الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
(1)
ثم ذكر –رحمه الله – (2) تتبع آثار الأنبياء، وما ذهب إليه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من النهي عن ذلك، وذكر أنه قطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر عن محمد بن وضاح قال: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار التي بالمدنية، ما عدا قباء وأحداً، ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر، إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعياداً، وإلى التشبه بأهل الكتاب.
وما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من المهاجرين والأنصار، أنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم.
والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له، كقصد المشاعر والمساجد، وأما إذا نزل في مكان (3) بحكم الاتفاق، لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة
(1) في "ش": بياض بمقدار كلمة: (المصورة التي لدي) .
(2)
زاد في "ش": "تعالى".
(3)
في (الأصل) : "بمكان" والمثبت من: "م" و "ش" و "الاقتضاء".
حجاجاً وعماراً أو مسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم الناس بسنته، واتبع لها من غيرهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"(1) ، وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما (2) ابتدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة. فكيف إذا انفرد (3) به عن جماهير الصحابة؟
(1) أخرجه الإمام في "المسند": (4/126و127) ، وأبو داود في "السنة" باب
في لزوم السنة: (ح/6407) ، والترمذي أبواب العلم باب ما جاء في الأخذ بالسنة
واجتناب البدعة: (ح/2676) وقال: "حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في
"المقدمة"باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين: (ح/42و 43و 44) ،
والدارمي: (1/44)، وابن جرير في "جامع البيان":(10/212) ، البغوي
في "شرح السنة": (ح/102) وقال: "حديث حسن"، وابن حبان كما في
"الإحسان": (1/104)، الحاكم في "المستدرك":(1/95و 96و 97) وقال:
"صحيح ليس له علَّة". ووافقه الذهبي، وأبو نعيم في الحلية:(5/220و 221)
و (10/114و 115) وقال: "حديث جيد من صحيح الشاميين"كلهم من حديث
العرباض بن سارية.
قال ابن كثير في "تحفة الطالب": "
…
وصححه أيضاً الحافظ أبو نعيم
الأصفهاني، والدغولي وقال شيخ الإسلام الأنصاري هو أجود حديث في أهل الشام
وأحسنه". انظر ص 163: (ح/46) .
(2)
في (الأصل) : "ممن"ثم كتب في هامش الأصل: "مما" وفوقها حرف "خ" والمثبت
هو من: "م" و"ش" و"الاقتضاء".
(3)
في (الأصل) : "تفرد" والمثبت من "م" و "ش" و "الاقتضاء".
وأيضاً فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد، والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد.
ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور، فإنه يقال: إن هذا مقام نبي، أو قبر نبي (1) أو ولي، بخبر لا يعرف قائله، أو بمنام لا تعرف حقيقته (2) ، ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجداً (3) ، فيصير وثناً يعبد من دون الله تعالى.
شرك مبني على إفك" انتهى ما نقلته عن اقتضاء الصراط المستقيم (4) . وفي هذا القدر المنقول عن شيخ الإسلام كفاية، لأنه واف في (5) المقصود، ويكشف ما يلبس به كل مصدود، ولا يرده إلا من استحوذ عليه
الشيطان، وأنساه ذكر الرحمن، وصد عن معرفة/ الإسلام والإيمان، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
(1) سقطت من المطبوعة: "أو قبر نبي".
(2)
في "م" و"ش": "لا يعرف..".
(3)
في "م": "مساجداً".
(4)
انظر: صفحة 677- 699و 702-705و 739- 745و 748- 749، ط/العبيكان.
والمؤلف –رحمه الله –قد اختصر النقل عن شيخ الإسلام، فلم يأت به بتمامه وإنما
أتى بجمل وعبارات تدل على المقصود.
وقد قام محقق الكتاب محمد الفقي- عفى الله عنا وعنه- بإقحام كلام لشيخ الإسلام
ابن تيمية في ضمن هذا الكتاب مع أن المصنف لم يورده!! بل العجب العجاب أنه
أدخل كلاماً من عنده في الكتاب على أنه هو كلام شيخ الإسلام!!!
(5)
سقطت "في" من "م" و"ش".
الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (1) . فلله الحمد على بيان الحق، وإزاحة الكذب عن الصدق، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا (2) .
وأما العلامة ابن القيم – رحمه الله – (3) فله في بيان التوحيد وتحقيقه، وكشف ما ينافيه أو يضعفه فصول كثيرة في مصنفاته، فتذكر من كلامه البعض على نحو ما ذكرنا من كلام شيخه.
قال –رحمه الله تعالى- في كتابه"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"(4) :
(فصل (5) عظيم النفع جليل القدر، ينتفع به من عرف نوعي: التوحيد القولي العلمي، الخبري، والتوحيد القصدي، الإرادي، العملي، كما دل على الأول سورة:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} (6)، وعلى الثاني سورة:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} (7)، وكذلك دل على الأول قوله:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (8) الآية، وعلى الثاني:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم} (9) الآية، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في سنة
(1) سورة الأعراف، الآية:146.
(2)
في هامش: (الأصل) : "ربنا أي ياربنا".
(3)
زاد في "ش": "تعالى".
(4)
انظر: (2/40- 403) : (ط/دار العاصمة) .
(5)
في هامش: (الأصل) : "مطلب جليل في هذا الفصل فرحمة الله عليه..".
(6)
سورة الإخلاص، الآية:1.
(7)
سورة الكافرون، الآية:1.
(8)
سورة البقرة، الآية: 136، وسقطت من "ش":"الآية".
(9)
سورة آل عمران، الآية: 64، وزاد في "ش":"أن لا نعبد إلا الله..الآية".
الفجر (1) ، وسنة المغرب (2) ، ويقرأ بهما في ركعتي الطواف (3) ، ويقرأ بالآيتين في سنة الفجر (4) ؛ لتضمنهما التوحيد العلمي والعملي.
والتوحيد العلمي أساسه: إثبات الكمال للرب تعالى؛ ومباينته لخلقه، وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل.
والتوحيد العملي أساسه: تجريد القصد بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، والعبودية بالقلب، واللسان، والجوارح لله وحده.
فمدار ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه على هذين التوحيدين، وأقرب الخلق إلى الله أقومهم بهما علماً وعملاً؛ ولهذا كانت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أقرب الخلق إلى الله، وأقربهم إليه وسيلة أولو العزم، وأقربهم الخليلان، وخاتمهم سيد ولد آدم وأكرمهم على الله؛ لكمال عبوديته وتوحيده لله (5) .
(1) أخرجه مسلم كتاب صلاة المسافرين باب استحباب ركعتي سنة الفجر: (ح/98)
من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه أبو داود الطيالسي: (ص 257)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى":
(3/43)، وابن أبي شيبة في "مصنفه":(2/242) ، كلاهما عن أبي الأحوص
سلام بن سليم عن أبي إسحاق (عن مجاهد) عن ابن عمر –رضي الله عنهما –قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين مرة يقرأ في الركعتين بعد المغرب، والركعتين
قبل الصبح {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} .
ونبحوه أخرجه أحمد: (2/24و58و 59) قال: ثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي
إسحاق به.
(3)
أخرجه مسلم كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم: (ح/1218) من حديث جابر.
(4)
أخرجه مسلم كتاب صلاة المسافرين باب استحباب ركعتي الفجر: (ح/100) .
(5)
في "الصواعق": "لكمال توحيده وعبوديته لله".
فهذا الأصلان هما قطب رحى القرآن، وعليهما مداره، وبيانهما من أهم الأمور، والله سبحانه بينهما غاية البيان بالطرق العقلية والنقلية (1) ، والفطرية والنظرية، والأمثال المضروبة، ونوّع سبحانه الطرق بإثباتهما أكمل التنويع،
بحيث صارت معرفة القلوب الصحيحة، الفطر السليمة لهما بمنزلة رؤية الأعين المبصرة التي لا آفة بها (2) للشمس، والقمر، والنجوم، والأرض، والسماء، فذلك للبصيرة بمنزلة هذه (3) للبصر، فإن سُلِّط (4) التأويل على
التوحيد الخيري العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي (5) أسهل، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك.
ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمين لا ينفك أحدهما عن صاحبه، وإمام المعطلين المشركين فرعون، فهو إمام كل معطل ومشرك إلى (6) يوم القيامة، كما أن إمام الموحدين إبراهيم ومحمد عليهما السلام (7) إلى يوم القيامة"انتهى.
فأعجب لهذين الإمامين رحمهما الله تعالى (8) : تشابهت قلوبهما في العلم والإيمان، وألسنتهما في بيان الحق وإيضاحه، وكشف ما لبس به الملبسون، واعتمده المشركون، من المنامات والحكايات، التي اغتر بها
(1) ليست في "الصواعق": "النقلية".
(2)
في "م" و"ش": "بهما".
(3)
في "الصواعق": "هذا".
(4)
في جميع النسخ: "تسليط" والمثبت من "الصواعق".
(5)
في "م" و"ش": "القصد..".
(6)
سقطت من: (المطبوعة) : "إلى".
(7)
في "الصواعق": "صلوات الله وسلامه عليهما".
(8)
سقطت من "م" و"ش": "تعالى".
الجاهلون، وضل بها الأكثرون./ وبما بينَّاه –رحمهما الله-وأوضحاه يتبين به (1) الفرقان (2) بين أهل الشرك وأهل الإيمان، وبه يبطل كل ما زعمه هذا المماحل الفتان من أكاذيبه التي صادم بها الإيمان والقرآن، وجحود (3) ما بعث الله به المرسلين من توحيد رب العالمين، وما أنزله في كتابه المبين من قواطع الحجج والبراهين، التي دحضت حجج المشركين والمبطلين كما قال تعالى:{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا} (4) . فلقد ترامى بهذا العراقي (5) ما خامره من داء الشرك العضال، حتى هام في كل واد من البهرج والمحال، وأطنب في المماحلة وسيء المقال، حتى زعم أن عنده كثير من الأدلة على جواز أنواع الشرك والضلال، وهيهات هيهات. إذ لا صواب ولا هدى إلا فيما نطقت به السنة والكتاب، الذي أنزله الله هدى لأولي الأبصار والألباب؛ تنزيل من حكيم حميد.
فالدعاء الذي ينازع (6) فيه المبطلون وفيه يلحدون؛ وبه يشركون: هو من أشرف أنواع العبادة إذا قصر على الله الذي لا يستحقه أحد سواه، وقد قال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَق} (7) ، فهي له وحده ليس لغيره منها ولا مثقال ذرة،
(1) سقطت من: "المطبوعة) : "يتبين به..".
(2)
في "ش": "الفرق".
(3)
سقطت من: (المطبوعة) : "جحود".
(4)
سورة الفرقان، الآية:33.
(5)
في هامش: (الأصل) : "مطلب في حال العراقي نعوذ بالله من عمى الخلان".
(6)
في (الأصل) : "نازع"، والمثبت من:"م" و"ش".
(7)
سورة الرعد، الآية:14.
ومدلولها الطلب والسؤال، كما دل عليه قوله:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} (1) .
فأنكر تعالى (2) على من صرف شيئاً من الدعوة (3) لغيره، وأنه يكون بذلك كافراً، وهو نص في دعاء المسألة بدليل قوله:{لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} (4)، وقد قال تعالى:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} إلى قوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِين} (5) ، تبين بهذه الآية ونظائرها أن كل مدعو من دون الله لا ينفع داعيه ولا يضره، وأن دعوة من يدعي من دونه تنافي الإسلام، لأن أساسه التوحيد والإخلاص، وهذا الشرك ينافيه.
وقد وقع في هذه الأمة من هذا الشرك الذي بيّنه الله تعالى، وبيّن ضلال من فعله ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة، ومعرفة بالإسلام والإيمان، والناصح لنفسه لا يغتر بما زخرفه المشركون، ولبِّس به الملحدون. قال تعالى:{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} الآية (6) ،
(1) سورة الرعد، الآية:14.
(2)
سقطت من "ش": "تعالى".
(3)
في "م" و"ش": "الدعاء".
(4)
سورة الرعد، 14.
(5)
سورة الأنعام، الآية:71.
(6)
سورة الأنعام، الآية: 56، وفي "م" و"ش": ذكرنا تمام الآية: {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِين} .
فما أوضحها من آية في بيان أن جل شرك (1) المشركين إنما هو بدعاء من أشركوا مع الله في العبادة.
قال (2) العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : "فالخطاب من الله تعالى في كتابه هو حجة على أجل (4) وجوه الحجاج (5) ، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمة للعقول، وأبعدها عن (6) الشكوك والشبه، في أوجز لفظ، وأبينه، وأعذبه، وأحسنه، وأشرفه، وأدله على المراد؛ كقوله تعالى فيما حاج به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك، وقطع أسبابه، وحسم مواده كلها:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه} (7) .
فتأمل كيف أخذت هذه الآية (8) إلى المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسد بها عليهم أحكم سد وأبلغه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجوا من نفعه، وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق به قلبه (9) ،
(1) سقط من (المطبوعة) : "شرك".
(2)
في "م" و"ش": "وقال"، وفي هامش:(الأصل) : "مطلب".
(3)
في "م" و"ش": "أيضاً"، وانظر قوله-رحمه الله في "الصواعق المرسلة":
(2/460- 467) .
(4)
سقطت من: (المطبوعة) : "على أجل".
(5)
في "ش": "الحجج".
(6)
في "م" و "ش" و"الصواعق": "من".
(7)
سورة سبأ، الآيتان، 22و23.
(8)
في (المطبوعة) : "هاتان الآيتان"وهو تحريف.
(9)
زاد في "ش": "وروحه".
وحينئذ (1) فلابد/ أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي يقع بها عبَّاده (2) ، أو شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً معاوناً (3) ، أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع (4) عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه، وبطلت (5) ، انتفت أسباب الشرك، وانقطعت مواده.
فنفى سبحانه عن آلهتهم ملك مثقال ذرة في السموات والأرض، وقد يقول المشرك: هي شريكة المالك الحق فنفى شركتها (6) له، فيقول المشرك: قد يكون ظهيراً، ووزيراً ومعاوناً، فقال:{وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (7) فلم يبق إلا الشفاعة، فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وهو الذي يأذن للشافع، وإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، (8 كما يكون لأحد المخلوقين 8)(8) فإن المشفوع عنده (9) يحتاج إلى الشافع، ومعونته له، فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها، وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته، وهو الغني بذاته عن كل ما سواه، فإن الآلهة التي كانوا يثبتونها معه سبحانه كانوا يعترفون أنها عبيده ومماليكه ومحتاجة إليه، فلو كانوا آلهة كما يقولون [لعبدوه و](10)
(1) سقطت من"ش": "وحينئذ". وفي "م": "وح".
(2)
في "ش" و "الصواعق": "عابده".
(3)
في "ش": "أو معاونا".
(4)
في "م" و"ش": "
…
ينتفع به..".
(5)
سقطت "وبطلت"من: "م" و"ش".
(6)
في "ش": "شركها".
(7)
سورة سبأ، الآية:22.
(8)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(9)
أي: من ملوك الدنيا، ورؤسائها.
(10)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "الصواعق".
تقربوا إليه وحده دون غيره، فكيف يعبدونهم [من] (1) دونه؟ وقد أفصح سبحانه بهذا بعينه بقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه} (2)، أي: هؤلاء الذين تعبدونهم من دوني هم عبيدي، كما أنتم عبيدي يرجون رحمتي كما أنتم ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون أنتم عذابي فلماذا تعبدونهم من دوني؟ ومن ذلك قوله تعالى:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِه} (3) فلله (4) ما أحلى هذا الكلام، وأوجزه وأدله على بطلان الشرك، فإنهم إن زعموا أن آلهتهم خلقت شيئاً مع الله طولبوا بأن يروه إياه؛ وإن اعترفوا بأنها أعجز وأضعف وأقل من ذلك كانت إلهيتها باطلاً ومحالاً. وقال تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّا} (5) الآية. فاحتج على تفرده بالإلهية بتفرده بالخلق، وعلى بطلان إلهية ما سواه بعجزهم عن الخلق، وعلى أنه واحد بأنه (6) قهار والقهر التام يستلزم الوحدة، فإن الشركة تنافي تمام القهر.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه} إلى قوله: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
(1) ما بين المعقوفتين إضافة من: "الصواعق".
(2)
سورة الإسراء، الآية:57.
(3)
سورة لقمان، الآية:11.
(4)
في "م" و"ش": "فلله الحمد
…
".
(5)
سورة الرعد، الآية:16.
(6)
في (المطبوعة) : "باق.."وهو تحريف.
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} (1) .فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه، فمن لم يسمعه فقد عصى أمره، كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأصح برهان، في أوجز عبارة وأحسنها وأجلاها، وأسجل (2) على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد، وساعد بعضهم بعضاً وعاونه بأبلغ المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد، ثم بيَّن ضعفهم وعجزهم (3) عن استنقاذ ما يسلبهم (4) الذباب إياه (5) ، فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب ومن عابده الطالب نفعه (6) ، فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها؟
فأقام سبحانه/ حجة التوحيد؛ وبيّن إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب الألفاظ وأحسنها، لم يستكرهها غموض، ولم يشنها (7) تطويل، ولم يعيبها تعقيد، ولم تزر بها (8) زيادة ولا تنقيص، بل بلغت في الحسن والفصاحة والإيجاز ما لا يتوهم متوهم ولا يظن ظان أن يكون أبلغ في معناها منها، وتحتها من المعنى الجليل القدر، العظيم الشرف (9) ، البالغ في النفع ما هو أجل من الألفاظ) انتهى من "الصواعق المرسلة".
(1) سورة الحج، الآية: 73و 74. وفي "ش": "وما.."بزيادة الواو وهو تحريف.
(2)
في (المطبوعة) : "وسجل" وهو تحريف.
(3)
في "م": "ومن عجزهم..".
(4)
في (المطبوعة) : "ما يسلبه"وهو تحريف.
(5)
في (المطبوعة) : "منهم.."وهو تحريف.
(6)
في "الصواعق"زاد: "وخيره".
(7)
في جميع النسخ: "ولم يشبها
…
"، والمثبت من"الصواعق".
(8)
في جميع النسخ: "ولم يزدريها"، والمثبت من "الصواعق".
(9)
في (المطبوعة) : "الشريف" وهو تحريف.
وقال (1) –رحمه الله تعالى-:
(والشرك تشبيه للمخلوق بالخالق (2) تعالى (3) وتقدس في خصائص الإلهية، من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع، الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله تعالى وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً (4) ولا حياة ولا نشوراً شبيهاً بمن له الخلق كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فأزمّة الأمور كلها بيده سبحانه، ومرجعها إليه، فما شاء كان؛ وما لم يشأ لم يكن، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات.
ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه (5) ، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم، والإجلال، والخشية، والدعاء، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والتوبة، والاستغفار، وغاية الحب مع غاية الذل كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن تكون لله وحده، ويمتنع عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لغيره، فمن فعل ذلك بغيره فقد شبه ذلك (6) الغير بمن لا شبيه له، ولا مثل له ولاند له، وذلك
(1) انظر "الجواب الكافي": (184و185) : (ط/دار المدني) .
(2)
زاد في "ش": "وحده".
(3)
سقطت من "ش": "تعالى".
(4)
سقطت من "م" و"ش": "ولا موتاً..".
(5)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(6)
سقطت من (المطبوعة) : "ذلك".
أقبح التشبيه وأبطله، فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة) .
هذا معنى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى.
وأما ما يزعمه هذا العراقي من أن طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مجمع عليه.
فالجواب (1) أن نقول (2) : الله أكبر!، ما أعظمها من فرية على الله، وعلى كتابه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى السلف، وأئمة الدين، فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة جعل ما أجمع عليه الرسل، والكتب، والسلف، والمسلمون من تحريم دعوة غير الله والنهي عنها، واتخاذ الشفعاء جعل ذلك المحرم الذي هو دين أهل الجاهلية مجمعاً عليه، ووضع الشرك موضع التوحيد، والباطل موضع الحق، نعوذ بالله من زيغ القلوب، ومسخ العقول، فإن هذا لا يقوله إلا من زاغ قلبه، ومسخ عقله.
كيف ينسب الأمة إلى الإجماع على ما نفاه الكتاب والسنة، من الشرك الذي هو دين المشركين؟ وقد أخبر الله عنهم بأنهم اتخذوا الشفعاء في مواضع من كتابه، وأنكر ذلك عليهم غاية الإنكار، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ] } (3) الآية، وقوله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) الآية.
(1) في "ش" بياض بمقدار كلمة: (في المصورة التي لدي) .
(2)
في "ش": "أقول".
(3)
سورة يوسف، الآية: 18، وما بين المعقوفتين إضافة من:"م" و"ش".
(4)
سورة الزمر، الآية: 3، وسقطت "زلفى"من:(الأصل) .
وقد حذر الله الأمة عن هذا الشرك، وبلغهم نبيهم ما أنزل عليه في ذلك الشرك، وحذرهم منه غاية التحذير في حق كل أحد كائناً من كان، وهو يناقض الدين الذي اختاره (1) لنفسه، وهو إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى (2) ، وبعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله في كتابه، ودعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إليه، وأخبرهم أنه هو دينه، وجاهدهم عليه، وأجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها، ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة، فإنهم أجمعوا على ما أنزله (3) الله تعالى في كتابه، واختاره لنفسه، وبعث به نبيه، قال الله (4) تعالى:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} (5)، وقال (6) تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين] } (7) الآية،
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (8) ، ونهى فيما أنزل في كتابه عن اتخاذ الشفعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله وحيه [وقد نهاه عن دعوة غيره في مواضع كثيرة من القرآن](9) ، ونهى (10) عما نهى الله عنه، فهو يدعو الأمة إلى تركه، ويدعو إلى ما شرعه الله لأنبيائه (11) ورسله من الإخلاص، وأخبر أنه لا ينتفع إلا من تخلى عن الشفعاء رأساً.
(1) زاد في "م" و"ش": "الله تعالى".
(2)
سقطت من "ش": "تعالى".
(3)
في "ش": "أنزله".
(4)
سقطت لفظ الجلالة "الله" من: "ش".
(5)
سورة الزمر، الآية:3.
(6)
في "ش" زيادة: "تعالى".
(7)
سورة البينة، الآية: 5، وما بين المعقوفتين إضافة من:"م" و"ش".
(8)
سورة الزمر، الآية:14.
(9)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "م" و"ش".
(10)
في "م" و"ش": "وينهى عما نهى".
(11)
في "ش": "ولأنبيائه".
فالإجماع إنما هو على ما يحبه الله ورسوله، ويأمر به من دينه، والنهي عما نهى عنه من دين المشركين من أهل الجاهلية، ومن قبلهم من مشركي العرب، كما (1) ورد عن مشركي قوم نوح أنهم قالوا: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله.
وقد أبلغ تعالى في كتابه في البيان بقوله في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي (2) لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَدا} إلى قوله: {إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِه} (3)، وقال:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّا} (4) الآية، وقال تعالى (5) :{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدا} (6) الآية.
فيقال لمدعي الإجماع: صحح لنا القول بجوازه عن واحد من سلف الأمة وأئمتها، ومن المحال أن يجد ذلك، والقرآن ينادي بالنهي عنه، وتكفير من فعله وظلمه وضلاله.
فسبحان الله! كيف ينسب هذا العراقي، وأمثاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى في حقه ما (7) ينافي ما اختاره الله لنفسه من الإخلاص، فقد افترى على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وبدل دينه الذي بعث به الأنبياء والمرسلين، واختار لنفسه دين المشركين مع الكذب والزور والإفك والفجور.
(1) في "م" و"ش": "كما قد".
(2)
سقطت "إني" من: (الأصل) .
(3)
سورة الجن، الآيات: 21و 22و 23، وفي (الأصل) : "
…
من الله"الآية،
والمثبت من: "م" و"ش".
(4)
سورة الأعراف، الآية: 188، وفي "ش":"ضراً ولا نفعاً"، وهو خطأ.
(5)
سقطت "تعالى"من: "م".
(6)
سورة الجن، الآية:20.
(7)
في "م" و"ش": "بما".
وما ذكره من هذا الإجماع باطل من وجوه:
الأول: أن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو أحداً من دونه، ووجّه الخطاب إليه بالنهي عن هذا الأمر في مواضع من كتابه، تعظيماً لهذا المنهى عنه، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغه أمته، فقال (1) :{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِين} (2) وهذا عام يتناول كل مدعو، حتى الأنبياء والملائكة والصالحين، كما قال تعالى:/ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا} (3) .
اتفق المفسرون والأئمة أن هذه الآية نزلت فيمن يدعو الأنبياء والصالحين والملائكة، فانظر إلى هذا التهديد والوعيد الشديد فيمن يدعو مع الله غيره من الأنبياء والملائكة والصالحين، فمن المحال أن يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعل ما نهاه الله (4) عنه: من دعوة غير الله، فمن (5) ادعى ذلك فقد افترى على الله، وعلى رسوله بما لم ينزل الله به سلطاناً.
ومن المحال أيضاً في حق من بلغه القرآن من سلف الأمة وأئمتها أن يرضى أن تقلب حقيقة الدين التي أحقها الله تعالى (6) في كتابه: من تحريم الشرك به (7) بدعوة الأموات والغائبين، وتعلق القلوب في خصائص الإلهية بغير
(1) زاد في "ش": "تعالى".
(2)
سورة غافر، الآية:66.
(3)
سورة الإسراء، الآية:56.
(4)
زاد في "م" و"ش": "تعالى".
(5)
في "م" و"ش": "ومن".
(6)
سقطت "تعالى"من: "م" و "ش".
(7)
سقطت "به"من: "م" و"ش".
رب العالمين، وهذا هو الباطل المحض، والاجتراء على الله وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
سبحان الله! كيف يخفي هذا على من سمعه؟ وكيف تخفى حال من وضعه هذا (1) الوضع وبدل دين الله، وأقام الشرك مقام التوحيد، والتوحيد مقام الشرك؟.
وهذا القول ينبئك عن فساد ما سوّد به (2) القرطاس، من وسواس الخناس، الذي يوسوس (3) في صدور الناس. وهذا (4) الذي ادعاه هذا العراقي هو عين المحادة لله ولرسوله وللمؤمنين،
(1) في "م" و"ش": "على هذا".
(2)
أي ابن جرجيس.
(3)
في "ش": "يوسوس به..".
(4)
من هنا إلى قوله: "شاء المشرك أم أبى"ليس في النسختين: "م" و"ش"، وكتب فيهما بدلاً منه ما نصه:
"وما قاله العراقي من قلبه الحقائق يشبه ما ذكره المفسرون عن اليهود في معنى قوله تعالى: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُون} يجعلون الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والحق فيها باطلاً، والباطل فيها حقاً.
ومما أشبه اليهود فيه أيضاً استحلال ما حرمه الله تعالى في كتابه من دعوة غير الله والاستغاثة بمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا} الآية.
وكان النبي لله إذا اجتهد في اليمين قال: "والذي نفسي بيده"، وهو أكمل الخلق- صلوات الله وسلامه عليه- عبودية لربه وتذللاً وخضوعاً له، يحب ما يحبه الله ويكره ما يكره مولاه.
وقد أرشد ابن عمه عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما –إلى أن يقصر سؤاله على الله تعالى فقال: "وإذا سألت فسأل الله"؛ وذلك لكونه من أفضل العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله، وما قال صلى الله عليه وسلم يوماً لأحد: إسألني أو استغث بي بل قال: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله".
ولا ريب أن مدلول الدعاء هو السؤال والطلب، كما دل على ذلك الكتاب والسنة واللغة والفطرة والعقول وإن جحد ذلك من جحده، وقد أمر الله تعالى عباده بسؤاله فقال:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} (1)، وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس:"إذا سألت فسأل الله"(2) .
وقد قصر صلى الله عليه وسلم ابن عمه في سؤاله على ربه تعالى، ولا ريب أن ذلك من أنواع العبادة التي لا يصلح أن يصرف منها شيء لغير الله كائناً من كان، والدعاء هو العبادة في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، شاء المشرك أم أبى.
الوجه الثاني: أن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة، حتى من هو أفضل منه من الخلفاء الراشدين، ومن في طبقة ابن عباس كابن عمر وغيره، ومن دونهم: لم يعهد عن أحد منهم أنه أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا رسول الله (3) اشفع لي أو أسألك الشفاعة"، ولو كان خيراً سبقوا إليه، ولما أجدبوا خرج عمر فاستسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله إماماً يدعو ويؤمنون فقال:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا فيسقون"(4) .
فسبحان الله! كيف يجوز على أفضل الصحابة بعد أبي بكر أن يعدل عن
(1) سورة النساء، الآية:32.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سقطت من "ش": "الله".
(4)
سبق تخريجه.
النبي صلى الله عليه وسلم في التوسل في حال الحاجة والضرورة إلى عمه العباس (1وهو يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم هذا محال1)(1) .
هذا والسابقون الأولون متوافرون، لم ينكر ذلك على عمر أحد منهم (2) ، ولو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته عندهم جائزاً لما جاز على عمر والسابقين الأولين أن يعدلوا عنه إلى العباس.
والميت قد غاب عن الدنيا وأهلها، وأفضى إلى الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وفي سؤال الميت تنزيل له منزلة علام الغيوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وفيه تشبيه المخلوق بالخالق في خصائص
الآلهية، وهي تجريد القصد، والإرادة، والطلب، والنية لله وحده، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (3) وهي "لا إله إلا الله".
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (4)"والحنيف" هو المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه.
والمقصود أن من أقبل على غير الله بقلبه ووجهه/ ولسانه وسائر (5) جوارحه رغبة ورهبة إليه، فقد أعرض لذلك القصد والإرادة، وقد قال تعالى:
(1) ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(2)
في "م" و "ش": "أحد منهم على عمر..".
(3)
سورة لقمان، الآية:22.
(4)
سورة النساء، الآية: 125، وفي هامش "م":"قف تأمل معنى الحنيف".
(5)
سقطت من "ش": وسائر".
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ] (1) } فإن كانت الصلاة الشرعية هي مدلول الآية، فقد تضمنت نوعي الدعاء: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فالصلاة لا تصلح إلا باجتماعهما فيها، ومعلوم أن ما اشتملت عليه الصلاة الشرعية فهو عبادة، تعبد الله به العباد، وكذلك قوله:{وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} (2) فما أبقت هذه الآية في العبد نصيباً لغير الله في كل ما يحبه (3الله من عبده ويرضاه3)(3) .
وقد تقرر هذا التبيان من محكم [القرآن](4) فيما أسلفته في أول الجواب، ولله الحمد والمنة، وبه الحول والقوة.
ولا ريب أن اتخاذ الشفعاء والتوجه إليهم بالقلب واللسان ينافي إسلام القلب والوجه لله [وحده](5)، وقد قال تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} (6) .
أخبر الله تعالى أن النذارة بالقرآن لا ينتفع بها إلا من تخلى عن الشفعاء في دار العمل، وعلق رغبته ورهبته وسؤاله وطلبه بمن له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله؛ وإليه يرجع الأمر كله، وهذا هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي تحقيقه وتقريره من الآيات ما لا يحصى.
فمن تدبر القرآن والسنة عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم حَمى حِمى التوحيد، وأبطل وسائل الشرك، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي رواه
(1) سورة الأنعام، الآية: 162، وما بين المعقوفتين إضافة من:"م" و"ش" أما في
الأصل فذكرت الآية إلى قوله: "ونسكي" وبعدها "الآية".
(2)
سورة الأنعام، الآية:162.
(3)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(4)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "م" و"ش".
(5)
ما بين المعقوفتين إضافة من "م" و "ش".
(6)
سورة الأنعام، الآية:51.
الطبراني وغيره (1) أنهم لما قال بعض الصحابة لبعض: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، قال صلى الله عليه وسلم:"إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله"(2) فهذا في حال حياته (3) صلى الله عليه وسلم نهاهم سداً للذريعة، وأن لا يجعلوا
(1) سقطت من "م" و"ش": "وغيره".
(2)
أخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد"(1/159) عن عبادة بن الصامت مرفوعاً قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-قدس الله روحه، ونور ضريحه- في كتابه النفيس"الرد على البكري":(ص/153و 154) حينما اعترض عليه البكري بعدم صحة هذا الحديث: "هذا الحديث لم يذكر للاعتماد عليه بل ذكر في ضمن غيره ليتبين أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسنة كما أنه إذا ذكر حكم بدليل معلوم ذكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك لما في ذلك من الاعتضاد والمعاونة، لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي، ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك، وبآثار الصحابة والتابعين، بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات والمنامات مما يصلح للاعتضاد فما يصلح للاعتضاد نوع، وما يصلح للاعتماد نوع. وهذا الخبر من النوع الأول فإنه رواه الطبراني في "معجمه" من حديث ابن لهيعة، وقد قال أحمد كتبت حديث الرجل لأعتبر به، وأستشهد به مثل حديث ابن لهيعة، فإن عبد الله بن لهيعة قاضي مصر كان من أهل العلم والدين باتفاق العلماء، ولم يكن يكذب باتفاقهم، ولكن قيل إن كتبه احترقت فوقع في بعض حديثه غلط؛ ولهذا فرقوا بين من حدث عنه قديماً، ومن حدث عنه حديثاً، وأهل السنن يروون له" إلى أن قال –رحمه الله: "وقد روى الناس هذا الحديث من أكثر من خمسمائة سنة إن كان ضعيفاً، وإلا فهو مروي من زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وما زال العلماء يقرؤون ذلك، ويسمعونه في المجالس الكبار والصغار، ولم يقل أحد من المسلمين: إن إطلاق القول إنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر ولا حرام..".
(3)
سقطت من "ش": صلى الله عليه وسلم".
استغاثتهم بأحد دون الله عز وجل.
وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"(1)، وقال:"اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد"(2) .
ويأتي من زيادة البيان في هذا المقام من كلام السلف والعلماء ما يكفي طالب الحق {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور} (3) .
الوجه الثالث (4) : أن النبي صلى الله عليه وسلم في حال نزول الموت به قال: "اللهم الرفيق الأعلى"(5) ، ومن كان في الرفيق الأعلى فقد غاب عن الدنيا
(1) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا
…
} :
(ح/3445) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2)
وتمامه "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" أخرجه مالك في "الموطأ"كتاب قصر الصلاة في السفر باب جامع الصلاة: (ح/85)، ومن طريقه ابن سعد في "الطبقات":(2/240و241) عن عطاء بن يسار مرسلاً بلفظه.
وأخرجه عبد الرزاق في كتاب الصلاة باب الصلاة على القبور: (1/406) ، وابن أبي شيبة، كتاب الجنائز من كره زيارة القبور:(3/345) عن زيد بن أسلم بنحوه.
ووصله الإمام أحمد في "مسنده": (2/246)، والحميدي:(ح/1025) دون قوله "يعبد". كلاهما من حديث أبي هريرة وفي سنده حمزة بن المغيرة بن نشيط قال الحافظ: "لا بأس به".
ورواه أبو نعيم في "الحلية": (7/317) بلفظ "لا تجعلوا قبري وثناً.."وقال عقبه: "غريب من حديث حمزة تفرد به عنه سفيان".
والحديث قد صححه جماعة من أهل العلم منهم البزار، وابن عبد البر، انظر "تنوير الحوالك":(1/186) .
(3)
سورة النور، الآية:40.
(4)
في "ش": بياض بمقدار كلمتين: (في المصورة التي لدي) .
(5)
أخرجه البخاري مفرقاً في عدة مواضع كتاب المغازي باب آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم (ح/4463) ، و (ح/4436و 4437و 4438و 4463و 4586و 6348و 6509) .
وأهلها (1)، كما قال تعالى في حق المسيح ابن مريم:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} (2) ، فأخبر عليه السلام أنه لما كان بين أظهرهم كان شهيداً عليهم؛ فلما غاب عنهم كان الشهيد هو الله، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فكيف ينزّل الغائب منزلة من لا يخفى عليه شيء في الأرض (3) ولا في السماء؟.
الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم أمته كل خير يعلمه لهم، وحذرهم (4) عن كل شر يعلمه لهم، كما في حديث سلمان:"علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل"(5) الحديث، والخراءة آداب التخلي.
وعلمهم نبيهم كيفية الصلاة عليه والسلام (6) ، لما فيه من أداء حقه عليهم ونفعه لهم، ولو كان الاستشفاع به بعد وفاته ينفعهم ويجوز منهم لما ترك تعليمهم ذلك وإرشادهم إليه، فلما لم يفعل ذلك علم أنه مما لا يجوز منهم، كما دل عليه ما تقدمت الإشارة إليه/ من آيات الشفاعة، وأن الله أنكر على المشركين اتخاذهم الشفعاء، بسؤال الشفاعة، وطلبها منهم، وأخبر أنها منتفية في حق من طلبها من غير الله، وبيَّن أن ذلك شرك نزه (7) تعالى نفسه عنه،
(1) سقطت من: (المطبوعة) : "وأهلها".
(2)
سورة المائدة، الآية:117.
(3)
في "م": "أرض".
(4)
في "ش": "وأنذرهم".
(5)
أخرجه مسلم كتاب الطهارة باب الاستطابة: (ح/262) .
(6)
في "ش": "عليه السلام".
(7)
في "ش": "منزه".
سبحان الله عما يشركون، وهذا الحكم عام لا تخصيص فيه لأحد أصلاً. فتأمل هذه الأوجه يتبين لك خطأ هذا العراقي المغرور، وأنه عكس الإجماع، كما قد تبين من حاله، والإجماع الصحيح هو ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وتلقاه (1) عنه الفقهاء في كتبهم، فإنه قال:"من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا" وقد تقدم (2) .
(4 وتأمل قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ، وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُون} (3) ، ونظائر هذه الآية كثير، ويدركها من تدبر 4) (4) .
فمن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأمة عرف أن هذا هو الإجماع الصحيح، المستند إلى ما لا يحصى من أدلة الكتاب والسنة، ولو ذكرنا مستند هذا الإجماع من الكتاب والسنة لطال الجواب، وقد تقدم الكثير من ذلك:{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) والحق عليه نور وله ظهور، والباطل عليه ظلمة ودثور.
فتدبر قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدا} (6) ،
(1) في "ش": "عنهم..".
(2)
انظر: ص 49.
(3)
سورة النحل، الآيتان: 86، و87.
(4)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(5)
سورة البقرة، الآية:211.
(6)
سورة الجن، الآية:18.
وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْء} (1) فإن قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} يفيد الحصر؛ أي: فدعوة الحق له لا لغيره، فدعوة غيره ليست من الحق في شيء، وقوله:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} ، فهذا الاسم لا يستعمل إلا في حق من يعقل، كما هو معروف عند النحاة، وقوله:{لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْء} ، فيه دليل على أن المراد دعاء المسألة، فأخبر سبحانه أنهم لو دعوهم فإجابتهم لهم فيما سألوهم ممتنعة منتفية بالكلية، وقوله:{إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلال} (2) ؛ لأنهم لم يجدوا مما طلبوه وأمَّلوه منهم شيئاً، وبيَّن تعالى أن دعوة غيره كفر وضلال.
وهذه الآية وأمثالها تقطع كل من دعا غير الله، من ميت أو غائب ولهذا أعدت الاستدلال بها، فإن أصل دين الإسلام أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع، وليس في الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة من أجاز أن يسأل ميت أو غائب من دون الله؛ لأنه لا قدرة له على شيء من أمر الدنيا، ولا من أمر الآخرة، مع غفلتهم وعدم استجابتهم لمن دعاهم، وكراهتهم لذلك، وقد تقدم التصريح بذلك في الآيات المحكمات، ولم ينقل عن أحد من علماء الصحابة والتابعين والأئمة أنه استغاث بنبي أو غيره، أو استشفع به بعد وفاته، ولما أعتقد أناس في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الألهية، كاعتقاد كثير من هؤلاء في أرباب القبور خد الأخاديد وأضرمها
(1) سورة الرعد، الآية:14.
(2)
سورة الرعد، الآية:14.
بالنار (1) وقال:
لما رأيت الأمر أمراً منكرا
…
أججت ناري، ودعوت قنبرا
وهذا هو الشرك الأكبر، وهو أعظم ذنب عصى الله به، وهو الذي بعث
الله [به](2) رسله بإنكاره، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ/ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.
وقد تقدم قول الإمام مالك وغيره: (إن الطاغوت ما عبد من دون الله) .
وقد حده العلامة ابن القيم بحد جامع مانع، فقال:(الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده: من معبود، أو متبوع، أو مطاع)(4) .
فلا ذنب أعظم من أن يعتقد أحد أنه إذا دعا ميتاً أو غائباً أو استشفع به أنه يشفع له، وقد أبطل الله هذا الزعم الكاذب في الآيات المحكمات وفي الآيات التي ذكر فيها الشفاعة، وبيَّن تعالى الشفاعة المثبتة، ونفى كل شفاعة فيها شرك تُطلب من غيره، كما تقدم من أنه شرك ينافي الإخلاص هو
دينه الذي لا يرضى من أحد ديناً سواه، كما قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (5) . ولا ريب أن الاستشفاع بالأموات يتضمن أنواعاً من العبادة سؤال غير الله، وإنزال الحوائج به من دون الله، ورجائه، والرغبة إليه، والإقبال عليه بالقلب
(1) القصة أخرجها البخاري في كتاب "استتابة المرتدين" باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم: (ح/6922) مختصرة، وابن عبد البر في "التمهيد":(5 /317 و 318) . وقد حسن الحافظ ابن حجر في "الفتح": (12/282) سندها.
(2)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "م".
(3)
سورة النحل، الآية:36.
(4)
انظر "مدارج السالكين": (3/482) .
(5)
سورة الزمر، الآيتان: 2و3.
والوجه والجوارح واللسان، وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في مسألة الوسائط: وقد سئل عن رجل قال: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله تعالى.
فأجاب:
(الحمد لله رب العالمين إن (1) أراد أنه لا بد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله، فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به ونهى عنه (2) ، ولا يعرفون ما يستحقه من أسمائه الحسنى وصفاته العلى (3) ، وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده) .
-إلى أن قال-:
(وإن أراد بالواسطة: أنه لابد من واسطة يتخذه (4) العباد بينهم وبين الله (5) في جلب المنافع، ودفع المضار، يسألونه ويرجونه (6) ، فهذا من أعظم الشرك الذي كفَّر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع، ويستدفعون (7) بهم المضار.
لكن الشفاعة لمن أذن (8) الله له فيها. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ
(1) في "م": "إنه إن أراد
…
".
(2)
زاد في "الفتاوى": "..وما أعده لأوليائه من كرامته وما وعد به أعداءه من عذابه".
(3)
في "الفتاوى": "العليا".
(4)
في "م" وش": "تتخذه..".
(5)
ليست في "الفتاوى"جملة: يتخذه العباد بينهم وبين الله".
(6)
ليست في "الفتاوى"جملة:"يسألونه ويرجونه".
(7)
في "الفتاوى": ويجتنبون المضار".
(8)
في "الفتاوى": "يأذن".
مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُون} (1)، وقال تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيع} (2) ، وذكر قول الله تعالى (3)
فبيَّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه بما يحبه ويرضاه (5) ، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، وقال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (6) فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويسألهم جلب المنافع، وسد الفاقات (7) ، وتفريج الكربات، فهو كافر بإجماع المسلمين) انتهى (8) .
قلت: فتفطن لقوله –رحمه الله تعالى-: (يدعوهم ويسألهم) .
(1) سورة السجدة، الآية:4.
(2)
سورة الأنعام، الآية:51.
(3)
في "م" و"ش": "قوله تعالى".
(4)
سورة الإسراء، الآيتان: 56و 57.
(5)
ليست في "الفتاوى" جملة "بما يحبه ويرضاه".
(6)
سورة آل عمران، الآيتان: 79و 80.
(7)
في "الفتاوى": "..ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب، وهداية القلوب وتفريج الكروب..".
(8)
انظر "الفتاوى": (ح1/121و 124) .
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد (1) قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود/ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً. وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيّاً، فأنزل الله فيهم:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} إلى قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2)، فقال رجل من الأحبار: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى (3) ابن مريم؟ وقال رجل من نصارى نجران: وذلك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا أمرني". فأنزل الله في ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (4) انتهى ما رواه ابن إسحاق (5) . وذكر شيخ الإسلام أيضاً- بعد كلامه الذي سبق – في (6) مشايخ العلم
(1) سقطت من "م" و"ش": "ابن أبي محمد..".
(2)
سورة آل عمران، الآيات: 65-67.
(3)
سقطت من "م" و"ش": "عيسى".
(4)
سورة آل عمران، الآية:79.
(5)
أخرجه ابن جرير في "تفسيره": (3/305)، وابن هشام في "السيرة":(2/180 و181)، والبيهقي في "الدلائل":(5/384) .
كلهم من طريق محمد بن إسحاق به، وفي سنده محمد بن أبي محمد –مولى لزيد ابن ثابت –وهو مجهول كما قال الحافظ ابن حجر.
(6)
في "الفتاوى": "من
…
".
[والدين](1) ، جعلهم الله وسائط بين الرسول وبين (2) أمته (3) ، يبلغون عنه، ويقتدون به فمن جعلهم وسائط بين الرسول وبين (4) أمته (5) في البلاغ عنه فقد أصاب؛ وهم إذا اجتمعوا فاجتماعهم حجة قاطعة، لا يجتمعون على ضلالة، وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والرسول، إذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق، بل كل أحد (6) يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم. فمن أخذه أخذ بحظ وافر"(7) .
(1) ما بين المعقوفتين إضافة من: "م" و"ش" و"الفتاوى".
(2)
سقطت من: (المطبوعة) : "وبين".
(3)
في "ش": "في البلاغ".
(4)
سقطت من: " (المطبوعة) : "وبين..".
(5)
مما بين القوسين سقط من "ش".
(6)
سقطت من "ش": "أحد".
(7)
جزء من حديث أوله "من سلك طريقاً
…
"أخرجه أبو داود في العلم باب الحث على طلب العلم: (ح/3641) ، والترمذي في العلم باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة: (ح/2682) ، وابن ماجه في المقدمة باب فضل العلماء والحث على طلب العلم: (ح/232) ، وأحمد: (5/196) ، والدارمي: (1/83) ، وابن حبان: (ح/88) ، والطبراني في "مسند الشاميين": (2/224) ، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (1/35و 36)، والبغوي:(2/276) كلهم من طريق عبد الله بن داود عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن داود بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء وفيه قصة.
قال الترمذي: "ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي متصل"، ثم قال:"وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن الوليد بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح من حديث محمد وبن خراش..".
وقال البغوي: "حديث لا يعرف إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة".
وقال البزار- كما في تخريج "أحاديث إحياء علوم الدين": (1/50) : "داود بن جميل وكثير بن قيس لا يُعلمان في غير هذا الحديث، ولا نعلم روى عن كثير غير داود والوليد بن مرة، ولا نعلم روى عن داود غير عاصم".
وقال الدارقطني –كما في المصدر السابق-: (1/50) : "وعاصم بن رجاء ومن فوقه إلى أبي الدرداء ضعفاء"ا. هـ.
قال المنذري: "وقد اختلف في هذا الحديث اختلافاً كثيراً، فقيل فيه كثير بن قيس، وقيل قيس بن كثير بن قيس ذكر أنه جاءه رجل من أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها عن كثير بن قيس قال: أتيت أبا الدرداء، وهو جالس في مسجد دمشق فقلت: يا أبا الدرداء إني جئتك من مدنية الرسول في حديث بلغني عنك، وفي بعضها جاءه رجل من أهل المدينة وهو بمصر، ومنهم من أتيت في إسناده داود بن جميل، ومنهم من أسقطه، وروي عن كثير بن قيس عن يزيد بن سمرة عن أبي الدرداء، وروى يزيد بن سمرة وغيره من أهل العلم عن كثير بن قيس قال: أقبل رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء، وذكر ابن سميع في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام قال وكثير بن قيس أمره ضعيف أثبته أبو سعيد يعني وصيماً"ا. هـ. انظر "مختصر سنن أبي داود".
وقال ابن القطان-كما في "تخريج أحاديث إحياء علوم الدين": (1/50) : "اضطرب فيه عاصم فعنه في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: قول عبد الله بن داود عن عاصم عن واقد عن كثير بن قيس.
الثاني: قول أبي نعيم عن عاصم عمن حدثه عن كثير.
الثالث: قول محمد بن يزيد الواسطي عن عاصم عن كثير ولم يذكر بينهما أحداً.
والمتحصل من علة هذا الخبر هو الجهل بحال راوويين من رواته والاضطراب فيه ممن لم تثبت عدالته"ا. هـ.
وقال الزبيدي-كما في المصدر السابق: (1/50و 51) : "وقد مر عند الترمذي في رواية محمود بن خداش عن محمد بن يزيد فسماه قيس بن كثير فصار اضطراباً رابعاً.
والخامس: قال في "التهذيب"داود بن جميل، وقال بعضهم: الوليد بن جميل، وفي "جامع العلم"لابن عبد البر من رواية ابن عياش عن عاصم بن جميل بن قيس، ثم قال: قال حمزة بن محمد كذا قال ابن عيا ش في هذا الخبر جميل قيس.
وقال محمد بن يزيد وغير عن عاصم عن كثير بن قيس، قال: والقلب إلى ما قاله محمد بن يزيد أميل. وهذا اضطراب سادس وسابع وثامن
…
"ا. هـ.
وتابع إسماعيلُ بن عياش عبد الله بن داود.
أخرجه ابن عبد البر في المصدر السابق: (1/35و 36) .
قال ابن عبد البر: (1/35) : "وهكذا إسناد الحديث عند من يتقنه ويجوده
…
وحديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام خاصة مستقيم، وعاصم بن رجاء بن حيوة هذا ثقة مشهور..وأما داود بن جميل فمجهول لا يعرف هو ولا أبوه ولا نعلم أحداً روى عنه غير عاصم بن رجاء.."ا. هـ.
ورواه الأوزاعي عن كثير بن قيس عن يزيد بن سمرة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (1/37) .
وذكر ابن عبد البر أن الأوزاعي لم يقيمه، وأنه قد خلط فيه.
قلت: والحديث بهذا السند ضعيف، فهو مضطرب سنداً ومتناً كما بيَّن ذلك الحفاظ ويضاف لذلك جهالة داود جميل، وضعف كثير بن قيس والله أعلم.
وأما جعل الوسائط بين الله وبين خلقه، كالحجاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو أن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء شبهوا (1) الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله
(1) في "م" و"ش": "يشبهون".
أنداداً، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى) -إلى أن قال- رحمه الله تعالى-:
(والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة عند المخلوقين، قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1)، (3وقال تعالى عن صاحب يس:{وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِين} (2) 3) (3)، وقال (4) تعالى:{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (5) -إلى أن قال:
(وقد (6) قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ/ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (7) ، فبيَّن سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء (8) وسائط يدعوهم، ويسألهم
(1) سورة يونس، الآية:18.
(2)
سورة يس، الآية: 23و 24.
(3)
ما بين القوسين ليس في "الفتاوى".
(4)
في "م": "قال الله تعالى".
(5)
سورة الأحقاف، الآية:28.
(6)
ليست في "الفتاوى": "وقد".
(7)
سورة آل عمران، الآية: 79و 80.
(8)
في "ش": "والنبيين".
جلب المنافع، ودفع المضار، وسد الفاقات، وتفريج الكربات، فهو كافر بإجماع المسلمين، ومن ذلك اتخاذهم شفعاء) (1) .
وقد تقدم ما يدل على ذلك صريحاً، ويأتي هذا الكلام عنه-رحمه الله مبسوطاً.
وذكر قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه} (2) . ثم قال رحمه الله تعالى: (نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به (3) المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى (4) :{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (5) فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده" لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له:
(1) قد ذكر المصنف- رحمه الله –هذا الكلام في صفحة 168، وقد أثبتنا جميع الفروق -سوى ما ذكر – في الصفحة المذكورة فأغنى عن إعادتها هنا.
وهو في "الفتاوى": (ج1/123و 124و 125و 126) والمصنف –رحمه الله قد اختصر كلام شيخ الإسلام –رحمه الله.
(2)
في "م" و "ش": "الآية"، وهي في سورة سبأ، الآيتان: 22و23.
(3)
سقطت من: (المطبوعة) : "وبه".
(4)
سقطت من: (المطبوعة) : "تعالى".
(5)
سورة الأنبياء، الآية:28.
"ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع"(1)، وقال له أبو هريرة (2) : من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"(3) ، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته (4) : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن: ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين (5) النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص) (6) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وقال العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى-في معنى حديث أبي هريرة:
(تأمل هذا الحديث، كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال شفاعته: تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعباداتهم ومولاتهم، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب
(1) هذا قطعة من حديث الشغاعة الطويل وقد أخرجه البخاري مفرّقاً في "التفسير" باب ذرية من حملنا مع نوح: (ح/4712)، وأيضاً في "أحاديث الأنبياء":
(ح/3340)، ومسلم في كتاب "الإيمان" باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها:
(ح/194) من حديث أبي هريرة.
(2)
زاد في "ش": "رضي الله عنه".
(3)
أخرجه البخاري "كتاب العلم"باب الحرص على الحديث: (ح/99) ، وأيضاً في
كتاب "الرقاق" باب صفة الجنة والنار: (ح/6570) .
(4)
في (المطبوعة) : "حقيقتها" وهو تحريف.
(5)
في "ش": "أن النبي".
(6)
انظر كتاب "الإيمان": (ص 64و 65) : (ط/دار المكتب الإسلامي) .
الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ (1) يأذن الله للشافع أن يشفع، ومن جهل المشرك: اعتقاده أن من اتخذ وليّاً، أو شفيعاً أنه يشفع له، وينفعه عند الله، كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم، ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الأول:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِ} (2) .
وفي الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (3) .
وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع رسوله (4) صلى الله عليه وسلم فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من دعاها وعقلها) . انتهى (5) .
قلت: وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام، وابن القيم –رحمهما الله تعالى- هو الذي أجمع عليه أهل الحق سلفاً وخلفاً، كما قال تعالى:{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُون} (6) وقد (7) تقدم لشيخ الإسلام أن هذا مجمع عليه.
فلا يلتفت إلى ما أحدثه المشركون، وزخرفوه/ من الأكاذيب والأباطيل، وإن اعتمدها من زاغ قلبه عن الهدى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(1) في "م": "وح".
(2)
سورة البقرة، الآية:255.
(3)
سورة الأنبياء، الآية:28.
(4)
في"ش": "رسول الله..".
(5)
انظر"مدارج السالكين": (1/341) .
(6)
سورة الأحقاف، الآية:28.
(7)
سقطت من: (المطبوعة) : "وقد..".
"بدأ (1) الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ"(2)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ "قال: فمن"(3) .
وقد ذكر تعالى ما وقع من اليهود والنصارى من التغيير للحق والتبديل؛ كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون} (4) الآية، وقال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون} (5) .
وقد جرى في طوائف من هذه الأمة ما جرى من أهل الكتاب من الشرك بالأخبار والرهبان، وغيرهم من الأموات والغائبين ما لا يخفى على من له بصيرة يعقل بها ما ذكره الله تعالى في كتابه، وما حدث في الأمة من مشابهة اليهود
(1) في هامش "م": "قوله بدأ بالتحريك قاله المصنف".
(2)
أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً:
(ح/145) من حديث أبي هريرة.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم:
(ح/7320)، ومسلم كتاب العلم باب اتباع سنة اليهود والنصارى:(ح/2669)
من حديث أبي سعيد الخدري. دون قوله "حذو القذة بالقذة.." وبهذا اللفظ
أخرجه الإمام أحمد في مسنده: (4/125) .
(4)
سورة المائدة، الآية:78. زاد في "م" و"ش": {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوه
…
} الآية".
(5)
سورة التوبة، الآيات: 30-32.
والنصارى من الشرك والتبديل والتحريف، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه قال:"لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا (1) " (2) .
وقد ذكر شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى-طرفاً مما شابه فيه أهل الكتاب كثيراً من هذه الأمة، وما شابهوا فيه أعداء الرسل من الأمم، فإنه قال (3) : (وما زال المشركون يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون والضلال، كقوم
نوح وعاد وثمود، وهكذا تجد من فيه شبه (4) بهم، إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له؛ وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه:
استهزؤا ذلك لما عندهم من الشرك، وكثير من هؤلاء يخربون المساجد (5) ، فتجد المسجد الذي بني للصلوات الخمس معطلاً مخرباً، والمشهد (6) الذي بني على الميت عليه الستور والزينة والرخام، والنذور تغدو/ وتروح إليه، فهل هذا إلا لاستخافهم (7) بالله، وباياته، ورسوله، وتعظيمهم للشرك؟
(1) أخرجه البخاري كتاب الصلاة باب "55": (ح/435و 436)، ومسلم كتاب المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور:(ح/531) من حديث عائشة وابن عباس وفيه قصة.
(2)
في هامش (الأصل) و"م": "وهذا هو الواقع في هذه الأمة اتخذوا القبور مساجد ومشاهد".
(3)
انظر "الرد على البكري"ص 142.
(4)
في (الأصل) : "من عليه شبيه بهم
…
"، وفي "م" و"ش": "من عليه شبه بهم.." ولعله الصواب ما أثبت.
(5)
في "م" و"ش": "المسجد".
(6)
في (المطبوعة) : "والمسجد" وهو تحريف.
(7)
في (المطبوعة) : "إلا استخفاف منهم.." وهو تحريف.
فإنهم اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بني له المشهد أنفع لهم (1) من دعاء الله والاستغاثة به في البيت الذي بني لله عز وجل، وإذا (2) كان لهذا وقف، ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم منه (3) ؛ مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون} (4) .
يجعلون لله زرعاً وماشية ولآلهتهم زرعاً وماشية، فإذا أصيب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني وآلهتنا فقراء (5) ، وهكذا هذه الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد هي عندهم أعظم (6) مما يبذل عندهم للمساجد ولعمارة المساجد، وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه بكى عنده، وخضع ويدعو ويتضرع، ويحصل له من الرقة والعبودية وحضور القلب ما لا يحصل مثله في الصلوات الخمس والجمعة (7)
وقراءة القرآن، فهل هذا (8) إلا من حال المشركين المبتدعين، لا من حال الموحدين المخلصين المتبعين لكتاب الله (9) وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
(1) سقطت من "ش": "لهم".
(2)
في "ش": "إذا كان..".
(3)
سقطت من "ش": "منه..".
(4)
سورة الأنعام، الآية:136.
(5)
في "ش": "فقيرة".
(6)
في "ش": "أعظم عندهم..".
(7)
في (المطبوعة) : "الجمع" وهو تحريف.
(8)
في "الرد على البكري": "هذا الأمر..".
(9)
في "الرد على البكري": "لكتاب الله تعالى ورسوله..".
ومن هؤلاء: من إذا كانوا في السماع (1) فأذن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه، والذين يجعلون دعاء الموتى من الأنبياء والملائكة (2) والشيوخ أفضل من دعاء الله أنواعاً متعددة.
ومنهم من يحكي أنواعاً من الحكايات: حكاية أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وحكاية أن بعض المأسورين في بلاد العدو دعا الله فلم يخرجه، ودعا بعض المشايخ الموتى فجاء فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وحكاية أن بعض الشيوخ قال لمريده: إذا كانت لك حاجة إلى الله (3) ؛ فتعال فقف (4) إلى قبري (5) ، وتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب، فهؤلاء وأشباههم يرجحون/ هذه الأدعية على أدعية المخلصين لله مضاهاة لسائر المشركين) .
قلت: وهذا مما شابهت فيه هذه الأمة من قبلهم من أهل الكتاب والمشركين، ويأتي في كلام شيخ الإسلام كثير من هذا الضرب، مما اختلقه المشركون من هذه الأمة أسوة بأمثالهم (6) ممن ألحد في الدين، واتبع غير سبيل المؤمنين، ومن كذب على الله وافترى ونبذ الكتاب وراء ظهره واجتراء، وقد قال الله عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ. وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ
(1) في "الرد على البكري": "سماعهم".
(2)
في "الرد على البكري": "والأئمة".
(3)
ليست في "الرد على البكري": "إلى الله
…
".
(4)
ليست في "الرد على البكري": "فقف".
(5)
في "الرد على البكري": "وآخر قال
…
".
(6)
في جميع النسخ: "أمثالهم"، ولعل ما أثبته أصوب.
بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ. إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (1) .
وقد بيَّن الله تعالى في كتابه هذا الشرك الذي انتحله هؤلاء المشركون بياناً شافياً، وقد تقدم في الآيات المحكمات ما يبينه ويوضحه، وما يترتب على فعله من التهديد، والوعيد الشديد وتكفير (2) من فعله، فأخذ هؤلاء ما زخرفوه من الترهات والخيالات والشبهات، بدلاً عن الآيات المحكمات، وصريح السنة وصحيحها، فلا محال أبين من هذا المحال؛ ولا ضلال أبعد من هذا الضلال، ألم يسمعوا إلى قول الله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِين} (3) .
(1) سورة فاطر من الآية 19 حتى الآية 25.
زاد في "م" و "ش" قوله تعالى: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِير} .
وفي (المطبوعة) : "ولا البصير" وهو تحريف.
(2)
في (المطبوعة) : "وكفر" وهو تحريف.
(3)
سورة الأحقاف، الآية 5و 6.
(4)
في "م" و "ش": "وقال تعالى".
(5)
سورة فاطر، الآيتان: 13و 14.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون} (1) ، وقد تقدمت هذه الآيات وبعض نظائرها من الآيات المحكمات.
وقد عرفت أن كل داع قد أقبل قلبه (2) على المدعو، ووجه وجهه إليه، ورغب إليه ورجاه، وأحبه مع الله، وتوكل عليه، وخضع له وأناب إليه؛ وغير ذلك، وكل هذا عبادة لا تصلح إلا للحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في /الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
وسبحان الله! أين ذهبت عقول (3) المشركين عن عبادة الذي خلقهم ورزقهم؛ ويحييهم ويميتهم، ويتصرف فيهم بمشيئته وإرادته؟ ولا نفع ولا ضر إلا بمشيئته وقدرته (4) وحكمته (5)، وقد قال الله (6) تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون} (7)، وقال (8) :{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُون} (9) .
(1) سورة المؤمنون، الآية:117.
(2)
في "م" و"ش": "بقلبه".
(3)
في "م" و"ش": "هؤلاء المشركين..".
(4)
في (الأصل) : "وقدره"، والمثبت من "م" و"ش".
(5)
في "م" و" ش": زيادة "إلى عبادة مخلوق ضعيف عاجز لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن غيره".
(6)
سقط لفظ الجلالة "الله"من: "ش".
(7)
سورة النحل، الآية:17.
(8)
في "م" و"ش" زيادة: "تعالى".
(9)
سورة النحل، الآيات: 20-22.
ثم أخبر تعالى أن العلة التي صرفتهم عن قبول الحق، الإنكار والاستكبار، فأخذوا الضلال عوضاً عن الهدى، وقد أنذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم غاية الإنذار، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} (1)، وقال تعالى:{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ ِالْعِبَادِ} (2)، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً. قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (3) .
فسبحان الله! كيف جاز في عقول هؤلاء أن يتقربوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرك الذي بعثه الله بإنكاره، والإنذار عنه، وعداوة من فعله (4) ، وأصر عليه، وقتاله، وإباحة دمه وماله؟ كما دلت عليه هذه الآيات المحكمات ونظائرها.
قال الله (5) تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه} (6) والفتنة: الشرك بالله في العبادة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا
(1) سورة ص، الآيات: 65-68.
(2)
سورة آل عمران، الآية:20.
(3)
سقطت "تعالى"من: "م".
(4)
سقطت من (المطبوعة) : "فعله".
(5)
سقط لفظ الجلالة "الله"من: "ش".
(6)
سورة الأنفال الآية 39.
وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} (1) . والعجب أن كثيراً من هؤلاء لم يفهموا من هذه الآية إلا الشرك الأصغر، كيسير الرياء، وهذا من فساد العقول، والجهل بمضمون الدال والمدلول.
(4 والشرك بأرباب القبور والغائبين هو الشرك الأكبر المخرج عن الإسلام، و [هو] (2) شرك مشركي قريش والعرب، بل هو في أواخر هذه الأمة، فلا ينفع معه صلاة ولا عمل، وقد قال تعالى في حق المشركين:{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} (3) الآية، فكفرهم تعالى بالشرك بالدعاء الذي جحده كذباً على الله4) (4) .
وتأمل قوله: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فلا تصلح الإلهية إلا له وحده. و"الإله" هو الذي تألهه القلوب بأي نوع كان من أنواع العبادة كما تقدم، فمن صرف من العبادة شيئاً لغير الله، كالدعاء ونحوه فقد ألهه بالعبادة، واتخذه إلهاً من دون الله، ولا يختلف كلام أهل اللغة وأهل السنة سلفاً وخلفاً عن هذا المعنى (5) .
وقد تقدم في هذا الجواب نحو (6) مما ذكرناه هنا، ولو ذهبنا نذكر جميع الأدلة على هذا الأصل العظيم لاحتمل عدة أجزاء، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
(1) سورة الكهف، الآية:110.
(2)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "م" و"ش".
(3)
سورة غافر، الآيتان: 73و 74.
وزاد في "م" و"ش" قوله تعالى: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} .
(4)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(5)
زاد في "م" و"ش": "وهو صريح في الآيات المحكمات".
(6)
سقطت من (المطبوعة) : "نحو".
/ومن أعظم أسباب (1) الوقوع في الشرك: استصحاب العوائد وإلفها، وكثرة من ضل عن الحق إما جهلاً وإما عناداً، وبهذه الأسباب ونحوها كثر اللبس الذي نهى الله تعالى عنه اليهود في قوله:{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) ذكره تعالى في أول سورة البقرة تحذيراً لهذه الأمة أن يشابهوا أهل الكتاب فيما ذمهم تعالى به، ونهاهم عنه.
وقد عمت البلوى بذلك، ولم يستندوا فيه إلا إلى خيالات شيطانية، كما قال تعالى:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُون} (3) .
قال العلامة ابن القيم (4) –رحمه الله تعالى –لما ذكر سبب عبادة الأصنام التي صورها قوم نوح على صور الصالحين قال:
(وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بهم (5) ، والأقسام بهم (6) على الله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويحج إليه، ويذبح
(1) في (الأصل) : "الأسباب"، والمثبت من:"ش".
(2)
سورة البقرة، الآية:42.
(3)
سورة النمل، الآية:24.
(4)
انظر "إغاثة اللهفان": (1/216) .
(5)
في "م" و"ش": "والدعاء به والإقسام به..".
(6)
في "م" و"ش": "والإقسام به
…
".
عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً (1) ، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم.
وكل (2) هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، من تجريد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون، وأشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون} (3)
وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك:{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُون} (4) انتهى كلامه-رحمه الله تعالى- (5 وقد تقدم، وقد كرره في مواضع فأتبعناه، وهو كلام/ عظيم مطابق لما يقع من المشركين في كل زمان ومكان 5)(5) .
وليتأمل ما ذكره العلماء –رحمهم الله تعالى (6) - في قوله تعالى (7) : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ
(1) في "ش": "ونسكاً".
(2)
من بداية قوله "وكل.."موجود في "الإغاثة": (1/212) .
(3)
سورة الزمر، الآية:45.
(4)
سورة الأنفال، الآية:34.
(5)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(6)
سقطت من "ش": "تعالى".
(7)
سقطت من "م" و"ش": "تعالى".
أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير} (1) .
قال ابن عطية (2) في هذه الآية: (في الكلام حذف دل عليه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل عبدة (3) مسلمون أبدا، يعنى منقادون) .
وقال أبو حيان (4) : (وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآية تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم} لم (5) تتصل له هذه الآية بما قبلها) .
وقال مقاتل بن حيان (6) في قوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} (7) الآية.
قال: (فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا أي: لأنهم يعتقدون ذلك فيها، وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط، وشفعاء عند الله، لا أنهم (8) يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ. ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ
(1) سورة سبأ، الآيتان: 22و 23.
(2)
انظر "تفسير ابن عطية": (151) .
(3)
في "م" و"ش": "بل هم عبدة".
(4)
انظر "البحر المحيط" لأبي حيان (7/277) .
(5)
سقطت من "ش": "لم".
(6)
انظر "فتح القدير": (4/465) .
(7)
سورة الزمر، الآية:38.
(8)
في "م" و "ش": "لا لأنهم".
مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (1) . انتهى (2) .
ولا عجب من وقوع الكثير من الناس في الجهل بالتوحيد، ووقوعهم في الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، مع انتسابهم إلى الإسلام، وقراءتهم القرآن، وانتسابهم إلى شريعة الإسلام، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن زياد بن لبيد-رضي الله عنه-قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال: "ذلك عند أوان ذهاب العلم" قلت: يا رسول الله وكيف يذهب ونحن نقرأ القرآن ونقرؤه أبناءنا، ويقرؤه أبنائنا (3) ، أبناءهم؟، قال:"ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أوليس هذه (4) اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيها؟ "(5) .
وعن علي –رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه،
(1) سورة النحل، الآيتان: 53و 54.
(2)
سقطت من (المطبوعة) : "انتهى".
(3)
في "م" و"ش": "ويقرؤن".
(4)
في (الأصل) : "هذا.." والمثبت من "م" و"ش" و"مصادر التخريج".
(5)
أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (4/160و 218و 219)، وابن ماجه في "الفتن" باب ذهاب العلم والقرآن:(ح/4048)، والحاكم في "المستدرك":(3/590) كلهم عن طريق سالم بن أبي الجعد عن زياد بن لبيد.
وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه."!! وسكت عنه الذهبي.
وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": (3/354) : "رجال إسناده ثقات إلا أنه منقطع قال البخاري في "التاريخ الصغير" لم يسمع سالم بن أبي الجعد من زياد بن لبيد، وكذا قال الذهبي في الكاشف في ترجمة زياد..".
ورواه الترمذي في كتاب "العلم" باب ما جاء في ذهاب العلم (ح/4653) من حديث أبي الدرداء بنحوه وقال: "حديث حسن غريب".
مساجدهم (1) عامرة، وهي يومئذٍ (2) خراب من الهدى، علماؤهم أشر من تحت أديم السماء [من](3) عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود" (4) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان".
قلت: وقد ظهر الشرك والبدع في هذه الأمة بعد القرون المفضلة، بظهور الدول بالمشرق والمغرب، / كالأزارقة، وبني بويه، والقرامطة، ونبي عبيد القداح، والإسماعيلية ونحوها، فاشتدت غربة الإسلام، وصار أهل السنة غرباء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس أو يصلحون ما أفسد الناس"(5) ، وقد تقدم
(1) في "م" و "ش": "يومئذٍ عامرة..".
(2)
سقطت "يومئذٍ.."من: (المطبوعة) .
(3)
ما بين المعقوفتين إضافة من: (المطبوعة) .
(4)
أخرجه البيهقي في "الشعب": (ح/1908) ، وبنحوه البخاري في "خلق أفعال العباد" تعليقاً (ص48) من حديث علي، وفي سنده انقطاع والله أعلم.
(5)
المؤلف –رحمه الله قد ساق الحديث مع روايتين له مختصراً في لفظ واحد، وبيان ذلك كالتالي:
فحديث "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغربا"سبق تخريجه.
أما رواية "الذين يصلحون إذا فسد الناس"، فقد رواها جمع من الصحابة منهم:
جابر بن عبد الله بلفظ: "إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء"
قال: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون.."الحديث.
عزاه الهيثمي إلى الطبراني في "الأوسط": 7/278) ، وأخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة":(ح/173)، والطحاوي في "مشكل الآثار":(1/298) .
وفي سنده عبد الله بن صالح أبو صالح كاتب الليث، وهو كما قال الحافظ
ابن حجر صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة. وفي سنده أيضاً: أبو عياش المعافري، وهو مجهول الحال.
ومنهم: عبد الرحمن بن سنة بلفظ: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبي للغرباء، قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون.."
الحديث.
أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في "زوائده على المسند": (4/73-74) ، وابن وضاح في "البدع" ص 65، وابن عدي في "الكامل":(4/1615) ، كلهم من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن يوسف بن سليمان، عن
جدته ميمونة، عن عبد الرحمن بن سنة مرفوعاً.
والحديث بهذا السند ضعيف جداً لأن فيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك الحديث.
ومنهم: أبو الدرداء، وأبو أمامة، ووائلة بن الأسقع، وأنس بن مالك بلفظ:"إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً" قالوا: يا رسول الله من الغرباء؟ قال: "الذين يصلحون إذا
…
" الحديث.
وأخرجه الطبراني في "الكبير": (ح/7659)(8/178) ، والآجري في "صفة الغرباء" ص 21، وابن حبان في "المجروحين":(2/225) ، كلهم من طريق كثير بن مروان الفلسطيني الشامي عن عبد الله بن يزيد الدمشقي عن أبي الدرداء وأبي أمامة، ووائلة بن الأسقع، وأنس بن مالك مرفوعاً والحديث
بهذا السند موضوع لأن فيه علتان:
الأولى: ضعف كثير بن مروان، فقد حفظه الدارقطني، وكذبه يحيى بن معين، وقال الفسوي ليس بشيء، وقال الذهبي ضعفوه، انظر "الميزان"(3/409) .
الثانية: أن عبد الله بن يزيد الدمشقي أحاديثه موضوعة كما قال الإمام أحمد، ومنكرة كما قال الجوزجاني انظر "الميزان":(2/526) .
هذا، وأعيد لئلا ينسى كنظائره، فإن الحق يحلو مع التكرار والبيان. وقد أشار إلى ما وقع في هذه الأمة من مصداق هذا الحدث كثير من العلماء، قديماً وحديثاً، فمن ذلك ما ذكره يحيى بن يوسف (1) الصرصري قال:
(1) في "م" و"ش": "يونس"، وهو خطأ.
نُح وابكِ، والمعروف أقفر رسمه
…
والمنكر استعلى وآثر وسمه (1)
لم يبق إلا بدعة فتانة
…
بهوى مضل مستطير سمه
هذا الذي (2) وعد النبي المصطفى
…
بظهوره وعداً توثق (3) حتمه
هذا لعمر إلهك الزمن الذي
…
تبدو جهالته ويرفع علمه
ذهب النصيح لربه ونبيه
…
وإمامه نصحاً تحقق عزمه
لم يبق إلا حاكم هو مرتش
…
أو عالم تخشى (4) الرعية ظلمه
والصالحون على الذهاب تتابعوا
…
فكأنهم عقد تناثر نظمه
لم يبق إلا راغب، هو مظهر
…
للزهد، والدنيا الدنية همه
لولا بقايا سنة ورجالها
…
لم يبق نهج (5) واضح نأتمه
(8 وقد قال العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى (6) -: وأي اغتراب (7) فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم (8)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-في "الاقتضاء" أيضاً: "ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو (9) غير نبي لأجل الدعاء
(1) في "ش".
(2)
سقطت "الذي" من"قد توثق".
(3)
في "ش": "قد توثق".
(4)
في (الأصل) : "تخش"، والمثبت من:"م" و"ش".
(5)
في "ش": "نهج لنا".
(6)
سقطت "تعالى"من: (المطبوعة) .
(7)
في (الأصل) : "غربة"، والمثبت من:"م"، و"المدارج".
وانظر هذا البيت في "مدارج السالكين": (3/201) .
(8)
ما بين القوسين سقط من: "ش".
(9)
في (المطبوعة) : "ولا
…
"وهو تحريف.
[له](1) ، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون عليهم ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، فاتفق الأئمة على أنه إذا دُعي (2) في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يستقبل قبره. وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيريهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب (3) الشافعي، وقال مالك –فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في "المسبوط" والقاضي عياض وغيريهما-: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يسلم/ ويمضي، وقال في "المبسوط":(لا بأس لمن قدم من سفر، أو خرج أن يقف على النبي صلى الله عليه وسلم (4 ويصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم4)(4) ، ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: إن ناساً من أهل المدينة يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني [هذا](5) عن أحد من أهل الفقه (6) ببلدنا، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، إلا من جاء من سفر أو أراده) .
قال: (وقد تقدم من الآثار عن السلف ما يوافق هذا من أنهم إنما كانوا يستحبون عند قبر (7) النبي صلى الله عليه وسلم ما هو من جنس الدعاء له، كالصلاة والسلام، ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده، وليس في أئمة المسلمين من استحب
(1) ما بين المعقوفتين إضافة: "الاقتضاء".
(2)
في "ش": "إذا دخل".
(3)
سقطت من "م" و"ش": "أصحاب".
(4)
ما بين القوسين ليست في "الاقتضاء".
(5)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "الاقتضاء".
(6)
في "ش": "العلم".
(7)
في "الاقتضاء": "عند قبره ما هو..".
للمرء أن يستقبل قبره (1) ويدعو. وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف يبين (2) ضعف ما ينقله المحرفون عن مالك ونحوه، مما يخالف ذلك مما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه، وهو نص على أنه لا يقف عند قبره للدعاء مطلقاً، ولم يذكر أحد من الأئمة أن أحداً منهم استحب أن يسأل أحداً (3) بعد الموت، وإنما يعرف ذلك في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
…
فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
…
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
فاحتجوا بهذا الحكاية التي لم (4) يثبت بها حكم شرعي، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل (5) .
(1) في "الاقتضاء": "قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده".
(2)
في "م": "يبين ما ضعف
…
".
(3)
في "ش": "أحداً منهم".
(4)
في (المطبوعة)"لا ينبغي أن.."وهو تحريف.
(5)
الحكاية التي عناها المؤلف-رحمه الله –هي قصة العتبي محمد بن عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان، وقد ذكرها ابن عساكر في "تاريخه"، وابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" كما عزاها لهما الحافظ ابن عبد الهادي- رحمه الله.
وقد بيَّن الإمام ابن عبد الهادي وهاء هذه القصة، وأنها مخلقة باطلة فقد قال:"وهذه الحكاية التي ذكرها بعضهم يرويها عن العتبي بلا إسناد وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي، وقد ذكرها البيهقي في كتاب "شعب الإيمان" بإسناد مظلم إلى أن قال: "وقد وضع لها بعض الكذابين إسناداً إلى علي بن أبي طالب –رضي الله عنه كما سيأتي ذكره، وفي الجملة ليست هذه الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما يقوم به حجة، وإسنادها مظلم مختلف، ولفظها مختلف أيضاً، ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب المعترض، ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الاعتقاد على مثلها عند أهل العلم وبالله التوفيق"انظر:"الصارم المنكي": ص 337-338.
وقال أيضاً في ص 430: "وأما حكاية العتبي التي أشار إليها فإنها حكاية ذكرها بعض الفقهاء والمحدثين، وليست بصحيحة ولا ثابتة إلى العتبي، وقد رويت بإسناد مظلم
…
وهي في الجملة حكاية لا يثبت بها حكم شرعي لاسيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم
…
".
وذكر أن معاوية [رضي الله عنه](1) استسقى بيزيد بن الأسود (2)، قال: ولم يذكر عن أحد من الصحابة أنه أتى إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ولا به، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه (3) [عن النبي صلى الله عليه وسلم] (4) أنه قال:"ما من رجل يسلم علىَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام"(5) ، وفي
(1) ما بين المعقوفتين إضافة من: "ش".
(2)
هو: يزيد بن الأسود الجرشي أبو الأسود من سادة التابعين وكبارهم، للاستزادة انظر:"سير أعلام النبلاء": (4/136) .
وقد صحح ابن حجر إسناد هذه القصة انظر "الإصابة": (3/673) .
(3)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(4)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "ش".
(5)
أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (2/ 227) ، وأبو داود كتاب "المناسك"باب زيارة القبور (ح/2041)، والبيهقي في "الكبرى" كتاب الحج باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم (5/245) من حديث أبي هريرة. وفي إسناده أبو صخر"حميد بن زياد" قال الحافظ في "التقريب":"صدوق يهم".
والحديث قد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الافتضاء" ص 657 "هذا الحديث على شرط مسلم".
وقال الحافظ بن عبد الهادي في "الصارم المنكي"ص 154 "إسناده جيد".
وقال ابن حجر في "التلخيص": "وأصح ما ورد في ذلك ما رواه أحمد.."ثم ذكر الحديث.
"سنن النسائي" وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام/ والصلاة على"(1) فما أمر الله به ورسوله وشرعه لنا عند زيارة قبور (2) الأنبياء والصالحين هو من جنس المشروع عند جنائزهم، كما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له.
والمقصود (3) بزيارة قبره الدعاء له، كما ثبت في الصحيح والسنن والمسند أنه صلى الله عليه وسلم "كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور [أن يقولوا] (4) : السلام
(1) الحديث لم أقف عليه في النسائي وغيره من مصادر التخريج بهذا اللفظ إنما لفظه: "إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام". أخرجه الإمام أحمد: (1/387و 441و 452)، والنسائي في "الصغرى" كتاب السهو باب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم:(3/43)، وأيضاً في "الكبرى":(1/380) و (6/22) ، والدارمي في "الرقائق" باب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الرزاق في "مصنفه":(2/215)، وابن أبي شيبة في "مصنفه":(2/517)، وأبو يعلى:(9/104)، وابن حبان كما في "الإحسان":(2/134)، والطبراني في "الكبير":(10/270-271) ، (ح/10528)، والحاكم:(2/421)، وأبو نعيم في "أخبار أصفهان":(2/205)، والبغوي:(3/197) ، كلهم من طريق سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن أبن مسعود مرفوعاً.
والحديث قد صححه ابن حبان، والحاكم وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه.." ووافقه الذهبي. وصححه أيضاً ابن القيم انظر "جلاء الأفهام": ص 28.
(2)
في (الأصل) : "القبور" والمثبت من "م" و"ش".
(3)
في "م" و "ش": "فالمقصود".
(4)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "م" و"ش"، ومصادر التخريج.
عليكم (1) دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون (2) ، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين. نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم" (3) .
وأما أن يقصد بالزيارة سؤال الميت والأقسام على الله به أو استجابة (4) الدعاء عند تلك البقعة، فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة، لا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولم يوجد في عصرهم من يستشفع بالأموات ويتوسل بهم، وإنما الثابت عنهم ترك ذلك، كما فعل عمر ومعاوية رضي الله عنهما، فإنهم عدلوا في التوسل إلى دعاء الأحياء (5) ، لحضورهم وقدرتهم على الدعاء؛ لأنهم في دار العمل، وأما الأموات فانتقلوا عنها، وقد فارقت أرواحهم، [وأجسامهم](6) تحت الثرى، وأرواحهم في الرفيق الأعلى.
فسبحان الله، والله أكبر فكيف جاز في عقول من جعل الله له عقلاً أن يعدل عن سؤال (7) القريب المستجيب- وقد وعد من سأله الإجابة، وهو القادر على كل شيء، العليم (8) بكل شيء، لا يخفى عليه شيء من أقوال خلقه
(1) في هامش (الأصل) : "أهل..".
(2)
في "ش": "لاحقون".
(3)
أخرجه مسلم كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها
(ح/974) .
(4)
في جميع النسخ: "واستجابة
…
"، والمثبت من: "الاقتضاء".
(5)
في "ش": "الأنبياء".
(6)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "م" و"ش".
(7)
في "ش": "دعاء".
(8)
في "ش": "العالم".
وأعمالهم وإرادتهم – إلى ميت غائب (1) لا يسمع ولا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع، في تلك الحال؟ ولا ريب أن هذا من أبطل الباطل عقلاً، ونقلاً، وفطرة، وقد قال الله (2) تعالى محتجاً بصفاته-التي دلت على كماله تعالى – على (3) أنه تعالى هو المدعو وحده المعبود (4) وحده، فقال تعالى:
{هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (5) فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} (6) فأمر تعالى بإخلاص الدعاء له وأنه المستحق له دون كل ما سواه.
(1) سقط من (المطبوعة) : "غائب".
(2)
سقط من "م" و"ش" لفظ الجلالة: "الله".
(3)
في "م" و"ش": "وعلى أنه
…
".
(4)
في "م" و"ش": "والمعبود وحده..".
(5)
سقط من "ش" من قوله تعالى "لا إله إلا هو".
(6)
سورة غافر، الآية:65.