الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ذكر من اسمه عبد الباقي]
[373]
عبد الباقي بن نصر بن هبة الله بن يحيى بن رضا، ابن العمرانيّ الأزديّ.
أصل آبائه من قرية تدعى العمرانيّة، من قرى الموصل الشرقية، يكنى أبا المظفر بن أبي الفتح؛ من أبناء الرؤساء الأجلاء، ومن بيت مشهور معروف في الولايات الديوانية، والأعمال /88 أ/ الجليلة السلطانية.
قد صحب الشيخ عبد العزيز بن أحمد بن هاجر الموصلي المقري، وختم عليه القرآن المجيد، وحفظه حفظاً جيداً، وقرأه للسبعة والعشرة، وسمع الحديث، وأتقن صدراً وافراً من فقه الإمام الشافعي رضي الله عنه على أبي المجد إسماعيل بن هبة الله بن باطيش الموصليّ، حتى تميّز فيه.
وكتب خطاص حسناّ؛ وكان يقول الشعر الرقيق، يمدح به الأعيان من الناس، ولم يقصد بذلك أجراً ولا رفداً، وحج بيت الله الحرام، وتزيّا بزيّ أهل الديانة والصلاح، ولم يكن في أهله وعترته مثله، في حسن طباعٍ وسلامة جانب.
نزل مدينة حلب في سنة أربع وعشرين وستمائة، واستوطنها، وكان يرتزق من جامكية المدرسة
…
النورية، مضافاً إلى مسجد كان يصلي فيه إماماً الصلوات الخمس، وكان له يد قوية في خياطة السجاجيد والمرقعات وربما تمشت أحواله بها، لكونه لم يكن له جهة غيرها.
لقيته بحلب المحروسة في سنة أربع وثلاثين وستمائة، واستنشدته شيئاً من أشعاره /88 ب/ فأنشدني كثيراً منها، إلاّ أني لم أقيد شيئاً عنه، لأنه كان يضنّ بها، ويعتذر إلى من قصوره في هذا الشأن.
وكان رجلاً تقياً ساكناً متواضعاً عاقلاً، ضعيف الحال، مستوراً، ليّن الجانب، خيّر، الطباع.
ولم يزل نحيفاً متمرضاً، وكان قد استولى عليه مرض السلّ حتى أذهب قوته، واصفرّ لونه، وبقى به برهة من الزمان يعالج نفسه ثالث جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وستمائة، ودفن بمقام الخليل إبراهيم –عليه السلام قبلي حلب.
وكانت ولادته فيما أخبرني من لفظه في الليلة المسفرة عن صباح يوم الثلاثاء الثالث عشر من صفر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، بالموصل بمحلة شاطئ النهر، بزقاق الاكلة.
وكان قد أوصى بعد موته؛ أن يغسل جميع ما قاله من الشعر، فغسله الموصى له فوقع عند بعض المعارف جزء فيه من شعره، وهو بخط يده، فاستعرته فتأملته فإذا فيه أقطاع متعددة، كان أنشدنيها /89 أ/ -رحمة الله- في حال مذاكرتي له.
ولازم الشيخ أبا عبد الفارقي المقرئ نحو عشر سنين، وقرأ عليه القرآن تجويداً، حتى أحكم قراءته غاية الإحكام، وشهد له شيخه في بالحذق في القراءة، ولم يكن بعد شيخه أبي عبد الله محمد الفارقي مثله في قراءة القرآن وآدابه وتجويده، ومخارج الحروف، وتفرّد بهذا الشأن على قرّاء وقته.
فمما أنشدني لنفسه؛ قوله: [من مجزوء الرجز]
كم وعدوا واخلفوا
…
وعاهدوا ولم يفوا
وكم دمٍ قد سفكوا
…
ومهجةٍ قد اتلفوا
وكم محبٍّ قتلوا
…
يوم النوى وانصرفوا
اظلُّ في آثارهم
…
مناشداً توقّفوا
ساروا ولم يرثو له
…
وفي الفيافي عسفوا
ترحلوا وفي الحدو
…
ج اغيدٌ مهمفهف
بطلعه كالبدر لـ
…
ـكنّ البدور تكسف
وقامةً كالغصن قد
…
جار عليها الهيف
ومبسم كالدُّورّ إذ
…
فتّح عنه الصّدف
/89 ب/ مزرفن الأصداغ لا
…
مي العذار أوطف
في خده وردٌ وفي
…
فيه سلافٌ قرقف
وفي سنى الحاظه
…
سيفٌ صقيلٌ مرهف
كم من دمٍ أراقه
…
بحدّه لو عرفوا
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من البسيط]
إن انجدوا جيرة الحدباء أو غاروا
…
أو اتهموا بالمطايا بعد ما ساروا
أو عذبوا عذب التعذيب أو بعدوا
…
قرٌبت حبّا وإن شطّت بي الدّار
وانكر الطّرف رؤياهم فإنّهم
…
طول المدى في سويدا القلب حضّار
لي في تذكرهم سرٌّ تتلى به معنّى
…
وإن أوحش القطا فلا عار
فالهتك صوني وعذلي في الهوى عذرٌ
…
وصحّتي سقمٌ والصّمت تذكار
هم هم واصلوا صدّوا دنوا بعدوا
…
أحبّتي عدلوا في الحكم أم جاروا
فتخضب الأرض منهم أيّةً سلكوا
…
فهم غيوثٌ لها حقّاً وأمطار
ونقلت من خطّة قوله: [من الكامل]
حتّى م أكتم لوعتي واستّر
…
ومدامعي تبدي الغرام فيظهر
/90 أ/ وأسرّ وجدي والحنين يذيعه
…
ولهيب أنفاسي بذلك تخبر
أهوى الملامة في الهوى ويسرني
…
عذل العواذل فيكم كي يذكروا
ويح العواذل في الملامة طوّلوا
…
عذلي ولو شهدوا
…
قصّروا
عذلوا بجهلهم وما عرفوا الهوى حقّاً ولو عرفواه مثلي اعذروا
قلّ الوفاء فلا حميمٌ يرتجى
…
للنائبات ولا صديقٌ يذخر
رفقاً بقلبي إنّ بين جوانحي
…
أسرار حبٍّ ولا صديقٌ يذخر
رفقاً بقلبي أنّ بين جوانحي
…
أسرار حبٍّ عن ضميري تضمر
لا تتهموني بالسّلوّ فأضلعي
…
أسرار حبّ عن صميري تضمر
واهدوا إلى جفني الرُّقاد عسى أرى
…
رؤياً تؤولّل باللّقا وتفسّر
حاشاي أضمر سلوةٌ عن حبكّم
…
وأعيذٌكم يا سادتي أن تهجروا
ونقلت من خطّة أيضاً شعره: [من البسيط]
كم في الحشا حرقٌ من زجرة الحادي
…
يوم الرحيل لصبٍّ مغرمٍ صادي
وكم دموعٍ جرت في إثر عيسهم
…
حتى تلاطم منها شاطئ الوادي
وكم محبّ لهم قد حلّقوا لقًى
…
لمّا تولّوا وأقوى منهم النّادي
تحمّلت عيسهم أرواحنا سحراً
…
ما أشبه الحيّ ........
ساروا فكم حسرةٍ في طيّها أسفٌ
…
في طيّها زفرةٌ في طي أكباد
/90 ب/ ونقلت من خطّه أيضاً قوله؛ وكان بإربل كما عرض وعنّ:
[من الطويل]
خضعت ذليلاً حين عزّ مرامي
…
وقلّ اصطباري حين زاد غرامي
وحالفني فرط السّهاد وملّني
…
جليسي وطرفي بالمدامع دامي
فمن منقذي من لوعة البين والأسى
…
ومهد إلى ربع الجيب سلامي
عساه بأن يرثي لما بي من الجوى
…
وينقذني من لوعتي وهيامي
وقوله: [من الرجز]
عصر الصّبا تصرّمت أيّامه
…
وانقرضت في حبكّم أعوامه
فما احتيال مغرمٍ ذي لوعةٍ
…
وفّى ولم يرع له ذمامه
حجّته ظاهرةٌ وإنّما
…
خصومه على الهوى حكّامه
ذلّته تعزّزٌ ورفعهٌ
…
كذاك في صحّته سقامه
أنفاسه .........
…
ودمعه يرويكم سجامه
يزداد وجداً وغراماً كلّما
…
تزايدت على الهوى لوّامه
وكلّنا تكاثرت عذّاله
…
زاد اشتياقاً ونما هيامه
/91 أ/ وقال وقد طلب منه المعنى: [من السريع]
زارت بجنح الليل ذات الوشاح
…
فطبّق الآفاق ضوء الصباح
فاستيقظ الرّكب لأجل السّرى
…
قلت: اهجعوا برقٌ من الشّرق لاح
وقال وكان بإربل: [من الطويل]
ترنّح من برح الغرام متيمٌ .... عشّية جدّ البين والنوق ترزم
وأخفى تباريح الجوى ليلة النّوى
…
وفي قلبه نار الأسى تتضرّم
وكيف يذود الهمّ أو يطعم الكرى
…
وقد أعرق الحادي بهم وهو مشئم
ألمّت سليمى والظلام يجنُّها
…
فتمّ عليها حسنها والتّبسم
تبدّت كبدر التّمّ لولا محاقة
…
وكالشمس إلّا أنّها هي أعظم
أحلّت صدودي واستحلّت قطيعتي
…
فوثلي على مرّ الومان محرّم
وقال وكان بعين القيارة في صحبة نفيس الدين أبي الفتح نصر بن عيسى بن جزري:
[من الطويل]
ساشكر دهري ما حييت مطالعاً
…
تجلّت بقرب العين منك سعودها
يرنّحني شوقي إليها فأنثني
…
أعلّل تفسي أن تعود عهودها
/91 ب/ وقوله: [من الكامل]
سهم الفراق أصاب حبة قلبه
…
لمَّا تعرّض للوداع لصحبه
وتزايدت أشجانه وغرامه
…
لمّا سرت أيدي المطي بحبّه
وقال وكان بالعقر في بستان الزعيم الشربدار، وكان به بركة مليحة، وبها ماءٌ صافٍ وبطيخ وتفاح؛ وسئل أن يعمل في هذا المعنى شيئاً، وكان حال وصوله ونزوله هناك:[من مجزوء الكامل].
يا بركةً جمعت معاني
…
قد خصصت بهنّ وحدي
دمعى وخدّي عند ذكـ
…
ـر معذّري وصفاء ودّي
وقال، وكان فارق تاج الدين ابن خاله معين الدين – رحمه الله بإربك وأقام على بعده بها، وضاق صدره لذلك:[من الخفيف]
/92 أ/ تاج دين الإله إنّ اصطباري
…
قلّ من بعدما ترحّلت عنّي
واعترتني نوائبٌ لو تفرًّغـ
…
ـت زماني لبثّها لم يسعني
وقال وكان مريضاً، وقد دخل إليه شيخه عبد العزيز ين أحمد بن هاجر، وكان قد صحبه، وختم عليه القرآن المجيد:[من الخفيف]
فيك عبد العزيز أضحى فؤادي
…
لم يزل بين خيفةً ورجاء
أتخشى الفراق عند التّداني
…
وأرجّي اللقاء عند التّنائي
وقال وكان بإربل، في منزل ابن عمه أثير الدين أبي حامد محمد بن علي بن
الحسن بن العمراني: [من الوافر]
لك البشرى فقد نجم السّعود
…
بما تهوى وقد كبت الحسود
وقد نال الموالي ما تمنّى
…
واعطته الأماني ما يريد
فلا زالت بك الأيام تسمو
…
وظلّ علاك مخضرٌ مديد
وله في خاله الصاحب معين الدين أبى القاسم: /92 ب/ ابن أبي طالب بن كسيرات، بمنّى وقد حجّ عديله وكان يوم عيد النحر:[من الطويل]
تهنّ بعيد النّحر يا خير صاحبٍ
…
له في المعالي طارفٌ وتليد
فلازالت الأيّام تأتي وتنقضي
…
وأنت على رغم الحسود سعيد
ورأيك فيما تبتغيه موفقٌ
…
وفعلك في كلّ الأمور حميد
وضدّك مكبوتٌ وندّك خاضعٌ
…
وظلّت مخضرّ الجناب مديد
وقولك مسموعٌ وأمرك نافذٌ
…
ويومك مهودٌ ودهرك عيد
وقال في المرحوم وهو بالطريق بالحجاز بديهة في تلك السنة:
[من مجزوء الكامل]
حثّ المطيّ بلا فتور
…
بالصّاحب المولى الكبير
وبذكره فتغنّ لي
…
تخدي وتعنق في المسير
يا صاحا فاق الورى
…
بالفضل والجود الغزير
يا من سحاب أكفّه
…
يغني عن العام المطير
ويراعه تحمى به
…
قمم الصياصي والثّغور
فعطاؤه قبل السّؤا
…
ل وعذره بعد ....
/93 أ/ فاسلم ودم لا ساورتـ
…
ـك يد الحوادث في الدّهور
لازال جدّك ساميا
…
يلعو على متن الأثير
[ما غرّدت قمريّةٌ
…
وشدت على غصنٍ نضير]
وقال: [من السريع]
لازالت الأيّام تأتي بما
…
تأمله أوحد العصر
وعشت في أمنٍ وفي رفعة
…
محروسة من غير الدّهر
ما لاح نجمٌ أو بدا بارق
…
أو أنّ صبّ أو شدا قمري
وقال يهنئه بحلب، بالمدرسة في شهر شعبان من سنة أربع وعشرين وستمائة:
[من الطويل]
ولمّا وقفنا للوداع وأحدقت
…
بنا أعينٌ للشامتين نواظر
رحلنا فغرّ بنا وراحوا فشّرقوا
…
وفاضت للوعات الفراق المحاجر
وسرنا وفي طرس النّفوس وجائعٌ
…
كوامن لم تظهر عليها الضّمائر
سرائر تبلى وهي تبقى مصونةً
…
إلى يوم حشر فيه تبلى السّرائر
ولم نقض من أهل الوفاء شجوننا
…
ولم تنجنا الأيّام ممّا نحاذر
وله أيضاً بحلب: [من الطويل]
/93 ب/ وأنّي إذا قلّ اصطباري عنكم
…
وزادت صباباتي بكم وهيامي
أحمّل وقد الريح إن سار ركبه
…
مجداً إليكم لوعتي وغرامي
ويخفق قلبي نحوكم كلّما بدا
…
تألق برقٍ منجدٍ وتهامي
وأمنحكم صفو الوداد لأنّني .... لمغرى بكم في رحلتي ومقامي
وقد صرت أهوى ذكركم من عواذلي
…
وأكثر إلمامي بهم لملامي
[374]
عبد الباقي بن محمد بن عليّ بن إسماعيل بن عبد الباقي بن محمد بن أبي يعلى بن عبد الله بن الخليل بن إبراهيم الوزير، أبو المظفر بن أبي جعفرٍ، البغدادي أصلاً، الموصليّ المولد والمنشأ.
كان قد أخذ من كلّ علمٍ طرفاً حسناً كعلم النجوم والهيأة والأقليدس، وله يد في
إنشاء الرسائل –وهب الغالب كانت عليه- وقرض الشعر، وكان ذا روية جيدة، وبديهة حاضرة، سريع الحفظ، يرجع إلى سماعه.
حدثني القاضي الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي –أبقاه الله تعالى- قال: /94 أ/ وصل أبو المظفر عبد الباقي بن محمد بن أبي يعلى [من] الموصل إلى حلب في سنة إحدى وستمائة، وخدم الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب –رحمه الله تعالى- مستوفياً في الديوان، وكان ابن أبي يعلى يتوصل إلى الملك الظاهر يجمع الأموال، ويظلم له الناس، ويفتح له أبواباً يحمله على التعدّي على الرعية، ارتفع مكانه عنده، وعظم محله، إلى أن تفرد بأمر الديوان، وكان الوزير نظام الدين محمد بن الحسين –صاحب سر الملك الظاهر والمتمكن عنده- وكان يحسّن للملك خلاف ذلك من الإحسان إلى الرعية، وكفّ أيدي الظلمة، واحترام الأكابر، فاتفق موته، فقوي أمر ابن أبي يعلى بعده، ونفي شرف الدين ابن الحصين متولي ديوان الإنشاء، وصار بين [إبن] أبي يعلى وبينه عداوة في الباطن إلى أن مات ابن الحصين، فاستفحل أمر ابن أبي يعلى، وعظم شانه واستقلّ بالأمور كلها، ونظر في جميع أعمال الدولة، وأضاف الملك الظاهر إليه ديوان الإنشاء، ولم يزل كذلك إلى أن مرض الملك الظاهر، مرض موته، وأوصى بالملك بعده لولده الملك العزيز محمد ثم /94 ب/ بعده للملك الصالح، وأن يكون الوزير ابن أبي يعلى على ما هو عليه، في خدمة ولده الملك العزيز، واستوثق ابن أبي يعلى من الأمراء بالأيمان على ذلك، وحدثته نفسه بأشياء انعكست عليه بعد ذلك.
كان الملك الظاهر لما مات جعل إبن أبي يعلى يظهر التيه العظيم الزائد والجبروت، ويأخذ نفسه بأمور الملك، ويكلّم الأمراء بكلام خشن؛ إنّ أتابك طغرل، سرّ إليه في أمر؛ فقال: وهو أيش هو خازن وليس له كلام في أمر الدولة؟
وقال للأمير سيف الدين بن أبي قليج في كلام جرى بينهما في تدبير أمر الملك: أيش هذه الصبيانية؟ حتى همّ به الأمراء.
وكان يمضي ويجلس في دار العدل، مكان السلطان ويقول: اطلبوا الحاكم –يعني القاصي بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم قاضي القضاة- ويكتب له
في التواقيع، وكتب بالإشارة المولوية الصاحبية الوزيرية، وبرسالة الأمير شهاب الدين طغرل إلى غير ذلك .. فاختّل أمره عند ذلك، وأجمع رأي القاضي القضاة وجماعة الأمراء على تولية /95 أ/ الأتابك شهاب الدين، أتابكية الملك العزيز، قولي له جميع أمور الدولة والحكم فيها، وفي القلعة والخزائن والمدينة.
وأحضر إليه نواب الإنشاء والجيش والحجاب، وأمر ونهى، فاجمع رأيه مع الصاحب قاضي القضاة والأمراء على عزل ابن أبي يعلى، فعغزل به موت السلطات الملك الظاهر بعشرين يوماً، ولزم بيته ثم مرض، وأقام شهراً في مرض الداسنطاريا، وعوفي من المرض، فتقدم إليه بالخروج من حلب؛ فباع كتبه، وهيّأ أسبابه، وسار عن حلب في يوم السبت حادي عشر شوال من سنة ثلاث عشرة وستمائة.
وسار منها حتى مرّ منها على حرّان، وأراد المقام بها، والتعرض بخدمة الملك الأشرف، فلم يلتفت إليه، ومنعه من الدخول عليه.
وحكى لي الملك الأشرف أنه سيّر إليه يطلب خدمته؛ قال فتقدمت بأن ليس له في بلادي شغل، ولا له عندي مقام، وتقدمت بإخراجه، وكنت قد اجتمعت به على الطور في خدمة الملك العادل والدي /95 ب/ وقد سيّره السلطان الملك الظاهر، فرأيت منه حماقة عظيمة فأبغضته، وانضم إلى ذلك ما بلغني عنه من تعسّفه وما اعتمده بعد موت السلطان الملك الظاهر، فمنعته من المقام في بلادي.
ثم إنّ ابن أبي يعلى سار إربل، غألزمه صاحبها الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري بن علي بن بكتكين –رحمه الله تعالى- وأنزله عنده، ولكنه لم يستخدمه، وبقي في إربل مدّة أشهر.
ثم كاتب ملك الشمال كيكاوس، ورغب في الوصول إليه، فسار من إربل، وتوجّه إلى بلد الشمال، واجتمع بعّز الدين كيكاوس، ثم إنه مرض، وحكى لي بعض أصحابه: أن كيكاوس نزل إليه وعادة في مرضه، ثم إنه فارق كيكاوس وانفصل عنه، فتوفي في قرية من قرى بلاد الروم.
وكان إبن أبي يعلى سيئ المؤاخذة لكلّ أحد، قليل الصفح عمن جنى. يقابل أقلّ الناس على فعله.
وكان بحلب إنسان ظريف من ظرفاء المصريين، يقال له أبو عبد الله المصري الصوفي، وكان له اجتماع بالشرف إبن الحصين /96 أ/ ويعرّض بمثالبه، فبلغه ذلك عنه، فأسرّه في نفسه إلى أن مات ابن الحصين فقطع معلومه الخانقاه، وبقي هذا المصري كذلك، إلى أن جرى لابن أبي يعلى ما جرى من خروجه من حلب، فخرج أبو عبد الله المصري، إلى ظاهر باب العراق، ووقف له حتى خرج سائراً من حلب، فتقدّم إليه وخدمه وقال له: في أمان الله، فجرى على إن أبي يعلى من ذلك شيء عظيم.
وحدثني الصاحب أبو البركات المستوفي –رحمه الله في تاريخ إربل من تأليفه؛ قال: كان إبن أبي يعلي مقيماً بالموصل مطّرحاً، فسافر إلى بغداد، فقيل إنه أراد ولاية المخزن الشريف الإمامي الناصري، فلم يجب إليها، فرحل إلى الشام، وأقام بحلب، وصار من أعيانها، متولي النظر في ديوانها، فلم تكن له الحظوة، حياة أبي المؤيد محمد ين الحسين الطغرائي، إلى أن توفي –رحمه الله تعالى- فتقدم عند الملك الظاهر مدّة حياته، فلما توفي لم يستقم له بعده أمر فورد إربل /96 ب/ فتلقاه السلطان مفر الدين، بضروب الإكرام وصنوف الإنعام مدّة مقامه بإربل، ثم سافر إلى بلد الروم فتوفي به.
وحدثني أيضاً؛ قال: كتب إلى ابن أبي يعلى بخطّه لغزاً وضعه في صفة بيضة في شعبان سنة أربع وستمائة بحلب المحروسة. وحدثني من حمله إلى عنه أنه قال: لم يقدر أحد على حلّه، فلما حللته تعجب من ذلك وهو:
"ما شيء من الحيوان وهو شبيه بالجمادات، نبطي الأصل والنجار، موجود في البلاد والأمطار، مكنون في الصدف، ليس بحيّ، ولا ميت وهذا من الظرف، وطبائعه مختلفة، والعقول بفضله معترفة، باطنه تبرٌ سائل، وهو في نوعه متفاضل، إذا شق لحاه غدا مفردا، وأضحى على العبادات منبّها ومسعدا".
وحدثني، قال: حدثني غير واحد عنه، أنه حدثه عنه، أنه رآني في المنام ليلة الاثنين من ذي الحجة من سنة ست عشرة وستمائة، كان بقلعة حلب في مجمع كثير من الخلق، وفي آخر المجلس شخص أسمر كثّ اللحية متكهل /97 أ/ لابس ثوب فوط، وهو يتكلم ويدعو للملك الظاهر –رحمه الله ثم رفع يديه إلى السناء، وأشار
بوجهه، وأنشد:[من السريع]
يا عالم الباطن والظاهر
…
أغفر لغازي الملك الظاهر
واسكنه في روض وفي جنّة
…
مع النبيّ المصطفى الطاهر
واكتب له مشهد آبائه
…
أيّوب ثمّ الملك النّاصر
ولما مات ببلاد الروم، مات بقرية يقال لها كادك بين فيسارية وسيواس في اليوم السابع عشر من رجب سنة ثلاث وستمائة، وحمل إلى الموصل، إلى صحراء عناز فدفن بها، وقبره هناك؛ وألّف كتاباً سمّاه "نخبة الكلم وروضة الحلم".
أنشدني ولده علي، قال: أنشدني والدي لنفسه ما كتبه إلى بهاء الدين أبي الفتح نصر بن محمد بن القيسراني، على سبيل المداعبة والإحماض:[من السريع].
يا أيّها الصّدر الكبير البها
…
ومن غدا حلف الحجى والنّهى
إن كان ذا التّأخير عن موجب
…
بأغيد مقلته كالمها
/97 ب/ فالعذر مقبولٌ بألحاظةً
…
إذ كان رؤيا مثله تشتهى
وكتب إلى نور الدين أتابلك أبي الحارث أرسلان شاه بن مسعود بن مودود –صاحب الموصل-: [من البسيط]
أحييت بالوعد آمالي فبت له
…
على رجائك مسروراً بما أثق
وعزّ دوني بابٌ ضاق مسلكه
…
فناب شعري لمّا عزّت الطّرق
سبقت كلّ البرايا في محبتّكم
…
حتى وثقت بسبقي دون من سبقوا
ووجد على جزء بخطه؛ لما خرج من حلب، وكان ذلك بعد وفاة الملك الظاهر، وصاحبها يومئذ وهو طفل مرضع، وأتابك العسكر خادم يقال له شهاب الدين طغرل:
[من المتقارب]
أقول وظنّي أن لا يعوا
…
لأنهم حمرٌ رتّع
كفى حلباً وكفى أهلها
…
مصاباً حوادثها الأربعاء أتابك عسكرهم خادمٌ
…
وسلطان ملكهم مرضع
رئيسهم قاطعٌ في البغا
…
وعن نيل مكرمة اقطع
/98 أ/ فقوّض خيامك عن أرضهم
…
فإنّ مقامك لا ينفع
فما أنت من شرّهم آيسٌ
…
ولا لك في خيرهم مطمع
تأنّ رويداً فعمّا قليل
…
ترى أسعد القوم من يصفع
فجارهم مثلما قد علمت
…
وحقّك من أشعب اطمع
يحصّل ما ليس من صيده
…
ويحصد ما لم يكن يزرع