الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [الخوف من عذاب جهنم لا يخرج عنه أحد]
والخوف من عذاب جهنم لا يخرج عنه أحد من الخلق، وقد توعد الله سبحانه خاصة خلقه عَلَى المعصية، قال الله تعالى:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39].
وقال في حق الملائكة المكرمين: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29].
وثبت من حديث عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة، قال:"فَيَأْتُونَ آدَمَ" فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ أمرني بأمر فعصيته، فأخاف أن يطرحني في النار، انطلقوا إلى غيري، نفسي نفسي".
وذكر في نوح إبراهيم وموسى وعيسى مثل ذلك، كلهم يقول: إني أخاف أن يطرحني في النار. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (1) عن أبي خيثمة، عن جرير، عن عمارة به.
وخرّجه مسلم في "صحيحه"(2) عن أبي خيثمة إلا أنَّه لم يذكر لفظه بتمامه.
(1) وأخرجه أحمد في "مسنده"(2/ 435) والترمذي (2434) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (10/ 451).
(2)
برقم (182).
وخرّجه البخاري (1) من وجه آخر بغير هذا اللفظ.
ولم يزل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون يخافون النار ويخوفون منها.
فأما ما يذكر عن بعض العارفين من عدم خشية النار فالصحيح منه له وجه، سنذكره إن شاء الله تعالى.
قال ابن المبارك: أخبرني عمر بن عبد الرحمن بن هرمز، سمعت وهب بن منبه يقول: قال حكيم من الحكماء: إني لأستحيي من الله أن أعبده رجاء ثواب الجنة فأكون كالأجير السوء، إن أعطي عمل، وإن لم يعط لم يعمل، وإني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار، أي قط، فأكون كالعبد السوء، إن رهب عمل لأن لم يرهب لم يعمل، لأنه يستخرج حبه مني ما لا يستخرجه مني غيره.
خرجه أبو نعيم بهذا اللفظ.
وفي تفسير لهذا الكلام من بعض رواته، وهو أنَّه ذم العبادة عَلَى وجه الرجاء وحده أو عَلَى وجه الخوف وحده، وهذا حسن.
وكاد بعض السَّلف يقول: من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد مؤمن، وسبب هذا أنَّه يجب عَلَى المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، ولا بد له من جميعها، ومن أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإيمان.
وكلام هذا الحكيم يدل عَلَى أن الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء.
وقد قال الفضيل بن عياش رحمه الله: المحبة أفضل من الخوف، ثم استشهد بكلام هذا الحكيم الَّذِي حكاه عنه وهب.
وكذا قال يحيى بن معاذ قال: حسبك من الخوف ما يمنع من الذنوب، ولا
(1) برقم (7437).
حَسْبَ من الحب أبدًا.
فأما الخوف والرجاء، فأكثر السلف عَلَى أنهما يستويان، لا يرجح أحدهما عَلَى الآخر، قاله مطرف والحسن والإمام أحمد وغيرهم.
ومنهم من يرجح الخوف عَلَى الرجاء، وهو محكي عن الفضيل وأبي سليمان الداراني.
ومن هذا قول حذيفة المرعشي: إن عبدًا يعمل عَلَى خوف لعبد سوء، وإن عبدًا يعمل عَلَى رجاء لعبد سوء، فكلاهما عندي سواء.
ومراده إذا عمل على إفراد أحدهما عن الآخر.
وقال وهيب بن الورد: لا تكونوا كالعامل، يقال له: تعمل كذا وكذا، فيقول: نعم إن أحسنتم لي من الأجر، ومراده: ذم من لا يلاحظ بالعمل إلا الأجر.
وهؤلاء العارفون لهم ملحظان:
أحدهما: أن الله تعالى يستحق لذاته أن يطاع ويحب، ويبتغى قربه والوسيلة إِلَيْهِ مع قطع النظر عن كونه يثيب عباده أو يعاقبهم، كما قال القائل:
هب البعثَ لم تأتنا رسله
…
وجَاحِمَةُ النار لم تُضْرِمِ
أليس من الواجب المُسْتـ
…
حِقِّ حياءُ العبادِ من المُنْعِمِ
وقد أشار هذا إِلَى أن نعمه عَلَى عباده تستوجب منهم شكره عليها وحياءهم منه.
وهذا هو الَّذِي أشار إِلَيْهِ النبي صلى الله عليه وسلم لما قام حتى تورمت قدماه، فقِيلَ لَهُ: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فَقَالَ: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"(1).
(1) أخرجه البخاري (4837)، ومسلم (2820) من حديث عائشة. وأخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819) من حديث المغيرة بن شعبة.
والملحظ الثاني: أن أكمل الخوف والرجاء ما تعلق بذات الحق تعالى -كما تقدم-، دون ما تعلق بالمخلوقات في الجنة والنار، فأعلى الخوف خوف البعد والسخط والحجاب عنه سبحانه، كما قدم سبحانه ذكر هذا العقاب لأعدائه عَلَى صليهم النار في قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15، 16].
وقال ذو النون: خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي، كما أن أعلى الرجاء ما تعلق بذاته سبحانه من رضاه ورؤيته ومشاهدته وقربه، ولكن قد يغلط بعض الناس في هذا، فيظن أن هذا كله ليس بداخل في مسمى نعيم الجنة ولا في مسمى الجنة إذا أطلقت، ولا في مسمى النار ولا في مسمى عذاب النار إذا أطلقت، وليس كذلك.
وبقي هاهنا أمر آخر، وهو أن يقال: ما أعده الله في جهنم من أنواع العذاب المتعلق بالأمور المخلوقة لا يخافها العارفون، كما أن ما أعده الله في الجنة من أنواع النعيم المتعلق بالأمور المخلوقة لا يحبه العارفون ولا يطلبونه.
وهذا أيضاً غلط، والنصوص الدالة عَلَى خلافه كثيرة جداً ظاهرة. وهو أيضاً مناقض لما جبل الله عليه الخلق من محبة ما يلائمهم وكراهة ما ينافرهم، وإنَّما صدر مثل هذا الكلام ممن صدر منه في حال سكره واصطلامه واستغراقه وغيبة عقله، فظن أن العبد لا يبقى له إرادة أصلاً، فإذا رجع إِلَيْهِ عقله وفهمه علم أن الأمر عَلَى خلاف ذلك.
ونحن نضرب لذلك مثلاً يتضح به هذا الأمر إن شاء الله تعالى. وهو أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة واستدعاهم الرب سبحانه إِلَى زيارته ومشاهدته ومحاضرته يوم المزيد، فإنهم ينسون عند ذلك كل نعيم عاينوه في الجنة قبل ذلك، ولا يلتفتون إِلَى شيء مما هم فيه من نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم سبحانه، ويحتقرون كل نعيم في الجنة حين ينظرون إِلَى وجهه جل جلاله، كما جاء ذلك في أحاديث يوم المزيد. فلو أنهم ذكروا حينئذٍ شيئًا من نعيم الجنة لأعرضوا عنه،
ولأخبروا أنهم لا يريدونه في تلك الحال، وكذلك لو خوفوا عذابًا ونحوه لم يلتفتوا إِلَيْهِ، وربما لم يستشعروا ألمه في تلك الحال، وإنَّما يحذرون حينئذٍ من الحجاب عما هم فيه والبعد عنه، فإذا رجعوا إِلَى منازلهم، رجعوا إِلَى ما كانوا عليه من التنعم بأنواع النعيم المخلوق لهم، بل يزداد نعيمهم بذلك مع شدة شوقهم إِلَى يوم المزيد ثانيًا.
فهكذا أحوال العارفين الصادقين في الدُّنْيَا إذا تجلى عَلَى قلوبهم أنوار الإحسان واستولى عليها المثل الأعلى، فإن هذا من شواهد ما يحصل لهم في الجنة يوم المزيد، فهم لا يلتفتون في تلك الحال إِلَى غير ما هم فيه من الأنس بالله والتنعم بقربه وذكره ومحبته، حتى ينسوا ذكر نعيم الجنة، ويصغر عندهم بالنسبة إِلَى ما هم فيه، ولا يخافون حينئذ أيضاً غير حجبهم عن الله وبعدهم عنه وانقطاع مواد الأنس به، فإذا رجعوا إِلَى عقولهم، وسكنت عنهم سلطنة هذا الحال وقهره، وجدوا نفوسهم وإرادتهم باقية، فيشتاقون حينئذٍ إِلَى الجنة ويخافون من النار، مع ملاحظتهم لأعلى ما يشتاق إِلَيْهِ من الجنة ويخشى منه من النار.
وأيضًا، فالعارفون قد يلاحظون من النار أنها ناشئة عن صفة انتقام الله وبطشه وغضبه، والأثر يدل عَلَى المؤثر، فجهنم دليل عَلَى غضب الله وشدة بأسه وبطشه وقوة سلطنة سطوته وانتقامه من أعدائه، فالخوف منها في الحقيقية خوف من الله وإجلال له وإعظام وخشية لصفاته المخوفة، مع أنَّه سبحانه يخوف بها عباده، ويحب منهم أن يخافوه بخوفها، وأن يخشوه بخشية الوقوع فيها، وأن يحذروه بالحذر منها، فالخائف من النار خائف من الله، متبع لما فيه محبته ورضاه والله أعلم.
***