المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: - فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب - جـ ١٠

[محمد نصر الدين محمد عويضة]

الفصل: ‌آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

(ذوي الهيئات) جمع هيئة، قال القاضي: وهي في الأصل صورة أو حالة تعرض لأشياء متعددة فتصير بسببها مقول عليها أنها واحدة ثم أطلق على الخصلة فيقال لفلان هيئات أي خصال، والمراد هنا أهل المروءة والخصال الحميدة التي تأتي عليهم الطباع وتجمع بهم الإنسانية والألفة أن يرضوا لأنفسهم بنسبة الفساد والشر إليها

(عثراتهم) زلاتهم: أي ذنوبهم. وهل هي الصغائر أو أول زلة ولو كبيرة صدرت من مطيع؟ وجهان للشافعية وكلام ابن عبد السلام مصرح بترجيح الأول، فإنه عبر بالصغائر، ويقال لا يجوز تعزير الأولياء على الصغائر، وزعم سقوط الولاية بها جهل قبيح، ونازعه الأذرعي بما ليس بصحيح

(إلا الحدود) أي إلا ما يوجب الحدود، إذا بلغت الإمام وإلا الحقوق البشرية فإن كلاً منهما يقام فالمأمور بالعفو عنه هفوة أو زلة لا حدّ فيها وهي من حقوق الحق فلا يعزر عليها وإن رفعت إليه. نعم يندب لمن جاءه نادم أقرّ بموجب حد أن يأمره بستر نفسه ويشير إليه بالكتم كما أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ماعزاً والغامدية، وكما لم يستفصل من قال: أصبت حداً فأقمه علي. قال البيضاوي: وقوله إلا الحدود إن أريد بالعثرات صغائر الذنوب وما يندر عنهم من الخطايا، فالاستثناء منقطع، أو الذنوب مطلقاً وبالحدود ما يوجبها فالاستثناء متصل. وخرج بذوي الهيئات من عرف بالأذى والعناد بين العباد فلا يقال له عثار بل تضرم عليه النار.

‌آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

لللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاك آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جملةً وتفصيلا:

أولاً آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جملةً:

(1)

فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

(2)

الشرع هو الأصل في تقرير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

(3)

العلم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

(4)

معرفة شروط إنكار المنكر:

(5)

معرفة مراتب إنكار المنكر:

(6)

تقديم الأهم على المهم:

(7)

اعتبار المصالح ودرء المفاسد:

(8)

التثبت في الأمور وعدم العجلة:

(9)

متى يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

ص: 445

(10)

مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر:

(11)

يكره أن يُعْرَضَ أحدٌ على السلطان في الإنكار:

(12)

الرجل يغير المنكر الذي يقوى أن ينكر عليه:

(13)

ما يُوَسَّعُ على الرجل في ترك الأمر والنهي إذا رأى قوما سفهاء:

(14)

يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إن كان يظن أنه يقبل منه:

(15)

يكره للرجل دخول مواضع النكرة:

(16)

خطر التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

ثانيا آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفصيلا:

(1)

فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الإسلام، ولا شك أن صلاح العباد في معاشهم ومعادهم متوقف على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهاك بعض فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

(1)

بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[آل عمران: 110]

(2)

في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيق الولاية بين المؤمنين، قال تعالى:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[سورة: التوبة - الأية: 71]

(3)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب النصر على الأعداء، والتمكين في الأرض.

ص: 446

قال تعالى: (الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ * الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصّلَاةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ)[الحج 40، 41]

(4)

في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمن من الهلاك، والمحافظة على صلاح المجتمعات بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:

(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا).

(5)

في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دفع العذاب عن العباد:

قال تعالى: (لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)[المائدة 78،79]

(6)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلب مهم لمن أراد النجاة لنفسه:

قال تعالى: (فَلَماّ نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)[الأعراف: 165]

(7)

في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التوفيق للدعاء والاستجابة:

(حديث حذيفة الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتأمُرنّ بالمعروف و لتنهَوْنَّ عن المنكر أو يبعث الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لهم.

(8)

القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مكفرات الذنوب والخطايا بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:

ص: 447

(حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ.

(9)

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب الظفر بعظيم الأجور، وتكثير الحسنات: قال تعالى: (لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[النساء: 114]

(10)

وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحيا السنن وتموت البدع، ويضعف أهل الباطل والأهواء، وهو من أبرز صفات المؤمنين وسماتهم، ومن أعظم الوسائل لقوتهم وتماسكهم، والغفلة عنه أو التهاون فيه، أو تركه، يجر من المفاسد الكثيرة، والأضرار الجسيمة. إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات الكثيرة المترتبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(2)

الشرع هو الأصل في تقرير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إن الميزان في كون الشيء معروفًا أو منكرًا هو كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسنة رسوله الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح لهذه الأمة، وليس المراد ما يتعارف عليه الناس أو يصطلحون عليه مما يخالف الشريعة الإسلامية.

فما جاء الأمر به في الكتاب والسنة، أو الندب إليه والحث عليه، أو الثناء على أهله، أو الإخبار بأنه مما يحبه الله تعالى ويرضاه، ويكرم أهله بالثواب العاجل والآجل، فهو من المعروف الذي يؤمر به. وما ورد النهي عنه في الكتاب والسنة، والتحذير منه، وبيان عظيم ضرره، وكبير خطره في الدنيا والآخرة، أو جاء ذم أهله ووعيد فاعله بالسخط والعذاب والخزي والعار، ودخول النار ونحو ذلك فهو من المنكر الذي ينهى عنه (1).

قال ابن منظور: (وقد تكرر ذكر المعروف في الحديث، وهو اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع)(2).

(1) تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 12 - 13 بتصرف.

(2)

لسان العرب، 9/ 240، وانظر النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، 3/ 216.

ص: 448

وقال ابن الأثير: (والمنكر ضد المعروف وهو كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر)(1).

وذكر ابن حجر عن أبي جمرة (2)(يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة الشرع من أعمال البر، سواء جرت به العادة أم لا)(3).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

(الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، ويُؤمر بالمعروف الذي أمر الله به .. ورسوله، ويُنهى عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلا بد أن يأمر وينهى، ويُؤمر ويُنهى، إما بما يضاد ذلك، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزله الله بالباطل الذي لم ينزله الله، وإذا اتخذ ذلك دينا: كان مبتدعا ضالا باطلا)(4).

وقال ابن حجر الهيثمي: (المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بواجب الشرع، والنهي عن محرماته)(5).

ويصف الإمام الشوكاني رحمه الله أفراد الأمة الإسلامية بقوله:

إنهم يأمرون بما هو معروف في هذه الشريعة، وينهون عما هو منكر، فالدليل على كون ذلك الشيء معروفا أو منكرا هو الكتاب والسنة (6).

ومن هذا يتبين لنا أن كون الشيء معروفا أو منكرا ليس من شأن الآمر والناهي، وإنما يعود ذلك إلى ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح لهذه الأمة من اعتقاد أو قول أو فعل.

(3)

العلم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

(1) النهاية في غريب الحديث، 5/ 115.

(2)

هو عبد الله بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، من علماء الحديث، من كتبه جمع النهاية اختصر به صحيح البخاري توفي بمصر، سنة 695 هـ، انظر الأعلام للزركلي، 4/ 221.

(3)

فتح الباري، لابن حجر، 10/ 448.

(4)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 42 - 43.

(5)

الزواجر عن اقتراف الكبائر، 2/ 146.

(6)

إرشاد الفحول، ص 77.

ص: 449

من القواعد العامة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يكون الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر عالما بما يأمر به وبما ينهى عنه، .. يعلم ما هو المنهي عنه شرعا حتى ينهى عنه، ويعلم ما هو المأمور به شرعا حتى يأمر الناس به، فإنه إن أمر ونهى بغير علم فإن ضرره يكون أكثر من نفعه، لأنه قد يأمر بما ليس بمشروع، وينهى عما كان مشروعا وقد يحلل الحرام ويحرم الحلال وهو لا يعلم (1).

ولأهمية العلم النافع أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، قال تعالى:(فَاعْلَمْ أَنّهُ لَا إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ)[محمد: 19]

وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله لهذه الآية بقوله: (باب العلم قبل القول والعمل)(2).

وذلك أن الله أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم بالعمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى:(فَاعْلَمْ أَنّهُ لَا إِلََهَ إِلا اللّهُ)[محمد: 19]

، ثم أعقبه بالعمل في قوله:(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ)[محمد: 19]

، فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العمل شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما، لأنه مصحح للنية المصححة للعمل (3).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

عند حديثه عن شروط الأمر والنهي: (ولا يكون عمله صالحا إن لم يكن بعلمٍ وَفِقْه .. وهذا ظاهر فإن العمل إن لم يكن بعلم كان جهلًا وضلالا، واتباعا للهوى وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولا بد من العلم بحال المأمور وحال المنهي)(4).

وأضاف يقول: وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعًا ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد (لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه)(5).

(1) انظر محاضرات في العقيدة والدعوة، للدكتور صالح الفوزان، 2/ 328.

(2)

صحيح البخاري مع الفتح، 1/ 159، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.

(3)

انظر فتح الباري، 1/ 160، وحاشية الأصول الثلاثة، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص15.

(4)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 17.

(5)

المرجع السابق، ص18، وانظر مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، ص 131.

ص: 450

ويقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مخاطبا الداعية إلى الله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: (أن تكون على بينة في دعوتك أي على علم، لا تكن جاهلا بما تدعو إليه قال تعالى: (قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108]

فلا بد من العلم، فالعلم فريضة، فإياك أن تدعو على جهالة، وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم، فالجاهل يهدم ولا يبني ويفسد ولا يصلح، وإياك أن تقول على الله بغير علم، لا تدع إلى شئ إلا بعد العلم به، والبصيرة بما قاله الله ورسوله والبصيرة هي العلم، فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصر فيما يدعو إليه، وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله، فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك، سواء كان ذلك فعلا أو تركا، يدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة) (1).

وأكد فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله على أهمية العلم والبصيرة للداعية إلى الله الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر فقال: وإن أول زاد يتزود به الداعية إلى الله عز وجل أن يكون على علم مستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة المقبولة، وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل، والدعوة على جهل ضررها أكبر من نفعها، لأن الداعية قد نصب نفسه موجها ومرشدا، فإذا كان جاهلا، فإنه يكون ضالا مضلا، والعياذ بالله.

ثم قال: تأمل أيها الداعية إلى لله قول الله تعالى (قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108]

أي على بصيرة في ثلاثة أمور:

1 -

على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالما بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه، لأنه قد يدعو إلى شئ يظنه واجبا وهو في شرع الله غير واجب، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شئ يظنه محرما وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحل الله لهم.

(1) الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأخلاق الدعاة، ص 35، بتصرف.

ص: 451

2 -

على بصيرة من حالة المدعو، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له:{إنك ستأتي قوما أهل كتاب} (1)

(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ ابْنِ جَبَلٍ حِيْنَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.

3 -

على بصيرة في كيفية الدعوة قال تعالى: (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[النحل: 125]

وإذا كان تزود الداعية بالعلم الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو مدلول النصوص الشرعية، فإنه كذلك مدلول العقول الصريحة التي ليس فيها شبهات ولا شهوات، لأنك كيف تدعو إلى الله عز وجل وأنت لا تعلم الطريق الموصل إليه، وإذا كنت لا تعرف شريعته فكيف يصح أن تكون داعية؟

فإذا لم يكن الإنسان ذا علم فإن الأولى به أن يتعلم أولا ثم يدعو ثانيا، قد يقول قائل: هل قولك هذا يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم {بلغوا عني ولو آية} (2)(3)؟

(1) البخاري الزكاة (1425)، مسلم الإيمان (19)، الترمذي الزكاة (625)، النسائي الزكاة (2435)، أبو داود الزكاة (1584)، ابن ماجه الزكاة (1783)، أحمد (1/ 233)، الدارمي الزكاة (1614).

(2)

البخاري أحاديث الأنبياء (3274)، الترمذي العلم (2669)، أحمد (2/ 159)، الدارمي المقدمة (542).

(3)

صحيح البخاري مع الفتح، 6/ 496، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني اسرائيل، رقم 3461، عن عبد الله بن عمرو.

ص: 452

فالجواب: لا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:{بلغوا عني} (1) إذا فلا بد أن يكون ما نبلغه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ما نريده ولسنا عندما نقول إن الداعية محتاج إلى العلم لسنا نقول إنه لا بد أن يبلغ شوطا بعيدًا في العلم، ولكننا نقول لا يدعو إلا بما يعلم فقط، ولا يتكلم بما لا يعلم أ. هـ (2).

(4)

معرفة شروط إنكار المنكر:

إنَّ لإنكار المنكر شروطا يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعرفها ويراعيها عند إزالته للمنكر، حتى لا يقع أثناء تغييره للمنكر في منكر مساوٍ أو أكبر منه، وهذه الشروط هي (3):

(أولاً) التحقق من كونه منكرا:

والمنكر كل ما نهى عنه الشارع سواء كان محرما أو مكروها، وكلمة المنكر في باب الحسبة (4) تطلق على كل فعل فيه مفسدة أو نهت عنه الشريعة، وإن كان لا يعتبر معصية في حق فاعله إما لصغر سنه أو لعدم عقله، ولهذا إذا زنا المجنون أو هم بفعل الزنا، وإذا شرب الصبي الخمر كان ما فعلاه منكرا يستحق الإنكار، وإن لم يعتبر معصية في حقهما لفوات شرطي التكليف وهما البلوغ والعقل (5).

ويندرج في المنكر جميع المنكرات سواء من صغائر الذنوب أم من كبائرها، وسواء أكانت تتعلق بحق الله تعالى أم بحق خلقه. ولكن ما يجب معرفته أن الذي يملك الحكم على الشئ بأنه منكر أو غير منكر هو الشرع، فليس هناك مجال للأهواء أو العواطف، أو الأغراض الشخصية، ودور العلماء في ذلك إنما هو استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، والأصول والقواعد المستوحاة منهما، ومن ثم الحكم على هذا الأمر بأنه منكر أو غير منكر بالدليل القاطع والحجة البينة.

(ثانياً) أن يكون المنكر موجودا في الحال:

وله ثلاث حالات:

(1) البخاري أحاديث الأنبياء (3274)، الترمذي العلم (2669)، أحمد (2/ 159)، الدارمي المقدمة (542).

(2)

انظر زاد الداعية، ص 6 - 10، باختصار وتصرف.

(3)

انظر الكنز الأكبر، ص 217 - 220.

(4)

الحسبة: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله. انظر الأحكام السلطانية للماوردي ص 299 والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء، ص 284.

(5)

انظر أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، 179، بتصرف.

ص: 453

الحالة الأولى: أن يكون المنكر متوقعا كالذي يتردد مرارا على أسواق النساء، ويصوب النظر إلى واحدة بعينها، أو كشاب يقف كل يوم عند باب مدرسة بنات ويصوب النظر إليهن، أو كالذي يتحدث بهاتف الشارع بصوت مرتفع مع امرأة ويحاول أن يرتبط معها بموعد، أو يسأل بكثرة عن كيفية تصنيع الخمر وطريقة تركيبه. فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في هذه الحالات الوعظ، والنصح، والإرشاد، والتخويف بالله سبحانه وتعالى من عذابه وبطشه.

الحالة الثانية: أن يكون متلبسًا بالمنكر كمن هو جالس وأمامه كأس الخمر يشرب منه، أو كمن أدخل امرأة أجنبية إلى داره وأغلق الباب عليهما ونحو ذلك، ففي هذه الحال يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الإنكار عليه ونهيه من ذلك طالما أنه قادر على إزالة المنكر ولم يخف على نفسه ضررا أو أذى.

الحالة الثالثة: أن يكون فاعل المنكر قد فعله وانتهى منه ولم يبق إلا آثاره، كمن شرب الخمر وبقيت آثاره عليه أو من عرف أنه ساكن أعزب وخرجت من عنده امرأة أجنبية عنه، ونحو ذلك. ففي هذه الحال فليس هناك وقت للنهي أو التغيير، وإنما هناك محل للعقاب والجزاء على فعل المعصية. وهذا الأمر ليس من شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر المتطوع وإنما هو من شأن ولي الأمر أو نائبه، فيرفع أمره للحاكم ليصدر فيه الحكم الموافق للشرع (1).

وقد أشار الغزالى إلى هذه الحالات بقوله: (المعصية لها ثلاثة أحوال: أحدها: أن تكون متصرمة، فالعقوبة على ما تصرم منها حد أو تعزير، وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد.

الثانية: أن تكون المعصية راهنة، وصاحبها مباشر لها، كلبسه الحرير، وإمساك العود والخمر، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها، وذلك للآحاد والرعية.

(1) انظر إحياء علوم الدين، 2/ 414، والكنز الأكبر ص 219، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د عبد العزيز المسعود 1/ 213 - 215.

ص: 454

والثالثة: أن يكون المنكر متوقعا، كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعد لم يحضر الخمر، فهذا مشكوك فيه، إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما التعنيف والضرب فلا يجوز .. إلا إذا كانت المعصية علمت منه بالعادة المستمرة، وقد أقدم على السبب المؤدي إليها، ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار) (1).

ويقول العلامة ابن نجيم في بحث التعزير: (قالوا لكل مسلم إقامته حال مباشرة المعصية، وأما بعد الفراغ منها ـ أي المعصبة ـ فليس ذلك لغير الحاكم)(2).

(ثالثاً) أن يكون ظاهرا من غير تجسس ما لم يكن مجاهرا:

وذلك أن الإسلام ضمن للإنسان أن يعيش في المجتمع آمنا مطمئنا محترما موقرا طالما أنه سلك الطريق الصحيح المستقيم، أما إذا حاد عن الطريق فإن الإسلام جعل لكل أمر معوج ما يناسبه من الإصلاح والتقويم، ومن الأمور التي شرعها الإسلام لاحترام الإنسان وأمنه النهي عن التجسس عليه، فلا يجوز للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسور الجدران أو يكسر الأبواب ليطلع على بيوت الناس ويتجسس عليهم ما لم يظهر شيء من ذلك، إذ إن الله تعالى نهانا أن ندخل البيوت إلا بأذن من أصحابها، والأصل في هذا قول الله تعالى:(يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّىَ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىَ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ)[النور: 27]

بل إن الإسلام حرم النظر إلى داخل البيوت من أحد الثقوب أو الفتحات، وأسقط الشارع الحكيم حد القصاص والدية عمن فعل ذلك، كما في الحديث الآتي:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِعَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ.

وإذا كان الإسلام حرم الدخول إلى بيوت الناس والنظر إلى داخلها بغير إذن، فإنه ـ أيضا ـ حرم التجسس، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(1) إحياء علوم الدين، 2/ 413، 414.

(2)

انظر البحر الرائق، شرح كنز الدقائق، 5/ 45.

ص: 455

قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسّسُواْ وَلَا يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ)[الحجرات:12]

(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً.

(حديث معاوية الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم.

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن يوسف بن موسى أن أبا عبد الله، سئل عن الرجل يسمع صوت الطبل، والمزمار، ولا يعرف مكانه؟ فقال:" وما عليه إذا لم يعرف مكانه؟ "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي، قال: سمعت أبا عبد الله، سئل عن الرجل " يسمع حس الطبل والمزمار، ولا يعرف مكانه؟ فقال: وما عليك؟ وقال: ما غاب فلا تفتش عليه "

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أحمد بن الحسين، أن أبا عبد الله، سئل عن الرجل، يرى القنينة يرى أن فيها، مسكرا؟ قال:" دعه ـ يعني لا تفتشه "

أما إذا جاهر الشخص بمعصيته سواء كانت مرئية كأن يخرج عند بابه ويضع الفيديو إلى جواره وفيه أفلام خليعة .. أو كانت مسموعة كأن يضع بآلة التسجيل شريطا به غناء ماجن أو موسيقى وغير ذلك، أو كانت مشمومة كأن تظهر رائحة الخمر والمسكر بحيث يشمها من هو خارج المنزل أو قريبا منه، ويتكلم معه، فإنه إذا فعل ذلك يكون قد أضاع الحق الذي أعطاه الإسلام له، ويكون بذلك قد عرض نفسه للإهانة والردع (1).

وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

(1) انظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د عبد العزيز المسعود، 1/ 221 بتصرف.

ص: 456

كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ.

قال ابن بطال رحمه الله: (في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم .. )(1).

ومن خلال ما تقدم من أدلة يبدو لي ـ والله أعلم ـ أن الأدلة الواردة في النهي عن التجسس إنما هي خاصة بمن لم يجاهر بالمعصية، أما من يعلن معصيته ويجاهر بها، فإنه يشرع للمحتسب الاحتساب عليه، وذلك لردعه وكف شره.

ويؤيد ذلك الحديث الآتي:

(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله و ليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نُقِمْ عليه كتاب الله.

(رابعاً) أن يكون الإنكار في الأمور التي لا خلاف فيها:

من الأمور اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسع صدره لقبول الخلاف "فيما يسوغ فيه الخلاف". وهناك مسائل فرعية ليست من الأصول يختلف فيها الناس كثيرا، وتتباين أقوالهم فيها، وهي في الحقيقة مما يجوز فيه الخلاف، فمثل هذه المسائل لا يكفر من خالف فيها، ولا يُنكر عليه، لأنها مما وسع الله فيها على عباده، قال تعالى:(وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ)[هود 118، 119]

ذكر الإمام الغزالى رحمه الله من شروط الحسبة (أن يكون كونه منكرًا معلوما بغير اجتهاد، فكل ما هو محل الاجتهاد فلا حسبة فيه)(2).

وروى أبو نعيم بسنده عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله قوله: (إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه)(3).

(1) فتح الباري، لابن حجر، 10/ 487.

(2)

إحياء علوم الدين، 2/ 286، وانظر مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، ص 128.

(3)

الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الحنبلي، ص 297.

ص: 457

ويستثني القاضي أبو يعلى من ذلك إذا كان الخلاف ضعيفًا في مسألة من المسائل، وقد يؤدي عدم الإنكار إلى محظور متفق عليه، إذ يقول:(ما ضُعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد .. فيدخل في إنكار المحتسب بحكم ولايته)(1).

وقال النووي في الروضة: (ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا ينكر أحد على غيره وإنما ينكرون ما خالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا)(2).

وبهذا يتبين لنا أن الخلاف على نوعين:

"إما أن يكون سائغا، وإما أن يكون غير سائغ"، فالخلاف السائغ يمنع من الاحتساب على رأي بعض العلماء، وأما الخلاف غير السائغ، أو الشاذ، كمن يخالف ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو ما أجمعت عليه الأمة، أو ما عُلم من الدين بالضرورة، فهذا خلاف لا يُعتد به ولا يلتفت إليه لعدم قيامه على الدليل، ويُنكر على من أتى به.

فالإنكار إنما يكون فيما يكون فيه الحق واضحا، والأدلة بينة من الكتاب والسنة والإجماع، أما إذا خلت المسألة من ذلك، فإنه ليس للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الإنكار في المسائل المختلف فيها، كما أنه لا التفات إلى الخلاف الشاذ.

وأن الواجب في الأمور الاجتهادية لزوم البيان والمناصحة، من قبل من تبين له وجه الحق في شيء من تلك المسائل.

(5)

معرفة مراتب إنكار المنكر:

من القواعد العامة التي تحكم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معرفة مراتب إنكار المنكر وضوابطها:

وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بقدر الاستطاعة، فإن استطاع المسلم تغيير المنكر باليد كان ذلك هو الواجب في حقه، فإن كان عاجزا عن التغيير باليد، وكان بمقدوره النهي باللسان كان ذلك هو الواجب عليه، وإن كان عاجزا عن التغيير باللسان وجب عليه الإنكار بالقلب وكراهية المنكر، وهذا في مقدور كل إنسان.

والأصل في ذلك الحديثيين الآتيين:

(1) الآداب الشرعية، 1/ 190.

(2)

روضة الطالبين، 10/ 219 - 220، ط 3، 1412 هـ - 1991 م، المكتب الإسلامي.

ص: 458

(حديث أبي سعيد في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ.

(حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ.

وفيما يلي مراتب إنكار المنكر:

المرتبة الأولى: الإنكار باليد وشروطه:

وهي أقوى مراتب الإنكار وأعلاها، وذلك كإراقة الخمر، وكسر الأصنام المعبودة من دون الله، ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده، وكإلزام الناس بالصلاة، وبحكم الله الواجب اتباعه ونحو ذلك.

وذلك لمن كان له ولاية على مرتكب المنكر كالسلطان أو من ينيبه عنه كوالي الحسبة وموظفيه كل بحسب اختصاصه وكذا المسلم مع أهله وولده، يلزمهم بأمر الله، ويمنعهم مما حرم الله، باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام يقوم بهذا حسب الوسع والطاقة (1).

وقد جاء في القرآن الكريم عن إبراهيم عليه السلام: قال تعالى: (وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلّواْ مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لّهُمْ لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)[الأنبياء57، 58]

فإبراهيم عليه السلام كسر الأصنام بيده.

(1) انظر مجموع الفتاوى، 15/ 329، والكنز الأكبر، ص 245، وطبقات الحنابلة، 2/ 280، والآداب الشرعية، 1/ 185 ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، ص 16 - 17 وتذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعبد الله القصير، ص45.

ص: 459

وقال تعالى: (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىَ إِلََهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً)[طه: 97]

فأخبر سبحانه عن كليمه موسى عليه السلام أنه أحرق العجل الذي عبد من دون الله ونسفه في اليم.

وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أبي سعيد في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ.

(حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ.

(حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الْآيَةَ.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ.

ص: 460

(حديث أبي الهياج الأسدي الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ.

(حديث ابن عباي رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ قَالَ لَا وَاللَّهِ لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(حديث أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ.

وعنها رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ (1) لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ فَهَتَكَهُ (2) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا.

(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إِلَّا قَضَبَهُ.

قَضَبَهُ: أي قطعه.

فهذه بعض الأدلة ونظيرها كثير تدل على تغيير المنكر باليد، بالقول والفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم ومن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

(1) السهوة: صفة، وقيل خزانة، وقيل رف، وقيل طاق يوضع فيه الشيء. انظر فتح الباري، لابن حجر، 5.

(2)

هتكه: أي شقه، والذي يظهر أنه نزعه ثم هي بعد ذلك قطعته انظر المرجع السابق، ونفس الصفحة.

ص: 461

{تنبيه} : يجب التنبيه أن التغيير للمنكر باليد لا يصلح لكل أحد وفي كل منكر، لأن ذلك يجر من المفاسد والإضرار الشئ الكثير، وإنما يكون ذلك لولي الأمر أو من ينيبه، مثل رجال الهيئات والحسبة، الذين نصبهم ولي الأمر للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالرجل في بيته يغير على أولاده، وعلى زوجته وعلى خدمه، فهؤلاء يغيرون بأيديهم بالطريقة الحكيمة المشروعة (1).

ضوابط تغيير المنكر باليد:

(1)

أن لا يحل بسبب تغيير المنكر باليد منكراً أعظم وأكبر منه، أو تفويت معروف أعظم منه، والقاعدة الشرعية أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ولهذا فيل ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

(وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه، مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ويجلد الشارب، ويقيم الحدود، لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد، لأن كل واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك، فهذا ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر)(2).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى:

إذا تزاحمت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على إتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام.

وعلى هذا إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن ينهوا عن منكر، بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من منكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وزوال فعل الحسنات.

وإن كان المنكر أغلب نهى عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه من المنكر ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

(1) انظر مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري على ضوء الكتاب والسنة، ص 29، 53.

(2)

مختصر الفتاوى المصرية، ص580.

ص: 462

وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفهما، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها بحيث لا يتضمن الأمر بالمعروف فوات معروف أكبر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه، وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصياً.

فترك الواجب معصية وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية (1).

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين:

فإنكار المنكر له أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.

الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة (2).

وقال ابن عقيل في آخر "الإرشاد ": من شروط الإنكار أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يفضي إلى مفسدة (3).

(2)

أن يكون إنكار المنكر باليد سراً إذا كان صاحب المنكر متستراً ليس معلناً له.

وأما إذا أظهر النكر فيجب الإنكار عليه علانية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وأبنه، (28/ 129)، طبعة مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة، نشر وزارة الشئون الإسلامية، 1416 هـ.

(2)

إعلام الموقعين، الإمام محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية، (

)، تحقيق بشير عيون، طبع ونشر مكتبة دار البيان بدمشق، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

(3)

الآداب الشرعية، الإمام أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي، نشر مؤسسة الرسالة لبنان، الطبعة الثالثة، صفحة (217)، 1421 هـ.

ص: 463

من فعل شيئاً من المنكرات، كالفواحش، والخمر، والعدوان، وغير ذلك، فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "، فإن كان الرجل متستراً بذلك، وليس معلناً له أنكر عليه سراً وستر عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من ستر عبداً ستره الله في الدنيا والآخرة " على أن لا يتعدى ضرره، والمتعدي لابد من كف عدوانه، وإذا نهاه المرء سراً فلم ينته فعل ما ينكف به من هجر وغيره، إذا كان ذلك أنفع في الدين.

وأما إذا أظهر الرجل المنكرات، وجب الإنكار عليه علانية، ولم نبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام (1).

(3)

أن لا يتجاوز الحد المشروع إن كان المنكر من المنكرات التي يمكن إتلاف بعضها وترك البعض الآخر فمثلاً: إذا كان فيه كتاب فيه فصول جيدة ولكن فيه فصل خبيث، فتمزق أوراق هذا الفصل ويترك الباقي، وكذلك الحال لو كان فيه مجلة فيها مقالات طيبة ولكن فيها صورة خليعة فتمزق هذه الصورة ويترك الباقي، ولكن ينبغي أن يعلم إذا كانت المصلحة تقتضي إتلاف الذي جمع بين المنكر والمعروف فإنه يتلف ولا ضمان (2).

مع العلم أن جمع من أهل العلم ذهبوا إلى أن المنكر لا يضمن ما أتلفه.

قال ابن قدامة رحمه الله: وإن كسر صليباً ِأو مزماراً أو طنبوراً أو صنماً لم يضمنه (3).

وقال الشافعي: إن كان ذلك إذا فصل يصل لنفع مباح، وإذا كسر لم يصلح لنفع مباح لزمه ما بين قيمته منفصلاً ومكسوراً، لأنه اتلف بالكسر ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه ضمانه (4).

والأصل في إتلاف الأشياء العينية المحرمة الحديث الآتي:

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وأبنه، (28/ 217 ـ 218)، طبعة مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة، نشر وزارة الشئون الإسلامية، 1416 هـ.

(2)

انظر كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة، تأليف د. عبد العزيز المسعود، دار الحرمين للطباعة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1415هـ، (ن. ش).

(3)

المغني وشرح الكبير، لأبن قدامة، تحقيق د. عبد الله التركي، نشر وزارة الشئون الإسلامية، طبع عالم الكتب، الطبعة الثالثة، 1417 هـ.

(4)

صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر (830)، حديث رقم (2243).

ص: 464

(حديث أبي الهياج الأسدي الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ.

(4)

المنكر الذي يجب إنكاره هو المنكر المجمع عليه وكذلك المنكر الذي ضعف فيه الخلاف وكان ذريعة إلى المحرم متفق على تحريمه.

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمعاً عليه، فأما المختلف فيه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهداً فيه، أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً.

واستثنى القاضي في "الأحكام السلطانية " ما ضعف فيه الخلاف وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كرباً النقد الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة إلى ربا النَّسّاء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة، فإنه ذريعة إلى الزنا، وذكر عن أبي إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحة (1).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

(إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع والاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً)(2).

وقال الإمام النووي رحمه الله: (إن المختلف فيه لا إنكار فيه لكن إن ندبه على النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله يرفق)(3).

(5)

الرفق عند إنكار المنكر وأن يكون المُنكر عالماً بما ينهى عنه.

وقال سفيان الثوري: لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إِلا من كان فيه خصال ثلاث: رفق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، علام بما يأمر، عالم بما ينهى.

وقال أحمد: الناس محتاجون إلى مدارة ورفق الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجل معلن بالفسق فلا رحمة له، قال: وكان أصحاب بان مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون، يقولون: مهلا رحمكم الله، مهلا رحمكم الله.

(1) جامع العلوم والحكم، لأبي الفرج عبد الرحمن البغدادي الشهير بابن رجب الحنبلي، تحقيق طارق عوض الله، نشر وطباعة دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1415 هـ، (2/ 270).

(2)

الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء، تحقيق محمد الفقي، طبعة دار الوطن، نشر هيئة المعروف والنهي عن المنكر بالدلم (د. ت)، صفحة (297).

(3)

الآداب الشرعية، محمد بن مفلح الحنبلي، تحقيق مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة،1422 هـ (1/ 3)،صفحة (232).

ص: 465

وقال أحمد يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره، لا يغضب، فيكون يريد ينتصر لنفسه) (1).

(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (ولا بد أن يكون عالماً بالمنكر، أي: عالماً بأن هذا منكر، فإن لم يكن عالماً بذلك، فلا ينه عنه؛ لأنه قد ينهى عن شيء غريب هو معروف فيترك المعروف بسببه، أو ينهى عن شيء وهو مباح فيضيّق على عباد الله، بمنعهم مما أباح الله لهم، فلابد أن يكون عالماً بأن هذا منكر، وقد يتسرع كثير من أخواننا الغيورين، فينهون عن أمور مباحة يظنونها منكراً فيضيقون على عباد الله.

فالواجب أن لا تأمر بشيء إلا وأنت تدري أنه معروف، وأن لا تنه عن شيء إلا وأنت تدري أنه منكر) (2).

وأخيراً يجب مراعاة أن الرجل الذي اجتمع فيه طاعة ومعصية وخير وشر يوالى ويحب بما فيه من طاعة ويبغض ويعادى بما فيه من معصية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

(وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام و الإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص فالفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته.

(1) جامع العلوم والحكم، لأبي الفرج عبد الرحمن البغدادي الشهير بابن رجب الحنبلي، تحقيق طارق عوض الله، نشر وطباعة دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1415 هـ صفحة 272.

(2)

شرح رياض الصالحين، الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، طبع مؤسسة ابن عثيمين الخيرية، نشر مدار الوطن للنشر، الرياض، الأولى عام 1425 هـ، صفحة (404).

ص: 466

هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس لا مستحقاً للثواب فقط، ولا مستحقاً للعقاب فقط. وأهل السنة يقولون: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه، ثم يخرجه منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم (1)

كيفية التغيير باليد:

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: " باليد واللسان وبالقلب، وهو أضعف الإيمان، قلت: كيف باليد قال: تفرق بينهم "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المروذي أنه قال: كنت مع أبي عبد الله في طريق، فرأى صبيانا يقتتلون، فعدل إليهم ففرق بينهم.

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن صالح، أن أباه، قال:" التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح "

المرتبة الثانية: الإنكار باللسان وضوابطه:

وذلك حينما لا يستطيع من رأى المنكر تغييره بيده لعدم سلطته على مرتكبه، أو لما يترتب عليه من المفسدة المساوية أو الراجحة، فإنه ينتقل إلى التغيير باللسان، وذلك بتعريف الناس بالحكم الشرعي بأن هذا محرم ومنهي عنه، فقد يرتكب المنكر لجهله به، فيمكن تغيير المنكر عن طريق الوعظ، والنصح، والإرشاد، والترغيب، والترهيب، والتقريع، والتعنيف ونحو ذلك من البيان.

وهذه المرتبة يلتقي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدعوة إلى الله، فكلاهما بيان للحق وترغيب فيه، وتنبيه على الباطل، وتحذير منه، وتخويف وترهيب عنه، بما يناسب حال المخاطب ويقتضيه المقام (2).

خطوات تغيير المنكر باللسان:

ولتغيير المنكر باللسان أربع خطوات:

الخطوة الأولى: التعريف باللين واللطف:

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وأبنه، (28/ 129)، طبعة مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة، نشر وزارة الشئون الإسلامية، 1416 هـ، (28/ 208).

(2)

انظر إحياء علوم الدين، للإمام الغزالي، 2/ 402، وتذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 46.

ص: 467

وذلك بأن يعرف مرتكب المنكر ـ إما بالإشارة أو التعريض حسب الموقف ـ بأن هذا العمل لا ينبغي أو حرام، وأنت لستَ ممن يفعل ذلك بالقصد، فأنت أرفع من ذلك، فإن الجاهل يقدم على الشيء لا يظنه منكرا، فإذا عرف أنه منكر تركه وأقلع عنه، فيجب تعريفه باللطف والحكمة والرفق واللين، حتى يقبل ولا ينفر. ويقال له مثلا: إن الإنسان لا يولد عالما ولقد كنا جاهلين بأمور الشرع حتى عَلَمَنَا العلماء .. وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء (1).

وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ.

(حديث جرير ابن عبد الله الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ

(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.

(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ.

(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ.

(1) انظر مجموع الفتاوى، 15/ 339، و28/ 127، ومختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، ص، 28. والكنز الأكبر ص236.

ص: 468

(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ وَعَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوْ الْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ.

(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا.

أورد الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أحمد بن حنبل: كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون، يقولون: مهلًا رحمكم الله (1).

فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الموفق هو الذي يتحرى الرفق والعبارات المناسبة، والألفاظ الطيبة عندما يعظ وينصح الناس، في المجلس، أو في الطريق، أو في أي مكان، يدعوهم بالرفق والكلام الطيب، حتى ولو جادلوه في شيء خفي عليهم، أو كابروا فيه، فيجادلهم بالتي هي أحسن، كما قال تعالى:(ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[النحل: 125]

وقال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلََهُنَا وَإِلََهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[العنكبوت: 46]

فهذا الأسلوب مع أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى وهم كفار ـ فما بالك مع المؤمنين؟ فإذا كان المقام مقام تعليم ودعوة وإيضاح للحق، فإنه يكون بالتي هي أحسن، لأن هذا هو أقرب إلى الخير، وأدعى لتقبل النصيحة كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.

(1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للخلال، ص 47.

ص: 469

فهذه طريقة السلف رحمهم الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحري الرفق مع العلم والحلم والبصيرة والعمل بما يدعون إليه، وترك ما ينهون عنه، وهذه هي القدوة الصالحة.

الخطوة الثانية: النهي بالوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى:

وهذه الخطوة تتعلق غالبا في " مرتكب المنكر العارف بحكمه في الشرع " بخلاف الخطوة الأولى، فهي في الغالب تستعمل للجاهل في الحكم.

وأما العارف بالحكم فيستعمل معه أسلوب الوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى، ويذكر له بعض النصوص من القرآن والسنة المشتملة على الترهيب والوعيد، كما يذكر له بعض أقوال السلف في ذلك، ويكون بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة .. وحتى لو كان عارفا لهذه النصوص فلها تأثيرها، لأن ذلك من قبل الذكرى، والله تعالى يقول:(وَذَكّرْ فَإِنّ الذّكْرَىَ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 55] ويبين له ما أعده الله للطائعين من عباده، ويذكره بالموت، وأنه ليس لمجيئه وقت محدد، بل يأتي بغتة، وربما يأتي إلى الإنسان وهو واقع في المعصية، فتكون خاتمته سيئة والعياذ بالله.

يا مَنْ بدنياهُ اشتغلْ

وغرَّه طولُ الأمل

الموتُ يأتي بغتةً

والقبرُ صندوقُ العملْ

ويبين له أن هدفه من نصحه وإرشاده إنما هو من أجل حبه له، وخوفه عليه من العقاب، وأنه ما فعل ذلك إلا شفقة عليه ورحمة به، وليحرص كل الحرص، أن تكون الموعظة سرا بينه وبين المنصوح، حتى لا تأخذه العزة بالإثم فيرفض قبولها، وحتى يطمئن له وتتقبل نفسه لسماع النصيحة، وحتى يعلم بحق أنه ليس للناهي هدف سوى النصيحة وإرادة الخير له.

قال سليمان الخواص: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما فضحه.

وعن عبد الله بن المبارك قال: (كان الرجل إذا رأى من أخيه ما يكره أمره في ستر، ونهاه في ستر، فيُؤجر في ستره ويُؤجر في نهيه، فأما اليوم فإذا رأى أحد من أحد ما يكره استغضب أخاه، وهتك ستره)(1).

ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول (2):

تَعمدني بنصحكَ في انفرادٍ

وجنبني النصيحةَ في الجماعةْْ

فإنَّ النصحَ بينَ الناسِ نوعٌ

من التوبيخِ لا أرضى استَماعه

فإنْ خَالفتني وعصيتَ أمْري

فلا تجزعْ إذا لم ُتعطَ طاعةْ

الخطوة الثالثة: الغلظة بالقول:

(1) روضة العقلاء، لأبي حاتم محمد بن حبان البستي، 158.

(2)

ديوان الإمام الشافعي، ص 96.

ص: 470

وهذه الخطوة يلجأ إليها المُنكر بعد عدم جدوى أسلوب اللطف واللين، فحينئذ يغلظ له القول، ويزجره مع مراعاة قواعد الشرع في ذلك. وعليه ألا ينطق إلا بالصدق، ولا يطيل لسانه بما لا يحتاج إليه بل على قدر الحاجة.

وقد استعمل أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام هذا الأسلوب، قال تعالى حكاية عنه:(أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنبياء: 67]

الخطوة الرابعة: التهديد والتخويف:

وهذه الخطوة هي آخر المحاولات في النهي باللسان، ويعقبها بعد ذلك إيقاع الفعل كأن يقال لمرتكب المنكر: إن لم تنته عن هذا الفعل لأفعلنَّ بك كذا وكذا. أو لأخبرن بك السُلطات لتسجنك وتعاقبك على فعلك.

ولكن ينبغي أن يكون هذا التهديد والتخويف في حدود المعقول عقلًا وشرعا حتى يعرف أن المنكر صادق في تهديده، لأنه لو هدده بأمور غير جائزة شرعا وغير معقولة عرف أنه غير جاد في كلامه (1).

المرتبة الثالثة: الإنكار بالقلب:

إذا عجز المؤمن عن الإنكار باليد واللسان، انتهى إلى الإنكار بالقلب فيكره المنكر بقلبه، ويبغضه، ويبغض أهله ـ يعلم الله ذلك منه ـ إذا عجز عن تغييره بيده ولسانه ـ وهذا الواجب لا يسقط عن المؤمن بوجه من الوجوه، إذ لا عذر يمنعه ولا شئ يحول بينه وبينه، وليس هناك شيء من التغيير ما هو أقل منه، كما جاء في حديث أبي سعيد المتقدم {وذلك أضعف الإيمان} (2) يعني أقل ما يمكن به تغيير المنكر.

وكذلك الحديث الآخر عن ابن مسعود رضي الله عنه {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} أي لم يبق بعد هذا من الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن ويثاب عليه، بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان.

قيل لابن مسعود رضي الله عنه من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا (3).

(1) انظر إحياء علوم الدين، 2/ 420 - 422، والكنز الأكبر، ص 234 - 143، وفقه الدعوة في إنكار المنكر ص 69 - 71، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعبد العزيز المسعود، 1/ 521 - 525.

(2)

مسلم الإيمان (49)، الترمذي الفتن (2172)، النسائي الإيمان وشرائعه (5009)، أبو داود الصلاة (1140)، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275)، أحمد (3/ 10).

(3)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابن تيمية ص 9.

ص: 471

وهذا هو المفتون الموصوف في حديث (حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عند مسلم بأنه لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشرب من هواه).

(حديث حذيفة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودا عُودا، فَأَيّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصّفَا، فَلَا تَضُرّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادا كَالْكُوزِ مُجَخّيا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرا، إِلاّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.

وإذا لم يستطع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، تغيير المنكر بيده، ولا بلسانه، فإنه يجب عليه حينئذ إنكاره بقلبه ـ كما سبق بيانه ـ وعليه أن يهجر المنكر وأهله، فإن عجزه عن الإنكار ليس عذرا يبيح له مشاهدة ذلك المنكر أو مجالسة أهله.

قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِيَ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّىَ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمّا يُنسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَىَ مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ)[الأنعام: 68]

وقال تعالى: (وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتّىَ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنّمَ جَمِيعاً)[النساء: 140]

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله عند هذه الآية (وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يُستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده .. )(1).

وبهذا يتبين لنا أن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الداعي إلى الله على علم وبصيرة، لا بد له من معرفة مراتب إنكار المنكر وضوابطها وخطواتها، والالتزام بالعمل بها، حتى ينجح في دعوته، وتؤتي ثمارها الطيبة.

من رأى منكرا فلم يستطع له تغييرا أن يُعْلِمَ الله من قلبه أنه له كاره.

(1) تيسير الكريم الرحمن، 2/ 93 - 94.

ص: 472

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن أبا عبد الله قال، له رجل: لي جار يشرب ويعتدي، ترى لي أن أنهاه عن ذلك؟ قال: ما أحسن ما تفعل، قال له الرجل: فإن لم أفعل؟ قال: تخافه؟ قال: نعم، قال:" أنكر بقلبك، وليعلم الله ذلك منك ".

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن إسحاق بن إبراهيم أنه سأل أبا عبد الله قال: قلت رجل تكلم بكلامٍ سوء يجب علي فيه أن أغيره في ذلك الوقت فلا أقدر على تغييره، وليس لي أعوان يعينونني عليه؟ قال:" إذا علم الله من قلبك أنك منكر لذلك فأرجو أن لا يكون عليك شيء "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن إسحاق قال: سألت أبا عبد الله قلت: متى يجب على الرجل الأمر والنهي؟ قال: " ليس هذا زمان نهي إذا غيرت بلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان. . . وقال لي: لا تتعرض للسلطان، فإن سيفه مسلول "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المروذي، أنه شكا إلى أحمد بن حنبل جارا لهم يؤذيهم بالمنكر، فقال: مره بينك وبينه، قلت: تقدمت إليه مرارا كأنه يضحك، قال: وأي شيء عليك، إنما هو يضحك على نفسه، أنكر بقلبك، ودعه، فقلت لأبي عبد الله: فمن كان له جار يسمع منه المنكر؟ قال: يغيره مرة ومرتين وثلاثة، فإن قبل وإلا ترك، قلت: فإن كان سمعه؟ قال: " وأي شيء تقدر أن تصنع، أنكر بقلبك ودعه.

(6)

تقديم الأهم على المهم:

إن البدء بالأهم فالأهم من القواعد التي تحكم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بأن يبدأ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بإصلاح أصول العقيدة، فيأمر بالتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، وينهى عن الشرك والبدع والشعوذة، ثم يأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم بقية الفرائض وترك المحرمات، ثم أداء السنن وترك المكروهات.

والبدء بالدعوة إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل هو منهج الرسل جميعا، كما قال تعالى:(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ فَمِنْهُم مّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مّنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ)[النحل: 36]

ص: 473

وقال تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنّهُ لآ إِلََهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25]

وقال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرّحْمََنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)[الزخرف: 45]

وقد تكررت مقولة الأنبياء عليهم السلام في الدعوة إلى التوحيد كما يلي:

قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[الأعراف: 59]

وقال تعالى: (وَإِلَىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتّقُونَ)[الأعراف: 65]

وقال تعالى: (وَإِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ)[الأعراف: 73]

وقال تعالى: (وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ)[الأعراف: 85]

وقال تعالى: (وَإِلَىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ مُفْتَرُونَ)[هود: 50]

قال تعالى: (وَإِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ)[هود: 61]

قال تعالى: (وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ)[هود: 84]

وقد سار خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على نهج إخوانه المرسلين عليهم السلام فقد بدأ بما بدأ به أنبياء الله، وانطلق من حيث انطلقوا، إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، قال تعالى:(قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام 161،162]

ص: 474

واستمر صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة، وهو يدعو الناس إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، قبل أن يأمرهم بالصلاة والزكاة والصوم والحج، وقبل أن ينهاهم عن الربا والزنا والسرقة وقتل النفوس بغير حق.

اللهم ما كان يأمر به قومه من معالي الأخلاق، كصلة الرحم، والصدق، والعفاف، وأداء الأمانة، وحسن الجوار ونحو ذلك، {ولكن الأمر الأساسي، والمحور الأهم، إنما هو الدعوة إلى التوحيد، والتحذير من الشرك} (1).

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن أمره بالدعوة إلى التوحيد كما في الحديث الآتي:

(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ ابْنِ جَبَلٍ حِيْنَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.

قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:

(وأما قول الخطابي إن ذكر الصدقة أُخر عن ذكر الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم. وأنها لا تكرر الصلاة فهو حسن، وتمامه أن يقال بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب، لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة)(2).

(1) انظر مقدمة فضيلة الدكتور صالح الفوزان، على كتاب منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل للدكتور ربيع المدخلي ص 5. بتصرف.

(2)

فتح الباري، لابن حجر، 3/ 359.

ص: 475

لذا فإن المطلوب من الداعين إلى الله تعالى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أن يوجهوا جهودهم ويولوا اهتمامهم بمنهج الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في الدعوة إلى الله تعالى، فيدعوا الناس إلى التوحيد أولًا وقبل أي شيء وليكن شغلهم الشاغل هو تصحيح العقيدة، وتصفيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، ولا يعني من هذا الكلام إهمال الجوانب الأخرى بحال من الأحوال، ولكن ما أريد تقريره هو أن الاهتمام بأمور العقيدة يجب أن ينال الأولوية في الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم الأهم فالأهم.

(7)

اعتبار المصالح ودرء المفاسد:

إن الشريعة الإسلامية مبنية على تحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتعطيلها أو تقليلها، ولذا فإن من القواعد المهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعتبار المصالح، فيشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

"أن لا يؤدي إلى مفسدة أعظم من المنكر أو مثله"، فإن كان إنكار المنكر يستلزم حصول منكر أعظم منه، فإنه يسقط وجوب الإنكار، بل لا يسوغ الإنكار في هذه الحالة.

الأدلة من القرآن الكريم:

ومن الأدلة على ذلك من القرآن الكريم:

(1)

قال تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّىَ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلَا عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ)[: البقرة 191: 193]

فالقتال في سبيل الله تعالى يحقق مصلحة عظيمة وهي إعلاء كلمة الله تعالى، وإذلال الشرك وأهله، وفيه مفسدة إزهاق الأرواح، إلا إن المصلحة في بقاء الدين وإعلاء التوحيد وإذلال الشرك ورفع الفتنة لا تقاومها المضرة في إزهاق الأرواح، كما أن {حفظ الدين مقدم على حفظ النفوس} 0

ص: 476

(2)

قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيّنُ اللّهُ لَكُمُ الَايَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ)[البقرة: 219]

فشارب الخمر يترك العبادة، ويتعدى على الآخرين بالضرب والشتم والقتل وغير ذلك، وهذه المفاسد العظيمة لا تقاومها أي مصلحة أو منفعة مزعومة.

(3)

قوله تعالى: (وَلَا تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 108]

في هذه الآية نهانا الله تعالى عن سب آلهة المشركين، وذلك للمفسدة الكبيرة المترتبة على ذلك، وهي سبهم لله تعالى مع أن سب آلهتهم وتحقيرها فيه مصلحة، إلا أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع 0

الأدلة من السنة النبوية:

ومن الأدلة من السنة النبوية:

(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ ـ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِكُفْرٍ ـ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ وَبَابٌ يَخْرُجُونَ فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ.

وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يَقْصُرَ فهمُ بعض الناس عنه فيقعوا في أشدَّ منه).

قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:

(وفي الحديث معنى ما تُرْجِمَ له لأن قريشا كانت تعظم أمر الكعبة جدا، فخشيَ صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غيّر بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، ويُستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه)(1).

(حديث أبن مسعودٍ الثابت في الصحيحين) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.

فترك صلى الله عليه وسلم كثرة الوعظ والتعليم لدفع مفسدة النفور والفتور والانقطاع.

(1) فتح الباري، 1/ 225.

ص: 477

(حديثُ أنس الثابت في الصحيحين): أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ يَا مُعَاذُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ إِذًا يَتَّكِلُوا وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.

ص: 478

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا لِلْأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا فَلَمْ أَجِدْ فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا شَأْنُكَ قُلْتُ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا فَفَزِعْنَا فَكُنْتُ أَوَّلَ مِنْ فَزِعَ فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَائِي فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ قَالَ اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ فَقَالَ مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لِاسْتِي فَقَالَ ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً وَرَكِبَنِي عُمَرُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قُلْتُ لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ فَضَرَبَ بَيْنَ

ص: 479

ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لِاسْتِي قَالَ ارْجِعْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ يَا عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَلِّهِمْ.

قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:

(فكأن قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ ((إِذًا يَتَّكِلُوا)) كان بعد قصة أبي هريرة، فكان النهي للمصلحة لا للتحريم، فلذلك أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ أ. هـ (1).

ولاطلاعه رضي الله عنه على أنه لم يكن المقصود من المنع التحريم كما هو ظاهر من قصة أبي هريرة رضي الله عنه.

فتبليغ الناس بهذه البشارة وإدخال السرور عليهم بذلك مصلحة، واتكالهم على ذلك وعدم فهمهم وتركهم العمل مفسدة عظيمة، لذا اعتمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه عمر رضي الله عنه في ذلك (2).

(حديث علي رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري موقوفا) قَالَ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:

(وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يُذكر عند العامة)(3).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

(1) فتح الباري، 1/ 228.

(2)

الأدلة على اعتبار المصالح والمفاسد في الفتاوى والأحكام، جمع وترتيب أبو عاصم هشام عبد القادر، ص 18.

(3)

فتح الباري، 1/ 225.

ص: 480

( .. إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام، وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوهما جميعا، لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر، وسعيا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة (1).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:

(1) انظر مجموع الفتاوى، 28/ 129 - 130.

ص: 481

(إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله

ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عَزَمَ على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنَعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر) أ. هـ (1).

وقال الشيخ حمد بن ناصر: (لكن إن خاف حصول منكر أعظم سقط الإنكار، وأنكر بقلبه، وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه أنه لا ينبغي، وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد)(2).

وقال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد إبراهيم آل الشيخ: (مما ينبغي أن يُعلم أنه متى كانت مفسدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به ورسوله وإن كان ذلك في ترك واجب أو فعل محرم، فالمؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم، وليعلم أن الاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضال .. )(3)

(1) إعلام الموقعين، 3/ 4.

(2)

انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية، 8/ 61.

(3)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الماضي والحاضر، ص 33.

ص: 482

ومن خلال ما تقدم من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، وأقوال العلماء الأجلاء يتبين لنا أن الشريعة الإسلامية جاءت باعتبار المصالح ودرء المفاسد، فلا يجوز تغيير المنكر بمنكر أشد منه، أو مثله، فعلى الدعاة إلى الله أن يتنبهوا إلى هذه القاعدة عند أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولا يخفى أن هذا الباب مزلة أقدام، وكثيرا ما يقع فيه الاختلاف والاشتباه، وتختلط فيه النزعات الشخصية بالاجتهادات الفقهية، والمعصوم من عصمه الله عز وجل ولا مخرج من هذه الفتن إلا بالتمسك بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، والأخذ بما يقرره أهل العلم الربانيون الموثوق بهم والاجتماع خير من الفرقة 0

(8)

التثبت في الأمور وعدم العجلة:

على الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، الداعي إلى الله تعالى التأكد من كل أمر والتثبت بشأنه، وعدم التسرع والعجلة، والحرص على الرفق والأناة بالناس وملاطفتهم حال أمرهم أو نهيهم، فإن في ذلك من الخير ما لا يحصى، وهو مما لا بد منه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي دعوة الناس إلى الخير.

قال تعالى: (لَا تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)[القيامة: 16]

والتبين والتثبت صفة من صفات أهل اليقين من المؤمنين،

قال الإمام الطبري رحمه الله: عند قوله تعالى: (وَقَالَ الّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيّنّا الَايَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[البقرة: 118]

وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون، لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة، فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك، ليزول شكه، ويعلم حقيقة الأمر) (1).

وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، كما ذم الكسل والتباطؤ، ونهى عنه، ومدح الأناة والتثبت فيها.

قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوَاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىَ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6]

(1) تفسير الطبري، 1/ 515.

ص: 483

قرأ الجمهور (فَتَبَيّنُوَاْ) من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة والكسائي:(فَتَثَبَّتُوا)، والمراد من التبين التعرف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر (1).

والدعاة إلى الله تعالى أولى بامتثال أمر الله عز وجل بالتأني والتثبت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق الجيد من مصدرها قبل الحكم عليها.

والداعية الحصيف إذا أبصر العاقبة أمن الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبر جميع الأمور التي تعرض له ويواجهها، فإذا كانت حقا وصوابا مضى، وإذا كانت غيا، وضلالا وظنا خاطئًا وقف حتى يتضح له الحق والصواب.

والواقع المشاهد أن عدم التثبت وعدم التأني يؤديان إلى كثير من الأضرار والمفاسد في المجتمع، قال تعالى:(وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً)[الإسراء: 11]

ولعظم أمر التثبت أمر الله به حتى في جهاد الكفار في سبيل الله. قال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىَ إِلَيْكُمُ السّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِنْدَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)[سورة: النساء - الأية: 94]

ومما يزيد الآية السابقة وضوحًا الحديث الآتي:

(حديثُ ابن عباس الثابت في صحيح البخاري){وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تِلْكَ الْغُنَيْمَةُ قَالَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ السَّلَامَ.

(1) فتح القدير، للإمام الشوكاني 5/ 60.

ص: 484

(حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ قَالَ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ قَالَ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ فَكَفَّ عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ فَقَالَ لِي يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا قَالَ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وفي رواية قال: قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفا من السلاح، قال:{أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا} (1)، فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ (2).

وفي رواية: {كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟} (3) قال: يا رسول الله استغفر لي، قال:{وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟} (4) قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: {كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة} (5)(6).

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تثبتا وأناة في الأمور، فكان صلى الله عليه وسلم لا يقاتل أحدا من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:

(1) البخاري الديات (6478)، مسلم الإيمان (96)، أبو داود الجهاد (2643)، أحمد (5/ 207).

(2)

صحيح مسلم، 1/ 96، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، رقم 158.

(3)

مسلم الإيمان (97).

(4)

مسلم الإيمان (97).

(5)

مسلم الإيمان (97).

(6)

صحيح مسلم 1/ 97 - 98، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله. رقم 160.

ص: 485

(حديث أنس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ.

ومن تعليمه وتربيته لأصحابه صلى الله عليه وسلم على الأناة وعدم العجلة كما في الحديث الآتي:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا.

ومن فقه قصة الخضر مع موسى عليه السلام، وقصة الهدهد مع سليمان عليه السلام وغيرهما من التوجيهات القرآنية والنبوية، استنبط العلماء أحكامًا في الإنكار، من التثبت والتروي والاستخبار قبل الإنكار، فها هو القاضي أبو يعلى يذكر في الأحكام السلطانية، ما يتعلق بالمحتسب فيقول:( .. وإذا رأى وقوف رجل مع امرأة في طريق سالك لم تظهر منهما أمارات الريب لم يتعرض عليهما بزجر ولا إنكار، وإن كان الوقوف في مكان خال فخلوُّ المكان ريبة، فينكرها ولا يعجل في التأديب عليهما حذرا من أن تكون ذات محرم، وليقل (إذا كانت محرم فصنها عن موقف الريب، وإن كانت أجنبية فاحذر من خلوة تؤديك إلى معصية الله عز وجل) وليكن زجره بحسب الأمارات، وإذا رأى المحتسب من هذه الأمارات ما ينكرها تأنى وفحص وراعى شواهد الحال، ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار) (1).

وبهذا يتبين لنا أنه ينبغي للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الداعي إلى الله تعالى على بصيرة وحكمة أن يتثبت ويتأنى في الأمور، وأن ينظر إلى المصالح العامة، وما يترتب على الكلمة التي يقولها من عواقب، وأن يحترم علماءه، ويسمع لكلامهم ويأخذ بتوجيهاتهم، ويطيع ولاة أمره في غير معصية.

وليعلم الداعي إلى الله أن التسرع والعجلة وعدم النظر قي العواقب يسبب الفشل والندامة له ولدعوته.

(1) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الحنبلي، ص293، وانظر الآداب الشرعية، لابن مفلح، 1/ 302.

ص: 486

{تنبيه} : وأحب أن أنبه إلى أن العجلة المذمومة هي ما كان في غير طاعة الله تعالى، أما المسارعة في عمل الآخرة بالضوابط الشرعية التي شرعها الله تعالى فإنها غير داخلة في ذلك، قال تعالى:(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىَ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ)[الأنبياء: 90]

وقال موسى عليه السلام: (قَالَ هُمْ أُوْلآءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ)[طه: 84]

(9)

متى يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن إسحاق بن إبراهيم أنه قال لأبي عبد الله: متى يجب عليَّ الأمر؟ قال: " إذا لم تخف سيفا ولا عصى "

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد عمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند من لا يخاف سيفه ولا سوطه؟ قال: " إذا استطاع فليغير فلا يسعه غيره "

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن إسحاق بن راهويه أن أبا عبد الله سئل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب، على المسلم؟ قال: نعم، قال: فإن خشي؟ قال: " هو واجب عليه حتى يخاف، فإذا خشي على نفسه فلا يفعل "

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عبد الواحد بن زياد، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، أرأيت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أفريضة هو؟ قال: لا يا بني، كان فريضة على بني إسرائيل، فرحم الله هذه الأمة وضعفهم، فجعله عليهم نافلة.

(10)

مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر:

قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:

ص: 487

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر مُتَوَاضِعًا ، رَفِيقًا فِيمَا يَدْعُو إلَيْهِ شَفِيقًا رَحِيمًا غَيْرَ فَظٍّ وَلَا غَلِيظ الْقَلْب ، وَلَا مُتَعَنِّتًا ، حُرًّا وَيَتَوَجَّه أَنَّ الْعَبْد مِثْله وَإِنْ كَانَ الْحُرّ أَكْمَلَ ، عَدْلًا فَقِيهًا ، عَالِمًا بِالْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّات شَرْعًا ، دَيِّنًا نَزِهًا ، عَفِيفًا ذَا رَأْيٍ وَصَرَامَة وَشِدَّة فِي الدِّين ، قَاصِدًا بِذَلِكَ وَجْه اللَّهِ عَزَّ جَلَّ ، وَإِقَامَة دِينه ، وَنُصْرَة شَرْعِهِ ، وَامْتِثَال أَمْرِهِ ، وَإِحْيَاء سُنَنِهِ ، بِلَا رِيَاء وَلَا مُنَافَقَة وَلَا مُدَاهَنَة غَيْر مُتَنَافِس وَلَا مُتَفَاخِر ، وَلَا مِمَّنْ يُخَالِف قَوْلُهُ فِعْلَهُ ، وَيُسَنُّ لَهُ الْعَمَل بِالنَّوَافِلِ وَالْمَنْدُوبَات وَالرِّفْق ، وَطَلَاقَة الْوَجْه وَحُسْن الْخُلُقِ عِنْد إنْكَاره ، وَالتَّثْبِيت وَالْمُسَامَحَة بِالْهَفْوَةِ عِنْد أَوَّل مَرَّة. قَالَ حَنْبَلٌ إنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول وَالنَّاس يَحْتَاجُونَ إلَى مُدَارَاة وَرِفْق ، الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ بِلَا غِلْظَة إلَّا رَجُل مُعْلَن بِالْفِسْقِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْك نَهْيُهُ وَإِعْلَامه لِأَنَّهُ يُقَال لَيْسَ لِفَاسِقٍ حُرْمَة فَهَؤُلَاءِ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ. أهـ

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ لَهُ يَا أَبَتِ مَا يَمْنَعك أَنْ تَمْضِي لِمَا تُرِيدهُ مِنْ الْعَدْل فَوَ اَللَّهِ مَا كُنْت أُبَالِي لَوْ غَلَتْ بِي وَبِك الْقُدُور فِي ذَلِكَ قَالَ يَا بُنَيّ إنِّي إنَّمَا أُرَوِّض النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْيِي الْأَمْرَ مِنْ الْعَدْل فَأُؤَخِّرَ ذَلِكَ حَتَّى أَخْرُجَ مِنْهُ طَمَعًا مِنْ طَمَع الدُّنْيَا فَيَنْفِرُوا مِنْ هَذِهِ وَيَسْكُنُوا لِهَذِهِ.

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن سفيان الثوري قال: لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى "

ص: 488

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن أبا عبد الله قال: " والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجلا مباينا، معلنا بالفسق والردى، فيجب عليك نهيه وإعلامه؛ لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة، فهذا لا حرمة له "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن أحمد بن حنبل قال: كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون، يقولون: مهلا رحمكم الله.

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن الحسن دعي إلى عرس، فجيء بجام من فضة، عليه خبيص أو طعام، فتناوله، فقلبه على رغيف فأصاب منه، فقال رجل إلى جانبي: هذا نهي في سكون "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، قال لأبيه: يا أبت، ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك، قال:" يا بني، إني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل، فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا، فينفروا من هذه، ويسكنوا لهذه "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أم الدرداء قالت: " من وعظ أخاه سرا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه "

ويجب لمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أن يطبق العلم، فقد جاء النذير الشديد على من خالف قوله فعله، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ){الصف/3،2}

(حديث أسامة الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يُؤتى بالعالم يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلقُ أقتابه فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ويحك، مالك كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.

ص: 489

(حديث جندب ابن عبد الله الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل العالم الذي يعلم الناس الخير و ينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس و يحرق نفسه.

(حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون و يقرءون كتاب الله و لا يعملون به.

(حديث ابن عمرو الثابت في صحيح الجامع)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ارحموا ترحموا و اغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا و هم يعلمون.

(حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.

يُرِيدُ بِالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَا يَمْلِكُ الْمُتَزَيِّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ هُوَ الَّذِي يَلْبَسُ ثِيَابَ الصُّلَحَاءِ، فَهُوَ بِرِيَائِهِ مَحْرُومُ الاجْرِ، مَذْمُومُ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُؤْجَرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى رِيَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ فَيُحْمَدَ بِهِ.

ما يؤمر به الرجل من ترك الانتصار لنفسه في الإنكار عن المنكر:

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن مهنا قال: سألت أبا عبد الله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كيف ينبغي أن يؤمر؟ قال:" يأمر بالرفق والخضوع، ثم قال: إن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد ينتصر لنفسه "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عن أرطاة بن المنذر، قال:" المؤمن لا ينتصر لنفسه، يمنعه من ذلك القرآن والسنة فهو ملجم "

(11)

يكره أن يُعْرَضَ أحدٌ على السلطان في الإنكار:

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أحمد بن نصر أبا حامد، حدثهم أن أبا عبد الله سئل عن الرجل، يرى منه الفسق والدعارة، وينهى فلا ينتهي، يرفعه إلى السلطان؟ قال:" إن علمت أنه يقيم عليه الحد فارفعه "

وقال: " كان لنا جار فرفع إلى السلطان، كان قد تأذى منه جيرانه فرفعوه، فضربوه مئتي درة، فمات "

ص: 490

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن محمد بن يحيى الكحال، أنه قال لأبي عبد الله: يكون لنا الجار يضرب بالطنبور والطبل؟ قال: " انهه، قلت: أذهب به إلى السلطان؟ قال: لا، قلت: فلم ينته، يجزئني نهيي له؟ قال: نعم، إنما يكفيك أن تنهاه "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن زكريا بن يحيى الناقد، أن أبا طالب، حدثهم: سئل أبو عبد الله،: إذا أمرت بالمعروف فلم ينته ما أصنع؟ قال:" دعه، قد أمرته، وقد أنكرت عليه بلسانك وجوارحك، لا تخرج إلى غيره، ولا ترفعه للسلطان يتعدى عليه، كان أصحاب عبد الله إذا تلاحى قوم قالوا: مهلا بارك الله فيكم، مهلا بارك الله فيكم "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عبد الله بن الطيب، قال: كان لي جار يؤذيني، يضرب الطنابير والعيدان، فأتيت أحمد بن حنبل، فقال لي:" انهه "، فقلت: قد نهيته، فعاد، فقال: هذا عليك: فقلت: السلطان؟ قال: " لا إنما عليك أن تنهاه "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: إن صالحا ابنك يريد أن يدخل هو وأبو يوسف إلى السلطان، فيخبروه بقصة شمخصة، أنه شتمك وقد أشهدوا عليه ـ وكان قد شهد عليه أبو بكر بن حماد المقرئ ـ فقال أبو عبد الله:" قل لهم لا تعرضوا له، وأنكر أن يذهبوا إلى السلطان "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي الهيثم دخين كاتب عقبة بن عامر، أنه قال لعقبة بن عامر: إن لنا جيرانا يشربون الخمر، وأنا داع، لهم الشرط، فيأخذونهم، قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم، قال: ففعل، فلم ينتهوا، فجاء دخين، فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط، فقال عقبة:" ويحك، لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من ستر مؤمنا فكأنما استحيا موؤدة من قبرها.

(12)

الرجل يغير المنكر الذي يقوى أن ينكر عليه:

مسألة: الرجل يرى المنكر الغليظ فلا يقدر أن ينهي عنه، ويرى منكرا صغيرا يقدر أن ينهي عنه، كيف العمل فيهما؟

ص: 491

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن سليمان بن الأشعث، قال: سئل أبو عبد الله عن رجل، له جار يعمل بالمنكر، لا يقوى على أن ينكر عليه، وضعيف يعمل بالمنكر أيضا، يقوى على هذا الضعيف أينكر عليه؟ قال:" نعم، ينكر على هذا الذي يقوى أن ينكر عليه "

(13)

ما يُوَسَّعُ على الرجل في ترك الأمر والنهي إذا رأى قوما سفهاء:

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عباس العنبري، قال: كنت مارا مع أبي عبد الله بالبصرة قال: فسمعت رجلا، يقول لرجل: يا ابن الزاني، فقال له الآخر: يا ابن الزاني. قال: فوقفت ومضى أبو عبد الله، فالتفت إلي، فقال لي: يا أبا الفضل، امش. قال: فقلت: قد سمعنا، قد وجب علينا قال:" امض ليس هذا من ذلك "

وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن يحيى بن أبي كثير، قال:" موعظة الجاهل كالمغني عند رأس الميت "

(14)

يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إن كان يظن أنه يقبل منه:

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن حنبل، قال: قلت لأبي عبد الله: ترى الرجل إذا رأى الرجل لا يتم ركوعها ولا سجودها، ولا يقيم أمر صلاته، ترى أن تأمره بالإعادة؟ وأن يحسن صلاته أو يمسك عنه؟ قال:" إن كان يظن أنه يقبل منه أمره، وقال له، ووعظه، حتى يحسن الصلاة، فإن الصلاة من تمام الدين "

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن محمد بن النضر، قال: سأل رجل الأوزاعي قال: من آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؟ قال: " من ترى أنه يقبل منك "

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي هريرة، أنه مر به رجل من قريش يجر شملة، فقال له: يا ابن أخي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من جر ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة "، قال الفتى: قد سمعنا ما تقول، ثم مر به مرة أخرى وهو كذلك، فقال له أبو هريرة مثل ذلك، فقال: قد سمعنا ما تقول، لئن عدت الثالثة لأحملنك على عنقي، ثم لأكبن بك في الأرض، فقال أبو هريرة: لا أعود.

(15)

يكره للرجل دخول مواضع النكرة:

ص: 492

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن محمد بن يحيى أنه قال لأبي عبد الله: أجيء إلى الدار وفيها الربض، وأسمع منها ما أكره؟ قال:" انههم، قلت: إن كان الرجل يشرب المسكر، ويجمع ما لا خير فيه؟ قال: أكره المدخل السوء "

أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن يحيى بن معين قال: رأيت وكيعا رأى امرأة عند عطار، والعطار يكلمها، فقال لإنسان:" اذهب إلى ذلك العطار؛ ففرق بينهما "

(16)

خطر التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إن التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمره خطير وشره مستطير، وقد يكون سبباً في تعميم العقاب وعدم استجابة الدعاء.

قال تعالى: (لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)[سورة: المائدة /78، 79]

قوله تعالى: [لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ] أي لعنهم الله سبحانه "على لسان داود وعيسى ابن مريم" أي في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى بما فعلوه من المعاصي كاعتدائهم في السبت وكفرهم بعيسى.

قوله: [ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا] أي ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر.

ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله تعالى [كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه] أي لا ينهي بعضهم بعضاً عن فعل المعاصي، وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر لأن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكاً لفاعل المعصية ومستحقاً لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت، فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعاً قردة وخنازير "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" ثم إن الله سبحانه قال مقبحاً لعدم التناهي عن المنكر "لبئس ما كانوا يفعلون" أي من تركهم لإنكار ما يجب عليهم إنكاره.

ص: 493

(حديث أبي بكر الصديق في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.

(إن الناس) المطيقين لإزالة الظلم مع سلامة العافية

(إذا رأوا الظالم) أي علموا بظلمه

(فلم يأخذوا على يديه) أي لم يمنعوه من الظلم بفعل أو قول.

(أوشك) أي قارب أو أسرع

(أن يعمهم اللّه بعقاب منه) إما في الدنيا أو الأخرى أو فيهما لتضييع فرض اللّه بغير عذر وزاد قوله منه زيادة في التهويل والزجر والتحذير وقد أفاد بالخبر أن من الذنوب ما يعجل اللّه عقوبته في الدنيا ومنه ما يمهله إلى الآخرة والسكوت على المنكر يتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من المظلمة للخلق وقد تبين بهذا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية لا عين، إذ القصد إيجاد مصلحة أو دفع مفسدة لا تكليف فرد فرد فإذا أطبقوا على تركه استحقوا عموم العقاب لهم وفيه تحذير عظيم لمن سكت عن النهي فكيف بمن داهن فكيف بمن رضى فكيف بمن أعان؟ نسأل اللّه السلامة.

(حديث حذيفة في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتأمُرنّ بالمعروف و لتنهَوْنَّ عن المنكر أو يبعث الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لهم.

تغليظ عقوبة من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وخالف قوله فعله:

قال تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[سورة: البقرة - الآية: 44]

[أتأمرون الناس بالبر] استفهام معناه التوبيخ، بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله:"وتنسون أنفسكم" مع التطهر بتزكية النفس والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس وتلبيساً عليهم، والنسيان هنا بمعنى الترك: أي وتتركون أنفسكم،

وقوله: "وأنتم تتلون الكتاب" جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع وأشد توبيخ وأبلغ تبكيت. أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أصل العلم العارفين بقبح هذا الفعل وشدة الوعيد عليه، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه والآيات التي تقرأونها من التوراة.

اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر، ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوماً كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها، وبخهم به توبيخاً يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال:"أتأمرون الناس بالبر" الآية.

ص: 494

و قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ)[سورة: الصف /2،3]

الشاهد قوله تعالى [كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ]

و المقت أشد البغض.

(حديث أسامة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤتى بالعالم يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ويحك ما لك كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.

معنى [أقتابه]: أي أمعاءه

(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتيت ليلة أسري بي على قوم تُقْرَضُ شفاهُهم بمقاريضَ من نار كلما قُرِضَتْ وَفَتْ فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون و يقرءون كتاب الله و لا يعملون به.

أورد المقدسي رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال أوحى الله تبارك وتعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم قال هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار قال إنهم لم يغضبوا لغضبي وكانو يواكلوهم ويشاربوهم.

أورد المقدسي رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي عبد الرحمن العمري قال: إن من غفلتك عن نفسك إعراضك عن الله عز وجل بأن ترى ما يسخطه فتجاوره ولا تأمر فيه ولا تنهى عن منكر خوفا ممن لا يملك لك ضرا ولا نفعا وسمعته يقول من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مخافة المخلوقين نزعت منه هيبة الطاعة فلو أمر ولده أو بعض مواليه لا ستخف به.

أورد المقدسي رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن يحيى بن يعمر قال خطب علي رضي الله عنه ثم قال يا أيها الناس إنما هلك من هلك قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار أدركتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم الذي نزل بهم واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا.

ص: 495