الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في تنغص السَّلف عَلَى عند ذكر طعام أهل النار
وكان كثير من الخائفين من السَّلف، ينغص عليهم ذكر طعام أهل النار، طعام الدُّنْيَا وشرابها، حتى يمتنعوا من تناوله أحيانًا لذلك.
وكان الإمام أحمد يقول: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب فلا أشتهيه.
روى شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قَالَ: أتي عبد الرحمن بن عوف بعشائه، وهو صائم، فقرأ:{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12، 13] فلم يزل يبكي، حتى رفع طعامه، فما تعشى، وإنه لصائم. خرّجه الجوزجاني.
وروى ابن أبي الدُّنْيَا من طريق يونس، عن الحسن، قَالَ: لقي رجل رجلاً، فَقَالَ له: ما هذا إني أراك قد تغير لونك، ونحل جسمك، فما هو؟
فَقَالَ الآخر: وإني أرى ذلك، فمم هو؟
قَالَ: أصبحت منذ ثلاثة أيام صائمًا، فلما أتيت بإفطاري، عرضت لي هذه الآية:{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 6 - ، 17].
فلم أستطع أن أتعشى، فأصبحت صائمًا، فلما أتيت بعشائي أيضًا، عرضت لي أيضاً، فلم أستطع أن أتعشى، فلي ثلاث منذ أنا صائم، قَالَ: يقول الرجل الآخر: وهي التي عملت بي هذا العمل.
ومن طريق خليد بن حسان الهجري، قَالَ: أمسى الحسن صائمًا فأتي بعشائه، فعرضت له هذه الآية:{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا}
[المزمل: 12، 13] فقلصت يده، وقال: ارفعوه، فأصبح صائمًا، فلما أمسى، أتي بإفطاره، عرضت له، فَقَالَ ارفعوه فقلنا: يا أبا سعيد، تهلك وتضعف!! فأصبح اليوم الثالث صائمًا، فذهب ابنه إِلَى يحيى البكاء وثابت البناني ويزيد الضبي، فَقَالَ: أدركوا أبي، فإنَّه هالك، فلم يزالوا به، حتى سقوه شربة ماء من سويق.
ومن طريق صالح المري قَالَ: كاد عطاء السلمي، قد أضر بنفسه حتى ضعف، فقلت له: إنك قد أضررت بنفسك، وأنا متكلف لك شيئًا، فلا ترد كرامتي، قَالَ: أفعل، قَالَ: فاشتريت سويقًا، من أجود ما وجدت، وسمنًا، قَالَ: فجعلت له شريبة، فلتتها وحليتها، وأرسلت بها مع ابني وكوزًا من ماء، وقلت له: لا تبرح حتى يشربها، فرجع، فَقَالَ: قد شربها، فلما كان من الغد، جعلت له نحوها، ثم سرحت بها مع ابني، فرجع بها لم يشربها، قَالَ: فأتيته فلمته، فقلت: سبحان الله! أرددت علي كرامتي؟! إن هذا مما يعينك ويقويك عَلَى الصلاة، وعلى ذكر الله تعالى، قَالَ: فلما رآني قد وجدت (1) من ذلك، قَالَ: يا أبا بشر، لا يسؤك الله قد شربتها أول ما بعثت بها، فلما كان الغد راودت نفسي عَلَى أن أسيغها، فما قدرت عَلَى ذلك، إذا أردت أن أشربه أذكر هذه الآية:{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] فبكى صالح عند هذا، وقال قلت لنفسي؟ ألا أراني في واد وأنت في آخر.
وروى الإمام أحمد بإسناده، عن صالح المري، عن عطاء السلمي، قَالَ: كنت إذا ذكرت جهنم، ما يسيغني طعام ولا شراب.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد، من طريق مرجى بن وداع، قَالَ: انطلقت مع صالح المري، فدخلنا عَلَى عطاء السلمي، فقلنا له: يا عطاء، تركت الطعام والشراب؟!
قَالَ: إني إذا ذكرت صديد أهل النار لم أسغه.
(1) وجدت: غضبت.
وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده، عن عبد المؤمن الصائغ، قَالَ: دعوت رباحًا القيسي ذات ليلة إِلَى منزلي، فجاءني في السحر، فقربت إِلَيْه طعامًا، فأصاب منه شيئًا، فقلت: ازدد فما أراك شبعت، قَالَ: فصاح صيحة أفزعتني، وقال: كيف أشبع أيام الدُّنْيَا، وشجرة الزقوم بين يدي طعام الأثيم، قَالَ: فرفعت الطعام من بين يديه، فقلت: أنت في شيء ونحن في شيء.
وبإسناده عن أبي سعد (*)، قَالَ: دخل عبيد الله بن الوليد، عَلَى حبابة التيمية، فعدمت له سمنًا وخبزًا وعسلاً، فَقَالَ: يا حبابة ما تخافين أن يكون بعد هذا الضريع، قَالَ: فما زال يبكى وتبكي، حتى قام ولم يأكل شيئًا.
وبإسناده عن سوار بن عبد الله القريعي، قَالَ: كنا مع عمرو بن درهم في بعض السواحل، وقال: وكان لا يأكل إلَاّ من السحر إِلَى السحر، فجئنا بطعام، فلما رفع الطعام إِلَى فيه، سمع بعض المتهجدين وهو يقرأ:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43، 44] فغشي عليه، وسقطت اللقمة من يده، فلم يفق إلَاّ بعد طلوع الفجر، فمكث بذلك سبعًا، لا يطعم شيئًا، كما قرب إِلَيْهِ عام، عرضت له الآية، فيقوم ولا يطعم شيئًا، فاجتمع إِلَيْه أصحابه، فقالوا: سبحان الله! تقتل نفسك؟! فلم يزالوا به حتى أصاب شيئًا.
وبإسناده عن محمد بن سويد، قَالَ: كان لطاووس طريقان إذا رجع من المسجد، أحدهما فيه رواس، وكان يرجع إذا صلّى المغرب، فإذا أخذ الطريق الَّذِي فيه الرواس لم يتعش، فقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إذا رأيت تلك الرؤوس كالحة لم أستطع آكل.
وذكر مالك بن أنس هذه الحكاية، عن طاووس، قَالَ مالك: يعني لقول الله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104]
وروى ابن أبي الدُّنْيَا أيضاً بإسناده عن عبد الله بن عمر أنّه شرب ماء باردًا فبكى واشتد بكاؤه، فقيل: ما يبكيك؟ فَقَالَ: ذكرت آية في كتاب الله قوله:
(*) في المطبوع: "عن أبي سعيد".
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئًا، شهوتهم الماء البارد، وقد قَالَ الله تعالى:{أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50].
وعن سلام بن أبي مطيع، قَالَ: أتي الحسن بكوز من ماء، ليفطر عليه، فلما أدناه إِلَى فيه بكى، وقال: ذكرت أمنية أهل النار وقولهم: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50] وذكرت ما أجيبوا به {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} .
وعن عبد الملك بن مروان، أنه شرب ماء باردًا، فقطعه ثم بكى، فقيل: له ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟!
قَالَ: ذكرت شدة العطش يوم القيامة، وذكرت أهل النار وما منعوا من بارد الشراب، ثم قرأ:{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17].
وروى عبد الله بن الإمام أحمد، بإسناده عن إبراهيم النخعي، قَالَ: ما قرأت هذه الآية إلَاّ ذكرت برد الشراب، وقرأ:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54].
واستسقى محمد بن مصعب العابد ماء، فسمع صوت البراد، وقال لنفسه: من أين لك في النار براد؟ ثم قرأ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29].
***