الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: آية الأنفال الآمرة بإعداد القوة لإرهاب العدو
كثيرا ما يستمسك القائلون بمشروعية الإرهاب بقوله تعالى في آية الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] .
إنّ التأمل والتمعن في هذه الآية الكريمة يهدي المرء إلى تقرير القول بأنها بسباقها وسياقها ليست موجهة إلى الأفراد ولا إلى الجماعات، ولكنها موجهة إلى أولي الأمر المسؤولين عن تجهيز الجيوش، وإعلان الجهاد، وحماية البيضة، والدليل على كونها آية خاصة وموجهة إلى أولي الأمر سباقاتها التي تقول:{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} * {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} * {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 57-59] كما أن الآيات التي أتت بعدها تقرر بجلاء كون الخطاب موجها إلى أولي الأمر وليس الأفراد أو الجماعات، إذ إنها تتضمن الدعوة إلى عقد الصلح العام مع دار الحرب، تلك مهمة ينهض بها ولي الأمر دون غيره، وهذا نص قوله:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} * {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ
الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 61-62] .
إن هاتين الآيتين والآيتين السابقتين تؤكد بصورة واضحة أن المأمورين بإعداد القوة التي يرهب بها عدو الله وعدوهم هم أولو الأمر، وليس الأفراد والجماعات. وفضلا عن هذا، فإنّ سياق آية الأنفال بذاته يدل دلالة واضحة على أن المستهدفين بالإرهاب هم أهل دار الحرب الذين بينهم وبين دار الإسلام حرب قائمة، ولا ينطبق هذا الأمر بأي حالٍ من الأحوال على أهل دار الإسلام، أو أهل دار العهد. وبالتالي، فلا سداد في اللياذ بهذه الآية العظيمة واتخاذها ظلما وجورًا آية لتقرير مشروعية جريمة شنعاء تتضمن سفك الدماء وهتك الأعراض وإتلاف الأموال.
وتأكيدا على أن المخاطبين بهذه الآيات هم أولو الأمر، هو أنَّ القوة التي أمر الله بإعدادها في هذه الآية ليست مهمّة يمكن أن يقوم بها الأفراد، بل هي مهمة ينبغي أن ينهض بها ولي الأمر، وتعرف في لغة العصر بالتسلح العسكري، فإعداد تلك القوة يعدُّ من مسؤولية ولي الأمر، فهو المسؤول عن تجهيز الجيوش، وتمكين الأمة من سائر أنواع القوى التي تمكّنها من إرهاب أعدائها الذين يقاتلون ويعتدون عليها.
على أنه إذا عاند معاند، وزعم بأنّ الخطاب القرآني لعموم الأمة، وليس خاصا بأولي الأمر، وبالتالي، فإن لكل فرد أو جماعة القيام بواجب إعداد القوة!! يرد على هذا المعاند المفتون بأنّ عامة المحققين من أهل العلم يؤكّدون بأنّ بعث الجيوش، وصرف أموال بيت المال، وقسمة الغنائم، وعقد الصلح العام لم يكن ذات يوم من اختصاصات الأفراد والجماعات، ولكنها كانت دومًا وأبدًا من اختصاصات الإمام أو من ينوب عنه، وبالتالي، فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يقدم على تلك الاختصاصات والوظائف إلا بإذن الإمام أو تفويض منه (1) .
وبطبيعة الحال، لا تنحصر القوة التي أمر الله بإعدادها في القوة العسكرية كما يتبادر إلى أذهان كثير من بلهائنا وبسطائنا، ولكنها تنتظم القوة الفكرية، والقوة العلمية، والقوة الاقتصادية والقوة النظامية، وهذه القوى بمجموعها هي التي تمكن الأمة، وترهب عدوها، وتجعلها خير أمة أخرجت للناس، وتعد العناصر والركائز التي تبنى عليها الحضارات، ويحافظ عليها من خلالها. ويعد الإمام المسؤول الأول عن إعداد هذه القوى وتمكين الأمة منها بصورة متكاملة.
(1) انظر: ما قاله الإمام ابن عاشور وغيره من العلماء المحققين حول حكم تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه إماما. . مقاصد الشريعة الإسلامية ابن عاشور تحقيق محمد الطاهر الميساوي (كوالالمبور، البصائر، طبعة أولى 1998م) . ص137 وما بعدها.
وبناءً على هذا، فإننا نخلص إلى القول بأن توظيف هذه الآية لتأييد الأعمال الإجرامية والتخريبية يعد ذلك منهجا تطويعيا سلكه البغاة والمشاغبون في التاريخ، إذ إنهم جعلوا الآيات النازلة في الكفار آيات نازلة في الصحابة والصالحين لسوء تأويل وفهم لمراد الله تعالى، ولبعدهم التام عن معرفة أحكام الشرع. فهذه الآية ومثيلاتها لا يمكن الاستناد إليها لادعاء مشروعية ترويع الآمنين بأمان الدين والدار، بل إنها بدلالاتها تدل دلالة أكيدة على تحريم الاعتداء على حق الإمام في القيام بواجب الدفاع عن عموم الأمة.