأحمد (7583)، والترمذي (2023)، وأبو داود (4916)، وابن ماجه (1740)، ومالك (1686)
(2)
. انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (28/ 203 - 209)
وهذا الهجر [هجر التأديب] يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يُفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين. اهـ (1).
{فائدة} : رخص الشرع في هجر المسلم أخاه ثلاثة أيام، إذا كان هجراً لحظ النفس، ولم يُبح له أن يزيد على ذلك. والحكمة في ذلك أن النفس البشرية تنتابها من العوارض والحوادث ما يجعلها تغضب، فرُخص لمن وجد على أخيه أن يهجره ثلاثة ليالٍ وهي كافية في كسر سورة الغضب وزوال موجدته على أخيه. ومُثل ذلك المحادة على غير زوجٍ، فقد رُخص لها أن تحد ثلاثة أيام ولا تزيد على ذلك للعلة نفسها؛ فالموت من أعظم المصائب والنفس ينالها من الحزن ما ينالها، فأُبيح لها أن تحد وتُرسل نفسها في التنفيس عن مصابها غير متجاوزة ثلاثة أيام. ولله الحكمة البالغة.
(13)
النهي عن التنابز (2) بالألقاب:
إن التنابز بالألقاب من آفات اللسان التي تجلب الإثم، وتوغر الصدور، وتسبب الفرقة بين الإخوان؛ التنابر بالألقاب، وتلقيب الآخرين بألقاب مُشينة مذمومة يُعيرون بها، ويُضحك عليهم منها، وفيه نهيٌ من الله جل في علاه، قال تعالى:(وَلَا تَنَابَزُواْ بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ)[الحجرات: 11]. والمسلم الحق من سلم المسلمون من لسانه ويده.
(حديث أَبُي جَبِيرَةَ بْنُ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَ:
فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَنِي سَلَمَةَ (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ مِنَّا رَجُلٌ إِلَّا وَلَهُ اسْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ
(1). الفتاوى (28/ 206)
(2)
. في اللسان: وتنابزوا بالالقاب أي لقب بعضهم بعضاً، والتنابز: التداعي بالألقاب وهو يكثر فيما كان ذماً. (5/ 413) مادة: نبز
فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَا فُلَانُ فَيَقُولُونَ مَهْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ).
وعامة الناس اليوم يكثر فيهم هذا، وهو من العدوان بالقول، ومن أوزار اللسان وآفاته. والناجي من أخذ بلسانه وكفه عن أعراض المسلمين، ولم ينالهم بسوء. وقانا الله وإياكم آفات اللسان وسقطاته.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: أفواه الرجال حوانيتها وشفتاها مغاليقها، وأسنانها مخاليبها، فإذا فتح الرجل باب حانوته تبين لك العطار من البيطار.
(14)
استحباب الإصلاح بين الإخوان:
لا محيد عن وجود بعض الخصام والنزاع بين الإخوان، مما قد ينتج عنه بعض الشحناء والإحن بينهم. والموفق من الناس من جعله الله مصلحاً بين المتهاجرين أو المتخاصمين، والإصلاح بين الناس من أفضل القربات وأجل الطاعات، ويترتب عليه الأجر العظيم بنص القرآن والسنة الصحيحة، بل هو أفضل من درجة الصيام والصلاة وقد حثنا الله تعالى على إصلاح ذات البين في محكم التنزيل منها مايلي:
قال تعالى: (لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(النساء / 114)
النجوى: السر بين الاثنين، تقول: ناجيت فلاناً مناجاة *
ومعنى (لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ): لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ، ثم وعد الله تعالى من يفعل هذه الخصال الثلاث ابتغاء مرضاته فسوف يؤتيه أجراً عظيماً فقال سبحانه
(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)
وقال تعالى: (فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ)(الأنفال / 1)
وقال تعالى: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)(الحجرات / 10)
والسنة الصحيحة طافحةُ بالحث على إصلاح ذات البين منه ما يلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
الشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم يعدل بين الاثنين صدقة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
(حديث أبي الدر داء الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
) ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة) أي بدرجة هي أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة.
(إصلاح ذات البين) أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحبة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين القوم.
(فإن فساد ذات البين هي الحالقة) أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر أو المراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير حتى أبيح فيه الكذب وكثرة ما يندفع من المضرة في الدنيا والدين بتشتت القلوب ووهن الأديان من العداوات وتسليط الأعداء وشماتة الحساد فلذلك صارت أفضل الصدقات.
الرخصة في الكذب بين المتخاصمين بما يوجب الصلح:
والشرع المطهر حريص على اجتماع الكلمة، وتوحيد الصفوف، وسلامة القلوب، وينهى عن الاختلاف والتباعد والمفارقة. ومن أجل ذلك رُخص للمصلح بين الناس أن يكذب، وليس هو بآثم.
(حديث أم كلثوم بنت عقبة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا.
زاد مسلم (وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ الْحَرْبُ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا)
(حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ.
(حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ.
وأولوا الألباب خليق بهم أن يكونوا سباقين للإصلاح بين الناس، فلا ينبغي لهم العزوف عنه، ولا الحيدة عن طريقه بعد ما عرفوا ما فيه من الأجر العظيم.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: مجانبة الحقد، ولزوم الصلح، والعفو عن الإخوان.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن هلال بن العلاء قال: " جعلت على نفسي أن لا أكافئ أحدا بسوء ولا عقوق، وذهب إلى هذه الأبيات: لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات إني أحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات وأظهر البشر (1) للإنسان أبغضه كأنه قد ملا قلبي محبات "
(15)
تحريم المنّ:
(1) البِشْر: هو طَلاقة الوجه وبشاشَتُه والسرور
غالباً ما يكون بين الإخوان تهادي وأُعطيات، فهذا يهدي لهذا، وهذا يُعطي هذا. وهذا من تمام المعاشرة بينهم، وداعي إلى دوامها واستقرارها. ولكن النفوس الضعيفة تسلك سبيل المنِّ عند العطاء إما بُخلاً أو عُجباً. قال القرطبي: المن غالباً يقع من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة وأنه منعم بماله على المعطي والمنُّ محرمٌ في الشرع، والمنَّانُ مذموم وعلى خطر عظيم. قال ابن مفلح: ويحرم المنُّ بما أعطى، بل هو كبيرة على نصِّ أحمد. اهـ (1). والآيات والأحاديث قاضية بتحريم المنِّ، كقوله تعالى:(الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لَا يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلَا أَذًى لّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة: 262]
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارًا قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ.
(16)
حفظ السر وعدم إفشاؤه:
وهو من الأمانات التي يجب حفظها وكتمانها. والمُفشي للسر خائنٌ للأمانة، وهي من خصال المنافقين، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.
(1). الآداب الشرعية (1/ 336)
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.
(حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اضْمَنُوا لِي سِتَاً مِنْ أَنْفُسِكُم أَضْمَنُ لَكُم الجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَثْتُم وَأَوفُوا إِذَا وَعَدتُم وَأَدُوا إِذَا ائْتُمِنْتُم وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُم وَغُضُوا أَبْصَارَكُم وَكُفُوا أَيْدِيَكُم.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: جاءت امرأة إلى رسول الله تعرض عليه نفسها، قالت يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءك، واسوأتاه واسوأتاه، قال هي خير منك، رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) يحدث: أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله، فتوفي بالمدينة، فقال عمر ابن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، وكنت أوجدَ عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدتَ علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله، ولو تركها رسول الله قبلتها.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ.
وهذا من حرص الشرع وعنايته بحفظ الناس لأسرارهم، حيث عدَّ التفات المتكلم على وجه التأكد من خلو المكان، قائماً مقام قوله: هذا سرٌ فاكتمه عني.
قال بعض الحكماء: قلوب الأحرار قبور الأسرار.
أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسن رحمه الله قال: إن من الخيانة أن تُحَدِّثَ بِسِرِّ أخيك.
أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
ولا تفش سرك إلا إليك: فإن لكل نصيحٍ نصيحا
فإني رأيت غواة الرجال لا يتركون أديما صحيحا.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ما وضعت سري عند أحد أفشاه علي فلمته إنما كنت أضيق به حيث استودعته إياه.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن رجل من همدان قال سمعت أعرابيا يقول لابن عم له إن سِرَّك من دينك فلا تضعه إلا عند من تثق به.
(17)
ذم ذي الوجهين:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ.
قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل والكذب، مدخل للفساد بين الناس. وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق محض كذب وخداع وتحيل وإطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة. قال: فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود. وقال غيره: الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح للأخرى ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليه ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح. اهـ (1).
(حديث عمار ابن ياسر الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الأدب المفرد) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِذِي الوَجْهَينِ أَنْ يَكُونَ أَمِينَاً.
(1). فتح الباري (10/ 490)
(حديث أَبِي الشَّعْثَاءِ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَمِيرِنَا فَنَقُولُ الْقَوْلَ فَإِذَا خَرَجْنَا قُلْنَا غَيْرَهُ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ النِّفَاقِ "
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ فِي هَذِهِ مَرَّةً وَفِي هَذِهِ مَرَّةً لَا تَدْرِي أَيَّهَا تَتْبَعُ.
(كمثل الشاة العائرة): المترددة المتحيرة.
(تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة): أي تعطف على هذه وعلى هذه.
(لا تدري أيهما تتبع) لأنها غريبة ليست منهما، فكذا المنافق لا يستقر بالمسلمين ولا بالكافرين بل يقول لكل منهم أنا منكم.
(18)
التحلي بالسَمْتِ الصالح:
يجب على طالب العلم أن يتحلى بفضيلة السمت الصالح وهو حسن الهيئة في الدين من الوقار والسكينة والخشوع وغيرها لأنها جزء من النبوة بنص السنة الصحيحة.
(حديث ابن عباس في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السمت الصالح والهدي الصالح والاقتصاد جزء من خمسةٍ و عشرين جزءا من النبوة.
(19)
التحلي بفضيلتي الحِلمِ والأناة:
يجب على المسلم أن يُروِّض نفسه على الحلم والأناة فإنه من يتحرى الخير يعطه ومن يتقِ الشر يُوَقَّه، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث ابن عباس في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأشج عبد القيس: إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم و الأناة.
(حديث سعد بن أبي وقاص في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة.
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التأني من الله والعجلة من الشيطان.
مسألة: كيف يكتسب الإنسان فضيلتي الحِلمِ والأناة؟
يكتسب الإنسان فضيلتي الحِلمِ والأناة بشيئين متلازمين:
أحدهما: ترويض النفس على الخير، فإن النفس إذا روضتها على الخير اكتسبت هذا الخلق وصار من صفاتها فإنه من يتحر الخير يعطه بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يوقه.
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه
والثاني الصدق: فإن الله تعالى إذا اطَّلع على قلبك ورأى منك الصدق أوصلك إلى ما تصبو إليه.
(حديث شداد بن الهادي في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن تصدق الله يصدقك.
(20)
التحلي بفضيلة الرفق:
إن الرفق مما يقوي الروابط بين الإخوان، ويعمق الصلة بينهم، فـ (الله يحب الرفق في الأمر كله) وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ.
(حديث جرير ابن عبد الله الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ وَعَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوْ الْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا.
ومادام ذلك كذلك، فالإخوان أحرى وأولى أن يرفق بعضهم ببعض، وأن يلين بعضهم لبعض.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ.
(21)
التحلي بفضيلة احتمال الأذى:
(حديث أَنَسِ الثابت في الصحيحين) قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن رجلاً قال يا رسول الله إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني وأُحسِن إليهم ويُسِيئون إليَّ وأحلمُ عنهم ويجهلون عليَّ فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهِمُ الملَّ و لا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك.
(22)
التحلي بفضيلة الجود والسخاء والإنفاق في وجوه الخير:
من الصفات التي يجب على المسلم أن يتحلى بها إذا أراد أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة الجود والسخاء والإنفاق في سبيل الله تعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم جودُه متتابع وكرمه فياض وكان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان جوده يعم كل من يقابله، وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلاً.
[*] والكتاب والسنة الصحيحة طافحان بما يحث على الجود والسخاء والإنفاق في سبيل الله تعالى.
وإليك بعض ما ورد في ذلك فارعها سمعك وفكرك واجعل لها في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقعاً عسى الله أن ينفعك بها ويوفقك إلى تطبيقها.
قال تعالى: (وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ)[سورة: سبأ - الآية: 39]
و قال تعالى: (وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)[سورة: البقرة - الآية: 272]
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق و رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها و يُعَلِمُها
…
(حديث عدي ابن حاتم في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتق النارَ ولو بشقِ تمرة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى [أنفق يا ابن آدم أُنفق عليك]
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خَلَفَاً و يقول الآخر: اللهم أعط مُمْسِكَاً تَلَفّا.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.
(حديث عبد الله ابن عمرو في الصحيحين) أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلامُ خير؟ قال: تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لَا يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلَا عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
(حديث عبد الله ابن الشخير في صحيح مسلم) أنه انتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ (أَلْهَاكُمُ التّكّاثُرُ) قال: قال يقول بن آدم مالي مالي. وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من تصدق بعدل تمرةٍ من كسب طيب و لا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يُرَبِيها له كما يربي أحدكم فَلَوَّه حتى تكون مثل الجبل.
معنى الفَلُّو: المهر وهو صغير الحصان، واختير في التشبيه لأنه يزيد زيادةً بينة بسرعة.
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، و كان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيُدارسه القران فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة
{تنبيه} : السرُّ في تشبيه جود النبي صلى الله عليه وسلم بالريح المرسلة أن الريح المرسلة تعم كل من يقابلها، وهكذا كان جود النبي صلى الله عليه وسلم كان يَعُمُ من يقابله.
(23)
التحلي بفضيلة الإيثار:
يجب على المسلم أن يتحلى بفضيلة الإيثار لما فيه من الفضل العظيم والأجر الجسيم، فالإيثار يظهر معدن الأخيار
قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[سورة: الحشر - الآية: 9]
قال القرطبي رحمه الله تعالى في قوله تعالى:" ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنياوية، ورغبة في الحظوظ الدينية. وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة. يقال: آثرته بكذا، أي خصصته به وفضلته. .
قوله تعالى: " ولو كان بهم خصاصة " الخصاصة: الحاجة التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة، أي لو كان بهم فاقة وحاجة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال: من يضيف هذا الليلة رحمة الله.؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجب الله عز وجل من صنيعكم. "
(24)
التحلي بفضيلة المواساة في السَنَةِ والمجاعة:
من الفضائل التي يجب على المسلم أن يتحلى بها فضيلة المواساة في السَنَةِ والمجاعة فإنها من أجلِّ القربات وأعظم الطاعات لما فيها من تفريج الكربات.
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جعلوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني و أنا منهم.
معنى أرملوا: أي فرغ زادهم أو قارب الفراغ.
(حديث أبي سعيد في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له و من كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحدٍ منا في فضل.
(حديث محمد بن المنكدر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن تقضي عنه دينا تقضي له حاجة تنفس له كربة.
(25)
التحلي بفضيلة إقراض القرض والتجاوز عن المعسر:
ومن الفضائل التي ينبغي على المسلم أن يتحلى بها إقراض القروض والتجاوز عن المعسر لما فيهما من تنفيس الكروب وتفريج الهموم.
(حديث ابن مسعود في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان رجل يداين الناس فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا الله فتجاوز الله عنه.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يسرَّ على مسلمٍ يسرَّ الله عليه في الدنيا والآخرة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
(26)
التحلي بفضيلة التكسب والتجارة والاستغناء عن الناس:
من أعظم ما يتحلى به المؤمن التحلي بفضيلة التكسب والتجارة والاستغناء عن الناس، والسنة المشرفة طافحةٌ بما يحث على فضيلة التكسب وعمل الإنسان بيده ليستغني بالله تعالى عن الناس، ومن ذلك ما يلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيحتطبَّ على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسألَه، أعطاهُ أو مَنَعه)
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أكل أحدٌ طعامٌ قط، خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكلُ من عمل يده)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان زكرياء نجاراً)
(حديث عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكّلُونَ عَلَى الله حَقّ تَوَكّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً ".
(حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
أَفْضَلُ الْكَسْبَِْ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَجُلِ بِيَدِه.
قال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير:
(أفضل الكسب بيع مبرور) أي لا غش فيه ولا خيانة أو معناه مقبول في الشرع بأن لا يكون فاسداً أو مقبول عند اللّه بأن يكون مثاباً عليه.
(عمل الرجل بيده) من نحو صناعة أو زراعة وقيد العمل باليد لكون أكثر مزاولته بها وخص الرجل لأنه المحترف غالباً لا لإخراج غيره وظاهر الحديث تساويهما في الأفضلية قال بعضهم وقد قيل له لا تتبع التكسب فيدنيك من الدنيا فقال لئن أدناني من الدنيا فقد صانني عنها.
(حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ.
(التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ إِلَخْ) أَيْ: مَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ في البيع كَانَ فِي زُمْرَةِ الْأَبْرَارِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليستغن أحدكم عن الناس بقضيب سواك)
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا رزقه الله مالاً وعلما فهو بأحسن المنازل عند الله بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لَا يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله، وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلَا عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي فِي كِفَايَةٍ قَالَ الْزَمْ السُّوقَ تَصِلُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَعُودُ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ لِلْمَيْمُونِيِّ اسْتَغْنِ عَنْ النَّاسِ فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْغَنِيِّ عَنْ النَّاسِ وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رحمه الله لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَثِقُ بِاَللَّهِ فَيَأْتِيه بِرِزْقِهِ قَالَ: إذَا وَثِقَ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْء أَرَادَهُ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رحمه الله: وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَيُقْبِلُ عَلَى الصَّلَاةِ يَعْنِي وَرَجُلٌ يَشْتَغِلُ بِالتِّجَارَةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ قَالَ التَّاجِرُ الْأَمِينُ.
وَتَرَكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ دَنَانِيرَ: فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجْمَعْهَا إلَّا لِأَصُونَ بِهَا دِينِي وَحَسَبِي ، لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَجْمَعُ الْمَال فَيَقْضِي دَيْنَهُ وَيَصِلُ رَحِمَهُ وَيَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ. أهـ
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
َقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ وَقَالَ: لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِي رِزْقِي؟ فَقَالَ أَحْمَدُ هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي} وَقَالَ حِينَ ذَكَرَ الطَّيْرَ {تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا} وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّجِرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيَعْمَلُونَ فِي نَخْلِهِمْ ، وَالْقُدْوَةُ بِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رحمه الله: لَيْسَ الْعِبَادَةُ عِنْدَنَا أَنْ تَصُفَّ قَدَمَيْك وَغَيْرُك يَتْعَبُ لَك وَلَكِنْ ابْدَأْ بِرَغِيفِك فَاحْرُزْهُمَا ثُمَّ تَعَبَّدْ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن سفيان الثَّوْرِيُّ قَالَ لَأَنْ أَخْلُفَ عَشْرَةَ آلَاف دِرْهَمٍ يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إلَى النَّاسِ.
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر أن رجلاً قال لمعروف الكرخي: يا أبا محفوظ! أتحرك لطلب الرزق أم أجلس؟ قال: لا بل تحرك، فإنه أصلح لك، فقال له أتقول هذا؟! فقال: وما أنا قلت، ولكن الله عز وجل أمر به، قال الكريم:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] ولو شاء أن ينزله عليها (1).
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: جاءني طاووس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجاباً، وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك بالإجابة.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الأحوص سلام بن سليمل قال: قال لي سفيان الثوري: عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال، قال: وكان سفيان الثوري إذا أعجبه تجر الرجل، قال: نعم الفتى إن عوجل.
مسألة: كيف نجمع بين الحديث الآتي وبين حديث أنس كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ.
(1) تاريخ بغداد: (13/ 199)، طبعة دار الفكر.
(حديث عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ:
كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ فِيمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عُمَرَ رضي الله عنه {: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ سَنَةٍ} قَالَ فِيهِ جَوَازُ ادِّخَارِ قُوتِ سَنَةٍ وَلَا يُقَالُ هَذَا مِنْ طُولِ الْأَمَلِ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ لِلْحَاجَةِ مُسْتَحْسَنٌ شَرْعًا وَعَقْلًا ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ شُعَيْبُ مُوسَى عليهما السلام وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى جَهَلَةِ الْمُتَزَهِّدِينَ فِي إخْرَاجِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا عَنْ التَّوَكُّلِ ، فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَّخِرُ لَغَدٍ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ خَلْقٌ مِنْ الْفُقَرَاءِ فَكَانَ يُؤْثِرُهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ.
إباحة جمع المال للقائم بحقوقه:
(حديث عمرو بن العاص الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم المال الصالح للمرء الصالح.
(حديث يسار بن عُبيد الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم.
قال أهل العلم:
الواجب على العاقل أن يعمل في شبابه فيما يقيم به أوده كالشيء الذي لا يفارقه أبدا وفيما يصلح به دينه كالشيء الذي لا يجده غدا وليكن تعاهده لماله ما يصلح به معاشه ويصون به نفسه وفي دينه ما يقدم به لآخرته ويرضي به خالقه والفاقه خير من الغنى بالحرام والغنى الذي لا مروءة له أهون من الكلب وإن هو طوق وخلخل.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن محمد بن المنكدر قال نعم العون على تقوى الله الغني.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن عبدان قال دخلت على عبد الله المبارك وهو يبكي فقلت له مالك يا أبا عبد الرحمن قال بضاعة لي ذهبت قال قلت أو تبكي على المال قال إنما هو قوام ديني.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أيوب قال: قال لي أبو قلابة يا أيوب الزم سوقك فإنك لا تزال كريما على إخوانك ما لم تحتج إليهم.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أيوب قال: قال لي أبو قلابة الزم السوق فإن الغنى من العافيه.
(27)
التحلي بفضيلة الوفاء بالوعد:
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
أَثْنَى اللَّهُ عز وجل عَلَى إسْمَاعِيلَ عليه السلام فَقَالَ: {إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]. وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عَانَى فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ مَا لَمْ يُعَانِهِ غَيْرُهُ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إن حسن العهد من الإيمان:
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن حسن العهد) أي الوفاء والخفارة ورعاية الحرمة
(من الإيمان) أي من أخلاق أهل الإيمان ومن خصائلهم أو من شعب الإيمان ويكفي الموفي بالعهد مدحاً وشرفاً قول من علت كلمته والموفون بعهدهم إذا عاهدوا وقد [ص 447] تظافرت على حسن العهد مع الإخوان والخلان أهل الملل والنحل وأعظم الناس وفاء بذلك ومحافظة عليه وإن تقادم عهده: الصوفية، وأنشد بحضرة العارف الشاذلي: رأى المجنون في البيداء كلبا * فجر له من الإحسان ذيلا * فلاموه لذاك وعنفوه وقالوا لم أنلت الكلب نيلا * فقال دعوا الملامة إن عيني * رأته مرة في حي ليلي فقال له كرر فلم يزل يتواجد وينتحب ثم قال جزاك اللّه خيراً يا بني على وفائك بعهدك إن حسن العهد من الإيمان والعهد لغة له معان منها حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال والمراد هنا عهد المعرفة المتقدمة.
من أقوال السلف في الوفاء بالوعد:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مكحول، قال: لا تعاهدوا السفيه ولا المنافق فما نقضوا من عهد الله أكبر من عهدكم.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ ثَلَاثٌ وَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ ثَلَاثٌ مَنْ إذَا حَدَّثَهُمْ صَدَقَهُمْ ، وَإِذَا ائْتَمَنُوهُ لَمْ يَخُنْهُمْ ، وَإِذَا وَعَدَهُمْ وَفَّى لَهُمْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ تُحِبَّهُ قُلُوبُهُمْ ، وَتَنْطِقَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَلْسِنَتُهُمْ ، وَتَظْهَرَ لَهُ مَعُونَتُهُمْ.
وَقَالَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: طَافَ ابْنُ عُمَرَ سَبْعًا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا أَسْرَعَ مَا طُفْتَ وَصَلَّيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ،. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَنْتُمْ أَكْثَرُ مِنَّا طَوَافًا وَصِيَامًا ، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ. وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَإِنْجَازِ الْوَعْدِ. أهـ
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: أن لا تعد أخاك وعدا ثم تخلفه، فإنه من النفاق.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن الثوري يقول: " لا تعد أخاك موعدا فتخلفه، فَتُسْتَبْدَلُ المودة بغضا "
أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن هارون بن رئاب قال لما حضرت عبد الله بن عمرو الوفاة رضي الله عنه قال إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش وقد كان مني إلية شبيه بالوعد فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق اشهدوا أني قد زوجتها إياه.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عبد ربه القصاب قال واعدت محمد بن سيرين رحمه الله أن أشترى له أضاحي فنسيت وعده بشغل ثم ذكرت بعد فأتيته قريبا من نصف النهار وإذا محمد ينتظرني فسلمت عليه ورفع رأسه فقال أما إنه قد يقبل أهون ذنب منك فقلت شغلت وعنفني أصحابي في المجيء إليك وقالوا قد ذهب ولم يقعد إلى الساعة فقال لو لم تجئ حتى تغرب الشمس ما قمت من مقعدي هذا إلا للصلاة أو حاجة لا بد منها.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أبي إسحاق قال كان أصحاب عبد الله رضي الله عنه يقولون إذا وعد فقال إن شاء الله فلم يخلف.
(28)
التحلي بحُسْنِ الظَّنِّ بِأَهْلِ الدِّينِ:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا.
أي إذا ظننتم بأحدٍ سوأ فلا تجزموا به ما لم تتحققوه، وَهَذَا مِنْ الظَّنِّ الَّذِي يَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ فِي أَخِيهِ فِيمَا يُوجِبُ الرِّيبَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقَهُ.
(حديث صفية الثابت في الصحيحين) أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم يقْلبُها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمةَ مرَّ رجلان من الأنصار فسلَّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم على رِسلكُمَا إنما هي صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله وكبُرَ عليهما فقال صلى الله عليه وسلم إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما شيئاً)
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ:
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: رضي الله عنه لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ يَسْمَعُ مِنْ أَخِيهِ كَلِمَةً يَظُنُّ بِهَا سُوءًا وَهُوَ يَجِدُ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ مَخْرَجًا.
وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِظَنِّهِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ: اتَّقُوا ظَنَّ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ أهـ
{تنبيه} : لا يجوز أن يُحْسَنَ الظنُ بما يُخَالفُ الشرع:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً). قال الليث: كانا رجلين من المنافقين.
(29)
التحلي بالْتِزَامِ الْمَشُورَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا:
قال تَعَالَى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)[آل عمران: 159]
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . مَعْنَاهُ: اسْتَخْرِجْ آرَاءَهُمْ وَاعْلَمْ مَا عِنْدَهُمْ.
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المستشارُ مُؤتَمَن.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أُفْتِىَ بغير علمٍ كان إثْمُه على من أفتاه و من أشار على أخيه بأمرٍ يعلمُ أن الرشدَ في غيرهِ فقد خانَه.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال:
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ حَاجَةً مِنْهُ. إلَى رَأْيِهِمْ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا فِي الْمَشُورَةِ مِنْ الْبَرَكَةِ.
وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: شَاوِرْ فِي أَمْرِكَ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ عز وجل.
وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قال: مَا نَزَلَتْ بِي قَطُّ عَظِيمَةٌ فَأَبْرَمْتُهَا حَتَّى أُشَاوِرَ عَشَرَةً مِنْ قُرَيْشٍ ، فَإِنْ أَصَبْتُ كَانَ الْحَظُّ لِي دُونَهُمْ ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ لَمْ أَرْجِعْ عَلَى نَفْسِي بِلَائِمَةٍ.
وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ قال: لَأَنْ أُخْطِئَ وَقَدْ اسْتَشَرْتُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُصِيبَ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ.
وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ قال: الْخَطَأُ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّوَابِ مَعَ الْفُرْقَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ لَا تُخْطِئُ وَالْفُرْقَةُ لَا تُصِيبُ.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك، حدثني من أرضي أن عمر بن الخطاب أوصى رجلاً، فقال: لا تعترض فيما لا يعنيك، واجتنب عدوك، واحذر خليلك، ولا أمير من القوم إلا من خشي الله، والأمين من القوم لا تعدل به شيئاً، ولا تصحبن فاجراً كي تعلم من فجوره، ولا تفش إليه سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله.
(30)
التحلي بفضيلة مدارة الناس:
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة فلما دخل ألان له الكلام قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام قال أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: رَأْسُ الْمُدَارَاةِ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: شَرْطُ الصُّحْبَةِ إقَالَةُ الْعَثْرَةِ ، وَمُسَامَحَةُ الْعِشْرَةِ ، وَالْمُوَاسَاةُ فِي الْعُسْرَةِ.
الفرق بين المداراة والمداهنة:
مسألة: ما الفرق بين المداراة والمداهنة مع أن كلاهما ملاينة؟
فصل الخطاب في الفرق بين المداراة والمداهنة أن كلاهما ملاينة إلا أن المداراة ملاينة للوصول إلى حق والمداهنة ملاينة للوصول إلى باطل.
[*] قال معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه: لو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.
[*] أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن إبراهيم بن أدهم قال قال أبو الدرداء لأم الدرداء إذا غضبت فرضيني وإذا غضبت رضيتك فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق.
[*] أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابن الحنفية قال ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً حتى يأتيه الله منه بالفرج أو المخرج. أهـ
فالواجب على العاقل أن يداري الناس مداراة الرجل السابح في الماء الجاري ومن ذهب إلى عشرة الناس من حيث هو كدر على نفسه عيشه ولم تصف له مودته لأن وداد الناس لا يستجلب إلا بمساعدتهم على ما هم عليه إلا أن يكون مأثما فإذا كانت حالة معصية فلا سمع ولا طاعة والبشر قد ركب فيهم أهواء مختلفة وطبائع متباينة فكما يشق عليك ترك ما جبلت عليه فكذلك يشق على غيرك مجانبة مثله فليس إلى صفو ودادهم سبيل إلا بمعاشرتهم من حيث هم والإغضاء عن مخالفتهم في الأوقات.
ولله درُّ من قال:
دار من الناس ملالاتهم
…
من لم يدار الناس ملوه
ومكرم الناس حبيب لهم
…
من أكرم الناس أحبوه
[*] أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن معاذ بن سعد الأعور قال كنت جالسا عند عطاء بن أبي رباح فحدث رجل بحديث فعرض رجل من القوم في حديثه قال فغضب وقال ما هذه الطباع إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به فأريه كأني لا أحسن منه شيئا.
(31)
التآلف مع الإخوان:
ومن أهم الآداب التي ينبغي على المسلم أن يتحلى بها في معاشرة الإخوان التآلف مع الإخوان فإن المؤمن يألف و يؤلف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف.
(حديث جابر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن يألف و يؤلف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف و خير الناس أنفعهم للناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
[المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس] قال الماوردي: بين به أن الإنسان لا يصلح حاله إلا الألفة الجامعة فإنه مقصود بالأذية محسود بالنعمة فإذا لم يكن ألفاً مألوفاً تختطفه أيدي حاسديه وتحكم فيه أهواء أعاديه فلم تسلم له نعمة ولم تصف له مدة وإذا كان ألفاً مألوفاً انتصر بالألف على أعاديه وامتنع بهم من حساده فسلمت نعمته منهم وصفت مودته بينهم.
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أَكْمَلُ المُؤْمِنِيْنَ إِيْمَانَاً أَحْسَنُهُم خُلِقَا المُوَطَئُونَ أَكْنَافَاً الذِيْنَ يَأْلَفُوْنَ وَيُؤْلَفُوْنَ وَلَا خَيْرَ فِيْمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ.
[*] أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ميمون بن مهران قال التودد إلى الناس نصف العقل وحسن المسألة نصف العلم واقتصادك في معيشتك يلقي عنك نصف المؤونه.
{تنبيه} : حاجة المرء إلى الناس مع محبتهم إياه خير من غناه عنهم مع بغضهم إياه والسبب الداعي إلى صد محبتهم له هو التضايق في الأخلاق وسوء الخلق لأن من ضاق خلقه سئمه أهله وجيرانه واستثقله إخوانه فحينئذ تمنوا الخلاص منه ودعوا بالهلاك عليه.
سبب استثقال الناس للإنسان:
الاستثقال من الناس يكون سببه شيئين أحدهما مقارفة المرء ما نهى الله عنه من المآثم لأن من تعدى حرمات الله أبغضه الله ومن أبغضه الله أبغضته الملائكة ثم يوضع له البغض في الأرض فلا يكاد يراه أحد إلا استثقله وأبغضه، والسبب الآخر هو استعمال المرء من الخصال ما يكره الناس منه فإذا كان كذلك استحق الاستثقال منهم.
(32)
النهي عن مصاحبة أهل الأهواء والبدع:
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الشِّيرَازِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا رحمه الله فِي كِتَابِ التَّبْصِرَةِ لَهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنه وَإِذَا رَأَيْت الشَّابَّ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَأَرْجِهْ وَإِذَا رَأَيْته مَعَ أَصْحَابِ الْبِدَع فَايئَسْ مِنْهُ فَإِنَّ الشَّابَّ عَلَى أَوَّلِ نُشُوئِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ السِّرِّ الْمَكْتُومِ لَمَّا ذَكَرَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ وَالْفَلَاسِفَةَ قَالَ اللَّهَ اللَّهَ مِنْ مُصَاحَبَةِ هَؤُلَاءِ ، وَيَجِبُ مَنْعُ الصِّبْيَانِ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ لِئَلَّا يَثْبُتَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاشْغَلُوهُمْ بِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِتُعْجَنَ بِهَا طَبَائِعُهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ: وَلَا تُشَاوِرْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي دِينِك ، وَلَا تُرَافِقْهُ فِي سَفَرِك.
(33)
أن يعيش بين إخوانه بالمودة والرحمة:
من أهم آداب معاشرة الإخوان أن يعيش بين إخوانه بالمودة والرحمة حتى يصيروا معاً كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى.
(حديث النعمان بن بشير في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(مثل المؤمنين) الكاملين في الإيمان
(في توادهم) أي تحاب
(وتراحمهم) أي تلاطفهم
(وتعاطفهم) قال ابن أبي جمرة: الثلاثة وإن تفاوت معناها بينها فرق لطيف فالمراد بالتراحم أن يرحم بعضهم بعضاً لحلاوة الإيمان لا لشيء آخر وبالتواد التواصل الجالب للمحبة كالتهادي وبالتعاطف إعانة بعضهم بعضاً
(مثل الجسد الواحد) بالنسبة لجميع أعضائه، وجه الشبه فيه التوافق في التعب والراحة
(إذا اشتكى منه عضو) أي مرض
(تداعى له سائر الجسد) يعني دعا بعضهم بعضاً إلى المشاركة في الألم
(بالسهر) بفتح الهاء ترك النوم لأن الألم يمنع النوم
(والحمى) لأن فقد النوم يثيرها والحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب فتنبث به في جميع البدن ثم لفظ الحديث خبر ومعناه أمر أي كما أن الرجل إذا تألم بعض جسده سرى ذلك الألم إلى جميع جسده فكذا المؤمنون ليكونوا كنفس واحدة إذا أصاب أحدهم مصيبة يغتم جميعهم ويقصدوا إزالتها.
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(المؤمن للمؤمن كالبنيان) أي الحائط لا يتقوى في أمر دينه ودنياه إلا بمعرفة أخيه كما أن بعض البنيان يقوى ببعضه.
(يشد بعضه بعضاً) بيان لوجه التشبيه وبعضاً منصوب بنزع الخافض أو مفعول يشد وتتمته كما في البخاري ثم شبك بين أصابعه أي يشد بعضهم بعضاً مثل هذا الشد فوقع التشبيك تشبيهاً لتعاضد المؤمنين بعضهم ببعض كما أن البنيان الممسك بعضه ببعض يشد بعضه بعضا وذلك لأن أقواهم لهم ركن وضعيفهم مستند لذلك الركن القوي، وفيه تفضيل الاجتماع على الانفراد ومدح الاتصال على الانفصال فإن البنيان إذا تفاصل بطل وإذا اتصل ثبت الانتفاع به بكل ما يراد منه.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
" ومما لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ ، وَيَغْفِرَ زَلَّتَهُ ، وَيَرْحَمَ عَبْرَتَهُ ، وَيُقِيلَ عَثْرَتَهُ ، وَيَقْبَلَ مَعْذِرَتَهُ ، وَيَرُدَّ غِيبَتَهُ ، وَيُدِيمَ نَصِيحَتَهُ ، وَيَحْفَظَ خِلَّتَهُ ، وَيَرْعَى ذِمَّتَهُ ، وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ ، وَيَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ ، وَيُكَافِئَ صِلَتَهُ ، وَيَشْكُرَ نِعْمَتَهُ ، وَيُحْسِنَ نُصْرَتَهُ ، وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ ، وَيَشْفَعَ مَسْأَلَتَهُ ، وَيُشَمِّتَ عَطْسَتَهُ ، وَيَرُدَّ ضَالَّتَهُ ، وَيُوَالِيَهُ ، وَلَا يُعَادِيَهُ ، وَيَنْصُرَهُ عَلَى ظَالِمِهِ ، وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ غَيْرِهِ ، وَلَا يُسْلِمَهُ ، وَلَا يَخْذُلَهُ ، وَيُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ، وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ " أهـ
(34)
دفع السيئة بالحسنة:
إن دفع السيئة بالحسنة يحوِّل العداوة إلى محبة بنص القرآن الكريم، قال تعالى:(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ)[سورة: فصلت /34،35]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى: [ادفع بالتي هي أحسن] قال ابن عباس: أي ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك. وعنه أيضاً: هو الرجل يسب الرجل فيقول الآخر إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
وقوله تعالى: " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " أي قريب حديق
قال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذا الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم. وروي أن رجلاً شتم قنبراً مولى علي بن أبي طالب فناداه علي يا قنبر! دع شاتمك، واله عنه ترضي الرحمن وتسخط الشيطان، وتعاقب شاتمك، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه.
{تنبيه} : إذا قابلت إساءة الإنسان بعفوك وإحسانك لا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن رجلا قال يا رسول الله إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني وأُحسنُ إليهم ويُسيئون إلي وأحلُمُ عنهم ويجهلون علي فقال صلى الله عليه وسلم لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهمُ المَلَّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك.
الشاهد من الحديث:
قوله صلى الله عليه وسلم[لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهمُ المَلَّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك]
ومعنى الملَّ: الرماد الحار
ومعنى [تُسِفُّهمُ المَلَّ]: أي تطعمهم الرماد الحار، والمقصود أنك منصورٌ عليهم وتنقطع حجتهم كما ينقطع كلام من سَفَّ الرماد الحار.
(35)
قضاء حوائج الإخوان والشفاعةِ فيها:
ومن أفضل معاشرة الإخوان قضاء حوائج المسلمين والشفاعةِ فيها، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث محمد بن المنكدر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن تقضي عنه دينا تقضي له حاجة تنفس له كربة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(من أفضل العمل إدخال السرور) أي الفرح
(على المؤمن) إذا كان ذلك من المطلوبات الشرعية كأن
(تقضي عنه ديناً) لا يقدر على وفائه ويحتمل الإطلاق لأن تحمل ذلك عنه يسره غالباً.
(تقضي له حاجة) لا يستطيع إبلاغها أو يستطيعه
(تنفس له كربة) من الكرب الدنيوية أو الأخروية فكل واحدة من هذه الخصال من أفضل الأعمال بلا إشكال بل ربما وقع في بعض الأحيان أن يكون ذلك من فروض الأعيان.
(حديث جابر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير الناس أنفعهم للناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(خير الناس أنفعهم للناس) بالإحسان إليهم بماله وجاهه فإنهم عباد فإنهم عباد اللّه وأحبهم إليه وأنفعهم لعياله أي أشرفهم عنده أكثرهم نفعاً للناس بنعمة يسديها أو نقمة يزويها عنهم ديناً أو دنيا ومنافع الدين أشرف قدراً وأبقى نفعاً قال بعضهم: هذا يفيد أن الإمام العادل خير الناس أي بعد الأنبياء لأن الأمور التي يعم نفعها ويعظم وقعها لا يقوم بها غيره وبه نفع العباد والبلاد وهو القائم بخلافة النبوة في إصلاح الخلق ودعائهم إلى الحق وإقامة دينهم وتقويم أودهم ولولاه لم يكن علم ولا عمل.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الساعي على الأرملة و المسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(الساعي على الأرملة) براء مهملة التي لا زوج لها.
(والمسكين) أي الكاسب لهما العامل لمؤونتهما
(كالمجاهد في سبيل اللّه) لإعلاء كلمة اللّه
(أو) كذا بالشك في كثير من الروايات وفي بعضها بالواو
(القائم الليل) في العبادة ويجوز في الليل الحركات الثلاث كما في قولهم الحسن الوجه
(الصائم النهار) لا يفتر ولا يضعف وأل في المجاهد والقائم معرفة ولذلك جاء في بعض الروايات وصف كل منهما بجملة فعلية بعده وهو كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني.
(حديث سهل بن سعد في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا و كافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بأُصبعيه بالسبابة والوسطى.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(أنا وكافل اليتيم) أي القائم بأمره ومصالحه هبه من مال نفسه أو من مال اليتيم كان ذا قرابة أم لا.
(في الجنة هكذا) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما أي أن الكافل في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن درجته لا تبلغ بل تقارب درجته وفي الإشارة إشارة إلى أن بين درجته والكافل قدر تفاوت ما بين المشار به ويحتمل أن المراد قرب المنزلة حال دخول الجنة أو المراد في سرعة الدخول وذلك لما فيه من حسن الخلافة للأبوين ورحمة الصغير وذلك مقصود عظيم في الشريعة ومناسبة التشبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أن يبعث لقوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلاً ومرشداً لهم ومعلماً وكافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل فيرشده ويعقله وهذا تنويه عظيم بفضل قبول وصية من يوصى إليه ومحل كراهة الدخول في الوصايا أن يخاف تهمة أو ضعفاً عن القيام بحقها.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
كَانَ السَّلَفُ رحمهم الله يُذْهِبُونَ حُزْنَ الْأَيْتَامِ ، وَالْأَرَامِلِ وَيُزِيلُونَ ذُلَّ الْيَتِيمِ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ حَتَّى صَارُوا كَالْآبَاءِ ، وَالْأُمَّهَاتِ لِلْيَتِيمِ لَا يَتْرُكُونَهُ يُضَامُ وَيَتَنَاضَلُونَ عَنْهُ ، وَفِي الْجُمْلَةِ الْكِرَامُ لَا يَبِينُ بَيْنَهُمْ يُتْمُ أَوْلَادِ الْجِيرَانِ وَلَا النَّازِلُ مِنْ الْقَاطِنِينَ.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن محمد بن المنكدر قال: " لم يبق من لذة الدنيا إلا قضاء حوائج الإخوان.
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: اشفعوا تؤجروا و يقضي الله على لسان نبيه ما أحب.
(حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل ليسألني الشيء فأمنعه حتى تشفعوا فيه فتؤجروا.
{تنبيه} :من لم ينفع العباد بما اختصه الله من النعم فإنه عُرْضَةٌ لسلب نعم الله منه وتحويلها إلى غيره بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ مَا بَذَلُوهَا ، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إلَى غَيْرِهِمْ.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحب الناس إلى الله أنفعهم و أحب الأعمال إلى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا و لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته و من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة و من مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن عثمان بن واقد العمرى قال قيل لمحمد ابن المنكدر أي الدنيا أعجب إليك قال إدخال السرور على المؤمن من موجبات المغفرة إدخال السرور على المسلم.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن الحسن لأن أقضى لمسلم حاجة أحب إلى من أن أصلى ألف ركعة.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن الحسن قال لأن أقضى لأخ حاجة أحب إلى من أن أعتكف شهرين.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن محمد بن واسع ما رددت أحدا عن حاجة أقدر على قضائها ولو كان فيها ذهاب مالي.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي معمر شبيب بن شيبه الخطيب قال لما حضرت ابن سعيد ابن العاص الوفاة قال لبنيه يا بني ايكم يقبل وصيتي فقال ابنه الأكبر أنا قال إن فيها قضاء ديني قال وما دينك يا أبت قال ثمانون ألف دينار قال يا أبت فيم أخذتها قال يا بني في كريم سددت خلته ورجل جائني في حاجة وقد رأيت السوء في وجهه من الحياء فبدأت بحاجته قبل أن يسألها.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الحسن قال: قضاء حاجة أخ مسلم أحب إلي من اعتكاف شهرين.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابن عائشة قال: قال أبي جاء رجل إلى يحيى بن طلحة بن عبيد الله فقال له هب لي شيئا قال يا غلام أعطه ما معك فأعطاه عشرين ألفا فأخذها ليحملها فثقلت عليه فقعد يبكي فقال ما يبكيك لعلك استقللتها فازيدك قال لا والله ما استقللتها ولكن بكيت على ما تأكل الأرض من كرمك فقال له يحيى هذا الذي قلت لنا أكثر مما أعطيناك.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سعيد بن عبد العزيز أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم سمع رجلا إلى جنبه يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم فانصرف فبعث بها إليه.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ لِقُتَيْبَةِ بْنِ مُسْلِمٍ: إنِّي أَتَيْتُك فِي حَاجَةٍ رَفَعْتهَا إلَى اللَّهِ قَبْلَك فَإِنْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِيهَا قَضَيْتهَا وَحَمِدْنَاك ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا لَمْ تَقْضِهَا وَعَذَرْنَاك.
وَكَتَبَ سَوَّارُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّارِ الْقَاضِي إلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ:
لَنَا حَاجَةٌ وَالْعُذْرُ فِيهَا مُقَدَّمٌ: خَفِيفٌ وَمَعْنَاهَا مُضَاعَفَةُ الْأَجْرِ
فَإِنْ تَقْضِهَا فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا: وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى فَفِي وَاسِعِ الْعُذْرِ
عَلَى أَنَّهُ الرَّحْمَنُ مُعْطٍ وَمَانِعٌ: وَلِلرِّزْقِ أَسْبَابٌ إلَى قَدَرٍ يَجْرِي
فَأَجَابَهُ مُحَمَّدُ بْنِ طَاهِرٍ:
فَسَلْهَا تَجِدْنِي مُوجِبًا لِقَضَائِهَا: سَرِيعًا إلَيْهَا لَا يُخَاطِبُنِي فِكْرُ
شَكُورٌ بِإِفْضَالِي عَلَيْك بِمِثْلِهَا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا حَوَتْهُ يَدِي شُكْرُ
فَهَذَا قَلِيلٌ لِلَّذِي قَدْ رَأَيْته: لِحَقِّك لَا مَنٌّ لَدَيَّ وَلَا ذُخْرُ
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: لَا تَطْلُبُوا الْحَوَائِجَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا ، وَلَا تَطْلُبُوهَا فِي غَيْرِ حِينِهَا ، وَلَا تَطْلُبُوا مَا لَا تَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا ، فَإِنَّ مَنْ طَلَبَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ اسْتَوْجَبَ الْحِرْمَانَ.
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَطْلُبَنَّ إلَى لَئِيمٍ حَاجَةً: وَاقْعُدْ فَإِنَّك قَائِمٌ كَالْقَاعِدِ
يَا خَادِعَ الْبُخَلَاءِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ: هَيْهَاتَ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدِ
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
اقْضِ الْحَوَائِجَ مَا اسْتَطَعْتَ وَكُنْ لِهَمِّ أَخِيكَ فَارِجْ: فَلَخَيْرُ أَيَّامِ الْفَتَى يَوْمٌ قَضَى فِيهِ الْحَوَائِجْ.
وقوف أمير المؤمنين عمر لعجوز استوقفته:
أخرج ابن أبي حاتم والدارمي والبيهقي عن أبي يزيد قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة يقال لها خولة رضي الله عنها وهي تسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على مَنْكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذا العجوز؟ قال: ويك أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تُقضي حاجتها.
وعند البخاري في تاريخه وابن مَرَدَوَيه عن ثُمامة بن حَزْن رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير على حماره لقيته امرأة فقالت: قف يا عمر، فوقف فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، قال: وما يمنعني أن أسمع لها وهي التي سمع الله لها وأنزل فيها ما أنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} (سورة المجادلة، الآية: 1). كذا في الكنز.
وقوف أمير المؤمنين عمر لعجوز استوقفته:
أخرج ابن أبي حاتم والدارمي والبيهقي عن أبي يزيد قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة يقال لها خولة رضي الله عنها وهي تسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على مَنْكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذا العجوز؟ قال: ويك أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تُقضي حاجتها.
وعند البخاري في تاريخه وابن مَرَدَوَيه عن ثُمامة بن حَزْن رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير على حماره لقيته امرأة فقالت: قف يا عمر، فوقف فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، قال: وما يمنعني أن أسمع لها وهي التي سمع الله لها وأنزل فيها ما أنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} (سورة المجادلة، الآية: 1). كذا في الكنز.
أفضل العطية ما كان قبل الطلب:
أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن عبيد الله بن عباس قال لأخيه إن أفضل العطية ما أعطيت الرجل قبل المسألة فإذا سألك فإنما تعطيه ثمن وجهه حين بذله إليك.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن عبد الله بن جعفر قال ليس الجواد الذي يعطيك بعد المسألة ولكن الجواد الذي يبتدئ لأن ما يبذله إليك من وجهه أشد عليه مما يعطى عليه.
(36)
صنع المعروف:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان صنع المعروف، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صنائع المعروف تقي مصارع السوء و الآفات و الهلكات و أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة) هذا تنويه عظيم بفضل المعروف وأهله.
[*] قال علي كرم اللّه وجهه: لا يزهدك في المعروف كفر من كفر فقد يشكره الشاكر أضعاف جحود الكافر قال الماوردي: فينبغي لمن قدر على ابتداء المعروف أن يعجله حذراً من قوته ويبادر به خيفة عجزه ويعتقد أنه من فرص زمانه وغنائم إمكانه ولا يمهله ثقة بالقدرة عليه فكم من واثق بقدرة فاتت فأعقبت ندماً ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلاً ولو فطن لنوائب دهره وتحفظ من عواقب فكره لكانت مغارمه مدحورة ومغانمه محبورة وقيل: من أضاع الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها.
(37)
شكر المعروف والمجازاة على صنعه:
ينبغي على المسلم أن يتحلى بشكر المعروف فإن ذلك مما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما بيَّن صلى الله عليه وسلم أن من لم يشكر الناس لا يوفق لشكر الله تعالى
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استعاذكم بالله فأعيذوه و من سألكم بالله فأعطوه و من دعاكم فأجيبوه و من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه.
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لا يشكرُ الناس لا يشكرُ الله.
معنى [من لا يشكر الناس لا يشكر الله]: فيها وجهان:
الأول: من كان طبعه وعادته عدم شكر الناس على معروفهم فإنه لا يوفق لشكر الله تعالى
والثاني: أن الله تعالى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر الناس على إحسانهم إليه.
ومن أفضل الآداب في معاشرة الإخوان التحلي بالمجازاة على صنع المعروف، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لا يشكر الناس لا يشكر الله.
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استعاذكم بالله فأعيذوه و من سألكم بالله فأعطوه و من دعاكم فأجيبوه ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه.
ومن الثناء كقول جزاك الله خير، و الدعاء أيضاً وسيلة للشكر.
(حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن العقبي قال مر سعيد بن العاص بدار رجل بالمدينة فاستسقى فسقوه ثم مر بعد ذلك بالدار ومناد ينادى عليها فيمن يزيد فقال لمولاه سل لم تباع هذه؟ فرجع إليه فقال على صاحبها دين قال فارجع إلى الدار فرجع فوجد صاحبها جالسا وغريمه معه فقال لم تبيع دارك؟ قال لهذا علي أربعة آلاف دينار فنزل وتحدث معهما وبعث غلامه فأتاه ببدرة فدفع إلى الغريم أربعة آلاف ودفع الباقي إلى صاحب الدار وركب ومضى.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي عيسى قال كان إبراهيم ابن أدهم إذا صنع إليه أحد معروفا حرص على أن يكافئه أو يتفضل عليه قال أبو عيسى فلقيني وأنا على حمار وأنا أريد بيت المقدس جائيا من الرملة قال وقد اشترى بأربعة دوانيق تفاحا وسفرجلا وخوخا وفاكهة فقال يا أبا عيسى أحب أن تحمل هذا قال وإذا عجوز يهودية في كوخ لها فقال أحب أن توصل هذا إليها فإنني مررت وأنا ممس فبيتتنى عندها فأحب أن أكافئها على ذلك.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن علي بن محمد قال مر عمر بن هبيرة لما انصرف في طريقه فسمع امرأة من قيس تقول لا والذي ينجي عمر بن هبيرة فقال يا غلام أعطها ما معك وأعلمها أني قد نجوت.
(38)
الزهد فيما عند الناس:
قال تعالى: (وَلَا تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ)[سورة: طه - الآية: 131]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
ومعنى الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزناً، فإنه لا بقاء لها.
" ولا تمدن " أبلغ من لا تنظرن، لأن الذي يمد بصره، إنما يحمله على ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه.
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال يا رسول الله: دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
(39)
مراعاة أحاسيس الناس ومشاعرهم:
من أهم آداب معاشرة الإخوان مراعاة أحاسيس الناس ومشاعرهم وجبر خاطرهم، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث الصعب بن جثامة الليثي في الصحيحين) أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودَّان فردَّه عليه فلما رأى ما في وجهه قال إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم.
{تنبيه} : ومن ذلك أنه لا يواجه الناس بالعتاب مراعاة لأحاسيس الناس ومشاعرهم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم
(حديث عائشة في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ و لكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا و كذا.
(40)
إدخال السرور على المسلم:
من أفضل آداب معاشرة الإخوان إدخال السرور على المسلم فإنها من أفضل الأعمال بنص السنة الصحيحة
(حديث محمد بن المنكدر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن تقضي عنه دينا تقضي له حاجة تنفس له كربة.
(41)
الإنصاف لأخيك:
من أفضل آداب معاشرة الإخوان الإنصاف لأخيك المسلم فإنها من أفضل الأعمال، فلا تكون كحال من يرى عيوب أخيه وينسى عيوب نفسه
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يَبْصُرُ أحدكم القذى في عين أخيه و ينسى الجذعَ في عينه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(يبصر أحدكم القذى في عين أخيه) في الإسلام جمع قذاة وهي ما يقع في العين والماء والشراب من نحو تراب وتبن ووسخ
(وينسى الجذع في عينه) واحد جذوع النخل، كأن الإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه فيدركه مع خفائه فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به مثل ضرب لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويعيرهم به وفيه من العيوب ما نسبته إليه كنسبة الجذع إلى القذاة وذلك من أقبح القبائح وأفضح الفضائح فرحم اللّه من حفظ قلبه ولسانه ولزم شأنه وكف عن عرض أخيه وأعرض عما لا يعنيه فمن حفظ هذه الوصية دامت سلامته وقلت ندامته فتسليم الأحوال لأهلها أسلم واللّه أعلى وأعلم.
(42)
عدم تتبع عورات المسلمين وزلاتهم:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان عدم تتبع عورات المسلمين وزلاتهم فإنه داءٌ وبيل بل إنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب، لأنك إذا تتبعت عيوب أخيك المسلم أفسدته.
(حديث معاوية في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال العبد هلك الناس فهو أهلَكهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال: اللبيب العاقل، هو الفطن المتغافل.
أُتيَّ ابن مسعود برجلٍ فقيل له: هذا فلانٌ تقطُرُ لحيته خمراً فقال: إنا قد نُهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به.
(حديث أبي برزة الأسلمي في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر من آمن بلسانه و لم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم فمن يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، و من يتبع الله عورته يفضحه في بيته.
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن عبد الله بن محمد بن منازل يقول: " المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثرات (1) إخوانه "
وأورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن حمدون القصار يقول: " إذا زل أخ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عذرا، فإن لم تقبله قلوبكم فاعلموا أن المعيب أنفسكم؛ حيث ظهر لمسلم سبعون عذرا فلم تقبله "
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عون بن عبد الله قال لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه.
(1) العثرة: الزلة والسقطة
فيجب على المرء المسلم أن يهتم بإصلاح نفسه وتزكيتها من العيوب والآفات، كما أن عليه أن يكف عن تتبع عورات الآخرين والخوض في أعراضهم؛ فإن هذا مما لا يجوز فعله، والإنسان سوف يحاسب بين يدي الله عز وجل عن ذنوبه لا عن ذنوب غيره، فالأولى اشتغاله بها.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يَبْصُرُ أحدكم القذى في عين أخيه و ينسى الجذعَ في عينه.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه) القذى: هو ما يقع في العين أو في الماء والشراب من نحو تراب ووسخ أيَّ قاذورات أو أذى أو تراب يقع، سواء في العين أو في الماء أو في الشراب، فيطلق عليه القذى. إذاً المقصود به "الأشياء الهينة الصغيرة التي تكاد لا تدرك"، يبصرها الإنسان ويفتح عينيه لها ما دامت في عين أخيه ـ يعني: أخاه في الإسلام ـ وفي نفس الوقت ينسى الجذع في عينه، والجذع هو واحد جذوع النخل، وهذه من المبالغة، وكأن جذع شجرة موجود في عينه من العيوب، ثم هو يتجاهله ولا يشتغل بإصلاحه، في حين أنه يدقق ويتحرى مع الآخرين بحيث يدرك عيوبهم مع خفائها. فيؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان لنقصه ولحب نفسه يدقق النظر في عيب أخيه، فيدرك عيب أخيه مع خفائه، فيعمى به عن عيبٍ في نفسه ظاهر لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لعيوب الناس وتتبعها لكف عن أعراض الناس، ولسد باب آفات اللسان وأعظمها الغيبة، يقول الشاعر: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما، وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى وقال الإمام أبو حاتم بن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه، ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، ومن ذمهم ذموه.
ولله درُ الشافعي رحمه الله تعالى حيث قال:
المرء إن كان عاقلاً ورعاً
…
أشغله عن عيوب غيره ورعه
كما العليل السقيم أشغله
…
عن وجع الناس كلهم وجعه
كما أن العليل السقيم أو المريض يشغله الألم الذي يجده في مرضه عن ألم غيره، فكذلك ينبغي للإنسان أن يشتغل بعيب نفسه عن عيب غيره على حد قول الشاعر: أي: الجراح التي في غيري لا تداوي الجراح التي فيَّ، وقوله (ما به به وما بي بي) يعني: الأولى أن يشتغل الإنسان بالعيوب التي في نفسه.
[*] وعن مجاهد قال: ذكروا رجلاً ـ يعني: كأنهم ذكروا عيوب هذا الرجل ـ فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك). وهذا علاج لهذا الداء على الإنسان أن لا يسهو ولا يغفل عنه، وهو أنه إذا هم أن يتكلم في عيوب الآخرين فليفكر أولاً وليذكر عيوب نفسه وينشغل بها، فسيجد فيها غنية عن أن يشتغل بعيوب الآخرين، فهذا من أدوية هذا الداء (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك)، فإذا فتشت سوف تجد كثيراً جداً يشغلك إصلاحه في نفسك عن الاشتغال بذم غيرك.
[*] وقال أحد السلف: إن من تصرف في نفسه فعرفها صحت له الفراسة فيغيره وأحكمها. وعن بكر قال: تساب رجلان، فقال أحدهما: محلمي عنك ما أعرف من نفسي. يعني: تشاتما وسب أحدهما الآخر، فرد الشخص المسبوب فقال له: محلمي عنك ـ يعني: الذي يجعلني أتحلم وأصبر عن أن أرد عليك بالمثل ـ ما أعرف من نفسي. يعني: أنا أعرف أن في نفسي من العيوب الكثير، فهذا يجعلني عوناً لك عليها، ولست أتخذ موقف الدفاع عنها؛ لأن فيها من العيوب ما تستحق به أن تُذم، ولذلك قال له: محلمي عنك ما أعرف من نفسي.
[*] وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: ما نراك تغتاب أحداً؟ فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذم الناس ثم أنشد: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل.
[*] قال عون بن عبد الله رحمه الله تعالى: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه. يعني: هذا يدل على أنه إنسان غافل؛ حيث يشتغل بتراب وقع على ثوب غيره أو نملة تمشي على ثوبه، في حين أن داخل ثيابه هو العقارب والحيات والآفات تنهش فيه، فيشتغل بهذا الذي لا يعنيه -وهو أمر يسير مهما كان- عن هذا الأمر الخطير الذي يحدث به، وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال:(كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس) أي: لأنه إذا اشتغل الإنسان بخطايا وبعيوب الناس لا شك أن هذا سيشغله عن إصلاح نفسه، وبالتالي تكثر خطاياه، ولا يتوب منها، ولا يعاتب نفسه؛ لأنه غير متفرغ لإصلاح نفسه.
وتأمل في قول بن سيرين الآتي ـ في توجيهه لمن يشغل نفسه بسب الحجاج ـ بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد حتى تنشغل بعيوبك عن عيوب غيرك وإن كان ظالماً غاشماً، وإن بلغ ظلمه عنان السماء، وإن كان غارقاً في الظلم إلى الأذقان.
[*] قال الهيثم بن عبيد الصيدلاني: سمع ابن سيرين رجلاً يسب الحجاج، فقال: مَه أيها الرجل ـ أي: انصت وتعقل وتفكر ـ! إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملت قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج. أي أنه يقول له: كف عن هذا، ولا تضيع وقتك بالاشتغال بسب الحجاج، مع أن الحجاج رجل ظالم فعل ما فعل من الكبائر، لكن انظر إلى هنا إلى "طريقة تفكير ابن سيرين"، حيث إنه يدل الإنسان على أن يشتغل بعيب نفسه حتى لو كان في غيره من العيوب ما الله به عليم. فيقول: مه أيها الرجل! إنك لو وافيت الآخرة ـ أي: إذا قامت القيامة ووقفت بين يدي الله سبحانه وتعالى فأيهما أخطر عليك: أقل ذنب أنت عملته بنفسك، أم أعظم ذنب عمله الحجاج؟ الجواب: ما عملته أنت بنفسك، فلهذا ينبغي أن تخاف من ذنبك أكثر من ذنوب غيرك؛ لأن هذا سوف يضرك إن لم يتب الله عليك. قال ابن سيرين: إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله عز وجل حكم عدل، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه شيئاً فشيئاً أخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسب أحد. أي أن الله سبحانه وتعالى حكم عدل، فإذا أنت جاوزت الحد وبغيت على الحجاج نفسه ـ مع أن الحجاج كان ظالماً وباغياً ـ فالله سبحانه وتعالى حكم عدل، وإن أخذ من الحجاج لمن ظلمه الحجاج شيئاً فشيئاً للمظلومين الذين ظلمهم الحجاج؛ لأنه سوف ينتقم الله من الحجاج إن شاء ذلك، ويأخذ من الحجاج بقدر ظلمه لهؤلاء الناس، لكن بجانب ذلك أيضاً الله سبحانه وتعالى لأنه حكم عدل سوف يأخذ للحجاج ممن ظلم الحجاج، فإذا أنت اشتغلت بذنبه وسبه وبغيت في ذلك فلا تأمن أن الله سبحانه وتعالى سوف يعاقبك بأن ينتقم منك من أجل الظلم الذي ظلمته الحجاج، فلا تشغلن نفسك بسب أحد.
الأسباب التي تحمل الإنسان أن يتتبع عيوب الناس:
(1)
حب الرياسة والعياذ بالله:
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير. وهذه إشارة إلى أسباب هذا الداء، وهو حب وتتبع عيوب الناس، وتصيد أخطاء الآخرين، وسبب الحسد والبغي هو حب الرياسة وشهوة الرياسة، وهي الشهوة الخفية، فما من أحد أحب الرياسة إلا حسد ـ يحسد الآخرين ـ وبغى، وتتبع عيوب الناس؛ لأنه يكره أن يُذكر الآخرون بخير، وبالتالي يحاول دائماً أن يهزمهم ويحطمهم ويكشف عيوبهم من أجل أن تكون له الرياسة والعلو.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص الإنسان على المال والجاه يفسد الدين فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار:
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما) بمعنى ليس
(ذئبان جائعان) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
(أرسلا في غنم) الجملة في محل رفع صفة
(بأفسد) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
(لها) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
(من حرص المرء على المال والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب (لدينه) اللام فيه للبيان، نحوها في قوله {لمن أراد أن يتم الرضاعة} فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه، ذكره الطيبي،
فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً، قال الحكيم: وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها. أهـ
(2)
نقص خلقه ودينه:
إن تتبع الإنسان لعيوب غيره دليل على عيبه ونقصه:
[*] كان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين. فقوله:(كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً) أي: هو في نفسه ليس من الصالحين، وليس رجلاً صالحاً. وقوله:(ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين) أي: يغتابهم ويذكر عيوبهم. وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم.
ولله درُ من قال:
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا
…
فيهتك الله ستراً عن مساويك
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
…
ولا تعب أحداً منهم بما فيك
وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس ـ والأعراب هم البدو الرحل الذين لا يعيشون في المدن، ولا يسمعون القرآن، ولا يحضرون دروس العلم، والأصل فيهم الجهل والجفاء إلا ما استثني، كما ذكر الله تبارك وتعالى في سورة التوبة ـ، لكن هذا الأعرابي مع ذلك نطق بالحكمة، ونطق بما تدل عليه أحدث الاتجاهات في علم النفس الحديث، حيث إنهم يفرحون بهذه الأشياء، ويظنون أنهم هم الذين أوجدوا هذه العلوم، لكن انظر هذا الأعرابي مع بساطته عبر بما يطلقون عليه الآن:(الحيل الدفاعية) التي يسلكها الإنسان ليدفع عن نفسه العوص والعيب، ومنها حيلة الإسقاط، أي: يسقط أخطاءه على الآخرين، فهو يشعر بعيب معين في نفسه، فكي يلفت النظر بعيداً عن أن ينتبه الناس إلى هذا العيب الذي هو في نفسه يرمي الناس بما فيه من العيوب، وكلما كثرت فيه هذه العيوب كلما كثر تتبع هذه العيوب في الناس، فهي حيلة من الحيل الدفاعية بالاصطلاح الحديث في علم النفس، فهذا الأعرابي سمع رجلاً يقع في أعراض الناس، فقال:" قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس "؛ لأن الطالب لها ـ أي: للعيوب ـ يطلبها بقدر ما فيه منها. أي: فكثرة الاشتغال بعيوب الناس تدل على وجود نفس هذه العيوب في نفسه هو، فهي عبارة عن عملية دفاعية بكونه يسقط هذه العيوب على الآخرين. يقول: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها. وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب أي: صاحب العيوب.
ولله درُ من قال:
شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً
…
مثل الذباب يراعي موضع العلل
فالإنسان لو في جسمه جروح مكشوفة، وفيها الدم وفيها كذا وكذا، فتجد الذباب يحب أن يتتبع مواضع العلل والداء كي يقف عليها، فكذلك هناك أناس لهم هواية التفتيش في القمامة، فترى أحدهم عنده هذه الهواية، ويحب التفتيش في القمامة، فما يقع إلا على العلل، ولا يذكر محاسن الآخرين، لكن دائماً يفتش في القمامة، ويقلب هذه الأشياء، وهذا ما يعبر عنه الشاعر بقوله: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل، وهذا التفتيش في القمامة ليس فقط على مستوى العلاقات الفردية، لكن يوجد أيضاً فيما يُسمى زوراً بالبحوث التاريخية، يزعمون أنهم يكتبون أو يبحثون بحوثاً علمية وتاريخية، ثم هم ما يقعون إلا على مواضع المؤاخذة في التاريخ الإسلامي، فمثلاً: ما يعرفون عن معاوية رضي الله تعالى عنه إلا كذا وكذا وكذا، وينسون أنه صحابي، وأنه خال المؤمنين، وأنه كاتب الوحي، وأنه المجاهد في سبيل الله، وأنه الحاكم بشريعة الله، كل هذا يُنسى، ويُركز فقط على المآخذ، سواء على معاوية رضي الله تعالى عنه مثلاً، أو على الدولة الأموية، أو على الدولة العباسية، وينسون أن واجب كل مسلم من أهل السنة أن يكون له ولاء لكل هذه الولايات الإسلامية أو الخلافات الإسلامية، سواء أكانت راشدة ـ بلا شك ـ أو أموية أو عباسية؛ لأنها في الجملة كانت خلافة إسلامية ترفع راية الشريعة، وتحكم بكتاب الله تبارك وتعالى، فينشغلون بذم تاريخ بعض السابقين وبعض الصور التاريخية السابقة بهدف التنفير من هذا التاريخ، وقطع اعتزاز الخلف بهذا السلف بالتركيز فقط على عيوبهم، ولو سلكوا المنهج المثيل لأمسكوا عما شجر بينهم، ولأمسكوا عن هذه العيوب، ولقالوا ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
(43)
التعاون على البر والتقوى:
إن التعاون على البر والتقوى من أفضل القربات وأجل الطاعات، ويترتب عليه الأجر العظيم بنص السنة الصحيحة
قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ)[سورة: المائدة - الآية: 2]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى: [وتعاونوا على البر والتقوى] قال الأخفش: هو مقطوع من أول الكلام وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى أي ليعن بعضكم بعضاً وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعلموا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه.
[*] وقال ابن خويز منداد في أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ويعينهم الغني بماله والشجاع بشجاعته في سبيل الله وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة.
ثم نهى فقال: " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس ثم أم بالتقوى وتوعد توعداً مجملاً فقال: " واتقوا الله إن الله شديد العقاب".
**والسنة الصحيحة طافحة بالحث على التعاون على البر والتقوى
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدال على الخير كفاعله.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(الدال على الخير كفاعله) فإن حصل ذلك الخير فله مثل ثوابه وإلا فله ثواب دلالته قال القرطبي: ذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور إنما هو بغير تضعيف لأن فعل الخير لم يفعله الدال وليس كما قال بل ظاهر اللفظ المساواة ويمكن أن يصار إلى ذلك لأن الأجر على الأعمال إنما هو بفضل اللّه يهب لمن يشاء على أي فعل شاء وقد جاء في الشرع كثير وظاهر صنيع المصنف أن هذا هو الحديث بتمامه والأمر بخلافه بل بقيته والدال على الشر كفاعله أي لإعانته عليه فله كفعله من الإثم وإن لم يحصل بمباشرته.
(حديث زيد بن خالد في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا و من خلف غازيا في سبيل الله في أهله بخير فقد غزا.
(44)
رحمة الصغير وتوقير الكبير:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان رحمة الصغير وتوقير الكبير
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من لم يرحم صغيرنا و يوقر كبيرنا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) الواو بمعنى أو فالتحذير من كل منهما وحده فيتعين أن يعامل كلاً منهما بما يليق به فيعطى الصغير حقه من الرفق به والرحمة والشفقة عليه ويعطى الكبير حقه من الشرف والتوقير، قال الحافظ العراقي: فيه التوسعة للقادم على أهل المجلس إذا أمكن توسعهم له سيما إن كان ممن أمر بإكرامه من الشيوخ شيباً أو علماً أو كونه كبير قوم كما في حديث جرير المار إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.
(حديث أبي موسى في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(إن من إجلال اللّه) أي تبجيله وتعظيمه
(إكرام ذي الشيبة المسلم) أي تعظيم الشيخ الكبير صاحب الشيبة البيضاء الذي عمره في الإيمان وتوقيره في المجالس والرفق به والشفقة عليه
(وحامل القرآن) أي قارئه
(غير الغالي فيه) أي غير المتجاوز الحد في العمل به وتتبع ما خفي منه واشتبه عليه من معانيه وفي حدود قراءته ومخارج حروفه
(والجافي عنه) أي التارك له البعيد عن تلاوته والعمل بما فيه
(وإكرام ذي السلطان) أي سلطان لأنه ذي قهر وغلبة من السلاطة وهي التمكن من القهر قال اللّه تعالى {ولو شاء اللّه لسلطهم عليكم} ومنه سمي السلطان وقيل ذي حجة لأنه يقام به الحجج.
(المقسط) بضم الميم العادل في حكمه بين رعيته قال ابن الأثير: وقيد بقوله غير الغالي إلخ لأن من أخلاقه التي أمر بها القصد في الأمور والغلو التشديد في الدين ومجاوزة الحد والتجافي البعد عنه.
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَمَرَنِي جِبْرِيْلُ أَنْ أُقَدِّمَ الأَكَابِرَ.
(حديث سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ هَا هُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي.
ولقد تطبّع أفراد المجتمع المسلم بذلك الخلق وتوارثوا توقير الكبير واحترامه وتقديره انقياداً لتعاليم دينهم، واتباعاً لسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم، فكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من أشد الناس توقيراً لإخوانه ولمن هو أسن منه، فقد روى عنه المروزي أنه جاءه أبو همام راكباً على حماره، فأخذ له الإمام أحمد بالركاب. وقال المروزي: رأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ (1).
وذكر ابن الجوزي عن ابن سعيد الأشج أنه قال: ((حدثنا ابن إدريس، عن ليث، قال: كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فقال: لو كنت أسن مني بليلة ما تقدمتك)) (2)، فهذا خُلُقُهُم رحمهم الله فالأسن مقدم ولو كان الفارق ليلة فكيف بسنة أو سنوات؟! فذلك من باب أولى، وروى الحسن بن منصور قال: كنت مع يحيى وإسحاق بن راهويه يوماً نعود مريضاً فلما حاذينا الباب تأخر إسحاق، وقال ليحيى: تقدم أنت، قال: يا أبا زكريا أنت أكبر مني (3).
(45)
أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر:
ومن أفضل الآداب في الصحبة ومعاشرة الخلق أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر فطوبى فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه و ويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه.
(حديث أنس في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الناس ناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر و إن من الناس ناسا مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه و ويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس ناساً مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى) أي حسنى أو خيراً وهو من الطيب أي عيش طيب
(لمن جعل اللّه مفاتيح الخير على يديه وويل) شدة حسرة ودمار وهلاك
(1) الآداب الشرعية والمنح المرعية، مرجع سابق، جزء 1، ص 470.
(2)
كتاب الحدائق في علم الحديث والزهديات، ابن الجوزي، تحقيق: مصطفى السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1408هـ، جزء 3، ص 105.
(3)
الآداب الشرعية والمنح المرعية، مرجع سابق، جزء 3، ص 269.
(لمن جعل اللّه مفاتيح الشر على يديه) قال الحكيم: فالخير مرضاة اللّه والشر سخطه فإذا رضى اللّه عن عبد فعلامة رضاه أن يجعله مفتاحاً للخير فإن رؤى ذكر الخير برؤيته وإن حضر حضر الخير معه وإن نطق نطق بخير وعليه من اللّه سمات ظاهرة لأنه يتقلب في الخير بعمل الخير وينطق بخير ويفكر في خير ويضمر خيراً فهو مفتاح الخير حسبما حضر وسبب الخير لكل من صحبه والآخر يتقلب في شر ويعمل شراً وينطق بشر ويفكر في شر ويضمر شراً فهو مفتاح الشر لذلك فصحبة الأول دواء والثاني داء.
(46)
مشورة أهل الصلاح:
ومن أفضل الآداب في الصحبة ومعاشرة الخلق مشورة أهل الصلاح لأن من شاور الناس فقد شاركهم في عقولهم.
قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ)[سورة: آل عمران - الآية: 159]
الشاهد: قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ]
(وشاورهم) استخرج آراءهم
(في الأمر) أي شأنك من الحرب وغيره تطييبا لقلوبهم وليستن بك وكان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لهم.
و قال تعالى: (وَالّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)[سورة: الشورى - الآية: 38]
الشاهد: قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ]
(وأمرهم شورى بينهم) يتشاورون فيه ولا يعجلون، فالمشورة من صفات المؤمنين بنص القرآن الكريم.
مسألة: ما هو واجب المستشار؟
يجب على المستشار شيئين متلازمين إذا أراد النجاة هما:
(1)
أداء الأمانة في المشورة لأنه مؤتمن بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المستشارُ مُؤتَمَن.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[المستشارُ مُؤتَمَن]
(المستشار مؤتمن) أي أمين على ما استشير فيه فمن أفضى إلى أخيه بسره وأمنه على نفسه فقد جعله بمحلها فيجب عليه أن لا يشير عليه إلا بما يراه صواباً.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أُفْتِىَ بغير علمٍ كان إثْمُه على من أفتاه و من أشار على أخيه بأمرٍ يعلمُ أن الرشدَ في غيرهِ فقد خانَه.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[و من أشار على أخيه بأمرٍ يعلمُ أن الرشدَ في غيرهِ فقد خانَه].
2) يجب على المستشار كذلك أن لا يكن همه رضا من استشاره وليكن همه رضا الله تعالى ولو بسخط الناس.
(حديث معاوية في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، و من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.
(47)
اجتناب العصبية فإنها هلاكٌ مُحَقَّق:
ومن أفضل الآداب في الصحبة ومعاشرة الخلق اجتناب العصبية فإنها هلاكٌ مُحَقَّق
(حديث ابن مسعود في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعيرِ الذي تردى فهو يُنْزَعُ بِذَنَبِه.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[فهو كالبعيرِ الذي تردى فهو يُنْزَعُ بِذَنَبِه]
[فهو كالبعيرِ الذي تردى]: أي كالبعير الذي سقط وهلك في البئر
[فهو يُنْزَعُ بِذَنَبِه]: أي يُرْفع من البئر بذَنبه أي بذيله فهو هلاك محقق.
(48)
اجتناب الغش والخداع للمسلمين:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان اجتناب الغش والخداع للمسلمين فإنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حمل علينا السلاح فليس منا و من غشنا فليس منا.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[و من غشنا فليس منا]
(من غش) أي خان والغش ستر حال الشيء
(فليس منا) أي من متابعينا. ليس المعنى نفيه عن الإسلام بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين أي ليس هو على سنتنا أو طريقتنا في مناصحة الإخوان كما يقول الإنسان لصاحبه أنا منك يريد الموافقة والمتابعة قال تعالى عن إبراهيم {فمن تبعني فإنه مني}
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النَّجَش.
(نهى عن النَّجش) الزيادة في ثمن السلعة لا لرغبة الشراء بل ليخدع غيره من المسلمين ويوقعه فيها وهو خداع وغش والعياذ بالله.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من خَبَّبَ امرأةً على زوجها أو عبداً على سيده.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[ليس منا من خَبَّبَ امرأةً على زوجها أو عبداً على سيده]
(ليس منا من خبب امرأة على زوجها) أي خدعها وأفسدها عليه
[*] قال النووي في الأذكار: فيحرم أن يحدث قِن رجل أو زوجته أو ابنه أو غلامه أو نحوهم بما يفسدهم به عليه إذا لم يكن أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} .
ومعنى (ليس منا): أي ليس من متابعينا. ليس المعنى نفيه عن الإسلام بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين أي ليس هو على سنتنا أو طريقتنا في مناصحة الإخوان كما يقول الإنسان لصاحبه أنا منك يريد الموافقة والمتابعة قال تعالى عن إبراهيم {فمن تبعني فإنه مني.
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ وَلَا مَنَّانٌ وَلَا بَخِيلٌ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا
(خِبٌّ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ خَدَّاعٌ يُفْسِدُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْخِدَاعِ
(وَلَا بَخِيلٌ) يَمْنَعُ الْوَاجِبَ مِنَ الْمَالِ البخل
(وَلَا مَنَّانٌ) مِنَ الْمِنَّةِ أَيْ يَمُنُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ بَعْدَ الْعَطَاءِ أَوْ مِنَ الْمَنِّ بِمَعْنَى الْقَطْعِ لِمَا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ وَقِيلَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَ هَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى يُجْعَلَ طَاهِرًا مِنْهَا إِمَّا بِالتَّوْبَةِ عَنْهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ بِالْعُقُوبَةِ بِقَدْرِهَا تَمْحِيصًا فِي الْعُقْبَى، أَوْ بِالْعَفْوِ عَنْهُ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا
(49)
اجتناب الغدر للمسلمين:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان اجتناب الغدر للمسلمين فإنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب، وهو من صفات المنافقين والعياذ بالله.
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خَصْلَةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمن خان و إذا حدَّث كذب و إذا عاهد غدر و إذا خاصَم فجر.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[و إذا عاهد غدر] فعدها النبي صلى الله عليه وسلم من صفات المنافقين والعياذ بالله
(وإذا عاهد غدر) أي نقص العهد
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة، يُقالُ هذه غَدْرَةُ فلانٍ بن فلان.
(لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة) لتزداد فضيحته وتتضاعف استهانته
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خَصْمُهُم يوم القيامة: رجلٌ أعطى بي ثم غدر و رجلٌ باع حراً فأكل ثمنه و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه و لم يُعْطِهِ أجره.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[رجلٌ أعطى بي ثم غدر]
(رجل أعطى بي ثم غدر) أي أعطى يمينه بي أي عاهد عهداً وحلف عليه ثم نقضه.
(50)
اجتناب ظلم العباد:
ومن أفضل الآداب في الصحبة ومعاشرة الخلق اجتناب ظلم العباد فإنه بئس الزاد ليوم الميعاد، فالظلم ظلماتٌ يوم القيامة، ودعوة المظلوم مستجابة ليس بينها وبين الله حجاب.
قال تعالى: (مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)[سورة: غافر - الآية: 18]
(ما للظالمين من حميم) محب
(ولا شفيع يطاع) تقبل شفاعته لا مفهوم للوصف إذ لا شفيع لهم أصلا فما لنا من شافعين أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء أي لو شفعوا فرضا لم يقبلوا
و قال تعالى: (وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ)[سورة: الحج - الآية: 71]
(وما للظالمين) بالإشراك
(من نصير) يمنع عنهم عذاب الله
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب]
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(اتقوا دعوة المظلوم) أي اجتنبوا دعوة من تظلمونه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ وجه وأوجز إشارة وأفصح عبارة لأنه إذا اتقى دعاء المظلوم فهو أبلغ من قوله لا تظلم وهذا نوع شريف من أنواع البديع يسمى تعليقاً ثم بين وجه النهي بقوله.
(فإنها تُحمل على الغمام) أي يأمر الله برفعها حتى تجاوز الغمام أي السحاب الأبيض حتى تصل إلى حضرته تقدس
(يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك) بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة وفتح الكاف أي لأستخلصن لك الحق ممن ظلمك
(ولو بعد حين) أي أمد طويل بل دل به سبحانه على أنه يمهل الظالم ولا يهمله
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) كناية عن سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه وقد قال سبحانه وتعالى {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه} وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما تطاير من النار في الهواء شبه سرعة صعودها بسرعة طيران الشرر من النار.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(دعوة المظلوم مستجابة) أي يستجيبها اللّه تعالى يعني فاجتنبوا جميع أنواع الظلم لئلا يدعو عليكم المظلوم فيجاب
(وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه) ولا يقدح ذلك في استجابة دعائه لأنه مضطر ونشأ من اضطراره صحة التجائه إلى ربه وقطعه قلبه عما سواه وللإخلاص عند اللّه موقع وقد ضمن إجابة المضطر بقوله تعالى: (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)[النمل: 62].
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي و العقوق.
(بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا) أي قبل موت فاعليها
(البغي) أي مجاوزة الحد والظلم
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا]
(قال اللّه تعالى يا عبادي إني حرّمت) أي منعت
(الظلم على نفسي) أي تقدست وتعاليت عنه لأنه مجاوزة والتصرف في ملك الغير وكلاهما في حقي كالمحرم فهو استعارة مصرحة تبعية شبه تنزهه عنه بتحرز المكلف عما نهى عنه
(وجعلته محرماً بينكم) أي حكمت بتحريمه عليكم
(فلا تظالموا) أي لا تتظالموا أي لا يظلم بعضكم بعضاً
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة و اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم و حملهم على أن سفكوا دماءهم و استحلوا محارمهم.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: [اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة]
(اتقوا الظلم) بأخذ مال الغير بغير حق أو التناول من عرضه ونحو ذلك قال بعضهم: ليس شيء أقرب إلى تغيير النعم من الإقامة على الظلم
(فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) فلا يهتدي الظالم يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا فربما أوقع قدمه في وهدة فهو في حفرة من حفر النار وإنما ينشأ الظلم من ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى تجنب سبل الردى فإذا سعى المتقون بنورهم الحاصل بسبب التقوى احتوشت ظلمات ظلم الظالم فغمرته فأعمته حتى لا يغني عنه ظلمه شيئاً.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار.
(حديث ابن عمر في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين.
(من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به) أي هوى به إلى أسفلها، أي بالأخذ غصباً لتلك الأرض المغصوبة
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
(إن اللّه تعالى لَيملي) بفتح اللام الأولى أي ليمهل والإملاء الإمهال والتأخير وإطالة العمر (للظالم) زيادة في استدراجه ليطول عمره ويكثر ظلمه فيزداد عقابه {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} فإمهاله عين عقابه
(حتى إذا أخذه) أي أنزل به نقمته
(لم يُفلته) أي لم يفلت منه.
(والعقوق) للوالدين وإن عليا أو أحدهما أي إيذاؤهما ومخالفتهما فيما لا يخالف الشرع.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الظلم ثلاثة فظلم لا يغفره الله و ظلم يغفره و ظلم لا يتركه فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك قال الله: (إن الشرك لظلم عظيم)، و أما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم و بين ربهم و أما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدبر لبعضهم من بعض.
قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الظلم) قال ابن حجر: وهو وضع الشيء في غير موضعه الشرعي
(ثلاثة) من الأنواع والأقسام
(فظلم لا يغفره اللّه وظلم يغفره وظلم لا يتركه فأمّا)
الأول وهو (الظلم الذي لا يغفره اللّه فالشرك قال اللّه {إن الشرك لظلم عظيم}
وأمّا) الثاني وهو (الظلم الذي يغفره اللّه فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم){والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} قالوا: نكرة في سياق چ
الشرط فعم كل ما فيه ظلم النفس وقال {فمنهم ظالم لنفسه} فهذا لا يدخل
فيه الشرك الأكبر قال ابن مسعود: لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم} شق ذلك على الصحب وقالوا: يا رسول اللّه أينا لم يظلم
نفسه قال: إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح {إن الشرك لظلم عظيم} (وأما) الثالث وهو (الظلم الذي لا يتركه اللّه فظلم
العباد بعضهم بعضاً حتى يدير لبعضهم من بعض) علم من هذا ما نقله الذهبي
عن بعض المفسرين أن الظلم المطلق هو الكفر المطلق {والكافرون هم الظالمون
} فلا شفيع لهم غداً {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} والظلم المفيد قد يختص بظلم العبد نفسه وظلم بعضهم بعضاً فالأول من الثاني مغفور إن شاء اللّه والثاني تنصب له موازين العدل فمن سلم من [ص 296] أصناف
الظلم فله الأمن التام ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه فله الأمن ولا بد أن يدخل
الجنة (تنبيه) قال ابن عربي: من ظلم العباد أن يمنعهم حقهم الواجب
عليه أداؤه وقد يكون ذلك بالحال لما يراه على المسكين وهو قادر واجد لسد
خلته ودفع ضرورته. أهـ
أورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا أَنَّ الرَّشِيدَ حَبَسَ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ فَكَتَبَ عَلَى حَائِطِ الْحَبْسِ:
أَمَا وَاَللَّهِ إنَّ الظُّلْمَ شُؤْمٌ: وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي: وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْمَعَادِ إنْ الْتَقَيْنَا: غَدًا عِنْدَ الْمَلِيكِ مَنْ الظَّلُومُ
فَأُخْبِرَ الرَّشِيدُ بِذَلِكَ فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا، وَدَعَا بِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ فَاسْتَحَلَّهُ وَوَهَبَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَطْلَقَهُ.
{تنبيه} : وينبغي على المسلم إن زلت قدمه ووقع في ظلم أن يرد المظالم إلى أهلها وأن يتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إِنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ)[إبراهيم: 42]
تشخص أبصار الخلائق لظهور الأهوال: فلا تغمض الويل لأهل الظلم من ثقل الأوزار، ذكرهم بالقبائح قد ملأ الأقطار، يكفيهم أنهم قد وسموا بالأشرار، ذهبت لذاتهم بما ظلموا وبقي العار، وداروا إلى دار العقاب وملك الغير الدار، وخلوا بالعذاب في بطون تلك الأحجار فلا مغيث ولا أنيس ولا رفيق ولا جار، ولا راحة لهم ولا سكون ولا مزار، سالت دموع أسفهم على سلفهم كالأنهار، شيدوا بنيان الأمل فإذا به قد انهار، أما علموا أن الله جار المظلوم ممن جار، فإذا قاموا في القيامة زاد البلاء على المقدار، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار) لا يغرنك صفاء عيشهم كل الأخير أكدار (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)
قل للمشغولين بالفساد، الواقفين مع العناد، إلى متى ظلم العباد (إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).
{تنبيه} : ويجب عليه أيضاً إن وجد أخاً له وقع في الظلم فإن يجب عليه أن يحجزه ويمنعه من الظلم.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل يا رسول الله: أنصره إن كان مظلوماً أرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره]
(تحجزه عن الظلم) أي تمنعه منه وتحول بينه وبينه
(فإن ذلك نصرة) له أي منعك إياه من الظلم نصرك إياه على شيطانه الذي يغويه وعلى نفسه الأمارة بالسوء.
(حديث أبي بكر الصديق في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.
(حديث أبي سفيان في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي و هو غير متعتع.
(51)
اجتناب مجالس الظالمين:
وعلى المسلم أن يجتنب اجتناب مجالس الظالمين لئلا يصيبهم العذاب فيصبه ذلك العذاب معهم.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسفُ بأولهم و آخرهم، قال قلت يا رسول الله! كيف يُخسفُ بأولهم و آخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يُخسفُ بأولهم و آخرهم ثم يبعثون على نياتهم.
(حديث أبي بكر الصديق في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.
(52)
اجتناب إيذاء المسلمين:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان اجتناب إيذاء المسلمين.
قال تعالى: (وَالّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً)[سورة: الأحزاب - الآية: 58]
(والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) يرمونهم بغير ما عملوا
(فقد احتملوا بهتانا) تحملوا كذبا
(وإثما مبينا) بينا
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[: المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده]
(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فإيذاء المسلم من نقصان الإسلام والإيذاء ضربان ضرب ظاهر بالجوارح كأخذ المال بنحو سرقة أو نهب وضرب باطن كالحسد والغل والبغض والحقد والكبر وسوء الظن والقسوة ونحو ذلك فكله مضر بالمسلم مؤذ له، وقد أمر الشرع بكف النوعين من الإيذاء وهلك بذلك خلق كثير.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صنفان من أهل النار لم أرهما: رجالٌ معهم سِياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس و نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلاتٌ رءوسهنَّ كأسنمةِ البُخْتِ المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحَها لتوجد من مسيرة كذا و كذا.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[صنفان من أهل النار لم أرهما: رجالٌ معهم سِياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس].
(صنفان من أهل النار) أي نار جهنم
(لم أرهما) الضم أي حدثا بعد ذلك العصر
رجالٌ معهم سِياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس.
وهم أعوان والي الشرطة المعروفون بالجلادين فإذا أمروا بالضرب تعدوا المشروع في الصفة والمقدار وربما أفضى بهم الهوى وما جبلوا عليه من المظالم إلى إهلاك المضروب أو تعظيم عذابه.
(حديث ابن عباس في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ضرر و لا ضرار.
(لا ضرر) أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه
(ولا ضرار) فعال بكسر أوله أي لا يجازي من ضره بإدخال الضرر عليه بل يعفو فالضرر فعل واحد والضرار فعل اثنين. وفيه تحريم سائر أنواع الضرر إلا بدليل لأن النكرة في سياق النفي تعم.
(حديث خالد بن الوليد في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أشد الناس عذابا للناس في الدنيا أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة.
[أشد الناس عذابا للناس في الدنيا أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة] أي كما تدين تدان.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن الربيع بن خثيم قال: " الناس رجلان: مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله "
{تنبيه} : يحرم إيذاء المسلمين حتى لو بالإشارة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يشرْ أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار.
(53)
اجتناب احتقار المسلمين:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان اجتناب احتقار المسلمين فإنه داءٌ وبيل بل إنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب لأنه من الكبر الذي يهلك صاحبه لا محالة.
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىَ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىَ أَن يَكُنّ خَيْراً مّنْهُنّ وَلَا تَلْمِزُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ وَمَن لّمْ يَتُبْ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ)[سورة: الحجرات - الآية: 11]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم "
قيل عند الله وقيل (خيراً منهم) أي معتقداً وأسلم باطناً، والسخرية الاستهزاء.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحاسدوا و لا تناجشوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و لا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخْذُلُه و لا يَحْقره التقوى هاهنا - و أشار إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخْذُلُه و لا يَحْقره]
(المسلم أخو المسلم) أي يجمعهما دين واحد {إنما المؤمنون إخوة} فهم كالأخوة الحقيقية وهي أن يجمع الشخصين ولادة من صلب أو رحم أو منهما بل الأخوة الدينية أعظم من الحقيقة لأن ثمرة هذه دنيوية وتلك أخروية. ثم بين مقتضيات هذه الأخوة وحقوقها.
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قيل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غَمطُ الناس.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[الكبر بَطَرُ الحقِ و غَمطُ الناس]
[بَطَرُ الحقِ]: دفعه وعدم قبوله
[و غَمطُ الناس]: أي احتقارهم وازدرئهم
(حديث جندب بن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.]
فانظر رحمك الله تعالى كيف كان احتقار المسلم العاصي سبباً في إحباط عمل الذي احتقره واستقل شأنه.
أخرج أبو عبيد عن الحسن أن قوماً قدموا على أبي موسى رضي الله عنه، فأعطى العرب وترك الموالي. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: ألا سويتَ بينهم؟ بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كذا في الكنز.
(54)
اجتناب التجسس على المسلمين:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان اجتناب التجسس على المسلمين فإنه داءٌ وبيل بل إنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسّسُواْ وَلَا يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ)[سورة: الحجرات - الآية: 12]
الشاهد: قوله تعالى [وَلَا تَجَسّسُواْ]
(ولا تجسسوا) حذف منه إحدى التاءين لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[ولا تجسسوا]
مسألة: ما الفرق بين التحسس بالحاء والتجسس بالجيم؟
التجسس البحث عما يكتم عنك، والتحسس (بالحاء) طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل: إن التجسس (بالجيم) هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور، وبالحاء: هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه.
(55)
الاقتصاد في العزلة والمخالطة:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان الاقتصاد في العزلة والمخالطة، وجدير بالذكر أن لكل من العزلة والمخالطة فوائد وغوائل، وأكثر الزهاد اختاروا العزلة منهم سفيان الثوري والفضيل وإبراهيم بن أدهم وبشر الحافي، ومنهم من اختار المخالطة كسعيد بن المسيب وشُريح والشعبي، وهاك صفوة مسائل الاقتصاد في العزلة والمخالطة:
معنى العزلة والخلطة:
ضوابط العزلة والخلطة:
متى تشرع العزلة؟
معنى التقية وأقسامها:
وسطية أهل السنة فى باب التَقِيَّة:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
معنى العزلة والخلطة:
أولاً معنى العزلة:
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
ولسنا نريد ـ رحمك الله ـ بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام ورد التحيات وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم وصنائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم فإنها مستثناة بشرائطها جارية على سيلها ما لم يحل دونها حائل شغل ولا يمنع عنها مانع عذر.
إنما نريد بالعزلة "ترك فضول الصحبة" ونبذ الزيادة منها وحط العلاوة التي لا حاجة بك عليها فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شغف النفوس وإلف العادات وترك الاقتصاد فيها والاقتصار الذي تدعوه الحاجة إليه كان جديرا ألا يحمد غبه وأن تستوخم عاقبته وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعهن ويأخذ منه فوق قدر حاجته فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مدنفة وأسقام متلفة وليس من علم كمن جهل ولا من حرب وامتحن كمن ماد وخاطر.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: خذوا بحظكم من العزلة.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في العزلة راحة من خليط السوء.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
ومن مناقب العزلة أنها خالعة عنك ربقة ذل الآمال وقاطعة رق الأطماع ومعيدة عز اليأس من الناس فإن من صحبهم وكان فيهم ومعهم لم يكد يخلو من أن يحدث نفسه بنوع من الطمع فيهم إما في مال أو جاه والطمع فقر حاضر وذل صاغر.
ثانياً: معنى الخلطة:
اما الخلطة فهى المازجة والمداخلة، تقول: خلطت الشىء بغيره فاختلط ورجل مخلط، اى: حسن المداخلة للامور، وعكسه المزيل (انظرمعجم مقاييس اللغه)
ضوابط العزلة والخلطة:
ورد عن النبي صلى الله وعليه وسلم، أحاديث في فضل العزلة، وأخرى في فضل الخلطة، وقد يستشكل بعض الناس كيفية فهم كل من هذه الأحاديث والجمع بينهما ومعرفة ضوابط العزلة والخلطة:
[*] وفصل الخطاب في مسألة العزلة والخلطة أن يقتصد الإنسان في العزلة والمخالطة على التفصيل الآتي:
أولاً يأخذ بحظه من العزلة ليصون وقته الذي هو عمره ويستأنس بمناجاة ربه تعالى ويدارس الكتاب والسنة، وعليه يحمل الأحاديث الآتية:
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) قال: قيل يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: رجلٌ يجاهد بنفسه وماله ورجلٌ في شعبٍ من الشعاب يعبد الله ويدعُ الناس من شره.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[ورجلٌ في شعبٍ من الشعاب يعبد الله ويدعُ الناس من شره]
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح الترمذي) قال قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أملك عليك لسانك ولْيسعك بيتُك وابكِ على خطيئتك.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: خذوا بحظكم من العزلة.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في العزلة راحة من خليط السوء.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ابن إبراهيم يقول: لو لم يكن في العزلة أكثر من أنك لا تجد أعوانا على الغيبة لكفى.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن الفضيل بن عياض يقول: من خالط الناس لم يسلم من أحد اثنين إما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل أو يسكت إن رأى منكرا فيأثم.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان بن عيينة قال: رأيت الثوري في المنام فقلت له أوصني فقال أقل معرفة الناس أقل معرفة الناس.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن بكر محمد العابد يقول قال لي داود الطائي يا بكر استوحش من الناس كما تستوحش من السبع.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي ذر قال كان الناس ورقا لا شوك فيه فهم اليوم شوك لا ورق فيه.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن مكحول قال: إن كان في مخالطة الناس خير فالعزلة أسلم.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابراهيم البخاري يقول دخلت المسجد الحرام بعد المغرب فإذا فضيل جالس فجئت فجلست إليه فقال من هذا فقلت إبراهيم قال ما جاء بك قلت رأيتك وحدك فجلست إليك قال تحب أن تغتاب أو تتزين أو ترائي قلت لا قال قم عني.
وقال داود الطائي رحمه الله تعالى: فِر من الناس كما تفر من الأسد.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابن الإمام أحمد: كَانَ أَبِي أَصْبَرَ النَّاسِ عَلَى الْوَحْدَةِ وَقَالَ لَمْ يَرَ أَحَدٌ أَبِي إلَّا فِي مَسْجِدٍ أَوْ حُضُورِ جِنَازَةٍ أَوْ عِيَادَةِ مَرِيضٍ وَكَانَ يَكْرَهُ الْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ.
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ عَنْهُ: رَأَيْتُ الْوَحْدَةَ أَرْوَحَ لِقَلْبِي.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: ذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَلَى أَنْ يَلْتَقِيَا فَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ اللِّقَاءَ وَقَالَ يَتَزَيَّنُ لِي وَأَتَزَيَّنُ لَهُ ، وَكَفَى بِالْعُزْلَةِ عِلْمًا ، وَالْفَقِيهُ الَّذِي يَخَافُ اللَّهَ، وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قُلْ لِعَبْدِ الْوَهَّابِ أُخْمِلَ ذِكْرُكَ ، فَإِنِّي أَنَا قَدْ بُلِيت بِالشُّهْرَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَشْتَهِي مَا لَا يَكُونُ ، أَشْتَهِي مَكَانًا لَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسَيِّبِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أُحِبُّ أَنْ آتِيَك فَأُسَلِّمَ عَلَيْك وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْرَهَ الرَّحْلَ ، فَقَالَ: إنَّا لَنَكْرَهُ ذَلِكَ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ السَّلَفِ يُؤْثِرُونَ الْعُزْلَةَ عَلَى الْخِلْطَةِ وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى نَفْعِ النَّاسِ بِمَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ مَعَ الْقِيَامِ بِحُدُودِ الشَّرْعِ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ إنْ كَانَ لَا يَشْتَغِلُ فِي عُزْلَتِهِ إلَّا بِنَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ انْفَتَحَ لَهُ طَرِيقُ عَمَلٍ بِالْقَلْبِ بِدَوَامِ ذِكْرٍ أَوْ فِكْرٍ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُعْدَلُ بِهِ أَلْبَتَّةَ.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ تَنَزُّهِ الْعَالِمِ بِالْعِلْمِ فَهُوَ أَنِيسُهُ وَجَلِيسُهُ ، وَقَدْ قَنِعَ بِمَا يَسْلَمُ بِهِ دِينُهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الْحَاصِلَةِ لَا عَنْ تَكَلُّفٍ وَلَا عَنْ تَضْيِيعِ دِينٍ ، وَارْتَدَى بِالْعُزْلَةِ عَنْ الذُّلِّ لِلدُّنْيَا وَأَهْلِهَا ، وَالْتَحَفَ بِالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَثِيرِ فَيَسْلَمُ دِينُهُ وَدُنْيَاهُ ، وَاشْتِغَالُهُ بِالْعِلْمِ يَدُلُّهُ عَلَى الْفَضَائِلِ وَيُفَرِّجُهُ فِي الْبَسَاتِينِ ، فَهُوَ يَسْلَمُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالسُّلْطَانِ وَالْعَوَامِّ بِالْعُزْلَةِ ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ هَذَا إلَّا لِلْعَالِمِ ، فَإِنَّهُ إذَا اعْتَزَلَ الْجَاهِلُ فَاتَهُ الْعِلْمُ فَتَخَبَّطَ.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
فَإِذَا عَرَفْت فَوَائِدَ الْعُزْلَةِ وَغَوَائِلِهَا تَحَقَّقْت أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا خَطَأٌ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى الشَّخْصِ وَحَالِهِ وَإِلَى الْخَلْطِ وَحَالِهِ وَإِلَى الْبَاعِثِ عَلَى مُخَالَطَتِهِ وَإِلَى الْفَائِتِ بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهِ مِنْ الْفَوَائِدِ ، وَيُقَاسُ الْفَائِتُ بِالْحَاصِلِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: الِانْقِبَاضُ عَنْ النَّاسِ مَكْسَبَةُ الْعَدَاوَةِ ، وَالِانْبِسَاطُ لَهُمْ مَجْلَبَةٌ لِقُرَنَاءِ السُّوءِ ، فَكُنْ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ ، وَمَنْ ذَكَرَ سِوَى هَذَا فَهُوَ قَاصِرٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي الْحَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: الطَّمَعُ فَقْرٌ وَالْيَأْسُ غِنًى ، وَالْعُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ ، وَقَرِينُ الصِّدْقِ خَيْرٌ مِنْ الْوَحْدَةِ.
وقال أيضاً خَالِطُوا النَّاسَ فِي مَعَايِشِكُمْ وَزَائِلُوهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: رضي الله عنه نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَصُونُ دِينَهُ وَعِرْضَهُ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأَسْوَاقَ فَإِنَّهَا تُلْغِي وَتُلْهِي.
وقال أيضاً كَانَ النَّاسُ وَرَقًا لَا شَوْكَ فِيهِ وَهُمْ الْيَوْمَ شَوْكٌ لَا وَرَقَ فِيهِ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ إنْ كَانَ فِي الْجَمَاعَةِ فَضْلٌ فَإِنَّ فِي الْعُزْلَةِ سَلَامَةً. أهـ
{تنبيه} : لا تكون العزلة محمودة إلا بعد التفقه في الدين.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن إبراهيم النخعي قال: تفقه ثم اعتزل.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ربيع بن خثيم قال: تفقه ثم اعتزل.
وسُئِلَ بعض العلماء: ما تقول في عزلة الجاهل؟ قال: خبالٌ ووبال، فقيل له: فالعالِم؟ فقال: مالك ولها؟ دعها معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها.
{تنبيه} : هذا الكلام غايةٌ في الصدق والتوفيق حيث شبه عزلة العالم بضالة الإبل، فكما أن ضالة الإبل لا يُخشى عليها الضياع لأن معها حذاؤها وسقاؤها، فكذا عزلة العالم لا يُخشى عليها الضياع لأن معه الكتاب والسنة.
ثانياً: يأخذ بحظه من المخالطة: وعليه يحمل الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر في صحيح الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمنُ الذي يُخالطُ الناسَ و يصبرُ على أذاهُم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالطُ الناس و لا يصبرُ على أذاهم.
{تنبيه} : ويجب على المسلم أن لا يخالط إلا من ينتفع بمخالطته فلا يخالط إلا إحدى ثلاث.
1) عالماً يتعلم منه.
2) متعلماً يعلمه شيءٌ يبتغي به وجا الله تعالى
3) أحد إخوانه ممن يُحس فيهم الصدق والتقوى فيذكرون ويخبرونه بعيوبه وينصحونه نصائح أُخوية صادرةٌ عن إخلاصٍ وحسنِ طوية عساها أن تجد له في سمعه مسمعاً وفي قلبه موقعا، عسى الله أن ينفعه بها ويوفقه إلى تطبيقها.
ولله در من قال:
لقاءُ الناسِ ليس يفيدُ شيئا
…
سوى الهذيان من قِل وقال
فاقلل من لقاءِ الناس إلا
…
لأخذِ العلمِ أو إصلاحِ حال
متى تشرع العزلة؟
هناك حالات خاصة تشرع فيها العزلة، وينبغى أن يُلْحَظ ان الحديث سيكون عن الحالات العامة التى تشرع فيها العزلة، والتى سبب مشروعيتها فيها تغير عام يقع فى المجتمع، أما العزلة التى تشرع بسبب خاص فقد مضت الإشارة إليها، وهى التى تكون بسبب الفرد ذاته، إما لعدم قدرته على احتمال رؤية المعاصى والمفاسد، أو الخوف على نفسه من الوقوع فيها خوفاً ظاهراَ قويا، وإما لتخلقه بطبائع وخلائق سيئة، من الحِدة والشدة، أو التعجيل والهوج، أو غيرها مما يلحق الضرر بالآخرين، دون تحصيل فائدة تذكر، إلى أسباب أخرى يكون متعلقها ذاته، وليس الحال العام، والحالات التي تشرع فيها العزلة ثلاثة هي كما يلي:
الحالة الاولى: عند فساد الزمان:
أشار النبى صلى الله علية وسلم، إلى الزمان الذي يتعذر فيه إصلاح العامة، لاختلاف الناس وتناحرهم وتطاحنهم، وخفة أحلامهم وأمأناتهم، ومروج عهودهم ونذورهم ووصف، صلى الله عليه وسلم، أهل ذلك الزمان بأنهم "حثالة"من الناس، والحثالة من كل شىء هى رديئه ومنه حثالة الشعير والأرز والتمر وكل ذى قشر،
وحثالة الناس: أراذلهم، فهو اشارة إلى استقرار الانحراف العام، والغربة الشاملة، وغلبة الشر والفساد غلبة لايُطْمَعُ معها فى إصلاح العامة.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم، أنه يُشْرَعُ للمرء حينئذ أن يُقْبَِلَ على خاصة نفسه ويذَرَ أمر العامة كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم و خفت أماناتهم و كانوا هكذا ـ و شبك بين أصابعه ـ فالزم بيتك و املك عليك لسانك و خذ بما تعرفه و دع ما تنكر و عليك بأمر خاصة نفسك و دع عنك أمر العامةودع عنك أمر العامة.
قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
أي الزم أمر نفسك واحفظ دينك واترك الناس ولا تتبعهم وهذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثر الأشرار وضعف الأخيار. أهـ
(حديث مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّمْرِ لَا يُبَالِيهِمْ اللَّهُ بَالَةً.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ: قال الخطابي الحثالة بالفاء وبالمثلثة الرديء من كل شيء،
وقال بن التين الحثالة سقط الناس وأصلها ما يتساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما وقال الداودي ما يسقط من الشعير عند الغربلة ويبقى من التمر بعد الأكل
لا يباليهم الله بالة: قال الخطابي أي لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتمثل بهذين البيتين:
ذَهبَ الَّذَينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم ** وَبَقيتُ في جِلدٍ كَجَلدِ الأَجرَبِ
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن أبي مسلم الخولاني قال: كان الناسُ ورقاً لا شوكَ فيه وإنهم اليوم شوكٌ لا ورقَ فيه.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ابن أبي ليلى: قال سيأتي على الناس زمان يقال له زمان الذئاب فمن لم يكن في ذلك الزمان كلبا أكلوه قال أبو سليمان قال قتيبة: هو هذا الزمان.
ما جاء في فساد الخاصة وما جاء في علماء السوء وذكر آفاتهم:
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
قد أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آفة العلم ذهاب أهله وانتحال الجهال وترؤسهم على الناس باسمه وحذر الناس أن يقتدوا بمن كان من أهل هذه الصفة وأخبر أنهم ضلال مضلون وأنذر به صلى الله عليه وسلم في حديث آخر. أهـ
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ.
(حديث عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
يريد ـ والله أعلم ـ ظهور الجهال المنتحلين للعلم المترئسين على الناس به قبل أن يتفقهوا في الدين ويرسخوا في علمه. أهـ
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا يريد أن من لم يخدم العلم في صغره استحيى أن يخدمه في كبر السن وادراك السؤدد.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن سفيان الثوري أنه قال: من ترأس في حداثته كان أدني عقوبته أن يفوته حظ كبير من العلم.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن أبي حنيفة رحمة الله عليه أنه قال: من طالب الرياسة بالعلم قبل أوانه لم يزل في ذل ما بقي.
ما جاء في فساد الأئمة وما جاء في الإقلال من صحبة السلاطين:
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لكعب بن عجرة: (أعاذك الله يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء. قال وما إمارة السفهاء قال أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم بكذبهم ولم ينعهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي. يا كعب بن عجرة لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت أبدا النار أولى به. يا كعب بن عجرة الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها أو بائعها فموبقها).
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
إنما كان هذا أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان على أمل من الظفر بعدوه ولا يتيقن العجز عنه لأنه لا يعلم يقينا أنه مغلوبن وهذا يعلم أن يد سلطانه أقو من يده فصارت المثوبة فيه على قدر عظيم المؤونة.
الحالة الثانية: عند الفتنة:
الفتنة ماخوذة من "ف ت ن "الدال على الابتلاء والاختبار، وقيل هو بمعنى الاحراق.
ولها معان كثيرة، منها: العذاب، والشرك، والكفر، والإثم والبلاء، والمحنة، والقتل، والهلاك، والصد عن الصراد المستقيم، والحيرة، والضلال وغيرها.
والمقصود هنا ما يعرض للفرد والجماعة من إثار الشبهات والشهوات من انحراف واختلاف وتقاتل.
وقد جاءت السنة كثيرا بإطلاقها على الاختلاف والتفرق الواقع بين المسلمين، وما يترتب عليه من تحزب وقتال وقتل، وشاع استعمالها بهذا المعنى.
[*] قال الحافظ ابن حجر:"والمراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف فى طلب الملك، حيث لا يعلم المُحِقَّ من المُبْطِل".وقد وردت أحاديث فى التحذير من الفتن عموما، والحث على الفرار منها، واعتزالها بالكلية. أهـ
وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة
قال الله تعالى ذكره حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم (وَأَعتَزَلَكُم وَما تَدعونَ مِن دونِ اللَهِ وَأَدعو رَبي عَسى أَلا أَكونَ بِدُعاءِ رَبي شَقِياً)[مريم: 48]
اعتصم خليل الله سبحانه بالعزلة واستظهر بها على قومه عند جفائهم إياه وخلافهم له في عبادة الأصنام ومعاندة الحق وكفاه الله تعالى أمرهم وعصمه من شرهم وأثابه على ذلك بالموهبة الجزيلة وعوضه النصرة بالذرية الطيبة،
قال تعالى: (فَلَمّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً)[مريم: 49]
وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام (وَإِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ)[الدخان 20، 21] فزع نبي الله تعالى إلى العزلة حين ظهر له عنادهم في قبول الدعوة وإصرارهم على منابذة الحق.
وقال تعالى ذكره في قصة أصحاب الكهف: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُم مّن رّحْمَتِهِ وَيُهَيّىءْ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقاً)[الكهف: 16]
وكانوا قوما كرهوا المقام بين ظهراني أهل الباطل ففروا من فتنة الكفر وعبادة الأوثان فصرف الله تعالى عنهم شرهم ودفع عنهم بأسهم ورفع في الصالحين ذكرهم.
وقد اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه قريشا لما جفوه وآذوه فدخل الشعب وأمر أصحابه باعتزالهم والهجرة إلى أرض الحبشة ثم تحول إلى المدينة مهاجرا حتى تلاحق به أصحابه وتوافوا بها معه فأعلى الله تعالى كلمته وتولى إعزازه ونصره صلى الله عليه وسلم.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم، يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا.
اما الأحاديث الوارادة فى الاختلاف والتنازع بين المسلمين، وما يتبعه من قتال وتطاحن وسفك للدماء فهى كثيرة جدا، منها ما يلي:
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قِسِيِّكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل يعني على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم.
[*] قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
(كقطع الليل المظلم) بكسر القاف وفتح الطاء ويسكن أي كل فتنة كقطعة من الليل المظلم في شدتها وظلمتها وعدم تبين أمرها
قال الطيبي رحمه الله يريد بذلك التباسها وفظاعتها وشيوعها واستمرارها
(فيها) أي في تلك الفتن
ويصبح كافرا الظاهر أن المراد بالإصباح والإمساء تقلب الناس فيها وقت دون وقت لا بخصوص الزمانين فكأنه كناية عن تردد أحوالهم وتذبذب أقوالهم وتنوع أفعالهم من
عهد ونقض وأمانة وخيانة ومعروف ومنكر وسنة وبدعة وإيمان وكفر
(القاعد فيها خير من القائم والماشي فيه خير من الساعي) أي كلما بعد الشخص عنها وعن أهلها خير له من قربها واختلاط أهلها لما سيؤل أمرها إلى محاربة أهلها فإذا رأيتم الأمر كذلك
(فكسروا قِسِيِّكم) بكسرتين وتشديد التحتية جمع القوس وفي العدول عن الكسر إلى التكسير مبالغة لأن باب التفعيل للتكثير
(وقطعوا) من التقطيع
(أو تاركم) جمع وتر بفتحتين
قال القارىء فيه زيادة من المبالغة إذ لا منفعة لوجود الأوتار مع كسر القسي أو المراد به أنه لا ينتفع بها الغير
(واضربوا سيوفكم بالحجارة) أي حتى تنكسر أو حتى تذهب حدتها وعلى هذا القياس الأرماح وسائر السلاح
(فإن دخل) بصيغة المجهول ونائب الفاعل قوله
(على أحد منكم) من بيانية
(فليكن) أي ذلك لأحد
(كخير ابني آدم) أي فليستسلم حتى يكون قتيلا كهابيل ولا يكون قاتلا كقابيل
(حديث خالد بن عرفطة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ستكون أحداث و فتنة و فرقة و اختلاف فإن استطعت أن تكون المقتول لا القاتل فافعل.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته.
(حديث أبي بكرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه.
فهذه الأحاديث تدل على مشروعية الاعتزال فى الفتنة، وتجنب الخوض فيها، ولذلك لما وقع القتال بين على ومعاوية رضى الله عنهما اعتزل عدد كبير من الصحابة، وأبوْا الدخول فى قتال بين المسلمين مع اعترافهم ببيعة أمير المؤمين على بن ابى طالب رضى الله عنه وخلافته.
فاعتزل محمد بن مسلمة، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وأبو بكر نفيع بن الحارث، وأبو مسعود الانصارى، وسلمة بن الاكوع، وأبو موسى الاشعرى، وغيرهم.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
" والعزلة عند الفتنة سنة الأنبياء وعصمة الأولياء وسيرة الحكماء والأولياء" فلا أعلم لمن عابها عذرا لا سيما في هذا الزمان القليل خيره البكيء دره وبالله نستعيذ من شره وريبه. أهـ
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث عقبة بن عامر الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك.
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طوبى لمن ملك لسانه وَوَسِعَه بَيْتَهُ وبكى على خطيئته.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم و خفت أماناتهم و كانوا هكذا ـ و شبك بين أصابعه ـ فالزم بيتك و املك عليك لسانك و خذ بما تعرفه و دع ما تنكر و عليك بأمر خاصة نفسك و دع عنك أمر العامةودع عنك أمر العامة.
قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
أي الزم أمر نفسك واحفظ دينك واترك الناس ولا تتبعهم وهذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثر الأشرار وضعف الأخيار. أهـ
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم، يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص قال: كان سعد في إبل له وغنم فأتاه ابنه عمر بن سعد فلما رآه قال: أعوذ بالله من هذا الراكب فلما انتهى إليه قال: يا أبت أرضيت أن تكون أعرابيا في إبلك وغنمك والناس يتنازعون في الملك قال فضرب سعد صدر عمر بيده وقال: اسكت يا بني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)
قال الخطابي رحمه الله: كان سعد رحمه الله ممن اعتزل أيام الفتنة فلم يكن مع واحد من الفريقين فأرادوه على الخروج فأبى وضرب لذلك مثلا.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ميمون بن مهران قال: إن سعداً لما دعوه إلى الخروج معهم أبى عليهم ثم قال: لا إلا أن تعطوني سيفا له عينان بصيرتان ولسان ينطق بالكافر فاقتله والمؤمن فاكف عنه وضرب لهم مثلا فقال: مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء فينا هم كذلك يسيرون هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق والتبس عليهم فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا وضلوا وقال آخرون: الطريق ذات الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا وقال آخرون: كنا في الطريق حيث هاجت الريح فنيخ فأناخوا فأصبحوا فذهب الريح وتبين الطريق فهؤلاء هم الجماعة قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه ولا ندخل في شيء من الفتن.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن داود بن شابور قال: كان طاوس قد جلس في بيته فقلنا له في ذلك فقال: فساد الناس وحيف الأئمة.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ابن سيرين قال: العزلة عبادة.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن هشام بن عروة قال: لما بنى عروى قصره بالعقيق لزمه قيل له: مالك لزمت هذا القصر وتركت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في فجاجكم عالية وكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن سفيان بن عيينة قال: قالوا لعبد الله بن عروة بن الزبير: ألا تأتي المدينة فقال: ما بقي بالمدينة إلا حاسد لنعمة أو فرح بنقمة.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن خلف بن تميم قال: جئت أطلب إبراهيم بن أدهم في مطير فاطلعت فلم أره فأعدت النظر فإذا هو قاعد تحت السرير وقد فر من الوكف فلما نظر إليَّ قال: قَلب الناسِ كَيفَ شِئتَ تَجِدُهُم عَقارِبا.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: كفى بالله محبا وبالقرآن مؤنسا وبالموت واعظا اتخذ الله صاحبا وذر الناس الناس جانبا.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن أبي الربيع الزاهد قال قلت لداود الطائي: أوصني.
قال: صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة وفر من الناس فرارك من الأسد.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ابن السماك قال: كتب إلينا صاحب لنا (أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فأصبحوا داء لا يقبل الدواء ففر منهم فرارك من الأسد واتخذ الله تعالى مؤنسا والسلام.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن وعيب بن الورد قال: بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت والعاشرة في عزلة الناس.
ويقول اخر لمن طلب منه الخروج فى قتال فتنة: إن أبى وعمى شهدا بدرا، وإنهما عهدا الى ألا أقاتل أحد يقول: لاإله إلا الله، فإن أنت جئتنى ببراءة من النار قاتلت معك، ثم يقول:
ولست بقاتل رجلا يصلى
…
على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلى إثمي
…
معاذ الله من جهل وطيش
أأقتل مسلما فى غير جرم
…
فليس بنافعي ما عشت عيشي
وفى موقف هولاء المعتزلين يقول الإمام الخطابي رحمه الله تعالى:
"قال ميمون: فصار الجماعة والفئة التى تدعي فيه الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابه الذين اعتزلوا الفتن، حتى أذهب الله الفُرْقَةَ وجمع الألفة، فدخلوا الجماعة ولزموا الطاعة، وانقادوا، فمن فعل ذلك ولزمه نجا، ومن لم يلزمه وقع فى المهالك "
ولذك تمنى عدد من الصحابة الذين خاضوا فى الفتنة ان لو كان فى موقف هولاء المعتزلين، ومن كبار قادة الفئتين الذين تمنوا ذلك: عمروبن العاص رضى الله عنه حين رأى على رضي الله عنه قال "لله در بنى عمرو بن مالك لئن كان تخلقهم عن هذا الأمر خيرا كان خيرا مبررا، ولئن كان ذنبا مغفورا"
وكذلك على بن أبى طالب رضي الله عنه كان يقول "لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان براٍ إن اجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير"
وما من شك ان دافع الصحابة كلهم رضي الله عنهم هو الاجتهاد، ولكن هذا لا يمنع أن يكون بعضهم أولى بالحق، وأقرب إليه من بعض، وأن يكون منهم فاضل ومفضول، وقد يكون اعتزال المعتزلين لعدم تبين الأمر لهم، وقتال المقاتلين لقناعتهم بأن الحق فى القتال، ومما يدل على ذلك قول سعد السابق، والذى شبه المتوقفين عن القتال فيه بمن هاجت عليهم عجابة فضيعوا الطريق، فوقفوا حيث هم حتى يستبين لهم الأمر.
[*] يقول الحافظ ابن حجر فى شرح حديث أبي بكرة الآتي: (حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
يقول الحافظ ابن حجر: واستدل به على امتثال قوله تعالى (وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىَ الاُخْرَىَ فَقَاتِلُواْ الّتِي تَبْغِي حَتّىَ تَفِيَءَ إِلَىَ أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات: 9]،ففيها الامر بقتال الفئة الباغية، وقد ثبت أن من قاتل علياً كانوا بغاة.
وهؤلاء ـ مع هذا التصويب ـ متفقون أنه لا يُذَمُ واحد من هولاء، بل يقولون اجتهدوا فاخطاوا .. "
كيف تكون العزلة فى الفتنة؟
اتتضح من الأحاديث التى سبقت وضوحاً جلياً أن العزلة فى الفتنة تكون على احد وجهين:
الأول: العزلة التامة، فى مكان بعيد عن الناس، بحيث يشتغل المعتزل بغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، أو إبل يرعاها، أو أرض يزرعها ويصلحها، أو غير ذلك مما يحقق له العزلة الكلبة التامة عن الناس.
الثاني: العزلة الجزئية، بحيث يعتزل الفتنة وأهلها، ولا يدخل فيها أو يشترك فى قتالها، وإن كان مقيما بين ظهراني الناس.
وقد تنوعت مواقف المعتزالين للفتنة من الصحابة وغيرهم، فمنهم من اعتزل اعتزالا كليا كسعد بن ابى وقاص، ومحمد بن مسلمة.
ومنهم من تجنب الخوض فى الفتنة، ولم يعتزل الناس كأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وأبي مسعود الأنصارى، وأبى موسى الأشعري والذى يحدد هذا النوع من العزلة او ذاك أمران هما:
أولهما: الحاجة والمصلحة، فقد لا يستطيع المرء اعتزال الفتنة إلا باعتزال الناس كلهم، او يخشى ان يُقْحَمَ فيها فَيُنْطَلَق به حتى يكون بين الصفين، وقد يرى أن العزلة الكلية عن القتال أو الاختلاف هي بلوغ السلامة.
وثانيهما: القدرة والاستطاعة، فقد لا يستطيع المرء اعتزال الناس لحاجته اليهم، فى أمور دينه أو فى أمور دنياه، ولذلك أمر النبى صلى الله عليه وسلم، من لم يكن له إبل ولاغنم ولا أرض أن يعمد الى سيفه فيدقه بحجر، ثم يبحث عن النجاة ما استطاع، وقال سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته.
الحالة الثالثة اعتزال السلطان عند فساده:
إن السلطان لابد له من أعوان ومستشارين وعمال ووزراء، يعينونه على ما تولى من شئون رعاياه الخاصة والعامة، الدينية والدنيوية.
وقد كان وجوه الصحابة من المهاجرين والأنصار هم بطانة الخلفاء الأربعة، وما زال كثير من الفقهاء الذين يرون فى أنفسهم القدرة على توجيه السلطان والتأثير عليه، ولا يخشون من فتنة وضرر، يغشون مجالسهم أمرين بالمعروف والعدل، ناهين عن المنكر والظلم، قاضين لحوائج الناس، ولهم فى ذلك كله مواقف مشهورة.
أما حين يكون غشيان السلاطين طلبا لنفع دنيوى عاجل، أو لتحقيق مصالح شخصية، وتزول منه نية الاحتساب ،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يكون فتنة على صاحبه.
وقد غلبت على أحوال السلاطين ـ بعد عصر الراشدين ـ وجود شيء من الظلم والجور وإيثار العاجل على الآجل، حتى لا يكاد مخالطهم والملازم لهم يسلم من رؤيه منكر لا يستطيع له تغيرا، أو ظلم لا يستطيع له رفعا، أو حق مسلوب لا يستطيع له ردا.
وقد حذر النبى صلى الله عليه وسلم، من إتيان السلاطين وملازمتهم فى مثل تلك الحال، حيث يفوته من الخير أعظم مما حقق، بل ربما لم يحقق نفعا بالكلية.
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ومن أتى السلطان افتتن) لأنه إن وافقه في مرامه فقد خاطر بدينه وإن خالفه فقد خاطر بروحه ولأنه يرى سعة الدنيا فيحتقر نعمة اللّه عليه وربما استخدمه فلا يسلم من الإثم في الدنيا والعقوبة في العقبى.
(حديث رجلٍ من سليم في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إياكم و أبواب السلطان فإنه قد أصبح صعبا هبوطا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إياكم وأبواب السلطان) أي اجتنبوها ولا تقربوا باباً منها
(فإنه) يعني باب السلطان الذي هو واحد الأبواب
(قد أصبح صعباً) أي شديداً
(هبوطاً) أي منزلاً لدرجة من لازمه مذلاً له في الدنيا والآخرة ثم إن لفظ هبوطاً بالهاء وهو ما وقفت عليه في نسخ هذا الجامع والذي وقفت عليه في نسخ البيهقي والطبراني حبوطاً بحاء مهملة أي يحبط العمل والمنزلة عند اللّه تعالى. قال الديلمي: وروي خبوطاً بخاء معجمة والخبط أصله الضرب والخبوط البعير الذي يضرب بيده على الأرض اهـ وإنما كان كذلك لأن من لازمها لم يسلم من النفاق ولم يصب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه أغلا منه وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم سيما من له لهجة مقبولة وكلام عذب وتفاصح وتشدق إذ لا يزال الشيطان يلقي إليه أن في دخولك لهم ووعظهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم الشرع ثم إذا دخل لم يلبث أن يداهن ويطري وينافق فيهلك ويهلك. أهـ
والحاصل أن الفتنة التى تعرض لملازم السلطان هى فتنة الدين أو الدنيا، فإنه إن وافقه فيما يأتي وما يذر فقد خاطر بدينه، وإن خالفه خاطر بروحه، وهى فتنة السراء بتعرضه للدنيا وزينتها، وفتنة الضراء بتعرضه للإهانة والضرب والقتل وسائر المخاطر.
وهذا الضرر الحاصل لمن دخل عليه ولازمه، قد يكون ضرر محضا لا يقابله تحصيل مصلحة شرعية، سواء كان الضرر دينيا او دنيويا، بالخير وبالشر.
وقد تقابله مصلحة شرعية أقل منه، أو مثله، او أعظم منه، وتندرج هذه المسألة تحت قاعدة المصالح والمفاسد.
ولذلك يقول الامام الفتنى فى شرحه للحديث السابق:"وهذا لمن دخل مداهنة، ومن دخل آمرا وناهيا وناصحاً كان دخوله افضل".
أي: لأنه يدخل فى هذه الحال فى باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن تعرض للقتل كان مخاطرا بنفسه فى ذات الله، وقد بين الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن افضل الجهاد كلمة عدل أو حق عند سلطان جائر.
مسألة: هل يجوز الخروج على الحاكم إذا وُجِد منه فساداً أو انحرافاً عن العدل؟
الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدله أنه لا يجوز الخروج عن الحاكم مالم نرى منه كفراً بواحاً عندنا من الله فيه برهان، بل يجب علينا السمع والطاعة لهم ما داموا مسلمين مُصَلِيْن، وعدم قتالهم أو الخروج عليهم حتى نرى منهم الكفر البواح الذى عندنا من الله فيه برهان، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ستكون أثرة وأمور تنكرونها. قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم.
(حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحاً، عندكم من الله فيه برهان.
فلابد من السمع والطاعة فى المنشط والمكره، والعسر واليسر، وفى حال الاستئثار وحجب بعض الحقوق عن أهلها، ولا تجوز منازعة الحاكم أو الوالى إلا فى حالة الكفر البواح الصراح، أما فيما يتعلق بكراهية ما هم عليه، والإنكار عليهم، وقول كلمة الحق أمامهم، ونصحهم، والبراءة من انحرافهم فجاء فيه أحاديث كثيرة منها ما يلي:
(حديث أم سلمة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد بريء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع فقيل يا رسول الله أفلا نقاتلهم قال: لا ما صلوا.
فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى فساد السلطان، بوجود الأثرة التى يحجب فيها الحق عن أصحابه الذين هم أولى به من غيرهم، ووجود المنكرات المتعلقة بالولاة من الظلم، والتوسع فى الأكل والمشارب والمساكن وغيرها، وما شابه ذلك من المعاصي التى لا تصل الى الكفر البواح.
وبين قدراً من الواجب تجاه هذا الانحراف، وهو أداء الحقوق المتعلقة بهم للسلاطين من السمع والطاعة والمناصحة والجهاد ونحوها، سواء تعلقت هذه الحقوق بالنفس أو المال.
والصبر على فوات الحقوق الواجبة الراعية، والمتمثلة فى الاستئثار عليهم بالمال والحكم وغيرها، بحيث يسألونها الله عز وجل بأن يصرف قلوبهم الى العدل والانصاف فى الرعية، وإسناد الأمور إلى أهلها، أو يبدلهم خيراً منهم، ممن هو أحق بهذا الأمر وأولى به.
معنى التقية وأقسامها:
مسألة: ما معنى التقية؟
قال تعالى: (لاّ يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ)[آل عمران: 28]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
نهى الله تبارك وتعالى، عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك فقال:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: من يرتكب نهى الله في هذا فقد برئ من الله.
وقوله: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال:"إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ".
وقال الثوري: قال ابن عباس، رضي الله عنهما: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس: إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية، وأبو الشعثاء والضحاك، والربيع بن أنس. ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (7)} [النحل: 106]. أهـ
وعن الضحاك قال: التقية باللسان، من حمل على أمر يتكلم به، وهو لله معصية، فتكلم مخافة على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه إنما التقية باللسان، وورد نحو هذا المعنى عن جمع من السلف.
وهذه الآثار تدل على أنه يدخل فى الآية الكتمان والاستسرار وعدم الجهر بالدين والحق، ويدخل يها ـ أيضا ـ مصانعة المشركين ومخالفتهم وإظهار موالاتهم باللسان دون العمل إذا تحققت شروط الإكراه.
وفى آية النحل ذكر الله تعالى الكفر بعد الايمان، وتوعد فاعليه بالغضب والعذاب العظيم، واستتثنى من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان قال تعالى:(مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلََكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النحل: 106]
فهذه الآية نص فى رفع الحرج عن المكره على النطق بكلمة الكفر، مع اطمئنان قلبه بالإيمان.
وسبب نزولها يؤكد هذا المعنى ويجليه، حيث نزلت فى عمار بن ياسر حين ضربه المشركون حتى باراهم فى بعض ما يريدون، ونال من النبى صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير.
وقد نقل الحافظ ابن عبد البر، والحافظ ابن حجر إجماع العلماء على ان هذا هو سبب النزول.
فإن عمارا رضي الله عنه أكره على النطق بكلمة الكفر، وسب النبى صلى الله عليه وسلم، وقد عذره الله تعالى فى هذه الآية، وبين أنه غير داخلٍ فى الوعيد.
[*] أقسام التقية:
القسم الأول من أقسام التقية (المدارة):
فقد عد قوم من باب التقية مدارة الكفار والفسقة والظلمة، وإلانة الكلام، والتبسم فى وجوهم، والانبساط معهم، وإعطائهم، لِكَفِ أذاهم، وقطع لسانهم، وصيانة العرض منهم، ولتألف قلوبهم على الإسلام والاتباع.
والمدارة لا تعارض النصح الرفيق البعيد عن الإغلاظ والشدة.
[*] قال ابن بطال رحمه الله تعالى: "المدارة من أخلاق المؤمنين، وهى خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم فى القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وهى الرفق بالجاهل فى التعليم، وبالفاسق فى النهى عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك"
وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله تعالى فى كتاب الأدب من صحيحه بابا بعنوان" باب المدارة مع الناس "،وساق تحته أثرا معلقا عن أبي الدرداء رضى الله عنه قال " إنا لَنَكْشُرُ في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم. ثم ساق الحديث الآتي:
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة فلما دخل ألان له الكلام قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام قال أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه.
ومن هذا ـ وغيره ـ يتضح أن المداراة هى التلطف فى المعاملة، ومحاذرة آثارة سخط الناس، بقصد جلب مصلحة شرعية، أو دفع مفسدة شرعية.
وقد تكون المداراة بالقول، كلين الكلام، وقد تكون بالفعل تفويت مصلحة شرعية_ وقد تصبح واجبة إذا ترتب على تركها مفسدة من ردة أو فسق، أو ظلم مسلم، أو نحو ذلك.
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عمرو بن تغلب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ومنع آخرين، فكأنهم عَتَبُوا عليه، فقال:(إني أعطي قوما أخاف ظلعهم وجزعهم، وَأَكِلُ أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغناء، منهم عمرو بن تغلب). فقال عمرو بن تغلب: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس فيهم، قال: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلا لم يعطه، وهو أعجبهم إلي، فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته، فقلت: مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنا؟ قال:(أو مسلما). قال فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنا؟ قال:(أو مسلما). قال: فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنا قال:(أو مسلما). يعني: فقال: (إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكب في النار على وجهه).
ومن الظاهر ان النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليمنع المال من هو أحق به وأولى من أهل السابقة الفقراء، ويعطيه من كان إلى وقت قريب حرباً على الإسلام، إلا لسببٍ يوجب ذلك، من تألف قلوبهم على الإسلام، وتثبيتهم عليه لئلا يرتدوا، ودفع أذاهم عن المسلمين، أو طعما في الإسلام من وراءهم من قومهم.
وَيُلْحَظُ فى المداراة أنها قد تكون في حالات ضعف المسلمين وخوفهم، وقد تكون في بداية مرحلة التمكين، وقد تكون في أثناء التمكين، والأمثلة السابقة توضح ذلك.
القسم الثانى من أقسام التقية (الكتمان والاستسرار):
هذا القسم من أولى الأقسام دخولا فى معنى التقية، ولكن لا يلزم من ذلك حصر معنى التقية فيه.
وقد ساق الله تعالى فى كتابه قصة مؤمن ءال فرعون، وطريقته فى مواجهة بعض المواقف الصعبة المحرجة، قال تعالى:(وَقَالَ رَجُلٌ مّؤْمِنٌ مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ اللّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّبّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُمْ إِنّ اللّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ * يَقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ)[غافر 28: 29] الى قوله تعالى: (وَقَالَ الّذِيَ آمَنَ يَقَوْمِ اتّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرّشَادِ * يَقَوْمِ إِنّمَا هََذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنّ الَاخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ* مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلَا يُجْزَىَ إِلاّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَقَوْمِ مَا لِيَ أَدْعُوكُمْ إِلَى النّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيَ إِلَى النّارِ * تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ * لَا جَرَمَ أَنّمَا تَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدّنْيَا وَلَا فِي الَاخِرَةِ وَأَنّ مَرَدّنَآ إِلَى اللّهِ وَأَنّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِيَ إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ * قال تعالى: (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ)[غافر 38: 46]
لقد أشار هذا القبطى يستتر بإيمانه بين ملئه وقومه، ويكاتمهم إياه، ولذلك كان منهم بحيث يحضر ناديهم، ويطارحهم الرأى فيه، ولم يبين السياق ما إذا كان دافعه إلى الكتمان الخوف من بطشهم وفتنتهم، أو الرغبة فى حماية موسى والمؤمنين، والدفاع عنهم، أو الأمرين معا.
وحين وصل الحال إلى فرعون هَمَّ بقتل موسى وقف هذا الرجل وقفته العظيمة مدافعا محذرا، دون أن يكون فى موقفه هذا ما يدل دلالة صريحة على إعلانه للإيمان، بل كان اعتماده على المنطق الذى يقتضى أن هذا الرجل ـ موسى عليه السلام إما أن يكون كاذبا، أو صادقا، فإن كان كاذبا فهو يتحمل مغبة كذبه على ربه فى الدنيا والآخرة، وإن كان صادقا فأنتم حريون بالعقوبة على عصيانكم له وإقامتكم على ما أنتم عليه، فكيف إذا أزتم على ذلك قتله؟.
وما يزال هذا المؤمن يحاور ويداور ويلمح ويعرض حتى جهر ـ أخيرا ـ بما هو عليه من اتباع موسى واليمان به، وواجه طغيان فرعون القائل (مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ) [غافر: 29] الى قوله (َ يَقَوْمِ اتّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرّشَادِ)[غافر: 38] وحينئذ مكر به آل فرعون (فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ)[غافر: 45]
وهذه الحادثة الفردية التى عاشها مؤمن آل فرعون، عاشها جميع من المؤمنين الأولين بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا يكتمون إيمانهم من قومهم ويستسرون به.
وقد فصل القول فى حكم هذه التقية السيد محمود شكرى الألوسى رحمه الله تعالى فقال: كل مؤمن وقع فى محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين، وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك، ويخفي دينه، ويتشبث بعذر الاستضعاف، فإن أرض الله واسعة".
نعم إن كان له ممن له عذر شرعى فى ترك الهجرة كالصبيان، والنساء، والعميان، والمحبوسين، والذين يخوفهم بالقتل، أو قتل الأولاد، أو الآباء، أو أمهات، تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا غالبا، سواء كان هذا القتل بضرب العنق، أو بحبس القوت، أو بنحو ذلك، فإنه يجوز له المكث مع المخالف، والموافقة بقدر الضرورة، ويجب عليه أن يسعى فى الحلية للخروج والفراربدينه.
وإن كان التخويف بفوات المنفعة، أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها، كالحبس مع القوت، والضرب القليل غير المهلك، فإنه لايجوز له موافقتهم.
فعلى هذا يجوز للمسلم أن يكتم إسلامه اذا كان مقيما فى محل لا يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يستطيع الخروج أو الهجرة من هذا المحل، أو لا يجد مكانا يهاجر اليه ويأمن فيه على دينه، ويخشى لو جهر بدينه من الفتنة أو القتل، أو إلحاق الضرر البالغ به، أو بأقاربه، أو بمن يلوذ به.
على أن يقصر فى ذلك إلى قدر الضرورة، فلا يكتم حيث يسعه الإعلان، وعلى أن يسعى للهجرة ما استطاع إلا إذا كان مقيما بين أظهر المشركين، وفى البلاد التي لا يقدر فيها على الجهر بدينه، لأغراض مشروعة، تخدم الأمة المسلمة والجماعة المسلمة كالاغراض العسكرية، ونحوها فهو ـ حينئذ مأذون بالبقاء بينهم حتى يحقق الغرض الذى انتدب من أجله وحكم هذه الحالة الخاصة يؤخذ ـ بطريق الأولى ـ من اذن النبي صلى الله عليه وسلم، لبعض أصحابه الذين بعثهم فى مهمات خاصة، أن يقولوا فيه شيئا، وأن يظهروا الموافقة للكافرين فى بعض أمرهم.
القسم الثالث من أقسام التقية (إظهار الموافقة للمشركين على دينهم):
وهذا القسم هو أشد الأقسام وأخطرها، وفيه يتعدى الأمر مجرد السكوت والكتمان والاستسرار إلى إظهار الدين الباطل، وموافقة المشركين عليه، وفى تعريف السرخسى للتقية قال:"والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره، وإن كان يُضْمِرُ خلافه"،فقصر التقية على هذا المعنى.
وقد أجمع العلماء قاطبة على أن الإنسان إذا واجه ضغطا وتخويفا وتهديدا إن أصَرَّ على إيمانه، فلم يلتفت إلى هذا التخويف، وثبت على إعلان دينه، إنه فعل الأفضل، وإن قتل في هذا السبيل فهو شهيد، وقد ترك الرخصة الى العزيمة.
كما أجمعوا على أن ما أكره على الكفر حتى خشى على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن أظهر الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر.
ولكن يشترط للاكراه شروط:
الأول: أن يكون المُهَدِدُ قادراَ على إيقاع ما يُهَدِدُ به، والمأمور عاجز عن الدفع عن نفسه، ولو بالفرار والهرب.
الثاني: أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع عن فعل ما يؤمر به ذلك.
الثالث: أن يكون التهديد بأمر فوري، كأن يهدده بالقتل، اما لو قال: افعل كذا، وإلا ضربتك غداً لم يكن مُكْرَها، إلا إذا كان الزمن المحدد قريبا جدا فيكون فى حكم الأمر الفوري.
الرابع: ألا يظهر من المأمور المكره ما يدل على نوع من الرضا والاختيار والموافقة القلبية.
وقد خص بعض السلف الرخصة بالقول فحسب، دون الفعل، ونقل عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ومكحول، وغيرهما أن القول والفعل سواء، وهو مذهب مالك وطائفة من اهل العراق.
ولكن هذه التقية غير جائزة حين يترتب عليها ضياع الحق وخفاؤه، والتباسه بالباطل، كما اذا كان المكره من العلماء المرموقين الذي ينتظر الناس كلمتهم ليدينوا بها ويعتقدوها، ومن الزعماء المتبوعين الذين يقتدى الناس بهم، ويعتبرون بمواقفهم.
[*] يقول الشيخ احمد شاكر بعد ذكر بعض شروط التقية:" .. على ألا يكون ممن يقتدى به، فيخشى أن يخفى الحق على الجاهلين، وأن يضعف إيمانهم، ويحجموا عن نصرة حقهم احتجاجا بمن أجاب عند الاكراه تقية، وهم غافلون.
وهذا هو الذى أضعف المسلمين فى القرون الأخيرة: "أن أحجم علماؤهم وزعماؤهم وقادتهم عن الضرب على أيدى الظالمين، وعن الحق فى مواطن الصدق، فتهافت الناس، وضعفت قلوبهم، وملئوا من عدوهم فكانوا لا غناء لهم وكانوا غثاء كغثاء السيل".
وقال رحمه الله فى تعليق له على موقف الإمام أحمد ورفضه التقية لما يترتب عليها من التلبس على الجهال:" .. أما أولو العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون، وفى سبيل الله ما يلقون، ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا لضل الناس من ورائهم، يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذه تقية.
وقد أتى المسلمون من ضعف علمائهم فى مواقف الحق، لا يصدعون بمال يؤمرون، يجاملون فى دينهم وفى الحق، لا يجاملون الملوك والحكام فقط، بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعا، أو خافوا ضراً فى الحقير والجليل من أمر الدنيا، وكل أمر الدنيا حقير، فكان من ضعف المسلمين بضعف ما نرى "
وهناك حالة استثنائية خاصة يجوز فيها اظهار الموافقة، أو يشرع لغرض تحقيق مصلحة شرعية تجسسية، أو عسكرية، على ألا يتعدى بها القدر الضرورى اللازم، وقد ورد فى السنة ما يشهد لذلك الحديث الآتي:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله). فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال:(نعم). قال: فائذن لي أن أقول شيئا، قال:(قل) فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال: وأيضا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين؟ - وحدثنا عمرو غير مرة، فلم يذكر وسقا أو وسقين، أو: فقلت له: فيه وسقا أو وسقين؟ فقال: أرى فيه وسقا أو وسقين - فقال: نعم، ارهنوني، قالو: أي شيء تريد؟ قال: أرهنوني نساءكم، قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب، قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا، فيسب أحدهم، فيقال: رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، وكنا نرهنك اللأمة - قال سفيان: يعني السلاح - فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة، وقال غيرعمرو، قالت أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم، قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب. قال ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين - قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمى بعضهم - قال عمرو: جاء معه برجلين، وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس وعباد بن بشر. قال عمرو: جاء معه برجلين، فقال: إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه. وقال مرة ثم أشمكم، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا، أي أطيب، وقال غير عمرو: قال عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب. قال عمرو: فقال أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فلما استمكن منه، قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه.
{تنبيه} : وسواء كان كلام محمد بن مسلمة رضى الله عنه ومن معه من الصحابة لكعب على سبيل التورية التى فهم منها المخاطب غير ما أراد المتكلم كما يدل عليه كلام بعض الشراح، أو كان الأمر بخلاف ذلك، كما تدل عليه بعض روايات أهل السير التي فصلت القول في أنهم صرحوا له بإرادتهم خذلان النبي صلى اله عليه وسلم، والتنحي عنه، فإن إذن النبى صلى الله عليه وسلم، له أن يقول هو إذنٌ عام مقيد بالتورية، ولذلك بوب عليه الامام البخارى:"باب الكذب فى الحرب"،وكذلك الامام النسائى فى سننه الكبرى.
هذه هي "التقاة"عند أهل السنة، وهي استثناء من أصل عام مطرد، هو إحقاق الحق وإظهاره وإعلانه، وإبطال الباطل وإخماده، وازهاقه، وهى فى قسميها الآخرين رخصة جائزة، والعزيمة بخلافها.
والرخصة كما عرفها الأئمة: هى ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضى المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه.
وقد روعي فى إباحة هذة الرخصة وغيرها ما جبل عليه كثيرا من البشر من الضعف والعجز عن مقاومة الضغوط والشدائد، وتلك رحمه من الله قال تعالى:(هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78]
وروعي فى مشروعية الثبات والعزيمة ما اختص به بعض الناس من العزائم الصلبة، والهمم الرفيعة، والقلوب القوية الشجاعة، والنفوس الصابرة، التى خلقت لتكون معالم فى طريق الحق يهتدى بضوئها السائرون، ويستصبح بنورها الدالجون، وبهم يدفع الله عن الحق الغوائل والمحن، ويقيم لأهل الحجة السنن.
ولا يزال فى هذه الامة من لدن بعثة محمد، صلى الله عليه وسلم، الى يوم الناس هذا، وإلى أن يأتي أمر الله، من رجالات الطائفة المنصورة من يرفع راية الحق ويبذل مهجته دونها.
وسطية أهل السنة فى باب التَقِيَّة:
التقاة والتقية مصدران لفعل واحد، وقد قرئت الآية بالوجهين، فقرأها الجمهور (إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً)،وقرأها ابن عباس، والحسن، وحميد بن قيس، ويعقوب الحضرمي، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وأبو رجاء، والجحدرى، وأبو حيوة: تَقِيَّة بفتح التاء، وتشديد الياء على وزن فعيلة، وكذلك روى المفضل، عن عاصم.
وقد اشتهر لدى أهل السنة استعمال التقاة بضم التاء، وفتح القاف، والألف المدودة، كما هي قراءة الجمهور، مع استعمال اللفظ الآخر. واشتهر لدى الرافضة استعمال التقية بفتح التاء، وكسر القاف، والياء المشددة المفتوحة ـ كما هي القراءة الآخرى ـ هذا من حيث اللفظ.
أما من حيث حكم التَقِيَّة، والتطبيق العملي لها، فإن ثمت فروقا عظيمة بينها يمكن إجمال أهمها فيما يلي:
الفرق الاول:
أن التقية عند أهل السنة استثناء مؤقت من أصل كلي عام، لظرفٍ خاص يمر به الفرد المسلم، أو الفئة المسلمة، وهى مع ذلك رخصة جائزة.
أما الرافضة فالتَقِيَّة عندهم واجب مفروض حتى يخرج قائمهم، وهى بمنزلة الصلاة، حتى نقلوا عن الصادق قوله:"لو قلت أن تارك التَقِيَّة كتارك الصلاة لكنت صادقا".
بل إن التَقِيَّة عندهم تسعة أعشار الدين كله، ولذلك قالوا:"لا دين لمن لا تَقِيَّة له"
فالتَقِيَّة فى المذهب الشيعي أصل ثابت مطرد، وليست حالة عارضة مؤقتة. بل من غلوهم فى التَقِيَّة أن اعتبروا تركها ذنبا لا يغفر، فهي على حد الشرك بالله، ولذلك جاء فى أحاديثهم:"يغفر الله للمؤمنين كل ذنب، ويطهر منه فى الدنيا والآخرة، ما خلا ذنبين: ترك التَقِيَّة، وتضيع حقوق الإخوان".
وبهذا يتبن الفرق فى الحكم بين نظرة أهل السنة، ونظرة الرافضة، فهي عند أهل السنة استثناء مباح للضرورة، وعند الرافضة أصل من اصول المذهب.
الفرق الثانى:
إن التَقِيَّة عند أهل السنة ينتهي العمل بها بمجرد زوال السبب الداعي لها من الإكراه ونحوه، ويصبح الاستمرار عليها ـ حينئذ ـ دليلاً على أنها لم تكن تَقِيَّة ولاخوفا، بل كانت ردة ونفاقا.
وفى الأزمنة التي تعلو فيها كلمة الإسلام، وتقوم دولته، ينتهي العمل بالتَقِيَّة ـ غالبا ـ وتصبح حالة فردية نادرة.
أما عند الرافضة، فهى واجب جماعي مستمر، لا ينتهي العمل به، حتى يخرج مهديهم المنتظر الذي لن يخرج أبدا.
ولذلك ينسبون إلى بعض أئمتهم قوله:"من ترك التَقِيَّة قبل خروج قاءمنا فليس منا"
الفرق الثالث:
أن تُقَاة أهل السنة تكون مع الكفار ـ غالبا ـ كما هو نص قوله تعالى: (لاّ يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ)[آل عمران: 28]
وقد تكون مع الفساق والظلمة الذين يخشى الإنسان شرهم، ويحاذر بأسهم وسطوتهم، أما تَقِيَّة الروافض فهي أصلا مع المسلمين.
وهم يسمون الدولة المسلمة"دولة الباطل"ويسمون دار الإسلام:"دار التَقِيَّة "ويرون أن ترك التَقِيَّة في دولة الظالمين فقد خالف دين الإمامية وفارقة.
بل تعدى الأمر عندهم إلى حد العمل بالتَقِيَّة فيما بينهم حتى يعتادوها ويحسنوا العمل بها أمام أهل السنة.
وفى هذا يقول بعض أئمتهم ـ فيما زعموا ـ:"عليكم بالتَقِيَّة، فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه، لتكون سجية مع من يحذره"
الفرق الرابع:
أن التُقَاة عند أهل السنة حالة مكروهة ممقوتة، يُكْرَه عليها المسلم إكراها، وَيُلْجَأ إليها إلجاء، ولا يداخل قلبه ـ خلال عمله بالتقاة ـ أدنى شيء من الرضا أو الاطمئنان، وكيف يهدأ باله، ويرتاح ضميره، وهو يظهر أمرا يناقض عقد قلبه؟
أما الرافضة، فلما للتَقِيَّة عندهم من المكانة، ولما لها فى دينهم من المنزلة، ولما لها فى حياتهم العلمية الواقعية من التأثير، فقد عملوا على "تطبيعها"وتعويد اتباعهم عليها، وأصبحوا يتوارثون التمدح بها كابراً عن كابر.
ومن نصوصهم فى ذلك ما نسبوه لبعض أئمتهم من قوله لابنه:"يابني ما خلق الله شيئا أقر لعين أبيك من التَقِيَّة.
ونسبوا لجعفر الصادق قوله"لا والله ما على وجه الأرض أحب اليّ من التَقِيَّة "
هذه أبرز الفروق التى تميز تقاة أهل السنة عن تَقِيَّة الرافضة، والمحك العملي لهذه الفروق هو الواقع العملي عبر القرون والأجيال، وإلى يوم الناس هذا.
فإن أهل السنة تميزوا بالوضوح والصدق فى أقوالهم، وأعمالهم، ومواقفهم بل إنهم سجلوا مواقف بطولية خالدة في مقارعة الظالمين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدع بكلمة الحق، ولا زالت قوافل شهدائهم تتوالى جيلا بعد جيل، ورعيلا بعد رعيل، ولا زالت أصداء مواقفهم الشجاعة حية يرويها الأحفاد عن الأجداد، ويتلقنون منها دروس البطولة والفدائية والاسشهاد.
فى حين يحفل تاريخ الروافض بصور الخيانة والتأمر والغدر الخفي، فهم في الوقت الذي يصافحون به أهل السنة باليمين ـ تَقِيَّةً ونفاقا ـ يطعنونهم باليد الأخرى من وراء ظهورهم، وكثير من المصائب التي بالمسلمين كان للرافضة فيها يد ظاهرة، وكانوا من أسعد الناس بها، حتى ليصدق عليهم وصف الله للمنافقين (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا) [آل عمران: 120] ومع هذا بلغت بهم التَقِيَّة أن قال قائلهم:"من صلى وراء سني تَقِيَّة فكأنما صلى وراء نبي "
ويقابل غلوالشيعة فى النفاق الذى يسمونه تَقِيَّة، غلو الخوارج الذين يذهبون إلى أنه لا يجوز التَقِيَّة بحالٍ من الأحوال، وأنه لا يُراعى حفظ المال أو النفس، أو العرض، أو غيرها من الضروريات، فى مقابلة الدين أصلا.
ولهم فى ذلك تشديدات عجيبة، منها أن من كان يصلي، وجاء سارق أو غاصب ليسرق ماله، فإنه ليس له قطع الصلاة، ولا مقاومة هذا اللص فى أثنائها، مهما كان المال من العظم والكثرة، ولهم مواقف مع الصحابة وغيرهم فى هذا.
وبهذا تتحقق وسطية أهل السنة فى باب التَقِيَّة بين الرافضة المغالين، وبين الخوارج المفرطين، كما تحققت وسطيتهم فى سائر أبواب العمل والاعتقاد، مصداقا لقول الله تعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)[البقرة: 143]
(56)
الإحسان إلى من يعمل تحت يديه:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان الإحسان إلى من يعمل تحت يديه.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه قد كفاه علاجه و دُخَانه فليجلسه معه فإن لم يجلسه معه فليناوله أكله أو أكلتين.
(إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه) ليأكله.
(قد كفاه علاجه) أي تحمل المشقة من تحصيل آلاته ومزاولة عمله
(ودخانه) بالتخفيف مقاساة شم لهب النار حال الطبخ نص عليه مع شمول ما قبله له لعظم مشقته.
(فليجلسه معه) ندباً ليأكل مكافأة له على كفايته حره وعلاجه وسلوكاً لسبيل التواضع المأمور به في الكتاب والسنة هذا هو الأفضل.
(فإن لم يجلسه معه) لعذر كقلة طعام أو لكون نفسه تعاف ذلك قهراً عليه ويخشى من إكراهها محذوراً أو لغير ذلك كمحبته للاختصاص بالنفيس أو لكون الخادم يكره ذلك حياء منه أو تأدباً.
(فليناوله أُكلة أو أُكلتين) من الطعام بضم الهمزة ما يؤكل دفعة واحدة كلقمة
…
ما يؤكل كذلك بحسب حال الطعام والخادم ليرد ما في نفسه من شهوة الطعام وتنكسر سورة الجوع.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أنسا غلام كيس فليخدمك، قال: فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم تصنع هذا هكذا.
(حديث المعرور في الصحيحين) قال لقيتُ أبا ذرٍ بالرَّبذة وعليه حُلة وعلى غُلامه حُلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببتُ رجلاً فعيّرته بأُمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خَوَلكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فّلْيُطْعِمْه مما يأكل ولْيُلبِسْه مما يلبس ولا تُكَلفوهم ما يغلبهم، فإذا كلفتموهم فأعينوهم.
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) قال: كنت أضربُ غلاماً لي فسمعتُ من خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود للهُ أقدر عليك منك عليه، فالتفتُ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ي رسول الله هو حرٌ لوجه الله فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار.
(57)
التخلي عن شهوة الخصومة:
ويجب على المسلم أن يتخلى عن شهوة الخصومة ويحترز منها وألا يحوم حولها ولا يقترب منها فإنها خلقٌ شرٌ كله فهي تحمل على الحقد والكراهية والحسد وصاحبها ممقوت عند الله تعالى بنص الكتاب والسنة الصحيحة.
قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ ِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ {البقرة 206:204}
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبغض الرجال إلى الله: الألدُّ الخَصِم.
معنى الألدُّ: شديد اللدودة أي الجدال معنى الخَصِم: شديد الخصومة
{تنبيه} : ويجب على المسلم أن يتجنب الخصومة بينه وبين أخيه لأن هذا هو هدف الشيطان وبغيته عليه لعنة الله، فالشيطان عليه لعائن الله المتتابعة تترى من غير انفصال يُحَرِّش بين الناس ويوقع بينهم الخصومات والعياذ بالله.
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم.
معنى أيس: أي يأس
ولكن في التحريش بينهم:
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
في التحريش بينهم" هذا الحديث من معجزات النبوة، ومعناه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها.
(58)
الاحتراز من رذيلة الحرص والطمع:
من الصفات الرذيلة التي يجب على المسلم أن يحترز منها رذيلة الحرص والطمع فإن الحرص على المال يفسد الدين بقدر أكبر من الفساد الحاصل من إرسال ذئبين جائعين على غنم، أي يفسد فساداً بيناً بلا روية
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه.
مقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً.
وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة المال في سنته المشرفة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة
(حديث كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ.
قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً) أَيْ ضَلَالًا وَمَعْصِيَةً.
(وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ) أَيِ اللَّهْوُ بِهِ لِأَنَّهُ يُشْغِلُ الْبَالَ عَنِ الْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ وَيُنْسِي الْآخِرَةَ.
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
إنَّ هَذَا الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: لِكُلِّ أُمَّةٍ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ وَصَنَمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ.
{تنبيه} : من أجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحرص على المال وأمر بالاقتصاد فيه وعدم الانكباب عليه واليقين بأن نفساً لن تموت وحتى تستوفي رزقها و إن أبطأ عنها وأن الرزق
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس اتقوا الله و أجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها و إن أبطأ عنها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب خذوا ما حل و دعوا ما حرُم.
(أيها الناس اتقوا اللّه وأجملوا في الطلب) ترفقوا في السعي في طلب حظكم من الرزق
(فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها) فهو لا بد يأتيها فلا فائدة للانهماك والاستشراف والرزق لا ينال بالجد ولا بالاجتهاد وقد يكدح العاقل الذكي في طلبه فلا يجد مطلوبه والغر الغبي يتيسر له ذلك المطلوب، وهذه المطالب إنما تحصل وتسهل بناء على قسمة قسَّام لا يمكن منازعته ومغالبته {نحن قسمنا بينهم معيشتهم} فقد ترى أحمقاً مرزوقاً وعالماً محروماً، وقرن ذلك بالأمر بالتقوى لأنها من الأوامر الباعثة على جماع الخير إذ معها تنكف النفس عن أكثر المطالب وترتدع عن الشهوات وتندفع عن المطامع ومن ثم كرر لك فقال
(فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب) أي اطلبوا الرزق طلباً رفيقاً وبين كيفية الإجمال بقوله فيه
(خذوا ما حل) لكم تناوله
(ودعوا) أي اتركوا
(ما حرم)
(حديث أبي الدرداء في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الرزق أشد طلبا للعبد من أجله.
(الرزق أشد طلباً للعبد من أجله) لأن اللّه تعالى وعد به بل ضمنه ووعده لا يتخلف وضمانه لا يتأخر ومن علم أن ما قدر له من رزقه لا بد له منه علم أن طلبه لما لا يقدر له عناء لا يفيد ولهذا قال بعض الأنجاب: الرزق يطرق على صاحبه الباب وقال بعضهم: الرزق يطلب المرزوق وبسكون أحدهما يتحرك الآخر.
والسقيم عاجز والعمر الذي أعطى به يقوم العبادة والصحة مع الفقر خير من الغنى مع العجز والعاجز كالميت.
(وطيب النفس من النعيم) لأن طيبها من روح اليقين وهو النور الوارد الذي أشرق على الصدر فإذا استنار القلب ارتاحت النفس من الظلمة والضيق والضنك فإنها لشهواتها في ظلمة والقلب مرتبك فيها فالسائر إلى مطلوبه في ظلمة يشتد عليه السير ويضيق صدره ويتنكد عيشه ويتعب جسمه فإذا أضاء له الصبح ووضح له الطريق وذهبت المخاوف وزالت العسرة ارتاح القلب واطمأنت النفس وصارت في نعيم
(حديث عبيد الله ابن محصن في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها.
(من أصبح منكم آمنا في سِربه) أي في بيته
(معافى في جسده) أي صحيحاً بدنه
(عنده قوت يومه) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك
يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله
(فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) كأنما أعطي الدنيا بأسرها
{تنبيه} : ويجوز الاستكثار من المال الحلال ما لم ينكب الإنسان عليه مع صلاح النية من إعطاء حق الله تعالى فيه وصلة الرحم ومساعدة المحتاجين.
(حديث عمرو بن العاص في صحيح الأدب المفرد) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم المال الصالح للمرء الصالح.
(حديث يسار بن عُبيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم.
(لا بأس بالغنى لمن اتقى) فالغنى بغير تقوى هلكة، يجمعه من غير حقه ويمنعه ويضعه في غير حقه فإذا كان مع صاحبه تقوى فقد ذهب البأس وجاء الخير قال محمد بن كعب: الغني إذا اتقى آتاه اللّه أجره مرتين لأنه امتحنه فوجده صادقاً وليس من امتحن كمن لا يمتحن
(والصحة لمن اتقى خير من الغنى) فإن صحة البدن عون على العبادة فالصحة مال ممدود:
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِسَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لَا يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلَا عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
[*] قال سعيد ابن المسيب رحمه الله تعالى: لا خيرَ فيمن لا يريد المال من حِله يكفُ به وجهه عن الناس، ويصل فيه رحمه ويعطي منه حقه.
[*] وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: المال في زماننا هذا سلاحُ المؤمنين
[*] وقال الفُضَيلُ ابن عِياض لابن المبارك رحمها الله تعالى: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبُلغة ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خُرسان إلى البلد الحرام كيف ذاك؟
فقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: يا أبا علي إنما أفعل ذلك لأصون به وجهي وأكرم به عرضي وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم به، فقال الفضيل: ما أحسن ذا إذا تم ذا.
[*] وقال ابن المبارك مرةً للفضيل: لولا أنت وأصحابك ما اتجَّرت.
[*] وقال ابن المبارك مرةً: لولا خمسةٌ ما اتجَّرت، السفيانان وفضيل وابن السماك وابن علية.
(59)
صحبة من يُسْتَحْيَا منه ليزجره ذلك من المخالفات:
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: صحبة من يُسْتَحْيَا منه ليزجره ذلك من المخالفات.
(حديث سعيد بن يزيد بن الأزور رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: " أحبوا الطاعات بمجالسة من يُسْتَحْيَا منه "
وأورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: " ما أوقعني في بلية (1) إلا صحبة من لا أحتشمه "
وأورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن إسماعيل بن نجيد رحمه الله يقول: " عاشر من تحتشمه، ولا تعاشر من لا تحتشمه "
(60)
المشورة مع الإخوان وقبول ما يشيرون به عليه:
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ)[آل عمران: 159]
(61)
قلة مخالفة الإخوان في أسباب الدنيا:
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: قلة مخالفة الإخوان في أسباب الدنيا، فإن الدنيا أقل خطرا من أن يخالف فيها أخ من الإخوان.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن يحيى بن معاذ يقول: " الدنيا بأجمعها لا تسوى غم ساعة، فكيف بغم طول عمرك فيها، وقطع إخوانك بسببها مع قليل نصيبك منها؟ "
(62)
الحرص على اجتماع الكلمة والحذر من الخلاف:
(1) البلية: الشدة والمصيبة والفتنة
(حديث ابن مسعود في صحيح البخاري) قال سمعت رجلاً قرأ آيةً سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما محسن، لا تختلفوا فإنه من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا.
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذا إلى اليمن فقال يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
وتطاوعا: أي توافقا في الحكم ولا تختلفا لأن ذلك يؤدي الى اختلاف اتباعكما فيفضى إلى العداوة ثم المحاربة والمرجع في الاختلاف إلى ما جاء في الكتاب والسنة كما قال تعالى قال تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الَاخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء: 59]
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: قلة الخلاف على الإخوان، ويتحرى موافقتهم فيما يرون، ما لم يكن مخالف للدين والسنة.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن جويرة بن إسماعيل قال: " دعوت الله أربعين سنة أن يعصمني من مخالفة الإخوان "
أخرج عبد الرزاق عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، وعثمان ـ صَدْراً من خلافته ـ كانوا يصلُّون بمكة ومِنى ركعتين، ثم إن عثمان صلاها أربعاً، فبلغ ذلك ابن مسعود، فاسترجع ثم قام فصلَّى أربعاً. فقيل له: إسترجعت ثم صليت أربعاً؟ قال: الخلاف شر. كذا في الكنز.
وأخرج البخاري عن علي رضي الله عنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون للناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي.
وأخرج العسكري عن سليم بن قيس العامري قال: سأل ابن الكوَّاء علياً رضي الله عنه عن السُّنة، والبِدعة، وعن الجماعة، والفُرقة. فقال: يا ابن الكواء، حفظت المسألة فأفهم الجواب: السنة ـ والله ـ سنّة محمد صلى الله عليه وسلم البدعة ما فارقها، والجماعة ـ والله ـ مجامعة أهل الحق وإِنْ قلّوا، والفُرقة مجامعة أهل الباطل وإِن كثروا. كذا في الكنز.
(63)
أن يلزم التجارة والصناعة ويستغني بالله عن الناس:
(حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
أَفْضَلُ الْكَسْبَِْ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَجُلِ بِيَدِه.
(حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ.
(التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ إِلَخْ) أَيْ: مَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ في البيع كَانَ فِي زُمْرَةِ الْأَبْرَارِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ.
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أكل أحدٌ طعامٌ قط، خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكلُ من عمل يده)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيحتطبَّ على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسألَه، أعطاهُ أو مَنَعه)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان زكرياء نجاراً)
(حديث عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكّلُونَ عَلَى الله حَقّ تَوَكّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً ".
(حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
أَفْضَلُ الْكَسْبَِْ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَجُلِ بِيَدِه.
قال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير:
(أفضل الكسب بيع مبرور) أي لا غش فيه ولا خيانة أو معناه مقبول في الشرع بأن لا يكون فاسداً أو مقبول عند اللّه بأن يكون مثاباً عليه.
(عمل الرجل بيده) من نحو صناعة أو زراعة وقيد العمل باليد لكون أكثر مزاولته بها وخص الرجل لأنه المحترف غالباً لا لإخراج غيره وظاهر الحديث تساويهما في الأفضلية قال بعضهم وقد قيل له لا تتبع التكسب فيدنيك من الدنيا فقال لئن أدناني من الدنيا فقد صانني عنها.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليستغن أحدكم عن الناس بقضيب سواك)
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا رزقه الله مالاً وعلما فهو بأحسن المنازل عند الله بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لَا يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله، وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلَا عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي فِي كِفَايَةٍ قَالَ الْزَمْ السُّوقَ تَصِلُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَعُودُ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ لِلْمَيْمُونِيِّ اسْتَغْنِ عَنْ النَّاسِ فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْغَنِيِّ عَنْ النَّاسِ وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رحمه الله لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَثِقُ بِاَللَّهِ فَيَأْتِيه بِرِزْقِهِ قَالَ: إذَا وَثِقَ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْء أَرَادَهُ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} .
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن مجاهد، في قوله تعالى:(يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة: 172] قال: التجارة.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن مجاهد (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ)[البقرة: 267] قال: التجارة.
أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن أبي بكر المروذي قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله رحمه الله: إني في كفاية، فقال:" الزم السوق تصل به الرحم وتعود به "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله، يأمر بالسوق ويقول:" ما أحسنَ الاستغناءَ عن الناس "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن أن أبا عبد الله رحمه الله تعالى قال: قال رجل للسري بن يحيى وكان يتجر في البحر: تركب البحر في طلب الدنيا؟ قال: " أحب أن أستغني عن ضربك من الناس "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن عبيد الله بن موسى، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول: المال في هذا الزمان سلاح.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن محمد بن ثور قال: كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس في المسجد الحرام، فيقول " ما يُجْلِسِكُم؟ " فنقول: فما نصنع؟ قال: " اطلبوا من فضل الله، ولا تكونوا عيالا على المسلمين "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة أن إبراهيم بن أدهم كان إذا قيل له: كيف أنت؟ قال: بخير ما لم يتحمل مؤنتي غيري.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن الفيض بن إسحاق، قال: سألت الفضيل بن عياض، قلت: لو أن رجلا قعد في بيته، زعم أنه يثق بالله فيأتيه برزقه؟ قال: يعني إذا وثق به حتى يعلم أنه قد وثق به، لم يمنعه شيء أراده، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، وقد كانت الأنبياء يؤاجرون أنفسهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آجر نفسه، وأبو بكر وعمر، ولم يقولوا: نقعد حتى يرزق الله عز وجل، وقد قال الله تعالى في كتابه: قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصّلَاةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّهِ)[الجمعة: 10]. فلابد من طلب المعيشة
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن الحسن بن الربيع، يقول: لأن أكسب قيراطا (1) أحب إلي من أن يصلني أحد بعشرة دراهم.
(1) القيراط: عشر الدينار
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن مجاهد، في قوله تعالى:(يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة: 172](1) قال: التجارة.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن سعيد بن المسيب، قال: لا خير في من لا يطلب المال يقضي به دينه، ويصون به عرضه، ويقضي به ذمامه، وإن مات تركه ميراثا لمن بعده.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن سعيد بن المسيب، أنه ترك دنانير، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجمعها إلا لأصون بها ديني وحسبي، لا خير فيمن لا يجمع المال فيقضي دينه، ويكف به وجهه.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن عائشة، قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه أتجر قريش حتى دخل في الإمارة.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن عبد الله بن عمرو، أنه قال لقيم له في شهر رمضان: هل كلت لأهلنا قوت شهرهم هذا؟ قال: نعم، قال عبد الله بن عمرو: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت "
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رحمه الله: وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَيُقْبِلُ عَلَى الصَّلَاةِ يَعْنِي وَرَجُلٌ يَشْتَغِلُ بِالتِّجَارَةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ قَالَ التَّاجِرُ الْأَمِينُ.
وَتَرَكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ دَنَانِيرَ: فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجْمَعْهَا إلَّا لِأَصُونَ بِهَا دِينِي وَحَسَبِي ، لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَجْمَعُ الْمَال فَيَقْضِي دَيْنَهُ وَيَصِلُ رَحِمَهُ وَيَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ. أهـ
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
َقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ وَقَالَ: لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِي رِزْقِي؟ فَقَالَ أَحْمَدُ هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي} وَقَالَ حِينَ ذَكَرَ الطَّيْرَ {تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا} وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّجِرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيَعْمَلُونَ فِي نَخْلِهِمْ ، وَالْقُدْوَةُ بِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رحمه الله: لَيْسَ الْعِبَادَةُ عِنْدَنَا أَنْ تَصُفَّ قَدَمَيْك وَغَيْرُك يَتْعَبُ لَك وَلَكِنْ ابْدَأْ بِرَغِيفِك فَاحْرُزْهُمَا ثُمَّ تَعَبَّدْ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن سفيان الثَّوْرِيُّ قَالَ لَأَنْ أَخْلُفَ عَشْرَةَ آلَاف دِرْهَمٍ يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إلَى النَّاسِ.
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر أن رجلاً قال لمعروف الكرخي: يا أبا محفوظ! أتحرك لطلب الرزق أم أجلس؟ قال: لا بل تحرك، فإنه أصلح لك، فقال له أتقول هذا؟! فقال: وما أنا قلت، ولكن الله عز وجل أمر به، قال الكريم:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] ولو شاء أن ينزله عليها (1).
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن ابن عبد ربه قال: هل يجوز في عقل، أو يمثل في وهم، أو يصح في قياس أن يحصد زرع بغير بذر، أو يجني ثمر بغير غرس، أو يورى زند بغير قدح، أو ينموا مال بغير طلب.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: جاءني طاووس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجاباً، وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك بالإجابة.
(1) تاريخ بغداد: (13/ 199)، طبعة دار الفكر.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الأحوص سلام بن سليمل قال: قال لي سفيان الثوري: عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال، قال: وكان سفيان الثوري إذا أعجبه تجر الرجل، قال: نعم الفتى إن عوجل.
الحجة على الذين يزعمون أنهم يتوكلون فيتركون العمل:
أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن أبي بكر المروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: هؤلاء المتوكلة (1) الذين لا يتجرون ولا يعملون، يحتجون بأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج على سورة من القرآن، فهل كان معه شيء من الدنيا قال: وما علمهم أنه كان لا يعمل؟ قال: قلت: يقولون: نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل، قال:" ذا قول رديء خبيث"، الله تبارك وتعالى يقول (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نُودِيَ لِلصّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ) [الجمعة: 9]
فأيش هذا إلا البيع والشراء.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن صالح، أنه سأل أباه رحمه الله عن التوكل، فقال:" التوكل حسن، ولكن ينبغي للرجل أن لا يكون عيالا على الناس، ينبغي أن يعمل حتى يغني نفسه وعياله، ولا يترك العمل ". قال: وسئل أبي رحمه الله وأنا شاهد - عن قوم لا يعملون، ويقولون: نحن متوكلون، فقال:" هؤلاء مبتدعة "
(64)
النهي عن إغضاب المسلم:
(حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها قال فقال أبو بكر أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك فأتاهم أبو بكر فقال يا أخوتاه أغضبتكم قالوا لا يغفر الله لك يا أخي.
(65)
إكرام ضعفاء المسلمين وفقرائهم:
(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ
(1) التوكل: يقال تَوَكَّلَ بالأمرِ، إذا ضَمِنَ القِيام به ووكَلْتُ أمري إلى فلان: أي ألْجأته إليه واعتَمَدْتُ فيه عليه. ووكَّل فلانٌ فلاناً، إذا اسْتكْفاه أمرَه ثقةً بكفايَتِه، أو عَجْزاً عن القِيام بأمر نفسِه.
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا سِتَّةٍ فِيَّ وَفِي ابْنِ مَسْعُودٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَالْمِقْدَادِ وَبِلَالٍ قَالَ قَالَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّا لَا نَرْضَى أَنْ نَكُونَ أَتْبَاعًا لَهُمْ فَاطْرُدْهُمْ عَنْكَ قَالَ فَدَخَلَ قَلْبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْخُلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)[الأنعام: 52]
إكرام النبي عليه السلام لابن أم مكتوم بعدما عوتب فيه:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) قَالَتْ: أُنْزِلَ
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْشِدْنِي وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ وَيَقُولُ أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا فَيَقُولُ لَا فَفِي هَذَا أُنْزِلَ}
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(أَرْشِدْنِي) أَيْ عَلِّمْنِي
(يُعْرِضُ عَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ
(وَيَقُولُ) أَيْ لِلرَّجُلِ الْمُشْرِكِ
(أَتَرَى بِمَا أَقُولُ) أَيْ مِنَ التَّوْحِيدِ
(بَأْسًا) أَيْ ضَرَرًا وَحَرَجًا
(فَيَقُولُ لَا) وَفِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ: وَيَقُولُ " يَا أَبَا فُلَانٍ هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا "؟ فَيَقُولُ لَا وَالدِّمَاءِ مَا أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْسًا. وَالدِّمَاءُ جَمْعُ دُمْيَةٍ وَهِيَ الصُّورَةُ يُرِيدُ بِهَا الْأَصْنَامَ.
(66)
إكرام اليتيم:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين و امسح رأس اليتيم.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن أردت أن يلين قلبك) أي لقبول امتثال أوامر اللّه وزاجره
(فأطعم المسكين) المراد به ما يشمل الفقير ومن كلمات إمامنا البديعة إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا
(وامسح رأس اليتيم) أي من خلف إلى قدام عكس غير اليتيم أي افعل به ذلك إيناساً وتلطفاً به فإن ذلك يلين القلب ويرضي الرب.
(67)
الاقتصاد في الحب والكره:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما.
هونا: مقتصدا بلا إفراط.
البغيض: المكروه
[*] أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن الحسن قال: " تنقوا الإخوان والأصحاب والمجالس، وأحبوا هونا، وأبغضوا هونا، فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا، فلا تفرط في حبك، ولا تفرط في بغضك، وإن رأيت دون أخيك سترا فلا تكشفه "
[*] وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك صلفا "
[*] وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " عليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم؛ فإنهم زين في الرخاء وعزة عند البلاء "
وأنشد علي رضي الله عنه في ذلك قائلا:
وأحبب إذا أحببت حبًّا مقاربًا ....... فإنَّك لا تدري متى أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت بغضًا مقاربًا ....... فإنَّك لا تدري متى الحبُّ راجع
سرعة تقلب القلب:
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَثَلُ القلب مَثَلُ الريشة تقلبها الرياح بفلاة.
الفلاة: الصحراء والأرض الواسعة التي لا ماء فيها.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(مثل القلب مثل الريشة) وفي رواية كريشة، قال الطيبي: المثل هنا بمعنى الصفة لا القول السائر والمعنى صفة القلب العجيبة الشأن وورود ما يرد من عالم الغيب وسرعة تقلبه كصفة ريشة يعني أن القلب في سرعة تقلبه لحكمة الابتلاء بخواطر ينحرف مرة إلى حق ومرة إلى باطل وتارة إلى خير وتارة إلى شر وهو في مقره لا ينقلب في ذاته غالباً إلا بقاهر مزعج من خوف مفرط
(تقلبها الرياح بفلاة) لفظ رواية أحمد بأرض فلاة أي بأرض خالية من العمران فإن الرياح أشد تأثيراً فيها منها في العمران وجمع الرياح لدلالتها على التقلب ظهراً لبطن إذ لو استمر الريح لجانب واحد لم يظهر التقلب كما يظهر من الرياح المختلفة. ولفظه بفلاة مقحمة فهو كقولك أخذت بيدي ونظرت بعيني تقريراً ودفعاً للتجوز، قال: وتقلبها صفة أخرى لريشة وقال المظهر: ظهراً بدل بعض من الضمير في تقلبها واللام في بعض بمعنى إلى ويجوز أن يكون ظهراً لبطن مفعولاً مطلقاً أي تقلبها تقليباً مختصاً وأن يكون حالاً أي تقلبها مختلفة أي وهي مختلفة ولهذا الاختلاف سمي القلب قلباً وقال الراغب: قلب الشيء صرفه عن وجه إلى وجه وسمي قلباً لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة وغيرها. وقال الغزالي: إنما كان كثير التقلب لأنه منزله الإلهام [ص 509] والوسوسة وهما أبداً يقرعانه ويلقنانه وهو معترك المسكرين الهوى وجنوده والعقل وجنوده فهو دائماً بين تناقضهما وتحاربهما والخواطر له كالسهام لا تزال تقع فيه كالمطر لا يزال يمطر عليه ليلاً ونهاراً وليس كالعين التي بين جفنين تغمض وتستريح أو تكون في ليل أو ظلمة أو اللسان الذي هو من وراء حجابين الأسنان والشفتين وأنت تقدر على تسكينه بل القلب عرش الخواطر لا تنقطع عنه بحال والآفات إليه أسرع من جميع الأعضاء فهو إلى الانقلاب أقرب ولهذا خاف الخواص على قلوبهم وبكوا عليها وصرفوا عنايتهم إليها ومقصود الحديث أن يثبت العبد عند تقلب قلبه وينظر إلى همومه بنور العلم فما كان خيراً أمسك القلب عليه وما كان شراً أمسكه عنه.
ما يكره من النفاق والتصنع بالود:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار.
(حديث أبي هريرة في صحيح الأدب المفرد) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً.
[*] أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن ابن مسعود قال: " لا يكونن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة؟ قال: يجري مع كل ريح "
(68)
الاحتراز من الشح والبخل:
مسألة: ما الفرق بين الشح والبخل:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"الشح: هو شدّة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه. والبخل: منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه وإمساكه، فهو" شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله".
فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس؛ فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووُقِي شره، وذلك هو المفلح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وقال أيضاً: "الاقتصاد خلق محمود، يتولد من خلقين: عدل وحكمة
…
وهو وسط بين طرفين مذمومين، .... والشح: خلق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعاً، والهلع: شدة الحرص على الشيء والشره به .... "ا. هـ (1)
الترهيب من الشح والبخل:
قال تعالى: (وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ، وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ، فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ)[سورة: الليل - الآية: 10]
و قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[سورة: التغابن - الآية: 16]
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم و حملهم على أن سفكوا دماءهم و استحلوا محارمهم.
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِيَ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالشُّحُّ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ.
(1)"الوابل الصيب"(ص64)، "الروح"(ص353 - 354)، كلاهما لابن القيم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا.
(حديث أنس في الثابت صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الفقر و الغنى و ثلاث مهلكات: هوى متبع و شح مطاع و إعجاب المرء بنفسه.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجتمع غبار في سبيل الله و دخان جهنم في جوف عبد أبدا و لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع.
(حديث جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَعْطُونِي رِدَائِي لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ: أي ألجؤه إلى شجرة من شجر البادية ذات شوك.
لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا: الْعِضَاهِ بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة وفي آخره هاء هو شجر ذو شوك.
وقال بعض الحكماء: "من كان بخيلاً ورث ماله عدوه"(1).
ومن كلام الحكماء: "الرزق مقسوم، والحريص محروم، والحسود مغموم، والبخيل مذموم"(2).
وقال أبو حاتم: "البخل شجرة في النار، أغصانها في الدنيا؛ ومن تعلَّق بغصن من أغصانها جرَّه إلى النار"(3).
(1)"مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة (ص229).
(2)
"الآداب الشرعية" لابن مفلح (ج3)، (ص307).
(3)
"روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لابن حبان (ص195).
وقال أيضاً: "وما اتزر رجل بإزار أهتك لعرضه ولا أثلم لدينه من البخل"(1).
وقال أيضاً: "البخل بئس الشعار في الدنيا والآخرة، وشر ما يُدّخر من الأعمال في العُقْبى"(2).
وقال ابن تيمية: "المؤمنون يتمادحون بالشجاعة والكرم، وكذلك يتذامّون بالبخل والجبن"(3).
(69)
أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر:
(حديث أنس الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الناس ناساً مفاتيحٌ للخير مغاليقٌ للشر و إن من الناس ناساً مفاتيحٌ للشر مغاليقٌ للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيحَ الخير على يديه و ويل لمن جعل الله مفاتيحَ الشر على يديه.
(حديث خالد بن أبي عمران الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت عن سوء فسلم.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ جَاءَ مِنْهُمْ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القول أن الناس أصناف وطبقات وأنهم إلى تفاوت في الطباع والأخلاق: فمنهم الخير الفاضل الذي ينتفع بصحبته ومنهم الرديء الناقص الذي يتضرر بقربه وعشرته، كما أن الأرض مختلفة الأجزاء والتراب: فمنها العذاة الطيبة التي يطيب نباتها ويزكو ريعها ومنها السباخ الخبيثة التي يضيع بزرها ويبيد زرعها وما بين ذلك على حسب ما يوجد منها حسا ويشاهد عيانا. أهـ
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
(1)"روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لابن حبان (ص196).
(2)
"روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لابن حبان (ص198).
(3)
"مجموع فتاوى ابن تيمية"(ج28)، (ص154).
وفي هذا القول أيضا بيان أن اختلاف الناس غرائز فيهمن كما أن المعادن ودوائع مركوزة في الأرض: فمنها الجوهر النفيس ومنها الفلز الخسيس وكذلك جواهر الناس وطبائعهم: منها الزكي الرضي ومنها الناقص الدني. أهـ
(70)
التخلي عن رزيلة هجر المسلم:
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ.
(حديث أبي خراش السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.
جواز هجر أهل المعاصي أكثر من ثلاث:
(حديث أم سلمة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يدخل على بعض أهله شهرا، فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا عليهن أو راح، فقيل له: يا نبي الله حلفت أن لا تدخل عليهن شهرا؟. فقال: (إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما).
(حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح الترغيب والترهيب)
أَنَّهُ اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْنَبَ أَعْطِيهَا بَعِيرًا فَقَالَتْ أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن الحسن قال: هجران الأحمق قربة إلى الله عز وجل.
(71)
ترك الاستكثار من الأصدقاء وما يستحب من قلة الالتقاء:
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
المعنى لا تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب لان الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئاً سهل الانقياد وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه ويلين جانبه.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
الراحلة البعير الذلول الذي يرحل ويركب فاعل بمعنى مفعول كقولهم سر كاتم أي مكتوم وماء دافق بمعنى مدفوق يريد والله أعلم ليعلم أن غير الواحد من المائة من الناس لا يصلح أن يصحب كما أن غير الواحد من هذه المائة من الإبل لا يصلح أن يركب يشير به إلى الإقلال من صحبة الناس والتحذير منهم.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمرو بن العاص أنه قال: (إذا كثر الأخلاء كثر الغرماء).
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن سفيان الثوري: كثرة أصدقاء المرء من سخافة دينه.
وذلك لأن الرجل إذا كان صلب الدين لم يصحب إلا الأبرار الأتقياء وفيهم قلة.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ابن عون قال: أسىء ظنك بالناس تقع قريبا وأقل معرفة الناس تسلم.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لمحمد بن كعب القرظي: أي خصال الرجل أوضع له قال: كثرة كلامه وإفشاؤه سره والثقة بكل أحد.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن أبي الدرداء رحمه الله: إنك لن تتفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله ثم ترجع إلى نفسك فتجدها أمقت من سائر الناس.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن إبراهيم بن شماس قال قال لي جعفر بن حميد الأكاف: يا إبراهيم صحبت الناس خمسين سنة فلم أجد أخا منهم ستر لي عورة ولا وصلني إذا قطعته ولا أمنته إذا غضب فالاشتغال بهؤلاء حمق كثير.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن شبيب بن شبة قال: إن من إخواني من لا يأتيني في السنة إلا اليوم الواحد هم الذين أعدهم للمحيا والممات، ومنهم من يأتيني كل يوم فيقبلني وأقبله ولو قدرت أن أجعل مكان قبلتي إياه عضة لعضضته.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن اسحاق بن إبراهيم قال: كان بين عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان مودة وإخاء وكانت السنة تمر عليهما لا يلتقيان فقيل لأحدهما في ذلك فقال: "إذا تقاربت القلوب لم يضر تباعد الأجسام".
(72)
تركُهُ ما لا يعنيه:
من أجلِّ الآداب في معاشرة الإخوان " ترك ما لا يعني ورفض الاشتغال بما لا يجدي"
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حسن إسلامِ المرء تركُهُ ما لا يعنيه.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
قال بعض الحكماء: من اشتغل بما لا يعنيه ومن لم يستغن بما يكفيه فليس في الدنيا شيء يغنيه.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة أن ابن عباس أوصى رجلا فقال: لا تتكلم بما لا يعنيك فإن ذلك فضل ولست آمن عليك الحذر ودع الكلام في كثير مما يعنيك حتى تجد له موضعا فرب متكلم في غير موضعه قد عنث، ولا تمار حليما ولا سفيها فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك، وأذكر أخاك إذا توارى عنك بما تحب أن يذكرك به إذا تواريت عنه ودعه مما تحب أن يدعك منه فإن ذلك العدل واعمل عمل امرىء يعلم أنه مجزى بالاحسان مأخوذ بالاجرام.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن مؤرق العجلي قال: أمرٌ أنا اطلبه منذ عشرين سنة لم أنله ولست بتاركه فيما أستقبل قيل: وما هو يا أبا المعتمر؟ قال: الصمت عما لا يعنيني.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن الأعمش عن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر فقال إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك فإنهم يقرؤونك السلام ويسألونك عن أمر هذين الرجلين: علي وعثمان وما قولك فيهما فقال: هل غير قال: لا.
قال: جهزوا الرجل.
فلما فرغ من جهازه قال: اقرأ عليهم السلام وأخبرهم أن قولي فيهم (تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[البقرة: 134]
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم قيل له: ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني.
(73)
التحلي بالقناعة:
[*] عناصر التحلي بالقناعة:
العلاقة بين القناعة والرضا:
حاجتنا إلى القناعة:
سوء عاقبة الطامعين:
تعريف القناعة:
قناعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
لا قناعة في فعل الخير:
فضل القناعة:
مراتب القناعة (للماوردي):
آثار القناعة:
من الأسباب المؤدية للقناعة:
من أروع قصص القناعة:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
العلاقة بين القناعة والرضا:
القناعة متعلقة بالرضا، فإذا رضي العبد عن ربه قنع بما قسم الله له وقلبه مطمئن مرتاح لذلك. والقناعة تناقض التكالب على الدنيا سعيا وراء متاعها الزائل، سواء كان حلالا أم حراما. فالمؤمن يقنع بالحلال ولو كان قليلا، ويمقت الحرام ولو كان كثيرا. وقناعته لا تقعده عن الكسب ولا عن أخذ ما هو صالح من غيره، لكنها تناقض الحسد لمن آتاه الله رزقا وفيرا، وتناقض تكليف النفس فوق طاقتها طمعا في المزيد من متاع الدنيا، وتناقض الكسب مع التفريط بفرائض الله وعبادته.
حاجتنا إلى القناعة:
القناعة يحتاجها الغني والفقير وكذلك يحتاجها من كان رزقه كفافا بين الغنى والفقر، لأن القناعة في القلب ولا علاقة لها بما في اليد من مال.
ومن قنع بما آتاه الله وجد طمأنينة القلب والسعادة، قال تعالى:(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[النحل: 97]
قال كثير من أهل التفسير: الحياة الطيبة في الدنيا هي القناعة. وقيل أيضا في قوله تعالى: " (إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الإنفطار: 13] هو القناعة، وفي قوله تعالى " قال تعالى: (وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ)[الإنفطار: 14] هو الحرص في الدنيا.
وقد ذم الله تعالى التكاثر في متاع الدنيا وعدّه من الملهيات: " قال تعالى: (أَلْهَاكُمُ التّكّاثُرُ * حَتّىَ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)[التكاثر 1، 2] وهكذا يفلح من قنع بما آتاه الله تعالى وكان رزقه كفافا على قدر حاجته، وسطا بين الغنى والفقر، وهو أفضل من كليهما، لأن خير الأمور أوسطها، فرب غني ألهاه غناه عن معرفة ربه ورب فقير شغله فقره وإكتساب قوته عن عبادة ربه.
سوء عاقبة الطامعين:
يحكى أن ثلاثة رجال ساروا في طريق فعثروا على كنز، واتفقوا على تقسيمه بينهم بالتساوي، وقبل أن يقوموا بذلك أحسوا بالجوع الشديد، فأرسلوا أحدهم إلى المدينة ليحضر لهم طعامًا، وتواصوا بالكتمان، حتى لا يطمع فيه غيرهم، وفي أثناء ذهاب الرجل لإحضار الطعام حدثته نفسه بالتخلص من صاحبيه، وينفرد هو بالكنز وحده، فاشترى سمًّا ووضعه في الطعام، وفي الوقت نفسه، اتفق صاحباه على قتله عند عودته؛ ليقتسما الكنز فيما بينهما فقط، ولما عاد الرجل بالطعام المسموم قتله صاحباه، ثم جلسا يأكلان الطعام؛ فماتا من أثر السم .. وهكذا تكون نهاية الطامعين وعاقبة الطمع.
*أُهْدِيَتْ إلى السيدة عائشة رضي الله عنها سلالا من عنب، فأخذت تتصدق بها على الفقراء والمساكين، وكانت جاريتها قد أخذت سلة من هذه السلال وأخفتها عنها، وفي المساء أحضرتها، فقالت لها السيدة عائشة رضي الله عنها: ما هذا؟ فأجابت الجارية: ادخرتُه لنأكله. فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: أما يكفي عنقود أو عنقودان؟
*كان سلمان الفارسي رضي الله عنه واليا على إحدى المدن، وكان راتبه خمسة آلاف درهم يتصدق بها جميعًا، وكان يشتري خوصًا بدرهم، فيصنع به آنية فيبيعها بثلاثة دراهم؛ فيتصدق بدرهم، ويشتري طعامًا لأهله بدرهم، ودرهم يبقيه ليشتري به خوصًا جديدًا.
تعريف القناعة:
"القناعة هي الرضا بما قسم الله، ولو كان قليلا"، وهي عدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وهي علامة على صدق الإيمان.
قال الشوكاني رحمه الله في السلوك الإسلامي القويم:
فهي في اللغة: الرضا بالقسم، فمن رضي بما قسم له فقد قنع؛ لأن من تيقن أن ذلك بتقدير الخالق الرازق، وأن ليس في قدره فعند الزيادة عليه طاب عيشه وزال همه وكان كما قيل.
أَمْطِري لُؤلُؤاً جِبالَ سَرَنْدي
…
بَ وفيضي آبارَ تَكْرورَ تِبْرا
أَنا إنْ عِشْتُ لَسْتُ أَعْدَمُ قوتاً
…
وَإذا مِتُّ لَسْتُ أَعُدَمُ قَبْرا
وما أحسن ما قاله بعض السلف: ثلاث آيات غنيت بهن عن جميع الخلائق الأولى: (وَما مِنْ داَّبةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلى اللهِ رِزْقُهَا)[هود: 6].
الثانية: (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها)) [فاطر: 2].
الثالثة: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إَلَاّ هُوَ)) [الأنعام: 17].أهـ
والقناعة صفة كريمة، تعرب عن عزة النفس، وشرف الوجدان وكرم الأخلاق.
إنما صار القانع من أغنى الناس، لأن حقيقة الغنى هي: عدم الحاجة إلى الناس، والقانع راض ومكتف بما رزقه الله، لا يحتاج ولا يسأل سوى الله.
قناعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم يرضى بما عنده، ولا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يتطلع إلى ما عند غيره، فكان صلى الله عليه وسلم يعمل بالتجارة في مال السيدة
خديجة رضي الله عنها فيربح كثيرًا من غير أن يطمع في هذا المال، وكانت تُعْرَضُ عليه الأموال التي يغنمها المسلمون في المعارك، فلا يأخذ منها شيئًا، بل كان يوزعها على أصحابه.
وكان صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير، فرآه الصحابة وقد أثر الحصير في جنبه، فأرادوا أن يعدوا له فراشًا لينًا يجلس عليه؛ فقال لهم: (ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها. كما في الحديثين الآتيين:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قال فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية في الغرفة وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي فقال ما يبكيك يا ابن الخطاب فقال يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك قال: يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت بلى.
لا قناعة في فعل الخير:
المسلم يقنع بما قسم الله له فيما يتعلق بالدنيا، أما في عمل الخير والأعمال الصالحة فإنه يحرص دائمًا على المزيد من الخيرات، مصداقًا لقوله تعالى:(وَتَزَوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَىَ)[البقرة: 197].
وقوله تعالى: (وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ)[آل عمران: 133]
فضل القناعة:
للقناعة أهمية كبرى، وأثر بالغ في حياة الإنسان، وتحقيق رخائه النفسي والجسمي، فهي تحرره من عبودية المادة، واسترقاق الحرص والطمع، وعنائهما المرهق، وهوانهما المذل، وتنفخ فيه روح العزة، والكرامة، والإباء، والعفة، والترفع عن الدنايا، واستدرار عطف اللئام.
والقانع بالكفاف أسعد حياة، وأرخى بالا، وأكثر دعة واستقرارا، من الحريص المتفاني في سبيل أطماعه وحرصه، والذي لا ينفك عن القلق والمتاعب والهموم.
والقناعة بعد هذا تمد صاحبها بيقظة روحية، وبصيرة نافذة، وتحفزه على التأهب للآخرة، بالأعمال الصالحة، وتوفير بواعث السعادة فيها.
والإنسان القانع يحبه الله ويحبه الناس، والقناعة تحقق للإنسان خيرًا عظيمًا في الدنيا والآخرة، ومن فضائل القناعة ما يلي:
(1)
القناعة سبب البركة: فهي كنز لا ينفد، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنها أفضل الغنى، كما في الحديثين الآتيين:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغنى عن كثرةِ العرض ولكن الغنى غنى النفس)
والعَرَضُ: هو متاع الدنيا، ومعنى الحديث: الغِنَى المحمودُ هو غنى النَّفْس وشبعها، وقلَّة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن مَنْ كان طالبًا للزيادة، لم يَسْتَغْنِ بما عنده؛ فليس له غِنًى.
وما أجمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم الآتي:
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا)
وأرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم المؤمنَ إلى أن ينظر إلى مَنْ هو أسفل منه؛ حتى يشعر بكثرة نِعَم الله عليه؛ كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله.
قال ابنُ جريرٍ وغيره: "هذا حديثٌ جامعٌ لأنواعٍ من الخير؛ لأنَّ الإنسان إذا رأى من فُضِّلَ عليه في الدنيا، طَلَبَتْ نفسُه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله، وحَرَص على الازدياد؛ ليلحق بذلك أو يقاربه؛ هذا هو الموجود في غالب الناس، وأمَّا إذا نَظَرَ في أمور الدنيا إلى مَنْ هو دونه فيها، ظهرت له نعمةَ الله - تعالى - عليه، فشكرها، وتواضع، وفعل فيه الخير". اهـ
فالمسلم عندما يشعر بالقناعة والرضا بما قسمه الله له يكون غنيا عن الناس، عزيزًا بينهم، لا يذل لأحد منهم.
أما طمع المرء، ورغبته في الزيادة يجعله ذليلاً إلى الناس، فاقدًا لعزته، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ارْضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"
كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس و ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس و أحسن إلى جارك تكن مؤمنا و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما و لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب.
والإنسان الطمَّاع لا يشبع أبدًا، ويلح في سؤال الناس، ولا يشعر ببركة في الرزق، ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإلحاف في المسألة كما في الحديث الآتي:
(حديث معاوية رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته.
لا تُلْحِفُوا: أي لا تلحوا.
(2)
القناعة طريق الجنة: بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن المسلم القانع الذي لا يسأل الناس ثوابُه الجنة، كما في الحديث الآتي:
(حديث ثوبان في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان أنا، فكان لا يسأل الناس شيئاً.
(3)
القناعة عزة للنفس: القناعة تجعل صاحبها حرًّا؛ فلا يتسلط عليه الآخرون، أما الطمع فيجعل صاحبه عبدًا للآخرين. وقد قال الإمام علي-رضي الله عنه: الطمع رق مؤبد (عبودية دائمة)
وقال أحد الحكماء: من أراد أن يعيش حرًّا أيام حياته؛ فلا يسكن قلبَه الطمعُ. وقيل: عز من قنع، وذل من طمع. وقيل: العبيد ثلاثة: عبد رِقّ، وعبد شهوة، وعبد طمع.
(4)
القناعة سبيل للراحة النفسية: المسلم القانع يعيش في راحة وأمن واطمئنان دائم، أما الطماع فإنه يعيش مهمومًا، ولا يستقر على حال، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقول يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك.
[*] قال الإمام المنذري رحمه الله تعالى في الترغيب والترهيب:
يا بن آدم تفرغ لعبادتي: أي فرغ قلبك وأقبل علي وحدي، فتكون في كل أحوالك ناظراً إلى ربك سبحانه، مراقباً له، خائفاً منه، تعمل ما يرضيه سبحانه وتعالى، فهذا هو التفرغ لعبادة رب العالمين، فإذا فعلت هذا فالنتيجة هي ما جاء في الحديث حيث قال: أملأ صدرك غنى وأسد فقرك. فإذا امتلأ القلب غنى فلا يحتاج الإنسان إلى شيء بعد ذلك؛ لأن الغنى هو غنى القلب، فالإنسان إذا كان مفلساً لا شيء معه وقلبه غني فإنه سيشعر أنه ملك، وأنه أفضل من جميع من معه مال؛ لأن من معه مال يحتاج إلى أن يحرس ماله، أما هذا فلا يحتاج أن يحرس شيئاً؛ لأن القلب ممتلئ غنى، أما إذا ملأ الله قلب الإنسان فقراً وحاجة، فإنه سيشعر أنه فقير ولو كان من أغنى الناس؛ لأنه يحس أن ماله سينفد، وأن هناك أمراضاً يمكن أن تصيبه، فيظل يكنز ويكنز ولا يشبع أبداً. إذاً: الغنى هو غنى القلب والفقر هو فقر القلب، وربنا يعدك أنك إذا تفرغت للعبادة وأحسنت فيها فإنه سوف يملأ قلبك غنى، ولم ينته الأمر عند غنى القلب فقط، بل وفوق ذلك قال: أملأ صدرك غنى وأسد فقرك. أي: سأملأ القلب واليدين.
وإلا تفعل ملأت يديك شغلا: فالإنسان الذي يتباعد عن الله فيسمع المؤذن يؤذن فيقول: أنا لست فارغاً، بل ورائي شغل .. أريد أن آكل .. أو أريد أن أشرب، كيف أترك العمل وأنا محتاج إليه؟ فمثل هذا سوف يظل محروماً طول حياته.
ولم أسد فقرك: أي ستحس أنك فقير دائماً مهما كان معك من أموال كثيرة،
سبحان الله! البعيد عن طاعة الله سبحانه وتعالى يحدث له عكس ما يحدث للمتفرغ لطاعة الله سبحانه، فتجده كثير العمل، يشتغل هنا وهناك، وفي النهاية لا يجد معه شيئاً من الأموال؛ لأن الله يبتليه بالأمراض وبالإنفاق على العمال وغير ذلك، فلا يبقى معه شيء؛ لأنه ابتعد عن الله تبارك وتعالى.
وقال أحد الحكماء: سرور الدنيا أن تقنع بما رُزِقْتَ، وغمها أن تغتم لما لم ترزق.
ولله درُ من قال:
هي القناعة لا تبغي بها بلا
…
فيها النعيمُ وفيها راحةُ البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
…
هل راح منها بغيرِ القطن والكفن
وأجمل ما قيل في فضل القناعة:
دع الحرص على الدنيا وفي العيش لا تطمع
ولا تجمع من المال لا تدري لمن تجمع
ولا تدري أفي أرضك أم في غيرها تصرع؟
فإن الرزق مقسوم و سوء الظن لا ينفع
فقير كل من يطمع غني كل من يقنع.
تعريف القناعة:
القناعة الرضا بالقسم (أي النصيب و الحظ). قاله ابن السني في كتابه القناعة.
في كتاب موسوعة نضرة النعيم: (قال الراغب: القناعة الاجتزاء باليسير من الأغراض المحتاج إليها. قال الجاحظ: القناعة هي: الاقتصار على ما سنح من العيش و الرضا بما تسهل من المعاش و ترك الحرص على اكتساب الأموال و طلب المراتب العالية مع الرغبة في جميع ذلك و إيثاره و الميل إليه وقهر النفس على ذلك و التقنع باليسير منه.
قال المناوي رحمه الله تعالى: القناعة عرفاً: الاقتصار على الكفاف، و قيل الاكتفاء بالبُلغة، وقيل سكون الجأش عند وعدم امألوفات، و قيل الوقوف عند الكفاية).
مراتب القناعة (للماوردي):
المرتبة الأعلى: أن يقتنع بالبُلغة من دنياه و يصرف نفسه عن التعرض لما سواه.
المرتبة الأوسط: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية ويحذف الفضول والزيادة.
المرتبة الأدنى: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سنح، فلا يكره ما أتاه و إن كان كثيراً، و لا يطلب ما تعذر و إن كان يسيراً.
آثار القناعة:
(1)
امتلاء القلب بالإيمان بالله سبحانه وتعالى و الثقة به والرضا بما قدر و قسم.
(2)
الحياة الطيبة.
(3)
تحقيق شكر المنعم سبحانه و تعالى.
(4)
الفلاح و البشرى لمن قنع
(5)
الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب و تذهب الحسنات كالحسد و الغيبة و النميمة و الكذب.
(6)
حقيقة الغنى في القناعة.
(7)
العز في القناعة و الذل في الطمع.
(8)
القانع تعزف نفسه عن حطام الدنيا رغبةً فيما عند الله.
(9)
القنوع يحبه الله و يحبه الناس.
(10)
القناعة تشيع الألفة و المحبة بين الناس.
من الأسباب المؤدية للقناعة:
(1)
الاستعانة بالله والتوكل عليه و التسليم لقضائه و قدره.
(2)
قدر الدنيا بقدرها و إنزالها منزلتها.
(3)
جعل الهمّ للآخرة و التنافس فيها.
(4)
النظر في حال الصالحين و زهدهم و كفافهم و إعراضهم عن الدنيا و ملذاتها.
(5)
تأمل أحوال من هم دونك.
(6)
مجاهدة النفس على القناعة و الكفاف.
(7)
معرفة نعم الله تعالى و التفكر فيها.
(8)
أن يعلم أن لبعض النعيم ترة و مفسدة.
(9)
أن يعلم أن في القناعة راحة النفس و سلامة الصدر و اطمئنان القلب.
(10)
الدعاء.
(11)
تقوية الإيمان بالله تعالى، و ترويض القلب على القناعة و الغنى.
(12)
اليقين بأن الرزق مكتوب و الإنسان في رحم أمه.
(13)
تدبر آيات القرآن العظيم لا سيما ما تتحدث عن الرزق و الاكتساب.
(14)
معرفة حكمة الله تعالى في تفاوت الأرزاق و المراتب بين العباد.
(15)
العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء و كثرة الحركة و سعة المعارف.
(16)
العلم بأن عاقبة الغنى شر و وبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب و الصرف منه بالطرق المشروعة.
(17)
النظر في التفاوت البسيط بين الغني و الفقير على وجه التحقيق.
من أروع قصص القناعة:
أن الخليل بن أحمد الفراهيدي كان يقاسي الضر بين أخصاص البصرة، وأصحابه يقتسمون الرغائب بعلمه في النواحي.
ذكروا أن سليمان بن علي العباسي، وجه إليه من الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزا يابسا، وقال: كل فما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي إلى سليمان. فقال الرسول: فما أبلغه. فقال:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال
والفقر في النفس لا في المال فاعرفه ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتال.
وفي كشكول البهائي (أنه ارسل عثمان بن عفان مع عبد له كيسا من الدراهم إلى أبي ذر وقال له: إن قبل هذا فأنت حر، فأتى الغلام بالكيس إلى أبي ذر، وألح في قبوله، فلم يقبل، فقال له: أقبله فإن فيه عتقي. فقال: نعم ولكن فيه رقي)
وكان ديوجانس الكلبي من أساطين حكماء اليونان، وكان متقشفا، زاهدا، لا يقتني شيئا، ولا يأوي إلى منزل، دعاه الإسكندر إلى مجلسه. فقال للرسول قل له: إن الذي منعك من المسير إلينا، هو الذي منعنا من المسير إليك، منعك استغناؤك عنا بسلطانك، ومنعني استغنائي عنك بقناعتي)
في حجرة صغيرة فوق سطح أحد المنازل ، عاشت الأرملة الفقيرة مع طفلها الصغير حياة متواضعة في ظروف صعبة. .
…
إلا أن هذه الأسرة الصغيرة كانت تتميز بنعمة الرضا و تملك القناعة التي هي كنز لا يفنى. . . لكن أكثر ما كان يزعج الأم هو سقوط الأمطار في فصل الشتاء ،
فالغرفة عبارة عن أربعة جدران ، و بها باب خشبي ، غير أنه ليس لها سقف!. . و كان قد مر على الطفل أربعة سنوات منذ ولادته لم تتعرض المدينة خلالها إلا لرخات قليلة و ضعيفة ، إلا أنه ذات يوم تجمعت الغيوم و امتلأت سماء المدينة بالسحب الداكنة. . . . . و مع ساعات الليل الأولى هطل المطر بغزارة على المدينة كلها ، فاحتمى الجميع في منازلهم ، أما الأرملة و الطفل فكان عليهم مواجهة موقف عصيب!!. .
نظر الطفل إلى أمه نظرة حائرة و اندسّ في أحضانها ، لكن جسد الأم مع ثيابها
كان غارقًا في البلل. . . أسرعت الأم إلى باب الغرفة فخلعته و وضعته
مائلاً على أحد الجدران ، و خبأت طفلها خلف الباب لتحجب عنه سيل المطر المنهمر.
فنظر الطفل إلى أمه في سعادة بريئة و قد علت على وجهه ابتسامة الرضا ، و قال لأمه:" ماذا يا ترى يفعل الناس الفقراء الذين ليس عندهم باب حين يسقط عليهم المطر؟!! " لقد أحس الصغير أنه ينتمي إلى طبقة الأثرياء. .
وما أحلى قول أبي فراس الحمداني في القناعة:
إن الغني هو الغني بنفسه ولو أنه عار الناكب حاف *
ما كل ما فوق البسيطة كافيا فإذا قنعت فكل شيء كاف.
(74)
إقالة ذوي الهيئات عثراتهم:
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود.
ذوو الهيئات: أهل المروءة والخصال الحميدة.
العثرة: الزلة والسقطة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(أقيلوا) أيها الأئمة: من الإقالة، وهي الترك.