الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة المؤلف
…
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي وعليه اعتمادي (1) الحمد لله معزّ التوحيد بنصره، ومذلّ الشرك بقهره، ومصرّف الأحوال بأمره، الذي أظهر دينه على الدين كله. أحمده على إعزازه لأوليائه، وخفضه لأعدائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من طهر بالإخلاص قلبه، وأرضى بالمعادات فيه والمولاة ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ رافع الشك، وخافض الشرك، ومانع الكذب والإفك اللهم صلّ على محمدالنبي الكريم والرسول الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً (2) .
وبعد:
فإنه قد بلغني أنه قد ورد على بعض الإخوان مكاتبة من داود بن جرجيس مملوءة بالكذب والتلبيس، ولا ريب أنه مما أوحاه الشيطان وزخرفه إبليس، فاعجب لاتفاق الاسمين وزناً؛ وموافقته له في كل حركة وسكون، فالأول منهما مكسور، والثاني ساكن، والثالث مكسور، والرابع ساكن، والخامس متحرك بالضمة، وفي هذا بعضُ حروف هذا، وهي الياء والسين، كالاشتقاق الأكبر، فحصل بين الاسمين من الاشتقاق ما لا يخفى، فأعجب لذلك يا مننظر فيه.
(1) في "م" و"ش": "وبه نستعين".
(2)
سقطت "كثيراً" من "المطبوعة".
وأما المشابهة في المعنى فقد سود القرطاس بضروب من الوسواس، إذا تأمله الموحد الأريب، سليم الطوية صحيح الروية، وجد أقواله كلها تدور على جحود التوحيد، ومصادرة (1) محكمات القرآن المجيد كذباً وتأويلاً، وتحريفاً وتبديلاً، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (2) الآية (3) ؛ فمن الواجب على من عرف الحق بدليله أن يسعى فيما يبطل دعواه، ويهدم ما أسسه من الزيغ وبناه، ويبين ما فيه من المكابرة وما أتى به من المماحلة تعمداً ومجاهرة (فيما يناقض حكم الله في قوله تعالى) (4) {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه} . فأما قوله: إنه على معتقد الإمام أحمد وشيخ الإسلام وابن القيم: فهذا أول ما أبداه من الكذب والتمويه. فأيم الله لقد خالف هؤلاء الأئمة
(ومن قبلهم ومن بعدهم من أمثالهم فيما اعتقدوه من الإخلاص والتوحيد، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، فلقد صرح هؤلاء الأئمة)(5) وغيرهم بالإنكار والبراءة ممن يدعو مع الله غيره، أو يستغيث به، أو يتوسل [به](6) في الرغبات والرهبات من الغائبين والأموات. في كل كتاب كتبه هؤلاء وألفوه، وفي كل ما
(1) في "ش": "ومصادمة".
(2)
سورة الأنعام، الآيتان: 112، و113.
(3)
في "ش" و"م" ذكرتا تمام الآية: {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُون} .
(4)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(5)
ما بين القوسين سقط من: "م".
(6)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "م"و "ش".
ردوا به كل صاحب بدعة وصنفوه، كما سأذكر بعضه إن شاء الله تعالى في هذا الجواب. فأما الإمام أحمد –رحمه الله – فهو إمام السنة، ومن أجل حفاظ الأمة، وفقهاء الأئمة فله "المسند"(1) الذي جمع فيه من الأحاديث في أصول الدين والأحكام/ ما لم يجتمع في غيره، ونقل المفسرون وغيرهم عنه من أدلة التوحيد ما يكفي ويشفي طالب الحق، فلو ذهبنا نسوق الأحاديث التي رواها بالأسانيد (2) في هذا المعنى، كحديث ابن مسعود:"من مات (3) وهو يدعو لله نداً دخل النار"(4)، وكحديث جابر:" من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"(5) ،ونحو هذه الأحاديث التي يستدل بها
أهل التوحيد (6) في محل النزاع، لطال الجواب. وله التصانيف الشهيرة في بيان السنة، وما عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وبيان ما خالفوا فيه أهل الأهواء والبدع، فمن استقرأ ما في مصنفاته -رحمه الله تعالى (7) - عرف منها ما هو الحق، وأنه عدو من ألحد في دين الله
(1) زاد في "ش": "المروي".
(2)
في "م" و"ش": "بالإسناد".
(3)
سقطت "مات" من: "ش": (النسخة المصورة) .
(4)
أخرجه البخاري في "صحيحه"، كتاب التفسير، باب {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}
(ح/4497)، وأيضاً في كتاب "الجنائز" باب في الجنائز:(ح/1238) ، وأيضاً
في كتاب "الأيمان والنذور" باب "إذا قال والله لا تكلم اليوم
…
": (ح/6683) .
(5)
أخرجه مسلم في "صحيحه" كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة:
(ح/152) .
(6)
في "ش": "الحديث".
(7)
سقطت "تعالى" من: "ش".
وخرج عن الصراط المستقيم، الذي بعث الله به رسله وأنبيائه؛ ورد على الزنادقة، وغيرهم ممن ابتدع في دين الله. (وقد نص الإمام أحمد على أنه لا يجوز الاستعاذة (1) بالمخلوق، وأن ذلك شرك بالله) (2)، وقد استدل الإمام أحمد –رحمه الله تعالى (3) – بحديث خولة بنت حكيم (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل (5) من منزله ذلك"(6) .
على أن كلام الله ليس بمخلوق إذ لو كان مخلوقاً لما جاز الاستعاذة به؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وهذا العراقي المبهرج الكذاب يجادل بقوله إن الاستغاثة بغير الله ليست بشرك، فإن الكل عبادة (7) . وهذه الاعتقادات في الأموات إنما حديت بعد الإمام أحمد ومن في طبقته من أهل الحديث والفقهاء والمفسرين وأما شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله – فأقامه الله سبحانه في زمانه بتحقيق التوحيد بأنواعه الثلاثة؛ كما أقام الإمام أحمد –رحمه الله تعالى (8) – في زمانه بذلك من توحيد الصفات، فبين هذا
(1) في (الأصل) : "الاستغاثة" والمثبت من "م" و"ش". وانظر "مجموع الفتاوى": (1/112)
و"تلخيص الاستغاثة": ص 171.
(2)
ما بين القوسين سقط من: "ش" و (المطبوعة) .
(3)
سقطت من "ش".
(4)
زاد في "م" و"ش""مرفوعاً".
(5)
هكذا في جميع النسخ الخطية: "يرحل"، وفي المسند وصحيح مسلم:"يرتحل".
(6)
أخرجه مسلم في "صحيحه" كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: (ح/2708) ،
وأحمد في "مسنده": (6/377، و409) .
(7)
سقطت من (المطبوعة) .
(8)
سقطت من: "ش" و (المطبوعة) .
الشيخ رحمه الله (1) نوعي التوحيد بأتم بيان: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد، ورد على من عارض أدلة التوحيد بشبهة أو تحريف، فهذه كتبه موجودة، وكلها متفقة على هذا المعنى، كالاقتضاء والمنهاج (2) ، وكتاب العقل النقل. وكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ورده على ابن الأخنائي ودره على السبكي في مسألة الزيارة، ورده على ابن البكري في مسألة الاستغاثة، وسيأتيك جمل منه إن شاء الله تعالى، وكلامه في أصول الدين مطرد في جميع كتُبه لا اختلاف فيه بحمد الله. فمما نقل عنه أصحابه –رحمه الله –كصاحب الفروع، وكذلك من بعده من الحنابلة المصنفين في مذهب أحمد، كصاحب الإنصاف والتنقيح، وكذا من بعده من المصنفين، كصاحب الإقناع والمنتهى، وقد نقل هؤلاء وغيرهم في باب حكم المرتد عن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية –رحمه الله – أنه قال:(من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً؛ وهذا هو مذهب أحمد عند أصحابه كلهم)(3) ، وسيأتي كلامه هذا في مسألة الوسائط إن شاء الله تعالى. فصار اعتماد الحنابلة وغيرهم من أهل السنة على اعتقاد ما ذكره (4) شيخ الإسلام –رحمه الله –من الإجماع – [مستنده ما ستذكره في الآيات المحكمات إن شاء الله]- (5) ، لأنه هو الذي اتفقت عليه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم
(1) زاد في "م": "تعالى".
(2)
يريد بالاقتضاء أي: كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" ويريد
بالمنهاج أي: كتاب"منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية".
(3)
انظر "مجموع الفتاوى": (1/124، و126) .
(4)
في "ش" و"م": "ما ذكر".
(5)
ما بين المعقوفتين زيادة من: "م"وو"ش".
وهو الذي خلق الله تعالى (1) الخلق لأجله، وهو نفي الشرك في العبادة بأن لا يُصرف شيء من أنواعها (2) لغير الله كائناً من كان، وهو الذي دل عليه القرآن من أوله إلى آخره، ولم ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمتها أنه أجاز دعوة الأموات والغائبين والاستغاثة (3) والاستشفاع/بهم، وقد تواتر النهي عن ذلك في الآيات المحكمات كما سنذكر بعض ذلك إن شاء الله تعالى. وبما ذكرناه من الإجماع، وما دل عليه الكتاب والسنة من قصر العبادة بجميع أنواعها على الله تعالى، وأن من صرف منها شيئاً لغير الله فاستغاث بغيره من الأموات والغائبين (4) فهو كافر، يبين أن هذا العراقي قد خالف الكتاب والسنة والإجماع-، ومن المحال أن يوجد عن سلف الأئمة وأئمتها ما يخالف هذا الإجماع (5) -، وخالف العلماء من أهل السنة من كل مذهب؛ فما أبعده عن هذا الدين الذي أجمعوا عليه كما قال الشاعر:
سارت مشرقة وسرت مغربا
…
شتان بين مشرق ومغرب
ويكفيك في تقرير (6) ما ذكروه عن شيخ الإسلام من الإجماع، وأنه هو الحق الذي يجب اعتقاده، والدين الذي يدان الله به ما استند إليه من محكم القرآن، كقوله تعالى:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِين} (7) ،
(1) سقطت "الله تعالى" من: "ش".
(2)
في "م" و"ش": "أنواعه".
(3)
في "ش" و"م": والاستغاثة بهم".
(4)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(5)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(6)
في "م": "يقرير" وهو تصحيف.
(7)
سورة الشعراء، الآية: 113، وفي "الأصل""فلا.."وهو خطأ.
وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) والمخاطب بهذا سيد المرسلين، وهو لجميع الأمة. وانظر إلى ما ترتب على دعوة غير الله من الوعيد الشديد، والخبر الأكيد، والآيات في هذا المعنى لا تكاد تحصى إلا بعد الاستقراء والاستقصاء، ويأتيك لهاتين الآيتين نظائر من محكم القرآن في ضمن كلام العلماء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله (2) في "الرسالة السنية"(3) :
(فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة قد يمرق من الإسلام لأسباب، منها الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، وكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل
فيه نوعاً من الآلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان (4) انصرني وأغثني وارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبهفإن تاب وإلا قتل، فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتاب ليُعبد وحدهلا شريك له ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله إلهاً آخر، مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم (5) أو يعبدون
(1) سورة يونس، الآية:106.
(2)
سقطت "رحمه الله "من: "م" و"ش".
(3)
انظر صفحة: (21)، تحقيق: الحمود.
(4)
سقطت "فلان" من: "ش".
(5)
لفظ "قبورهم" لا يناسب قوله: "مثل المسيح والملائكة والأصنام" لأنه لا قبور لهم أفاده
شيخنا إسماعيل الأنصاري في تحقيقه لكتاب "مفيد المستفيد": ص12.
من النهي عن (2) أن يدعى أحد من دون (3) الله وبيَّن رحمه الله تعالى كيفية الدعاءالذي لا يجوز (4) أن يصلح منه شيء لغير الله؛ وأنه نوعان، وفيه بيان الشرك الذي نهت عنه الرسل، ومنه الاستشفاع بالشفعاء؛ كما هو بين في الآيتين المذكورتين، فهذا الكلام بحمد الله يقضي ويأتي على جميع ما ذكره هذا العراقي من الاستشفاع/ بالأموات ونحوهم بالفساد، بل بالبطلان. ويبطل ما افتراه على شيخ الإسلام رحمه الله (5) .
قال شيخ الإسلام: (وكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} (6)، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ
(1) وردت جملة "إنما نعبدهم" إلى قوله: {عند الله} في المطبوعة على أنها آية من كتاب
الله، وهو خطأ والمثبت هو الموافق للنسخ الخطية ومطبوعة الرسالة السنية.
(2)
سقطت "عن"من: "م"و"ش".
(3)
في "م" و"ش": "دونه".
(4)
في "م" و"ش": "لا يصلح منه شيء".
(5)
هكذا في (الأصل) ، ولعل الصواب "أن يصرف".
(6)
سورة الأعراف، الآية:55.
أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُون} (1) . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدا} (2)، قلت:
و"أحداً" نكرة في سياق النهي وهي تعم كل مدعو من دون الله. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلال} (3) . قال ابن القيم –رحمه الله تعالى- على قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} : (والله سبحانه صاحب دعوة الحق في ذاته وصفاته وإن لم يوجب لداعيه بها ثواباً، فإنه يستحقها لذاته، فهو أهل أن يعبد وحده ويدعى وحده ويقصد ويشكر ويحمد ويحب ويرجى ويخاف ويتوكل عليه ويستعان به ويصمد إليه فتكون الدعوة الآلهية الحق له وحده، ومن قام بقلبه بهذا معرفة وذوقاً وحالاً صح له مقام التبتل والتجريد المحض، وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد، والإخلاص فيه، والصدق، ومرادهم هذا المعنى، فقال علي رضي الله عنه:"دعوة الحق" التوحيد، وقال ابن عباس:"شهادة أن لا إله إلا الله"، وقبل الدعاء بالإخلاص والدعاء الخالص لا يكون إلا لله، ودعوة الحق
دعوة الآلهية، وحقوقها، وتجديدها، وإخلاصها) (4) . انتهى من "المدارج". ومن ذلك قوله تعالى:
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ
(1) سورة الأنعام، الآية:40.
(2)
سورة الجن، الآية:18.
(3)
سورة الرعد، الآية:14.
(4)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة)، وانظر "مدارج السالكين":(2/29-30) .
رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِين} (1) } (2) فتضمنت هذه الآية حقيقة دين الإسلام وهو إخلاص نوعي التوحيد لله وحده (3) كالآيات قبلها، وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن تحصى، وهو يتضمن دعاء العبادة؛ لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله (4) ، والتالي لكتابه. ونحوه طالب من الله في المعنى، فتكون داعياً عابداً (5) . وللعلامة ابن القيم مثل ذلك. فلم يبق بعد لهذا المشرك حجة يحتج بها على جواز شركه بدعائه غير الله واستغاثته بغيره (6) من أي (7) وجه كان، وهذا أيضاً يأتي داعياً على جميع ما ذكره هذا العراقي بالمنع والبطلان. وقال (8) –رحمه الله تعالى-: وذكر زيارة القبور الشرعية- ثم قال: (وأما الزيارة البدعية فمن جنس زيارة النصارى المشركين. مقصودها
الإشراك بالميت، مثل طلب الحوائج منه والتمسح بقبره وتقبيله، والسجود له
(1) سورة غافر، الآية:66.
(2)
في "م" و"ش": "إلخ".
(3)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(4)
سقطت "الله" من: "ش".
(5)
في "م" و"ش": "انتهى".
(6)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(7)
في "م" و"ش": "من كل".
(8)
في "م" و"ش": "قال" دون واو العطف، وفي هامش"م":"مطلب الزيارة".
ولعل المراد بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر "الفتاوى":(24/327) فالنقل الذي
أورده المصنف، قريب من الكلام الموجود في "الفتاوى"، وأيضاً سياق الكلام الموجود في
صفحة: (52) يغلب أن هذا الكلام لشيخ الإسلام.
ونحو ذلك، وهذا ونحوه لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا استحبه أحد من أئمة
المسلمين ولا كان أحد من السلف يفعله لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره، بل أجدبوا واستسقوا، ولم يكونوا يأتون عند النبي صلى الله عليه وسلم يدعون عنده لا في ذلك الوقت ولا غيره، بل ثبت في "الصحيح":"أنهم لما أجدبوا في خلافة عُمر رضي الله عنه استسقوا بالعباس، فقال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون"(1) ، وكانوا في حياته يتوسلون إلى الله (2) بدعائه وشفاعته، فلما مات صلى الله عليه وسلم بقوا يتوسلون بدعاء العباس، ولم يكونوا يقسمون على الله بأحد من خلقه؛ لا نبي ولا غيره؛ ولا يسألون ميتاً ولا غائباً ولا يستعينون بميت (3) ولا غائب، سواء كان نبياً أو غير نبي. وهذا لأن جماع الدين أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع لا يعبد بالبدع، كما قال الفضيل بن عياض في قوله (4) عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
(1) أخرجه البخاري في "الاستسقاء" باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا:
(ح/1010)، وأيضاً في "فضائل الصحابة" باب ذكر العباس بن عبد المطلب:
(ح/3710) .
قال ابن حجر في "الفتح": (2/577) "وقد بيَّن الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا
به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناد له أن العباس لما
استسقى به عمر قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه القوم
بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب وتواصينا إليك بالتوبة فأسقنا الغيث
فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصب الأرض وعاش الناس"ا. هـ.
(2)
سقطت "إلى الله"من: "م" و "ش".
(3)
في "ش": ولا يستغيثون".
(4)
في "م" و "ش": "قول الله".
أَحْسَنُ عَمَلا} (1)، قال أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل. وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. فالخالص أن يكون لله.
والصواب أن يكون على السنة) انتهى.
/فتأمله يكشف عنك شبهات الشرك إن شاء الله. وقال –رحمه الله تعالى- وذكر أهل الخلوات من الصوفية قال (2) : (وهذه الخلوات قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان ولا إقامة؛ ولا مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس (3وأما غير المساجد3)(3) مثل الكهوف والغيران والمقابر، ومثل المواضع التي يقال إن بها أثر نبي أو رجل صالح؛ [ولهذا](4) يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية، يظنون أنها كرامات رحمانية. فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه، ويقول له: أنا (5) فلان؛ أو ربما قال له: نحن إذا وضعنا في القبر خرجنا، والشياطين تتصور بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف (6) فتقول: أنا الشيخ فلان، أو العالم فلان، وربما قال: أنا أبو بكر أو عمر، وربما أتى في اليقظة دون المنام (7)
(1) سورة الملك من، الآية:2.
(2)
انظر "الفتاوى": (10/406، و 407) .
(3)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(4)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "الفتاوى"، وفي "م" و"ش":"أو يحصل".
(5)
في "م" و "ش" زيادة: "صاحب القبر".
(6)
في "ش": "لمن يعرف".
(7)
في (الأصل) : "وربما أعنى في اليقظة والمنام قالت.."وهو موجود في "م"، ولكن شطب عليها الناسخ وكتب بدلاً منها:"وربما قالت.."، والمثبت من:"الفتاوى".
فقال: أنا المسيح، أو أنا موسى (1) ، وقد جرى من ذلك أنواع أعرفها؛ وثم من يصدق بأن الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم (2) ، وثم شيوخ لهم زهد وعلم ودين يصدقون بمثل هذا، ومن هؤلاء من يظن أن النبي [صلى الله عليه وسلم](3) يخرج من قبره في صورته فيتكلم، وفيهم (4) من يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الحجرة وكلَّمهم فجعلوا هذا من كراماته، وفيهم من يعتقد أنه سأل المقبور فأجابه، وبعضهم كان يحكي أنه إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه، وآخر من أهل المغرب (5) حصل له مثل ذلك، وجعل هذامن كراماته) (6قلت: وهذه الأمور التي ذكرها عنهم شيخ الإسلام وهي أحوال شيطانية هي التي أوقعت عباد القبور في عبادتها، وصرف خالص العبادة إليها وقد ردَّه العلماء من أهل السنة6) (6) . قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك:(ويحك ترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل من هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم [بعدالموت] (7) فأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوه فأجابهم وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه؛ فهلا سألته فأجابها) انتهى.
(1) في "م" و"ش": "أنا المسيح، أنا موسى".
(2)
في جميع النسخ: "في صورتهم" والمثبت من "الفتاوى".
(3)
ما بين المعقوفتين إضافة من "م" و"ش".
(4)
في "ش": "ومنهم".
(5)
في جميع النسخ: "الغرب"، والمثبت من "الفتاوى".
(6)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة)، وفي (الأصل) :"كما قال.." والمثبت من: "م" و"ش""والفتاوى".
(7)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "الفتاوى".
فأنكر العلماء رحمهم الله ما حدث في هذه الأمة من البدع والضلالات التي اغتر بها أكثر الجهال، ولو تتبعنا ما في كتب شيخ الإسلام في معنى ما ذكرنا لاحتمل كثرة من الأوراق (1) تفضي إلى التطويل، والمقصود ذكر ما تقوم به الحجة على من أشرك مع الله غيره في عبادته.
وأما صاحبه العلامة محمد (2) بن القيم رحمه الله (3) فأكثر مصنفاته في أصول الدين؛ وما بعث الله (4) به المرسلين. قال في "إغاثة اللهفان"(5) : (والمقصود أن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح كان أبغض
الأشياء إلى الله، وأشدها مقتاً لديه وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحهم، وقطع المولاة بينهم وبين المؤمنين؛ وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم (6) ، وأن يتخذوهم عبيداً، وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقص لعظمة الإلهية، وسواء ظن برب العالمين، كما قال تعالى:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ/ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (7) فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة
(1) ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(2)
سقطت "محمد" من: "م" و"ش".
(3)
سقطت "رحمه الله" من: "م" و"ش".
(4)
سقط لفظ الجلالة "الله" من: "م" و"ش".
(5)
انظر: (1/60-62) .
(6)
سقطت "وأبناءهم" من: "م" و"ش".
(7)
سورة الفتح، الآية:6.
ما جمع على أهل الشرك (1) ، فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحّدوه حق توحيده؛ ولهذا أخبر سبحانه أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه (2) ، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلاً ونداً يحبه ويخافه ويرجوه، ويذل له ويخضع له (3) . قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (4)، وقال (5) :{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (6) أي: يجعلون له عدلاً في العبادة والمحبة والتعظيم، وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا وهم في النار أنها كانت ضلالاً وباطلاً يقولون (7) لآلهتهم وهي في النار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين} (8) ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: أن آلهتهم خلقت السموات والأرض، وإنما ساووهم به بمحبتهم لها وتعظيمهم وعبادتهم إياها كما ترى عليه أكثر (9) أهل الشرك ممن ينتسب إلى الإسلام، ومن العجب
(1) في "م" و"ش": الإشراك".
(2)
وهو قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء} سورة الأنعام، الآية: 91،
وقوله: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} سورة الفتح، الآية: 74، وقوله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة} سورة الزمر، الآية:67.
(3)
"له" سقطت من: (المطبوعة) .
(4)
سورة البقرة، الآية:165.
(5)
في "م" زيادة: "تعالى".
(6)
سورة الأنعام من، الآية:1.
(7)
في "م": "يقولون".
(8)
سورة الشعراء، الآية:97.
(9)
سقطت "أكثر"من: "م" وش" و (المطبوعة) .
أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين،
وما ذنبهم إلا أن قالوا إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً، ولا
موتاً ولا حياتاً ولا نشوراً؛ وأنهم (1) لا يشفعون لعابديهم أبداً، بل حرم الله
شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة
فليس لهم من الأمر شيء؛ بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه،
والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع.
فالمشرك إما أن يظن أن (2) الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه
من وزير أو ظهير (3) ، أو عوين (4) ، وهذا أعظم التنقص لمن هو غني عن كل ما
سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته.
(5 وأما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك5)(5) .
وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، أولا يرحم حتى يجعله
الواسطة يرحم؛ أو لا يكفي وحده؛ أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده
الواسطة، كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته
إلى الشافع، وانتفاعه به، وتكثر به من القلة، وتعززه به من الذلة، أو لا يجيب
دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن يرفع تلك الحاجة إليه كما هو حال ملوك
الدنيا، وهذا أصل شرك الخلق، أو يظن أنه لا يسمع دعاءه (6) لبعده عنهم حتى
(1) تكررت "وأنهم" في: "م".
(2)
في "ش"، أنه سبحانه"، وفي هامش: (الأصل) : "تأمل ما يلزم المشرك الظالم".
(3)
في "م" و"ش": "وظهير".
(4)
في "م" و"ش": "وعوين".
(5)
ما بين القوسين سقط من: "م" و"ش".
(6)
في "ش": دعاء".
يرفع الوسائط إليه ذلك. أو يظن أن للمخلوق عليه حقّاً، فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم، ولا يمكنهم مخالفته (1) ، وكل ذلك تنقص للربوبية، وهضم لحقها، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله، وخوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، من قلب المشرك بسبب قسمة ذلك بينه سبحانه، وبين من أشرك به، فيضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره/ أو بعضه إلى من عبده من دون الله.
فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره (2) ، وأن يخلد صاحبه (3) في العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وإن زعم أنه معظم له بذلك) انتهى.
هذا ما قرره العلامة ابن القيم في "إغاثة اللهفان"، وذكر في "المدارج"(4) وغيره من كتبه ما هو مثل ذلك أو أبسط. فماذا بعد الحق إلا الضلال، وما أحسن ما قال –رحمه الله تعالى (5) - في "الكافية الشافعية" (6) :
(1) في "م" و"ش": "مخالفة ذلك".
(2)
زاد في (المطبوعة) بعد قوله: "أن لا يغفره""وأن يحرم صاحبه على الجنة" وهذه الزيادة
ليست في النسخ الخطية.
(3)
سقطت "صاحبه"من: (المطبوعة) .
(4)
انظر "المدارج": (1/339) .
(5)
سقطت "تعالى" من: "م" و"ش" و (المطبوعة) .
(6)
انظر "الكافية الشافعية": ص 121.
والعلم يدخل قلب كل موفق
…
من غير بواب ولا استئذان
ويرده المحروم من خذلانه
…
لا تشقنا اللهم بالخذلان
ولكن هذا العراقي (1) اعتاد لهذه الأمور الشركية التي يجادل عنها، ونشأ عليها، وتمكنت من قلبه فلم يعرف غيرها، كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فيأتي (2) بأدلة يزعم أنها له وهي عليه. من ذلك: استدلاله على جواز
دعاء الأموات والغائبين بقول سليمان عليه السلام (3) : {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِين} (4) . فهذا حجة عليه لا له، فإن سليمان عليه السلام ملك نبي (5) يأمر رعيته بما يقدرون عليه، وهكذا حال الأنبياء (6) والملوك وغيره، خصوصاً إذا كان مما يحبه الله ويرضاه (7) ، فهذا مما أوجبه الله تعالى على الراعي لرعيته أن يأمرهم بما ينفعهم وما يتعدى نفعه إلى غيرهم. والرسل عليهم الصلاة والسلام يأمرون الأمم بما أمرهم الله تعالى به، وأوجبه عليهم، وينهونهم عما حرم الله تعالى عليهم من الشرك فما دونه،
(9 فهذا (8) الرجل دعى بما علمه الله، والله سبحانه هو المستجيب دعوته9) (9) فأين
(1) في هامش النسخة (الأصل)"مطلب في حال العراقي نعوذ بالله من الخذلان".
(2)
في "ش": فأتى".
(3)
"عليه السلام" سقطت من: "م" و"ش".
(4)
سورة النمل، الآية:38.
(5)
سقطت "نبي" من: (المطبوعة)، وفي "ش":"نبي ملك".
(6)
سقطت "الأنبياء" من: (المطبوعة) .
(7)
في "م": "ويرضيه".
(8)
في "ش": "وهذا".
(9)
ما بين القوسين من: (المطبوعة) .
هذا من دعاء الأموات والغائبين وسؤالهم ما لا يقدر عليه إلا الله. من قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات؟ وقد أخبر الله تعالى أن استجابتهم للداعي ممتنعة؛ لأنهم يسألونهم ما لا يجوز أن يسأل إلا من الله
القريب المجيب الذي أمر عباده بدعائه والرغبة إليه، ووعدهم على ذلك الاستجابة، كما قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} (1) فرغبة هذا المشرك في دعاء الميت أو الغائب الذي أخبر تعالى أنه لا يستجيب له؛ وأنه غافل عن دعائه، وأنه لا يرضى بذلك منه، بل يبرأ إلى الله مما فعل، ويعاديه عليه، كما دلت على ذلك الآيات المحكمات، فما خيبة من رغب عن سؤال الحي القيوم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض إلى سؤال ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب (2ولا قدرة له2)(2) . ولم يشرع لنا تعالى أن نتوسل بذات أحد من خلقه، بل أرشدنا إلى أعظم الوسائل إليه (3)، وهو أسماؤه الحسنى. قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (4) وأما سؤال الحي الحاضر أن يدعو لأخيه المسلم فليس من هذا الباب، لأن الله تعالى أقدره على الدعاء، وأرشد العباد إلى أن يدعو بعضهم لبعض (5كما ورد في دعاء الغائب لأخيه الغائب5)(5) ؛ لأن الله تعالى أقدره عليه، وهذا من جنس أن
(1) سورة غافر، الآية:60.
(2)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(3)
سقطت "إليه".
(4)
سورة الأعراف، الآية:180.
(5)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
والحديث الوارد في ذلك حديث عمر أنه استأذن من النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له، وقال له:
"يا أخي لا تنسانا من دعائك" أخرجه الإمام أحمد: (2/59) واللفظ له، وأبو داود في الصلاة باب الدعاء:
(ح/1498)، والترمذي في الدعوات:(ح/3562)، وقال:"حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في الحج، باب فضل دعاء الحج:(ح/2894)، وأبو يعلى:(5/206و 220)، وابن حبان في "المجروحين":(2/128) ، كلهم من طريق سفيان الثوري عن عاصم بن عبيد الله عن سالم عن ابن عمر عن عمر.
وأخرجه الإمام أحمد: (1/29) ، والهيثم بن كليب، وأبو يعلى –كما عزاه لهم ابن كثير في "مسند الفاروق":(2/326) ، كلهم من طريق شعبة عن عاصم به.
والحديث سنده ضعيف لضعف عاصم بن عبيد الله.
وأخرجه الخطيب: (11/396) من طريق أسباط بن محمد عن الثوري عن عبيد الله بن عمر عن سالم عن ابن عمر،
وفي سنده علتان:
الأولى: أن أسباط بن محمد مع أنه ثقة إلا أنه ضعف في الثوري.
الثانية: أنه قد خالف من هو أوثق منه، فقد رواه وكيع بن الجراح والقاسم بن يزيد عن الثوري عن عاصم بن عبيد الله عن سالم عن ابن عمر، فتعتبر روايته شاذة.
يعطيه مما أعطاه الله من المال ما ينتفع به لقدرته على ذلك، فهذا من باب الإحسان من بعض المسلمين لبعض.
وأما أهل الشرك (1) بالله فدهاهم عدم/ الفرقان (2) بين ما شرعه الله وما لم يشرعه من دعاء من لا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، وقد بيَّن الله (3) تعالى ذلك في كتابه بياناً (4) مفصلاً، وأنكر على من اتخذ من دون الله شفعاء، وبين أن هذا هو الشرك الذي لا يغفره (5) الله (6)، كما قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
(1) في "ش": "الإشراك".
(2)
في "م" و "ش": "الفرق".
(3)
لفظ الجلالة "الله" سقط من: (المطبوعة) .
(4)
في جميع النسخ: "مبيناً" والصواب ما أثبت.
(5)
في "م": "لا يغفر الله..".
(6)
في "ش": "تعالى".
شُفَعَاء} ، إلى قوله:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعا} (1) .
وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} (2) . فسبحان من حال بين قلوب المشركين عن فهم القرآن؛ حتى صار هدهد سليمان أعرف منهم بالشرك، وهو السجود للشمس، وأنكره على من فعله.
فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُم} (3) فأنكر الشرك بالله في العبادة وهو طير من جنس الطيور، وبيّن أن الشيطان صدهم عن السبيل، وأنهم ليسوا على هدى، ولا ريب أن السجود نوع من أنواع العبادة كالدعاء ونحوه، وقد ذكرها تعالى في كتابه وتعبد عباده بها وهي أنواع كثيرة، ومن أعظمها الدعاء سماه الله عبادة في مواضع من كتابه، كما في السنن من حديث النعمان بن بشير بأسانيد صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الدعاء (4) هو العبادة" ثم قرأ قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
(1) سورة الزمر، الآية: 43و 44.
(2)
سورة يونس، الآية:18.
(3)
سورة النمل، الآية:24.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في (4/267، 271، 276) ، وأبو داود في كتاب "الصلاة" باب
الدعاء: (ح/1479)، والترمذي في كتاب "تفسير القرآن" باب ومن سورة البقرة:
(ح/2969)، وأيضاً في باب ومن سورة المؤمن:(ح/3247) ، وأيضاً في كتاب
"الدعوات" باب ما جاء في فضل الدعاء: (ح/3372) .
وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
والنسائي في "الكبرى" كتاب التفسير: (ح/484) ، وابن ماجه في "سننه" كتاب الدعاء
باب فضل الدعاء (ح/3828)، وصححه ابن حبان كما في "الإحسان":(ح/396) ،
والحاكم في "مستدركه": (1/490و 491)، وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه
الذهبي من حديث النعمان بن بشير. قال ابن حجر في "الفتح": (1/49) : "إسناده
جيد".
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} (1)
قال ابن الجزري (2) في تفسير (3) الحصن الحصين: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي عن (4) دعائي وصرح به غيره من المفسرين – (6كأبي جعفر بن جرير6 (5)) (6) - وغيرهم.
وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (7) بحذف الياء أي يا ربنا، ومعناها أدعو وهو العامل للنصب في
المضاف، ثم قال في آخر الآية {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} (8) ، فعلم يقيناً أن
المراد بقوله {دَعْوَتُكُمَا} قول موسى {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وموسى يدعو وهارون يؤمن، وهذا هو حقيقة الدعاء في الكتاب والسنة واللغة والعرف والاستعمال مطّرد (9) ، وهذا في القرآن أكثر من أن يحصى.
(1) سورة غافر، الآية:60.
(2)
في جميع النسخ: "ابن الجوزي"، وهو خطأ.
(3)
انظر شرح "الحصن الحصين" للشوكاني ص19.
(4)
زاد في "م" و"ش": "أي دعائي".
(5)
زاد في "م" و"ش""في تفسيره"، وانظر تفسير "ابن جرير:(24/51 و52) .
(6)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(7)
سورة يونس، الآية:88.
(8)
سورة يونس، الآية:89.
(9)
سقطت من: (المطبوعة) : "مطرد".
وقال عن الخليل عليه السلام (1 في دعوته لأبيه وقومه1)(1){وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} إلى قوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} (2)
فسمى دعاءهم لغيره عبادة فما عرفوا من الشرك ما عرف هدهد سليمان؛ فإنه أنكر الشرك وهؤلاء قبلوه واتخذوه ديناً، ومعلوم أن الدعاء والاستغاثة كالسجود وأعظم، وقد تقرر (3) بالكتاب والسنة أنه عبادة، فجحد هذا العراقي ما كان معلوماً من الدين بالضرورة مكابرة وعناداً. وقد تقدم لشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم أن الدعاء نوعان لا تخرج العبادة (4) عنهما: دعاء مسألة ودعاء عبادة، فدعاء المسألة يتضمن دعاء العبادة، ودعاء العبادة يستلزم دعاء المسألة (5) . وهذا العراقي (6) جهل هذه العلوم النافعة، فصار في ظلمة الجهل، فلم يعرف المعروف من المنكر، ولا عرف الحق من الباطل، فما وجدنا عنده إلا الخبط والعناد، والمرء عدو ما جهل. وفي هذه القصة ما ذكره الله تعالى (7) عن بلقيس لما جاءت سليمان عرفت من التوحيد ودعوة الرسل ما/ أوجب أن قالت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} (8) ولم تقل: أسلمت لسليمان، بل
(1) ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(2)
سورة مريم، الآيتان: 48و 49.
(3)
تصحف في "ش" إلى "يقرر".
(4)
سقطت "العبادة" من: (المطبوعة) .
(5)
انظر صفحة 52.
(6)
في هامش: (الأصل) : "مطلب".
(7)
سقطت من "ش" و "م": "تعالى".
(8)
سورة النمل، الآية:44.
قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} . عرفت دعوة الرسل بشواهد الأحوال، وأن الإسلام هو إخلاص الوجه والقلب وجميع الأعمال لله تعالى لا يصلح أن يقصد بشيء (1) منها أحد دون الله عز وجل، كما قال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} ، إلى قوله:{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} (2) . (4 وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدا} (3) 4) (4) .
فتأمل ما ذكر الله تعالى (5) في كتابه في الدعاء، والتشديد في صرفه لغيره،
واختصاصه به تعالى خلقه وقد قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدا} نعوذ بالله من صرف القلوب عن الحق إلى الباطل كما هو حال هذا المماحل (6) المعاند المجادل.
(1) في (الأصل) : "شيئاً"، وهو خطأ، والمثبت من "م" و "ش".
(2)
سورة الرعد، الآية:14.
(3)
سورة الجن، الآية:18.
(4)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(5)
سقطت "تعالى"من: "م" و"ش".
(6)
في "ش" بياض بمقدار كلمة، (في المصورة التي لدي) .