الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لكنه كشف عن جلال يقينهم وسمو معرفتهم بالله وإجماعهم على إفراده بالعبادة، وازدرائهم لكل انحراف إلى الشرك " ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذن شططاً ".
كما كشف عن تبرمهم الشديد بالمجتمع الوثنى وعزوفهم عن البقاء فيه، وخشيتهم من العودة إليه إذا ضبطوا متلبسين بإيمان!
وانظر مدى كراهيتهم للكفر، والوقوع تحت سطوة أهله، وقول بعضهم لبعض " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً! " [الكهف: 20]
إن العيش بمبدأ كريم ولمبدأ كريم شىء عظيم حقاً.
وإنما يتفجر الفداء والإخلاص من عمق هذه الحياة الرفيعة.
والأمة العربية فتكت بها أمراض الرياء، وعلل التعاظم الأجوف والرغبة فى الظهور بالحق أو بالزور، ولا يمكن أن تنهض أمة مع هذه الأدواء الخسيسة!
إننا بحاجة إلى أعداد كبيرة من الجنود المجهولين، يعملون فى ألف ميدان، ويسدون ألف ألف ثغرة.
فهل يوجد من يكتفون بنظر الله إليهم، ويستغنون عن أنظار الناس؟
التنادى بالجهاد المقدس
فى صدر تاريخنا، وعلى امتداده مع الزمن، كان العالم الإسلامى يعرف بحبه للجهاد وارتضائه لأشق التضحيات كى يحق الحق ويبطل الباطل.
كان هذا العالم الرحب عارم القوى الأدبية والمادية حتى يئس المعتدون من طول الاشتباك معه، فقد كبح جماحهم، وقلم أظفارهم ورد فلولهم مذعورة من حيث جاءت، أو ألحق بهم من المغارم والآلام ما يظل بينهم عبرة متوارثة وتأديباً مرهوباً..
ويرجع ذلك إلى أمور عدة:
أولها: أن الحقائق الدينية عندنا لا تنفك أبداً عن أسباب صيانتها ودواعى حمايتها، فهى مغلفة بغطاء صلب يكسر أنياب الوحوش إذا حاولت قضمها.
وذلك هو السر فى بقاء عقائدنا سليمة برغم المحاولات المتكررة لاستباحتها، تلك المحاولات التى نجحت فى اجتياح عقائد أخرى أو الانحراف بها عن أصلها.
ثم إن الإسلام جعل حراسة الحق أرفع العبادات أجراً، أجل فلولا يقظة أولئك الحراس وتفانيهم ما بقى للإيمان منار، ولا سرى له شعاع " قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد فى سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه! فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثة، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه! ثم قال: مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام.. حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله " [البخارى] .
وإذا كان فقدان الحياة أمراً مقلقاً لبعض الناس فإن ترك الدنيا بالنسبة لبعض المجاهدين بداية تكريم إلهى مرموق الجلال شهى المنال حتى أن النبى صلى الله عليه وسلم حلف يرجو هذا المصير.
" والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل "[البخارى] .
فأى إغراء بالاستماتة فى إعلاء كلمة الله ونصرة الدين أعظم من هذا الإغراء؟
لقد كانت صيحة الجهاد المقدس قديماً تجتذب الشباب والشيب وتستهوى الجماهير من كل لون، فإذا سيل لا آخر له من أولى الفداء والنجدة يصب فى الميدان المشتعل. فما تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن تكوى أعداء الله وتلقنهم درساً لا ينسى.
هل أصبحت هذه الخصائص الإسلامية ذكريات مضت أم أنها محفورة فى عقلنا الباطن تحتاج إلى من يزيل عنها الغبار وحسب؟
إن الاستعمار الذى زحف على العالم الإسلامى خلال كبوته الأخيرة بذل جهوداً هائلة لشغل المسلمين عن هذه المعانى أو لقتل هذه الخصائص النفسية فى حياتهم العامة، وذلك ليضمن فرض ظلماته ومظالمه دون أية مقاومة!
وقد توسل إلى ذلك بتكثير الشهوات أمام العيون الجائعة، وتوهين العقائد والفضائل التى تعصم من الدنايا، وإبعاد الإسلام شكلاً وموضوعاً عن كل مجال جادة، وتضخيم كل نزعة محلية أو شخصية تمزق الأخوة الجامعة وتوهى الرباط العام بين أشتات المسلمين.
وقد أصاب خلال القرن الأخير نجاحاً ملحوظاً فى سبيل غايته تلك..
ومن ثم لم تنجح محاولات تجميع المسلمين لصد العدو الذى جثم على أرضهم واستباح مقدساتهم..
وما قيمة هذا التجميع إذا كان الذين ندعوهم قد تحللوا من الإيمان وفرائضه، والقرآن وأحكامه.
إن تجميع الأصفار لا ينتج عدداً له قيمة!!
وإن الجهد الأول المعقول يكمن فى رد المسلمين إلى دينهم، وتصحيح معالمه ومطالبه فى شئونهم، ما ظهر منها وما بطن..
عندئذ يدعون فيستجيبون ويكافحون فينتصرون، ويحتشدون فى معارك الشرف فيبتسم لهم النصر القريب وتتفتح لهم جنات الرضوان.
إن الرجل ذا العقيدة عندما يقاتل لا يقف دونه شىء.
أعجبتنى هذه القصة الرمزية الوجيزة، أسوقها هنا لما تنضح به من دلالة رائعة:
" حكوا عن قوم فيما مضى كانوا يعبدون شجرة من دون الله، فخرج رجل مؤمن من صومعته وأخذ معه فأساً ليقطع بها هذه الشجرة، غيرة لله وحمية لدينه! فتمثل له إبليس فى صورة رجل وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: أقطع تلك الشجرة التى تعبدون من دون الله، فقال له: اتركها وأنا أعطيك درهمين كل يوم، تجدهما تحت وسادتك إذا استيقظت كل صباح!..
" فطمع الرجل فى المال، وانثنى عن غرضه، فلما أصبح لم يجد تحت وسادته شيئاً، وظل كذلك ثلاثة ايام، فخرج مغضباً ومعه الفأس ليقطع الشجرة! قال: ارجع فلو دنوت منها قطعت عنقك..
" لقد خرجت فى المرة الأولى غاضباً لله فما كان أحد يقدر على منعك! أما هذه المرة فقد أتيت غاضباً للدنيا التى فاتتك، فما لك مهابة، ولا تستطيع بلوغ إربك فارجع عاجزاً مخذولاً.. ".
إن الغزو الثقافى للعالم الإسلامى استمات فى محو الإيمان الخالص وبواعثه المجردة، استمات فى تعليق الأجيال الجديدة بعرض الدنيا ولذة الحياة، استمات فى إرخاص المثل الرفيع وترجيح المنافع العاجلة..
ويوم تكثر النماذج المعلولة من عبيد الحياة ومدمنى الشهوات فإن العدوان يشق طريقه كالسكين فى الزبد، لا يلقى عائقاً ولا عنتاً..
وهذا هو السبب فى جؤارنا الدائم بضرورة بناء المجتمع على الدين وفضائله، فإن ذلك ليس استجابة للحق فقط، بل هو السياج الذى يحمينا فى الدنيا كما ينقذنا فى الآخرة..
إن ترك صلاة ما قد يكون إضاعة فريضة مهمة، واتباع نزوة خاصة قد تكون ارتكاب جريمة مخلة، لكن هذا أو ذاك يمثلان فى الأمة المنحرفة انهيار المقاومة المؤمنة والتمهيد لمرور العدوان الباغى دون رغبة فى جهاد أو أمل فى استشهاد، ولعل ذلك سر قوله تعالى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً "[مريم 59] .
إن كلمة الجهاد المقدس إذا قيلت ـ قديماً ـ كان لها صدى نفسى واجتماعى بعيد المدى، لأن التربية الدينية رفضت التثاقل إلى الأرض والتخاذل عن الواجب، وعدت ذلك طريق العار والنار وخزى الدنيا والآخرة.
وهذه التربية المغالية بدين الله، المؤثرة لرضاه أبداً هى التى تفتقر إليها أمتنا الإسلامية الكبرى فى شرق العالم وغربه.
وكل مؤتمر إسلامى لا يسبقه هذا التمهيد الحتم فلن يكون إلا طبلاً أجوف!
والتربية الدينية التى ننشدها ليست ازوراراً عن مباهج الحياة التى تهفو إليها نفوس البشر، ولكنها تربية تستهدف إدارة الحياة على محور من الشرف والاستقامة،
وجعل الإنسان مستعداً فى كل وقت لتطليق متعه إذا اعترضت طريق الواجب.
كنت أقرأ مقالاً مترجماً فى أدب النفس فاستغربت للتلاقى الجميل بين معانيه وبين مواريثنا الإسلامية المعروفة التى يجهلها للأسف كثير من الناس.
تأمل معى هذه العبارة:
" يقول جوته الشاعر الألمانى: من كان غنياً فى دخيلة نفسه فقلما يفتقر إلى شىء من خارجها! "
أليس ذلك ترجمة أمينة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس "! [البخارى]
عن أبى ذر رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: فترى قلة المال هو الفقر؟ فقلت: نعم يا رسول الله. قال: إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب "..
واسمع هذه العبارة من المقال المذكور:
" النفس هى موطن العلل المضنية، وهى الجديرة بالعناية والتعهد، فإذا طلبت منها أن تسوس بدنك سياسة صالحة فاحرص على أن تعطيها من القوت ما تقوى به وتصح..
" هذا القوت شىء آخر غير الأخبار المثيرة والملاهى المغرية والأحاديث التافهة والملذات البراقة التافهة، ثم انظر إليها كيف تقوى بعد وتشتد، إن التافه الخسيس مفسدة للنفس! واعلم أن كل فكرة تفسح لها مكاناً فى عقلك، وكل عاطفة تتسلل إلى فؤادك تترك فيك اثرها، وتسلك بك أحد طريقين: إما أن تعجزك عن مزاولة الحياة وإما أن تزيدك اقتداراً وأملاً ".
أليس هذا الكلام المترجم شرحاً دقيقاً لقول البوصيرى:
وإذا حلت الهداية نفساً
نشطت للعبادة الأعضاء!
وتمهيداً حسناً لقول ابن الرومى:
أمامك فانظر أى نهجيك تنهج
طريقان شتى مستقيم وأعوج
واقرأ هذه الكلمات أيضاً فى المقال المترجم: " رب رجل وقع من الحياة فى مثل الأرض الموحلة فكادت تبتلعه، ولكنه ظل يجاهد للنجاة مستيئساً، وبينا هو كذلك انهارت قواه وشق عليه الجهاد وأسرعوا به إلى الطبيب.. الطبيب لم يجد بجسده علة ظاهرة. كل ما يحتاج إليه الرجل ناصح يعلمه كيف ينازل الحياة وجهاً لوجه لا تثنيه عقبة ولا رهبة ".
إن هذا الكلام يذكرنى بما روى عن جعفر الصادق: من طلب ما لم يخلق تعب ولم يرزق! قيل وما ذاك؟ قال: الراحة فى الدنيا.
وأنشدوا:
يطلب الراحة فى دار الفنا
خاب من يطلب شيئاً لا يكون
إن التربية التى ننشدها نحن المسلمين ليست بدعاً من التفكير الإنسانى الراشد، إنها صياغة الأجيال فى قوالب تجعلها صالحة لخدمة الحق وأداء ضرائبه، واحتقار الدنيا يوم يكون الاستمساك بها مضيعة للإيمان ومغاضبة للرحمن..
والاستعمار يوم وضع يده على العالم الإسلامى من مائة سنة صب الأجيال الناشئة فى قوالب أخرى، نمت بعدها وهى تبحث عن الشهوات وتخلد إلى الأرض، فلما ختلها عن دينها بهذه التربية الدنيئة استمكن من دنياها فأمست جسداً ونفساً لا تملك أمرها، ولا تحكم يومها ولا غدها..
بل إنها فى تقليدها للعالم الأقوى تقع فى تفاوت مثير:
عندما ننقل المباذل ومظاهر التفسخ فى الحضارة الغربية ننقلها بسرعة الصوت، أما عندما ننقل علماً نافعاً وخيراً يسيراً فإن ذلك يتم بسرعة السلحفاة.
وكثير من الشعوب الإسلامية تبيع ثرواتها المعدنية والزراعية بأكوام من المواد المستهلكة وأدوات الزينة والترف مع فقرها المدقع إلى ما يدفع عنها جشع العدو ونياته السود فى اغتيالها وإبادتها!
وظاهر أن هذا السلوك استجابة طبيعية لأسلوب التربية الذى أخذت به منذ الصغر، وأثر محتوم لاتخاذ القرآن مهجوراً، ونبذ تعاليمه وقيمه، وهل ينتج ذلك إلا طفولة تفرح باللعب المصنوعة والطرف الجديدة والملابس المزركشة، والمظاهر الفارغة؟
ولا بأس بعد توفير ذا كله من استصحاب بعض الآثار الدينية السهلة!
ولتكن هذه الآثار الاحتفال بذكرى قديمة أو زيارة قبر شهير!
ثم يسمى هذا السلوك التافه تديناً!
لقد جرب المسلمون الانسلاخ عن دينهم واطراح آدابه وترك جهاده فماذا جر عليهم ذلك؟ حصد خضراءهم فى الأندلس فصفت منهم بلاد طالما ازدانت بهم وعنت لهم، وما زال يرن فى أذنى قول الشاعر:
قلت يوماً لدار قوم تفانوا
أين سكانك العزاز علينا؟
فأجابت هنا أقاموا قليلاً
ثم ساروا ولست أعلم أينا!
أسمعت هذا النغم الحزين يروى فى اقتضاب عقبى اللهو واللعب، عقبى إضاعة الصلوات واتباع الشهوات.. إن عرب الأندلس لم يتحولوا عن دارهم طائعين ولكنهم خرجوا مطرودين.
أفلا يرعوى الأحفاد مما أصاب الأجداد؟
لقد قرأت أنباء مؤتمرات عربية وإسلامية كثيرة اجتمعت لعلاج مشكلة فلسطين، فكنت أدع الصحف جانباً ثم أهمس إلى نفسى: هناك خطوة تسبق كل هذا، خطوة لا غنى عنها أبداً:
هى أن يدخل المسلمون فى الإسلام..
إننى ألمح فى كل ناحية استهانة بالفرائض، وتطلعاً إلى الشهوات، وزهادة فى المخاطرة والنقب وإيثاراً للسطوح على الأعماق والأشكال عن الحقائق، وهذه الخلال تهدم البناء القائم. فكيف تعيد مجداً تهدم أو ترد عدواً توغل..؟
ما أحرانا أن نعقل التحذير النبوى الكريم " إنما أخشى عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى " فإذا أصغينا إلى هذا النذير ابتعدنا عن منحدر ليست وراءه إلا هاوية لا قرار لها، ثوى فيها قبلنا المفرطون والجاحدون.
دين زاحف مهما كانت العوائق
كلما قرأت أبواب الفتن فى كتب السنة شعرت بانزعاج وتشاؤم، وأحسست أن الذين أشرفوا على جمع هذه الأحاديث قد أساءوا ـ من حيث لا يدرون ومن حيث لا يقصدون ـ إلى حاضر الإسلام ومستقبله!
لقد صوروا الدين وكأنه يقاتل فى معركة انسحاب، يخسر فيها على امتداد الزمن أكثر مما ربح!
ودونوا الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها القريبة فظهرت وكأنها تغرى المسلمين بالاستسلام للشر، والقعود عن الجهاد، واليأس من ترجيح كفة الخير لأن الظلام المقبل قدر لا مهرب منه.
وماذا يفعل المسلم المسكين وهو يقرأ حديث أنس بن مالك الذى رواه البخارى عن الزبير بن عدى قال: شكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج فقال: اصبروا فإنه لا يأتى عليكم زمان إلا الذى بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم "!!
وظاهر الحديث أن أمر المسلمين فى إدبار، وأن بناء الأمة كلها إلى انهيار على اختلاف الليل والنهار!
…
نذكرها، كما يخالف الأحداث التى وقعت فى العصر الأموى نفسه!
فقد جاء الوليد بن عبد الملك فمد رقعة الإسلام شرقاً حتى احتوت أقطاراً من الصين وامتدت رقعة الإسلام غرباً حتى شملت أسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا.
ثم تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز فنسخ المظالم السابقة، وأشاع الرخاء حتى عز على الأغنياء أن يجدوا الفقراء الذين يأخذون صدقاتهم!
ولقد أتى بعد أنس بن مالك عصر الفقهاء والمحدثين الذين أحيوا الثقافة الإسلامية وخدموا الإسلام أروع وأجل خدمة، فكيف يقال: إن الرسالة الإسلامية الخاتمة كانت تنحدر من سيئ إلى أسوأ؟؟ هذا هراء.
الواقع أن أنساً رضى الله عنه كان يقصد بحديثه منع الخروج المسلح على الدولة بالطريقة التى شاعت فى عهده ومن بعده، فمزقت شمل الأمة، وألحقت بأهل الحق خسائر جسيمة، ولم تنل المبطلين بأذى يذكر.
ـ وأنس بن مالك أشرف ديناً من أن يمالئ الحجاج أو يقبل مظالمه، ولكنه أرحم بالأمة من أن يزج بأتقيائها وشجعانها فى مغامرات فردية تأتى عليهم، ويبقى الحجاج بعدها راسخاً مكيناً!
ـ وتصبيره الناس حتى يلقوا ربهم ـ أى حتى ينتهوا هم ـ لا يعنى أن الظلم سوف يبقى إلى قيام الساعة، وأن الاستكانة الظالمة سنة ماضية إلى الأبد!
إن هذا الظاهر باطل يقيناً، والقضية المحدودة التى أفتى فيها أنس لا يجوز أن تتحول إلى مبدأ قانونى يحكم الأجيال كلها..
لقد سلخ الإسلام من تاريخه المديد أربعة عشر قرناً، وسيبقى الإسلام على ظهر الأرض ما صلحت الأرض للحياة والبقاء وما قضت حكمة الله أن يختبر سكانها بالخير والشر.
ويوم ينتهى الإسلام من هذه الدنيا فلن تكون هذه دنيا لأن الشمس ستنطفئ والنجوم ستنكدر، والحصاد الأخير سيطوى العالم أجمع!
فليخسأ الجبناء دعاة الهزيمة وليعلموا أن الله أبر بدينه وعباده مما يظنون.
لقد ذكر لى بعضهم حديث " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء " [رواه أحمد
والجماعة] وكأنه يفهم منه أن الإسلام سينكمش ويضعف وأن على من يسمع هذا الحديث أن يهادن الإثم، ويداهن الجائرين ويستكين للأفول الذى لا محيص عنه!
وإيراد الحديث وفهمه على هذا النحو مرض شائع قديم.
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى صلاح الدين الأيوبى ما فكر فى استنقاذ بيت المقدس من الصليبيين القدامى!
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نهض إلى دحر التتار فى " عين جالوت "!
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى زعماء الفكر الإسلامى فى عصرنا الحاضر ابتداء من جمال الدين الأفغانى إلى الشهداء والأحياء من حملة اللواء السامق ما فكروا أن يخطوا حرفاً أو يكتبوا سطراً!
وقلت فى نفسى: أيكون الإسلام غريباً وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق الإحصاءات الأخيرة ثمانمائة مليون نفس؟
يا للخذلان والعار!
الواقع أن هذا الحديث وأشباهه يشير إلى الأزمات التى سوف يواجهها الحق فى مسيرته الطويلة فإن الباطل لن تلين بسهولة قناته بل ربما وصل فى جرأته على الإيمان أن يقتحم حدوده ويهدد حقيقته، ويحاول الإجهاز عليه!
وعندما تتجلى الظلماء عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يقاومون الضلال بجلد، ولا يستوحشون من جو الفتنة الذى يعيشون فيه، ولا يتخاذلون للغربة الروحية والفكرية التى يعانونها، ولا يزالون يؤدون ما عليهم لله حتى تنقشع الغمة ويخرج الإسلام من محنته مكتمل الصفحة، بل لعله يستأنف زحفه الطهور فيضم إلى أرضه أرضاً وإلى رجاله رجالاً.
وذلك ما وقع خلال أعصار مضت، وذلك ما سيقع خلال أعصار تجىء، وهذا ما ينطق به حديث الغربة الآنف، فقد جاء فى بعض رواياته:
" طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتى "[راجع فى روايات الحديث كلها كتاب " غربة الإسلام " لابن رجب الحنبلى] فليست الغربة موقفاً سلبياً عاجزاً، إنها جهاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الرديئة ويلقى الدين حظوظاً أفضل.
وليس الغرباء هم التافهون من مسلمى زماننا، بل هم الرجال الذين رفضوا الهزائم النازلة وتوكلوا على الله فى مدافعتها حتى تلاشت!
والفتن التى لا شك فى وقوعها والتى طال تحذير الإسلام منها فتنة التهارش على الحكم والتقاتل على الإمارة ومحاولة الاستيلاء على السلطة بأى ثمن، وما استتبعه ذلك من إهدار للحقوق والحدود، وعدوان على الأموال والأعراض.. وهذا المرض كان من لوازم الطبيعة الجاهلية التى عاشت على العصبية العمياء..
والعرب فى جاهليتهم ألفوا هذا الخصام والتعادى، فهم كما قال دريد بن الصمة:
يغار علينا واترين فيشتفى
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
فما ينقضى إلا ونحن على شطر
وما رواه أحمد عن تميم الدارمى يؤيده ما رواه عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، أما الذين يعزهم الله فيجعلهم من أهلها وأما الذين يذلهم الله فيدينون لها "[رواه ابن حبان كما فى الزوائد للهيثمى رقم (1621) وجماعة. راجع الأحاديث الصحيحة للألبانى (1 / 7) ] .
وكذلك ما رواه عن قبيصة بن مسعود: صلى هذا الحى من محارب ـ اسم قبيلة ـ الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن
عمالها ـ أمراءها ـ فى النار إلا من اتقى وأدى الأمانة ".
ويقول صاحب المنار فى نهاية تفسيره لقوله تعالى: " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم.. ": اعلم أن الاستدلال بما ورد من أخبار وآثار فى تفسير هذه الآية لا يدل هو ولا غيره من أحاديث الفتن على أن الأمة الإسلامية قد قضى عليها بدوام ما هى عليه الآن من الضعف والجهل كما يزعم الجاهلون بسنن الله اليائسون من روح الله، بل توجد نصوص أخرى تدل على أن لجوادها نهضة من هذه الكبوة، وأن لسهمها قرطة بعد هذه النبوة كالآية الناطقة باستخلافهم فى الأرض ـ سورة النور ـ فإن عمومها لم يتم بعد، وكحديث " لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، وحتى
يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق " رواه أحمد..
" والشطر الأول منه لم يتحقق بعد، ويؤيده ويوضح معناه ما صح عن مسلم من أن ساحة المدينة المنورة سوف تبلغ الموضع الذى يقال له اهاب، أى أن مساحتها ستكون عدة أميال، فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين.. " ولتعلمن نبأه بعد حين ".
وخطأ كثير الشراح جاء من فهمهم أن ترك الشر هو غاية التدين وأن اعتزال الفتن هو آية الإيمان.
وهذا عجز سببه ضعف الهمة وسقوط الإرادة.
وإنى لأذكر فيه قول المتنبى:
إنا لفى زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان واجمال
أجل، فإن ترك الصغائر غير بلوغ الأمجاد، وتجنب التوافه والرذائل غير إدراك العظائم وتسنم الهام، والتلميذ الذى لا يسقط شىء والذى يحرز الجوائز شىء آخر!
والرسول الكريم عندما يأمرنا باعتزال الفتن لا ينهى واجبنا عن هذا الحد..
سوف يبقى بعد ذلك الاعتزال الواجب بناء الأمة على الحق ومد شعاعاته طولاً وعرضاً حتى تنسخ كل
ظلمة..
ولا نمارى فى أن تصدعات خطيرة أصابت الكيان الإسلامى قديماً وحديثاً.. بيد أن الضعاف وحدهم هم الذين انزووا بعيداً يبكون، ويتشاءمون، وينتظرون قيام الساعة!!
أما الراسخون فى العلم فقد أقبلوا على رتق الفتوق، وجمع الشتات، وإعادة البناء الشامخ حتى يدركهم الموت أو القتل وهم مشتغلون بمرضاة الله، حتى يبلغ الإسلام مواقع النور والظل من أرض الله أو كما قال الرسول العظيم " ما بلغ الليل والنهار "..
قال الإنسان وقال الحيوان
نحن نعلم أن عدداً من حملة الأقلام قد صنعت رؤوسهم خارج هذه البلاد، وأن تصورهم لكثير من الحقائق وحكمهم فى كثير من القضايا لا صلة له بتراثنا ولا ارتباط له برسالتنا، وأن آخر ما يكترثون له أو يهتمون به هو الإسلام وحاضره ومستقبله، وإن كانت أسماؤهم إسلامية.
وكنت أحسب أن معركة المصير بيننا وبين بنى إسرائيل ستكرههم على مراجعة أنفسهم وتصحيح أخطائهم، ولكننى كنت واهماً.
لقد استيقظ بنو إسرائيل وهاجت فى دمائهم غطرسة الماضى، وانحرافات التدين ولوثات التعصب، وهجموا على بلادنا يبغون محو أمة وحضارة، وفى أيديهم كل ما استحدث العلم من أدوات الفتك!
وفى ملاقاة هذا العدوان تقرأ لكاتب روايات مصرى إنه مسرور من الجيل الحاضر لأنه يحسن الرقص والغناء!
قبحك الله من كاتب مكفوف البصيرة!
وفى هذا الاتجاه الضرير ينشر كاتب آخر مقالات مسهبة عن " الشخصية المصرية " يمهد فيها طريق الشهوة ويرسم لها الأهداف الوضيعة.
وتستغرب وأنت تقرأ فى صحيفة الأهرام مقالاته، فى أى عصر يعيش هذا الكاتب، ولأى جيل يكتب؟
نعم لقد ذهب " توفيق الحكيم " إلى باريس لا ليسأل: كيف دخل الفرنسيون النادى الذرى؟ ولا ليبحث كيف يحاول جواسيس الصهيونية سرقة أسرار طائرات " الميراج "؟ ولا ليحقق كيف أقامت فرنسا قوة ثالثة تريد أن تضارع جبابرة الأرض؟ لا.. إن شيئاً من ذلك لا يعنيه.
إنه ذهب ليزيد القراء العرب فهماً فى الأمور الجنسية، وليمد حريق الشهوات بوقود جديد يأتى على الأخضر واليابس..
ذكر لنا الكاتب الجاد الناضج كيف أن زوجين لم يحسنا الوقاع! وكيف أن طبيباً عالجهما حتى أحسناه! وكيف شاهد مع الجمهور الفرنسى على " شاشة
المسرح ": التطبيق العملى من الزوجين لما سمعاه وعرفاه من الطبيب، فظهرا عاريين يمارسان هذه العلاقة فى أتم وأكمل وجوهها "!
ويمضى كاتب الأهرام الوقور فى عرض ما راقه من صور فرنسية فيقول: " صادقت فى الحى " سينما " أخرى تعرض قصة عنوانها " الزواج الجماعى ".. جماعة من الأزواج الشباب اتفقوا بينهم على أن يعيشوا فى حياة مشتركة وأن يتقاسموا بينهم كل شىء وأن يناموا فى حجرة واحدة، ونساؤهم مشاع لمن شاء منهم، للزوج أن يعاشر من تروق له من زوجات زملائه، وللزوجة أن تختار ما تريد من أزواج زميلاتها، كل ذلك بالرضا التام من الجميع، وكأن الأمر رغيف خبز تتناوله الأيدى والأفواه.. ثم شاهدنا هذه العلاقات الجنسية تتم أمامنا بكل تفصيلاتها التى تخدش الحياء.. " الخ.
ونترك صورة هذا القطيع من الفتيات والفتيان المتصالح على الزنا الجماعى أو على الفسوق القذر.. لنترك هذا القطيع فى جوه المنتن لنقرأ كاتب الأهرام الفيلسوف "! " وهو يقرر رأيه فى هذا الموضوع.. قال " جعلت أفكر فى الأمر مستعرضاً ما سبق من حضارات كبرى فوجدت بعض التشابه. إن سمة الحضارة فى كل عصر هى البحث عن الحقيقة، ولا حياء فى البحث عن الحقيقة، خصوصاً ما يتعلق بالإنسان وأسباب وجوده المادى والروحى، فكانت حضارة مصر القديمة والهند ترسم وتنحت فى المعابد بعض الأعضاء التناسلية رمزاً للحياة.. بل إن كتب الأدب العربى القديم لأمثال الجاحظ وابن عبد ربه كانت تتحدث عن الجنس كما تتحدث عن الطعام، وأكثر هذه الكتب لا يخلو من باب للطعام وباب للباه، وما كان أحد وقتئذ يرى فى ذلك بأساً ولا حرجاً، ولكن يظهر أنه عندما تأخذ الحضارات فى الانحطاط تكثر المحظورات، وتسدل البراقع على كثير من الموضوعات، إلى أن تمتد إلى روح المعرفة وعادة البحث فتصيبها بالشلل وبهذا يقتل العلم وتخسر الحضارة ".
هذا هو فكر كاتب الأهرام الكبير ودرسه لتاريخ الحضارات السابقة واللاحقة..
وظاهر من أسلوب الكاتب أنه لا يدرى شيئاً عن قضايا الحلال والحرام، ولا عن شرائع السماء فى السلوك الخاص والعام، ولا عن الطور العصيب الذى يمر به تاريخ العرب، بل سنرى أنه لا يدرى عن تاريخ الحضارات البشرية إلا هذه الأجزاء المبتورة
عن التماثيل المقامة لأعضاء التناسل، واقتران الطعام بالباه فى كتب الأدب العربى القديم!!
ومع هذا التطور المزرى فهو كاتب كبير يملك حق التوجيه للأجيال الجديدة من أعلى المنابر.
إن علماء الدين ما نادوا فى بلادنا يوماً ما بكبت الغريزة الجنسية، ونحن نقدس فطرة الله التى فطر الناس عليها، ونحترم رغبة الذكر والأنثى فى لقاء مقنع مشبع، وسبيل ذلك الزواج فحسب..
أما تيسير الزنا وتكثير أسبابه وتمهيد سبله وقبول نتائجه فهو ارتكاس إنسانى يصحب الأمم عندما تبدأ شمسها فى الغروب.
وتاريخ الأمة العربية والإسلامية معروف بأنه لم يعترف بالرهبانية كما لم يعترف بتبرج الجاهلية واستباحة الأعراض على نطاق ضيق أو واسع، فوصف الزنا العام بأنه زواج جماعى كلام قذر، وأى تمهيد لقبوله ـ كما ألمح الكاتب ـ مردود فى وجه صاحبه.
ثم إن العرب خلال هذا القرن قد حاقت بهم رزايا متلاحقة ثم استطاع عدوهم أن يضع أصابعه على مقاتلهم، وها هو يشد قبضته على خناقهم ليوردهم الحتوف.
وصيحة العلم والإيمان التى ارتفعت بيننا الآن هى أمل الحياة، فلحساب من تغرى أفواج الشباب بالانحلال والتردى، ويحددها كاتب مسلوخ عن الإيمان والعقل لتنسى ربها وشرفها ويومها وغدها!
نحن نعلم أن أوربا ارتقت فى العصور الأخيرة ارتقاءً بعيد المدى، لكنه من أكذب الكذب أن يجىء بعض الكتاب المصريين ليزعموا أن سبب ارتقائها هو انسلاخها عن مناهج الفطرة ومقتضيات الأدب.
إن أسباب النهوض شىء ومظاهر الانحلال شىء آخر، ولكى نعرف تفاهة كتابنا وانحدارهم الذهنى والنفسى ننقل إليك ما كتبه المؤرخ الإنجليزى الكبير " أرنولد توينبى " لتدرك منه حقيقة ما يتعرض له الكيان الأوربى من أخطار.
إن الأمراض التى يتعرض لها هذا الكيان المهتز هى هى " الخصائص البراقة "
التى يريد نقلها إلى بلادنا كتاب تائهون مثل توفيق الحكيم وغيره من ذوى الأسماء والمناصب!
قال توينبى [نشر المقال بالإنجليزية مجلة الإسلام الباكستانية، وترجمته إلى العربية مجلة رسالة الإسلام العراقية التى تصدر عن كلية أصول الدين ببغداد، والمقال طويل نقلنا منه نبذاً] تحت عنوان درس من التاريخ للإنسان المعاصر:
" لقد فشلت جميع جهودنا لحل مشكلاتنا بوسائل مادية بحتة، وأصبحت مشروعاتنا الجريئة موضع سخرية! إننا ندعى أننا خطونا خطوات كبيرة فى استخدام الآلات، وتوفير الأيدى العاملة، ولكن إحدى النتائج الغريبة لهذا التقدم تحميل المرأة فوق طاقتها من العمل، وهذا ما لم نشهده من قبل، فالزوجات فى أمريكا لا يستطعن أن ينصرفن إلى أعمال البيت كما يجب..
" إن امرأة اليوم لها عملان: العمل الأول من حيث هى أم وزوجة، والثانى من حيث هى عاملة فى الإدارات والمصانع، وقد كانت المرأة الإنجليزية تقوم بهذا العمل الثنائى فلم نؤمل الخير من وراء عملها المرهق، إذ أثبت التاريخ أن عصور الانحطاط هى تلك العصور التى تركت فيها المرأة بيتها..
" فى القرن الخامس قبل الميلاد حين وصلت اليونان إلى أوج حضارتها كانت المرأة منصرفة إلى عملها فى البيت، وبعد مجىء الإسكندر الكبير وسقوط دولة اليونان كانت هناك حركة تسوية شبيهة بالحركة التى نشهدها اليوم!..
" لقد نسوا الله (والكلام لتوينبى) حين وضعوا حلولاً لمعالجة الأمراض الاجتماعية انتهت بالأمم إلى علل مستعصية ومآس كبيرة..
" إن عصر الآلة أوجد لنا نقصاً لم يسبق له مثيل، نقصاً فى المساكن مثلاً، وخلق لنا فترات متناوبة من البطالة، ونقصاً فى الأيدى العاملة ".
ويقول توينبى: " لقد مشى الإنسان قديماً فى الطريق الذى مشى فيه اليوم، ووضع القواعد نفسها لتنظيم السير والمرور، والفرق الوحيد أن الأوائل استخدموا عربات الخيل بدل السيارات، وأن مخالفة تعليمات المرور لم تكن مروعة ومميتة كما هى اليوم..
" إن التقدم الفنى والصناعى ليس بحد ذاته دليل الحكمة أو ضمان البقاء، وإن الحضارات التى انبهرت وقنعت بمهارتها الآلية إنما كانت تخطو خطوة نحو الانتحار!..
" إن أحد مصادر الخطر على عصرنا الحاضر هو أننا تربينا على عبادة الوطن وعبادة الراية وعبادة التاريخ الماضى ـ العنصرى ـ ويجب على الإنسان أن يعبد الله وحده وأن يتمسك بالقانون الإلهى فى تكامل الفرد والمجتمع، وإن فشلنا لمحتم عندما نحيد عنه " هكذا يقول توينبى.
ومن عباراته فى هذا المقال: " لقد أقنعتنى دراستى لإحدى وعشرين حضارة أن الثقافة الخلاقة هى فقط الثقافة الصحيحة، تلك التى تتمكن من حل المشكلات المستجدة فى الظروف المختلفة..
" إن التقدم العلمى الحديث قد حل مشكلاتنا الصناعية بجدارة..
" ولكن مشكلات العصر ليست من ذلك النوع الذى يحل فى المختبرات، إنها مشكلات معنوية، ولا علاقة للعلم بالقضايا المعنوية ".
يعنى: أن الأمر فى هذه الأحوال لمنطق الإيمان، ولذلك يقول:
" قد يبدو هذا غريباً ولكن المدنيات الكبيرة بلغت نضجها وضمنت تكاملها بالتغيير الروحى "!
نقول: إن المؤرخ الأوربى الغيور على حضارته يلمح أسباب اعتلالها ويصف الدواء بحذق، أما الصحافى المصرى فهو يذهب إلى مسرح عابث فيصفه بإعجاب، ويتذكر أن مصر والهند كانتا قديماً تقيم التماثيل لأعضاء التناسل!!
أى فكر هذا؟ وكيف تتداعى المعانى المثيرة على هذا النحو فى ذهن أديب لتنشرها صحيفة كبرى؟
ومتى؟ فى أيام استعداد العرب لجولة أخرى مع بنى إسرائيل يحررون بها أرضهم ويدركون ثأرهم!
ما ننتظر غير هذا من أقلام شبت على العبث وشاخت فيه.. بيد أننا نلفت الشباب المسلم إلى حقائق قد تغيب عن ذهنه فى غمرة الأحداث.