الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني في حكم الإرهاب بأشكاله من منظور شرعيٍّ
بادئ ذي بدءٍ نودُّ أن نقرِّر بأنَّ المدوَّنات الفقهيَّة القديمة المتوافرة خلت من بيان حكم الشرع في مصطلح الإرهاب بيانًا صريحًا واضحًا ومباشرًا، كما أنَّها تجاوزت التنصيص على حكمٍ معيَّنٍ لهذه المسألة، مما يعني أنَّه ليس من الوارد أن يعثر المرء على رأي فقهيٍّ قديمٍ صريحٍ حول هذا الموضوع، كما يعني هذا أنَّه ليس من الموضوعيَّة في شيءٍ نسبة رأيٍ من الآراء الاجتهاديَّة الحديثة إلى الفقهاء القدامى. إنَّ عدم تعرض الفقهاء المتقدمين لمناقشة حكم الشرع لهذه الظاهرة، لا يعني عدم وجود حكمٍ شرعيٍّ لها بتاتًا، وإنَّما يعني ببساطة أنَّهم لم يعايشوها بالصورة التي نعايشها اليوم، كما أنَّها لم تظهر في عصرهم بالطريقة التي ظهرت بها في هذا العصر، وفضلًا عن هذا فإنَّ ظروفهم السياسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة تختلف اختلافًا جذريًّا عن ظروفنا السياسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة، مما جعلهم في غنى عن الحديث المفصَّل عنها كما نفعل اليوم. على أنَّه من الحريِّ بالتحقيق المبادرة إلى تقرير القول بأنَّ الفقهاء المتقدمين عنوا بحديث مفصَّل وشامل عن عددٍ من المسائل الشبيهة وذات الصلة والعلاقة بمصطلح الإرهاب
في هذا العصر، إنَّها مسألة الحرابة ومسألة البغي والفساد في الأرض، فقد أوسعوا هذه المسائل جانب التحقيق والتقرير والتأصيل، وتعرضوا لسائر جزئياتها ومسائلها. وأما مصطلح الإرهاب، فلا يجد له المرء حضورًا مستقلًا في الدراسات والكتابات الفقهيَّة القديمة التي اطَّلعنا عليها.
إنَّ ضبط حكمٍ شرعيٍّ موضوعيٍّ معتبرٍ للإرهاب من منظور شرعيٍّ، يقتضي منا تفصيل القول في الحيِّثيَّات التي ترتبط بها هذه الظاهرة وعلى رأسها موقع المرهب في منظومة الأمان، والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، وهذا تفصيل القول في هاتين المسألتين المهمتين:
أولًا: مسألة الأمان (1) ومصدره من المنظور الإسلاميِّ
بالرجوع إلى مقررات الشرع ومبادئه العامَّة، نجد أنَّ الإنسان يستحقُّ الأمان والعصمة في دمه وماله وعرضه لأمرين لا ثالث لهما، وهما: الدين والدار.
(1) يعني الأمان في اللغة: عدم توقع مكروه في الزمن الآتي، وأصل الأمان طمأنينة النفس، وزوال الخوف، والأمن والأمانة والأمان مصادر للفعل (أمن) . . فهذا الأمان يزول بالترويع والتخويف والتهديد والإكراه، وسوى ذلك من التصرفات التي ترفع لدى الإنسان الطمأنينة والاستقرار. . ولمزيد من المعلومات حول الأمان وشروطه ومن له حق إعطائه، يراجع: الموسوعة الفقهية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت (الكويت، طبعة رابعة 1993م) ج6 ص233 وما بعدها.
وأما الدين فالمراد به الدين الإسلاميُّ الذي ارتضاه الله للبشر بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، فهذا الدين يحقِّق لمن آمن به واعتنق مبادئه الأمان والعصمة، فكلُّ مسلمٍ - ذكرًا أو أنثىً كبيرًا أو صغيرًا حرًّا أو عبدًا - يعتبر آمنًا بأمان الدين، ويحرم الاعتداء على دمه وماله وعرضه إلا بحقِّ الإسلام، مصداقًا لقول جل جلاله:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، وقوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] . وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، وقوله أيضًا: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] وثمَّة أحاديث كثيرة وردت تؤكِّد هذا الأمر الإلهيَّ، ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته الخالدة في حجَّة الوداع:«ألا إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم، حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضكم رقاب بعضٍ» (1) . ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ دم امرئ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ: قتل نفس عمدًا، وزنى بعد إحصان، ومفارقة الجماعة» (2) .
(1)(وستلقون ربَّكم فيسألكم عن أعمالكم فلا ترجعن بعدي كفارا (أو ضلالا) يضرب بعضكم رقاب بعض. . .) صحيح مسلم بشرح النووي، ج11، ص 169-170.
(2)
قريب من هذا اللفظ: «والذي لا إله غيره، لا يحلُّ دم رجلٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، إلا ثلاثة نفس: التارك الإسلام، المفارق للجماعة، أو الجماعة (شك أحمد) ، والثيب الزاني، والنفس بالنفس» . صحيح مسلم بشرح النووي، ج11، ص 164.
إنَّ هذه النصوص ومثيلاتها المتكاثرة في الذكر الحكيم وفي السنة النبويَّة الشريفة، تؤكِّد تحريم الاعتداء على دم المسلم وعرضه وماله وكرامته وحريَّته إلى قيام الساعة. وأما بالنسبة للدار فإنَّ مرادنا بها دار الإسلام، ودار العهد، فكلُّ من يعيش في هاتين الدارين يعد آمنًا بأمان الدار سواء أكان مسلمًا أم غير مسلمٍ، فإنَّه يستحقُّ الأمان والعصمة في دمه وماله وعرضه. وأما المراد بدار الإسلام عند معظم الفقهاء فهي الدار التي تظهر فيها أحكام الإسلام، أو يكون أغلب سكانها مسلمين يمارسون شعائرهم فيها بأمانٍ، فهذه الدار تعد دار أمانٍ لمن فيها من المسلمين وغير المسلمين ولمن دخلها بعقد أمانٍ خاصٍّ أو عامٍّ من أهل دار الحرب. (1)
وأما دار العهد فيراد بها الدار التي بينها وبين دار الإسلام المواثيق والمعاهدات على عدم الاعتداء، وتعد هذه الدار دار أمانٍ لمن فيها من المسلمين وغير المسلمين (2)
(1) في الحديث النبوي: «من قتل معاهدًا لم يجد رائحة الحنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين.
(2)
الأرمنازي نجيب، الشرع الدولي في الإسلام، لندن: رياض الريس، ص 48.
وبمقابل دار الإسلام ودار العهد في المنظور الإسلاميِّ، ثمَّة دار ثالثةٌ، تعرف بدار الحرب، وهي الدار التي تكون أحكام الكفر فيها ظاهرةً، وتكون بينها وبين دار الإسلام حربٌ قائمةٌ، ولا تعد هذه الدار دار أمانٍ ولا دار عصمةٍ لمن فيها سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين. . (1)
(1) البغدادي، عبد القاهر. أصول الدين، إستنانبول، بدون تاريخ، ص 270.
فإذا قتل مسلم في هذه الدار خطأً فإنَّ الدية لا تجب فيه، ذلك لأنَّ الدية تجب بسبب عصمة الدار لا بسبب عصمة الدين على الراجح عند الإمام الشافعيِّ رحمه الله مصداقًا لقوله جل جلاله:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وأيَّا ما كان الأمر، فإنَّ هذا التقسيم للدار في المنظور الإسلاميِّ، يؤكِّد أنَّ العصمة والأمان ثابتان لكلِّ من يعيش في دار الإسلام (الدولة الإسلاميَّة في مصطلح العلاقات الدوليَّة الحديثة) سواء أكان مسلمًا أم غير مسلمٍ، ولكلِّ من يعيش في دار العهد (الدولة الصديقة في مصطلح العلاقات الدوليَّة المعاصرة) سواء أكان مسلمًا أم غير مسلمٍ، فالمعاهد في دار العهد معصوم الدم والمال والعرض بعصمة الدار التي يعيش فيها، مصداقًا لقوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} * {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8-9] وقوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72] . وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] ؛ ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقَّه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة» (1)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل نجران: «ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمَّة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أموالهم وملتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم» (2) .
(1) في الحديث النبوي: «من قتل معاهدًا لم يجد رائحة الحنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما» ، فتح الباري على صحيح البخاري، ج6، ص 269، حديث رقم 3166.
(2)
انظر: د. وهبة الزحيلي، العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، بيروت: دار الرسالة، ط1، 1981.
وصفوة القول، إنَّ مصدر العصمة والأمان في الشرع هو الدين والدار، والآمن بأمان الدين في المفهوم الإسلاميِّ هو كلُّ مسلمٍ بحكم إسلامه، ويعد معصوم الدم والمال والعرض بغضِّ النظر عن مكان إقامته (دار الإسلام، أو دار العهد، أو دار الحرب) ، وأما الآمن بأمان الدار، فهو كلُّ مسلمٍ أو غير مسلمٍ مقيمٍ في دار الإسلام أو في دار العهد، ويعد معصوم الدم والمال والعرض ما دام مقيمًا في دار الإسلام أو في دار العهد. وأما غير الآمن فيشمل كل مقيمٍ - غير المسلم - في دار الحرب، ويعد دمه وماله وعرضه غير معصوم ما دام مقيمًا في دار الحرب التي بينها وبين دار الإسلام حربٌ وعداوة ظاهرةٌ. وبناءً على هذا، فإنَّ إيذاء المسلم أو غير المسلم في دار الإسلام أو في دار العهد بسفك دمه، أو انتهاك عرضه، أو إبادة ماله عمدًا، يعد أمرًا حرامًا بدلالة النصوص القرآنيَّة والحديثيَّة، وأما التعرض لغير المسلم المقيم في دار الحرب إن سفكًا لدمه أو انتهاكًا لعرضه أو إبادةً لماله، فإنَّ ذلك مشروعٌ ما دامت الغاية تحقيق مقصدٍ من مقاصد الشرع المعروفة.