الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
(1)
وقد بين الله تعالى في كتابه حقيقة الإسلام الذي تصلح به القلوب والأعمال. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن} (2) .
وفي "المسند" عن أبي قزعة الباهلي عن حكيم بن معاوية عن أبيه (3) أنه قال: والله يا رسول ما أتيتك إلا بعد ما حلفت عدد أصابعي هذه أن (4) لا أتيك فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: "الإسلام"، قال: وما الإسلام؟ قال: "أن تسلم قلبك وتوجه وجهك إلى الله وأن تصلي الصلوات المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة"(5) .
وقال تعالى (6) : {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
(1) في "ش" بياض بمقدار كلمة: (في المصورة التي لدي) .
(2)
سورة النساء، الآية:125.
(3)
في جميع النسخ: "عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده" وهو وهم، والصواب ما أثبت.
(4)
في (الأصل) : "أني.." والمثبت من: "م" و"ش"، وهو الموافق لما في "المسند".
(5)
أخرجه الإمام أحمد: (5/3)، وابن حبان كما في "الإحسان":(1/189، ح/160)
كلاهما من طريق أبي قزعة الباهلي عن حكيم بن معاوية بن حيده عن أبيه، وبنحوه أخرجه
النسائي في "المجتبى" كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة: (5/4و5) وأيضاً في "الكبرى":
(2/5)، والحاكم:(4/600و601) كلاهما من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وهو صحيح.
(6)
سقطت من "ش": "تعالى".
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (1) لا إله إلا الله، وإسلام الوجه هو إخلاص القول (2) والعمل لله وحده لا شريك له باطناً وظاهراً.
قال أبو جعفر بن جرير (3) في قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} : (4)(أي: انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع (5) جوارحي، وإنما خص الوجه (6) ؛ لأنه أكرم جوارح ابن آدم (7) فإذا خضع وجهه لله (8) فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة من جوارح بدنه) انتهى.
وأنت ترى هذا العراقي الجاهل يدعو الناس بشبهاته وضلالاته إلى أن يقصدوا بدعائهم واستغاثتهم عبداً من عباد الله، وذلك العبد يدعو الأمة إلى أن يخلصوا أعمالهم لله ويسلموا له قلوبهم وجوارحهم، رغبة إليه ورهبة منه ومحبة له، وهذا هو التوحيد الذي (9) دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب.
ثم إن هذا الجاهل يقول: (إن هذا الطلب والسؤال الذي يصرف لغير الله، ليس بدعاء بل هو نداء) . فكابر المعقول والمنقول، وقد سمى الله تعالى السؤال والطلب دعاء في
(1) سورة لقمان، الآية:22.
(2)
سقطت "القول" من: "م" و "ش".
(3)
انظر: (3/214) من تفسيره.
(4)
سورة آل عمران، الآية:20.
(5)
سقطت "وجميع " من: "ش".
(6)
في "تفسير ابن جرير": "..خص جلَّ ذكره بأمره بأن يقول: أسلمت وجهي لله".
(7)
في "تفسير ابن جرير": "..عليه وفيه بهاؤه وتعظيمه".
(8)
في "تفسير ابن جرير": "الشيء..".
(9)
في "ش": "التي"، وهو خطأ.
كثير من (1) الآيات كما قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّا} إلى قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} (2)، (5 وقال تعالى (3) :
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه} (4) 5) (5) سمى النداء دعاء لأن مدلولهما واحد، من باب الترادف على معنى واحد، وهذا ظاهر جلي لمن تدبر (6) ، وعلى كل حال فتسميته نداء لا يخرج عن كونه عبادة كما تقدم.
قال الله (7) تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} (8) فعطف النداء على الدعاء عطف مرادف، وقد تقدم أن الدعاء هو العبادة (9) ، وفي حديث أنس الذي في السنن "الدعاء مخ العبادة"(10) ، وقد قصر الله تعالى العبادة على نفسه، كما قال تعالى في فاتحة الكتاب:
(1) سقطت "من" من: "م".
(2)
سورة مريم، الآيات: 2-4.
(3)
سقطت "تعالى"من: "ش".
(4)
سورة آل عمران، الآية:38.
(5)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(6)
في "م" و "ش": "تدبره".
(7)
لفظ الجلالة "الله" سقط من "ش".
(8)
سورة البقرة، الآية:171.
(9)
تقدم تخريجه.
(10)
أخرجه الترمذي في الدعوات باب فضل الدعاء: (ح/3371)، وقال: "هذا حديث غريب
من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة". الطبراني في الدعاء: ح/8) كلاهما
من طريق ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبان بن صالح عن أنس بن مالك
مرفوعاً، وسنده ضعيف لحال ابن لهيعة.
لكن للحديث شاهد من حديث النعمان بن بشير" الدعاء هو العبادة"، وقد تقدم تخريجه.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} (1)، وفي الحديث المتفق عليه:"فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً"(2) ، فالعبادة بجميع أنواعها مادق منها وجل حق الله تعالى على عبادهن لا يصلح منها شيء لغيره كائناً من كان، فمن صرف من العبادة شيئاً لغير الله فقد جعله شريكاً لله في حقه. وذلك ينافي التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات.
ومما (3) يوضح ترادف النداء والدعاء، وأنهما بمعنى واحد: ما أخبر الله تعالى عن نوح (4) عليه السلام بقوله تعالى (5) : {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَه} (6) فأخلص القصد لله بندائه فاستجاب الله له، وقال في الآية
(1) سورة الفاتحة، الآية:4.
(2)
هذا قطعة من الحديث الذي رواه معاذ ولفظه: "يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده"؟
قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً،
أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقهم عليه
أن لا يعذبهم".
أخرجه البخاري مفرّقاً في عدة مواضع:
-كتاب الشروط باب اسم الفرس والحمار: (ح/2856) .
-كتاب اللباس باب أرداف الرجل خلف الرجل: (ح/5967) .
-كتاب الاستئذان باب ما جاء بلبيك وسعدك: (ح/6267) .
-كتاب الرقاق باب من جاهد نفسه في طاعة الله: ح/6500) .
-كتاب التوحيد باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله: (ح/7373) .
ومسلم كتاب الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً:
(ح/30) .
(3)
في "ش": " على ما يوضح" وهو خطأ.
(4)
في "ش": "عن قوم نوح".
(5)
سقطت "تعالى" من: "م" و "ش".
(6)
سورة الأنبياء، الآية:76.
الأخرى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر} (1) فسماه تعالى دعاء (2) . ولا ريب أن الدعاء يجتمع فيه من أنواع العبادة ما لا يجتمع في غيره من أنواع العبادات، والنداء كذلك (3) ، كتوجه الوجه والقلب واللسان للمدعو، تذللا له (4) وخضوعاً/ واستكانة ورغبة، وهذا هو العبادة؛ لأن أصل العبادة وأساسها أن يخضع غاية الخضوع والتذلل للمعبود، ولا بد مع ذلك من المحبة، وأنت ترى ما يفعله المشركون من إقبالهم على الأموات بسؤالهم ما لا قدرة لهم عليه، وتجد عندهم من الخضوع والتذلل وإسلام الوجه والقلب والجوارح لسؤال صاحب القبر ما لا يوجد مثله (5) في المساجد، وهذا لا يخفى على من عرف حال هؤلاء المشركين مع من كانوا (6) يقصدون (7) لإغاثة لهفاتهم وتفريج كرباتهم، فيقع منهم من الشرك بالله ما يجل عن الوصف (8 فعبدوا غير الله بالقول والاعتقاد، وأقبلوا عليه بقلوبهم وألستنهم وجوارحهم، وهذا الواقع لا يقدر أحد أن يجحده، فقد عمت به البلوى في الأمصار، وأكثر الأقطار والله أعلم8)(8) . وأما قول (9) هذا الجاهل العراقي: (وكذلك المسلمون يذكرون أن طلبتهم
(1) سورة القمر، الآية:10.
(2)
في "ش": "نداء"، وهو خطأ.
(3)
سقط "والنداء كذلك" من: (المطبوعة) .
(4)
سقطت "له" من: "ش".
(5)
سقطت "مثله" من: "م" و"ش".
(6)
سقطت "كانوا " من: (المطبوعة) .
(7)
في "ش": " يقصدونه".
(8)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(9)
في "ش": بياض بمقدار كلمتين: (في المصورة التي لدي) .
من غير الله إنما هي من باب التسبب) . فالجواب: أن نسبة الطلب من غير الله إلى المسلمين من أمحل المحال، وأبطل الباطل، فإن المسلم لا يطلب من غير الله ما لا يقدر عليه (1) ، فإن من طلب وسأل حاجته من ميت أو غائب، فقد فارق الإسلام؛ لأن الشرك ينافي الإسلام؛ لما تقدم من أن (2) الإسلام هو إسلام الوجه، والقلب، واللسان، والأركان لله وحده دون من (3) سواه.
فالمسلم (4 مخلص يخلص دعاءه لله، والمشرك يصرف جل الدعاء والعبادة أو بعضه لغير الله4)(4) . وقد عرفت مما تقدم أن الدعاء هو العبادة، وقد نهى سبحانه وتعالى (5) نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو غيره، فقال:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (6) ، وهذا خرج مخرج الخصوص وهو عام لجميع الأمة، وكذلك قوله تعالى:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِين} (7)، وقال تعالى:{وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُو} (8) فظهر
(1) سقطت "ما لا يقدر عليه"من: (المطبوعة) .
(2)
في "م" و"ش": "من أنه هو".
(3)
في "ش": "ما سواه".
(4)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(5)
سقطت "تعالى"من: "م" و "ش".
(6)
سورة يونس، الآية:106.
(7)
سورة الشعراء، الآية:213. في "ش": أضاف قوله تعالى: "لا إله إلا هو" في هذه الآية،
وفي (الأصل) : "ولا ندع" وهو خطأ.
(8)
سورة القصص، الآية:88.
من هذه الآيات (1) أن الدعاء تأله للمدعو، فإن المألوه هو المعبود والعابد آله (2) له (3) ، ومصدره الآله (4) والآلهة، وقرأ (5) ابن عباس رضي الله عنهما:{ويذرك وإلهتك} بكسر الهمزة وفتح اللام قال: "لأن فرعون يُعْبد ولا يَعْبدُ"(6) . وفي هذه الآيات التي ذكرنا هنا وقبلُ ما يبين أن الله تعالى زجر الأمة وأبلغ في الزجر والوعيد لمن دعا معه غيره، (7 وبين أنه شرك والاستغاثة دعاء ويختص بالمضطر7)(7) .
وقول هذا العراقي الجاهل المماحل: (أن طلبتهم من غير الله إنما هي من باب السبب) . فيقال: هذا من باب التلبيس والتمويه على الجهال، وهذا من مصائد الشيطان ووحيه، معارضة لما دلت عليه الآيات المحكمات من بيان الشرك والوعيد عليه، فإذا اعتقد المشرك أن هذا من باب التسبب فليس كل ما اعتقده [هو](8) أو غيره سبباً يكون مشروعاً، يجوز فعله، وقد قال الخليل عليه السلام:{إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِين} (9) .
(1) في جميع النسخ: "الآية"، ولعل الصواب ما أثبت.
(2)
سقطت "آله" من: "ش".
(3)
سقطت "له" من: "م".
(4)
في "ش": "اله له".
(5)
في جميع النسخ: "وقال"، ولعل الصواب ما أثبت.
(6)
انظر "تفسير ابن كثير": (2/257) .
(7)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(8)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "م" و"ش".
(9)
سورة العنكبوت، الآية:25. وفي "م" و "ش" و (المطبوعة) "..أتخذتم
…
"وهو خطأ.
وقال (1) تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} إلى قوله {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (2)، قال المفسرون:
"الأسباب"هي الوصل التي كانت بينهم في الدنيا، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} (3) وما تضمنته هذه الآيات هي أسباب لأهل الإشراك يعتقدون أنها سبب في حصول مطلوبهم، ودفع مرهوبهم، فخانتهم هذه الأسباب أحوج ما كانوا إليها؛/لأنها شرك وضلال، وهي من مصائد الشيطان التي صاد بها قلوب الجهال، فمن أطاع الشيطان ندم ومن عصاه سلم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وأعظم الأسباب النافعة الجالبة لرضى الله، المنجية من عقابه وعذابه: إخلاص العبادة لله تعالى بجميع أنواعها؛ والاستعانة على ذلك، والعمل بطاعته والتباعد عن معصيته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4) رحمه الله تعالى:(والتوكل والاستعانة للعبد؛ لأنه هو الوسيلة؛ والطريق الذي به ينال مقصوده، ومطلوبه من العبادة؛ فالاستعانة كالدعاء والمسألة) .
فإذا عرفت بصحيح المنقول، وصريح المعقول أن الدعاء عبادة، وأن مدلوله السؤال، والطلب فمن صرف من هذه العبادات شيئاً لغير الله فقد أشرك
(1) في "ش": "وقد قال
…
".
(2)
سورة البقرة، الآيات: 165و166.
(3)
سورة الأنعام، الآية:128. وفي "ش: "
…
نحشرهم"، وهو خطأ.
(4)
انظر "الفتاوى": (10/20) .
مع الله غيره في عبادته كائناً من كان، لعموم النهي عن دعوة غير الله في القرآن كله من أوله إلى آخره، فمن ادعى أنه يصرف منه شيء لأحد سوى الله، فقد صادم الكتاب والسنة، وخالف ما اجتمعت عليه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم فيما دعوا إليه أممهم بقولهم:{أن اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} (1) .ومما يدل على أن السؤال والطلب عبادة: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يسأل الله يغضب عليه"(2)، وقال: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين
(1) سورة المؤمنون، الآية:32.
(2)
أخرجه الترمذي كتاب الدعوات باب ما جاء في فضل الدعاء: (ح/3373)، والبخاري في "الأدب المفرد"باب من لم يسأل الله يغضب عليه:(ح/658)، وبنحوه أخرجه الإمام أحمد في مسنده:(2/477) بلفظ "من لم يدع الله يغضب عليه" وابن ماجه كتاب الدعاء باب فضل الدعاء: (ح/3827)، وابن أبي شيبة كتاب الدعاء:(10/200) ،
والبغوي في "شرح السنة"كتاب الدعوات باب الترغيب في الدعاء: (ح/1389)، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده:(2/442) بلفظ "من لا يسأله يغضب عليه"، والحاكم في"المستدرك":(1/491) بلفظ" من لا يدع الله يغضب عليه". كلهم من طريق أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة مرفوعاً.
وأبو صالح الخوزي قد ضعفه ابن معين وقال أبو زرعة لا بأس به، وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب""لين الحديث".
والحديث قد صححه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد"ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في "تفسيره":(4/85)"تفرد به أحمد وهذا إسناد لا بأس به".
وتعقبه الحافظ ابن حجر في "الفتح": (11/97و98) فقال: (وظن الحافظ ابن كثير أنه أبو صالح السّمان فجزم أن أحمد تفرد بتخريجه وليس كما قال فقد جزم شيخه المزي، في"الأطراف" بما قلته ووقع في رواية البزار والحاكم عن أبي صالح الخوزي سمعت أبا هريرة" إلى أن قال: "ويؤيده حديث ابن مسعود ورفعه"سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" أخرجه الترمذي وله من حديث ابن عمر رفعه"إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء" وفي سنده لين وقد صححه مع ذلك الحاكم وأخرج الطبراني في "الدعاء" بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعاً "أن الله يحب الملحين في الدعاء") . هـ.
ونور السموات والأرض" (1) ، وعماد الدين بلا ريب، لا يشك في هذا من له أدنى مسكة من عقل، والأدلة على هذا أكثر من أن تحصى (2) . وأما (3) قول هذا العراقي:(إن أهل السنة لا يكفرون المعتزلة) . فالجواب (4) : أولاً أن يقال: الكلام معك في أصل الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى بالعبادة، الذي أرسل الله تعالى (5) به رسله، وأنزل (6) كتبه في بيانه والدعوة إليه، والنهي عما ينافيه من الشرك بالله، وهو الذي أهلك الله الأمم لما لم يقبلوا ما جاءت به الرسل من هذا (7) التوحيد، وأبو إلا أن يجعلوا لله (8) شريكاً في العبادة فأهلكوا بعذاب الاستئصال، وأما هذه الأمة فمن لم يقبل التوحيد الذي بعث الله به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فإن دماءهم وأموالهم حلال،
(1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده": (1/235 ح/435)، والحاكم في "المستدرك":(1/492) عن علي مرفوعاً وقال: صحيح فإن محمد بن الحسن هذا هو التل وهو
صدوق، ووافقه الذهبي.
لكن قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": (1/150) "وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد
وهو متروك" وقال الحافظ ابن حجر في "المطالبة العالية" "والعجب من الذهبي حيث ذكر هذا الحديث في الميزان في ترجمة الهمداني وقال: صححه الحاكم وفيه انقطاع
…
".
(2)
في "ش": "تحصى"، وهو خطأ.
(3)
في "ش": بياض بمقدار كلمتين: (في المصورة التي لدي) .
(4)
في "ش": بياض بمقدار كلمة: (في المصورة التي لدي) .
(5)
سقطت "به" من: "م" و "ش".
(6)
زاد في "م": "به".
(7)
سقطت "هذا" من: "ش".
(8)
في "ش": "له".
وكذلك سبي نسائهم وذراريهم، فمن أنكر هذا التوحيد أو شك فيه من مشرك أو منافق كفر بإجماع المسلمين كما ذكره شيخ الإسلام –رحمه الله (1) - في مواضع2) (2) .
وأما البدع التي حدثت في هذه الأمة، فإن سببها أن أهلها أخطأوا في فهم الكتاب والسنة في بعض الأصول، وصاروا هم وأهل السنة في طرفي نقيض لخفاء الأدلة عليهم، وعدم التوفيق بينها (3) في محل النزاع، كما جرى من الخوارج، كما قال العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى فيهم (4) .
ولهم نصوص قصروا في فهمها
…
فأتوا من التقصير في العرفان
وخصومنا قد كفرونا بالذي
…
هو غاية التوحيد والإيمان
فكلامنا (5) مع هذا العراقي في أصل الدين الذي لا يصلح قول ولا عمل إلا به، وبضده تفسد الأقوال والأعمال.
وأما قول الجهمية والمعتزلة فهو إلحاد في أسماء الله وصفاته، فاختلفوا في القَدْر نفياً وإثباتاً (6 وجحدوا معنى الأسماء والصفات التي دلت عليه6)(6) ، وأهل السنة كفّروا/ كل داعية إلى هذه البدع ونحوها، وقد ذكر ابن القيم- رحمه الله تعالى- قول أهل السنة فيهم فإنه قال (7) :
(1) سقطت "رحمه الله" من: "م" و "ش".
(2)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(3)
في "ش": "بينهما".
(4)
انظر "الكافية": ص 103.
(5)
في هامش: (الأصل) : "مطلب".
(6)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(7)
انظر "الكافية": ص 37، و195.
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
…
عشر من العلماء في البلدان
إلى أن قال:
أهل العناد فأهل كفر (1) ظاهر
…
والجاهلون (2) فإنهم نوعان
متمكنون من الهدى والعلم بـ
…
بالأسباب ذات السير والإمكان
لكن إلى أرض الجهالة أخلدوا
…
واستسهلوا التقليد كالعميان
لم يبذلوا المقدور في إدراكهم
…
للحق تهوينا بهذا الشان
وهم الأولى لا شك في تفسيقهم
…
والكفر فيه عندنا قولان
وأما قوله (3) : (إن أهل الكرامات حالهم في الممات كحالهم في الحياة) .
فهذا يبطله ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} (4) فلم يجعلهم تعالى (5) سواء، بل فرق بين الأحياء والأموات، وشبه بهم ما لم ينتفع بسماع الهدى. وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون} (6) وليست هذه الآية في الأصنام كما يزعمه من لم يتدبر؛ لأن الأصنام لا يحلها الموت من الأخشاب، والأحجار ولا شعور لها، وقد قال تعالى:{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون} (7) ، فهذه الآية فيمن.
(1) في "ش": "
…
أهل شرك".
(2)
بياض في "ش" بمقدار كلمة: (في المصورة التي لدي)، وكتب في هامش:(الأصل)
و"م": "والكافرون" وفوقها خرف "خ" في هامش: (الأصل) .
(3)
في "ش": بياض بمقدار كلمتين: (في المصورة التي لدي) .
(4)
سورة فاطر، الآية:22.
(5)
في "م" و "ش": "الله".
(6)
سورة النحل، الآيتان: 20و21.
(7)
سورة النحل، من الآية:21.
يموت ويبعث (1 من أهل الكرامات والمعجزات وغيرهم1)(1) ، كما لا يخفى على من تدبرها، وتأمل قوله تعالى:{وَمَا يَشْعُرُونَ [أَيَّانَ يُبْعَثُون] (2) } ، وهذا إنما يستعمل فيمن يعقل، كما لا يخفى على من له معرفة باللغة العربية (3) .
فالحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة.
وحقيقة أمر (4) هذا العراقي مصادمة ما في القرآن من النهي عن دعوة غير الله، والقرآن ينهى عن دعوة كل ما سوى (5) الله، وهذا يقول:(يجوز (6) أو يستحب أن يُدْعى، أو يستغاث (7) مع الله غيره) . (9 فليس (8) عنده إلا تشكيك، وتخمش، وتغيير على التوحيد، ونصرة للشرك والتنديد9) (9) . ولا يخفى أن جُلَّ (10) شرك المشركين في حق من عبدوه مع الله إنما هو بدعائه وسؤاله قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، فإن أردت أيها الموحد-وفقك الله للتمسك بدين الإسلام- حقيقة ما اشتملت (11) عليه أوراق هذا
(1) ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(2)
ما بين المعقوفتين إضافة من: "م" و"ش".
(3)
في جميع النسخ: "اللغة والعربية"، ولعل الصواب ما أثبت.
(4)
في هامش: (الأصل) : "حال" وفوقها حرف "خ"، وفي "م" و"ش":"حال".
(5)
في "ش": "..كل سوى الله".
(6)
في "م": "تجوز".
(7)
سقطت من: (المطبوعة) : "أو يستغاث".
(8)
في "م" و "ش": "وليس".
(9)
ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(10)
سقطت من: (المطبوعة) : "جلّ".
(11)
في "م" و "ش": "ما اشتمل".
العراقي (1) طول ما طول، وبهرج ما بهرج، لكن (2) حقيقة ما فيها: الخروج عن الصراط المستقيم إلى سبيل الشيطان الرجيم، واتباع غير سبيل المرسلين (3) والمؤمنين، وإيماناً بالجبت والطاغوت، والجهل بالتوحيد وجحوده، والكفر به، والإيمان بالشرك بالله، ونصرته، والدعوة إليه، ومسبة أهل التوحيد، وتحريف الكلم عن مواضعه، ومصادمة أدلة الكتاب والسنة، وتقليب الحقائق بجعله الحق باطلاً والباطل حقاً، وتكثير الكذب على العلماء، ونسبتهم (4) إلى ما هم بريئون منه، منكرون له، وملأ أوراقه بالمخرقة (5) والبهرجة، والتخليط والتخبيط، والسفسطة والمغالطات، والتمويه على الجهال وغير ذلك. وحقيقة أمرهم: أنهم شبهوا الأنبياء والصالحين بالأصنام من حيث اتخاذهم لهم شركاء لله في العبادة، وذلك غاية المسبة لهم، فعظموا الأنبياء والصالحين من حيث أهانوهم (6) ، وفعلوا معهم من الشرك بهم ما دعوا الأمم إلى تركه، وهذا ظاهر لمن تدبر أدلة القرآن الذي أنزله الله تعالى/ نوراً وشفاءًا لما في الصدور، ولا يمكن أن يعارض بالبهرجة والمغالطات، ولا يفعل ذلك إلا من أعمى الله قلبه، وأذهب عقله، فإن العاقل من يفعل الخير، ويترك
(1) في هامش: (الأصل)"مطلب في حقيقة أمر داود نعوذ بالله من عمى الخذلان".
(2)
في "م" و "ش": "فإن حقيقة".
(3)
في (الأصل) : "سبيل المسلمين"، والمثبت من:"م" و"ش".
(4)
في "ش": "إلى نسبتهم".
(5)
في هامش (الأصل) : (المخرقة: الكذب. كما قال: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} أفاده شيخنا
المصنف عفى الله عنه) ا. هـ.
(6)
هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب أن يقال: فأهانوا الأنبياء والصالحين من حيث عظموهم.
الشر (1) ، وهذا الرجل صار معكوس العقل، يقبل الشرك ويرضاه؛ ويترك الخير ويأباه كما هو حال الكثير من هذه الأمة وقبلها، كما قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (2)، وقال تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} (3) .
وأنت ترى هذا العراقي ينصب العداوة لكل من آمن بالله، ودعا إلى توحيده وهو عدو كل موحد ونصير (4) كل (5) ملحد، وهؤلاء هم (6) أعداء الرسل في كل زمان ومكان، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُون} (7) والبصير إذا نظر في أوراق هذا العراقي علم أن ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات (8) لا يعدوه – بل هذه حالة وأمثاله وهم كثيرون لا كثرهم الله فكم صرفوا
(1) في "ش": "الشرك".
(2)
سورة الأعراف، الآية:146.
(3)
سورة الأنعام، الآية:110.
(4)
في جميع النسخ "ونصرة"، ولعل الصواب ما أثبت.
(5)
في "م" و "ش": "لكل".
(6)
سقط من "م" و "ش": "هم".
(7)
سورة الأنعام، الآيتان: 112و113.
(8)
في (الأصل) : "الآية"، والمثبت من "م" و "ش".
ضعفاء العقول عن الإيمان، وعن أدلة القرآن (1) –وذلك أنه يحاول بشبهاته وترَّهاته أن يجعل الميت أو الغائب شفيعاً يسأله ويقصده، ويرغب إليه بالدعاء والاستغاثة (2) ، والتذلل والخضوع له بما لا يصلح إلا لله تعالى (3) ، وقد أخبر (4) تعالى (5) أن اتخاذ الشفعاء من دين المشركين، كما قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء} إلى قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (6) ، والشفاعة كذلك لا يملكها غيره، ولا تحصل إلا بشروط (7) إذن الله للشافع رحمة (8) للمشفوع له، وكرامة للشافع، ولا يقع الإذن إلا في حق من رضي الله دينه وهم أهل التوحيد والإخلاص، الذين لم يتخذوا من دونه شفيعاً [والمدعو لا يشفع لمن دعاه، كما دلَّ عليه الآيات المحكمات](9)، كما قال تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} (10)
(1) ما بين القوسين سقط من: (المطبوعة) .
(2)
سقط من: (المطبوعة) .
(3)
سقطت "تعالى" من: "م" و "ش".
(4)
سقط من: (المطبوعة) : "وقد".
(5)
سقط من: (المطبوعة) : "تعالى".
(6)
سورة الزمر، الآيتان: 43، و44.
(7)
في "ش": "إلا بشروط".
(8)
سقطت من: (المطبوعة) : "رحمة".
(9)
ما بين المعقوفتين إضافة من "م" و "ش".
(10)
سورة الأنعام، الآية:51.
فسبحان الله أين ذهب عقول هؤلاء الغلاة المشركين عن هذه الآيات المحكمات البينات؟
وقد أخبر تعالى (1) أن اتخاذ الشفعاء هو دين أهل الشرك بالله من عبدة الأوثان، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} إلى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} (2) فأخبر أنه شرك ونزه نفسه عنه، وأخبر أن قولهم:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} (3) يمنع حصول/ الشفاعة لهم بطلبها من غير من يملكها، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) فأخبر تعالى أنهم تولوهم من دون الله بالعبادة؛ وأنهم إنما أرادوا بذلك أن يقربوهم (5) إلى الله بشفاعتهم لهمن فأخبر تعالى أن هذا هو الكفر بالله، بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّار} (6) و "كفار" صيغة مبالغة أبلغ من كافر. وهذا الذي ذكره الله تعالى (7) عن المشركين هو الواقع من كثير من هذه الأمة في حق أرباب القبور، جهلاً منهم بحقيقة الشرك؛ حتى إن ذلك قد وقع من كثير ممن ينتسب إلى العلم، وذلك ينافي الإخلاص في العبادة الذي هو
(1) في "م" و"ش"" "الله تعالى".
(2)
سورة يونس، الآية:18.
(3)
زاد في "م" و "ش": "إنه".
(4)
سورة الزمر، الآية: 3، وفي هامش:(الأصل) كتب "بلغ مقابلة وقرأه على شيخنا المصنف
دامت إفادته".
(5)
في جميع النسخ: "إلا ليقربوهم"، ولعل الصواب ما أثبته.
(6)
سورة الزمر، الآية:3.
(7)
سقطت من "م": "تعالى".
دينه الذي بعث الله (1) به رسله وأنزل به كتبه، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} (2)
فالإخلاص هو دينه الذي لا يقبل ديناً سواه. وهو الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين} (3) والدين هو العبادة، لا اختلاف (4) بين علماء التفسير وغيرهم في ذلك، وقال تعالى:{هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (5) ،
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (6) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً، كقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} (7) .
وقد تقرر في كلام العلماء، بل (8) في الآيات والأحاديث أن الدعاء صلاة، وهو كذلك لغة وعرفاً، والصلاة الشرعية قد اشتملت على نوعي الدعاء؛ دعاء المسألة ودعاء العبادة، وقد تقدم في كلام شيخ الإسلام وابن القيم –رحمهما (9) الله تعالى-إن دعاء المسألة يتضمن دعاء العبادة، ودعاء العبادة يستلزم دعاء
(1) سقط لفظ الجلالة "الله" من: (الجلالة".
(2)
سورة الزمر، الآية:2.
(3)
سورة الزمر، الآية:11.
(4)
في "م" و "ش": "لا خلاف".
(5)
سورة غافر، الآية:65.
(6)
سورة البينة، الآية: 5، وفي "ش" ذكرت تمام الآية {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} قال: ابن جرير: أي مخلصين له العبادة قرره شيخنا حفظه الله".
(7)
سورة الأنعام، الآيتان: 162و163.
(8)
سقط من "ش": "بل".
(9)
في (المطبوعة) : "رحمهم الله" وهو خطأ.
المسألة، وقد اشتملت الصلاة الشرعية على النوعين فلا تصح إلا بهما، وكلاهما عبادة لا يصلح منها شيء لغير الله، فلا يجوز أن يدعى غير الله، كما لا يجوز أن يتقرب بالنسك إلى غيره فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله فقد خرج من دين الله الذي شرعه وأمر به، وبلغه عنه رسوله (1) صلى الله عليه وسلم؛ وجاهد من تركه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس:"وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"(2) ، فلو كان سؤال غير الله جائزاً لما قصر ابن عمه عبد الله بن عباس على سؤال الله وحده دون غيره، بل أمره بتوحيد السؤال والاستعانة،
(1) في "م": "رسول الله".
(2)
أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (1/293، و307) ، والترمذي في كتاب "صفة
القيامة": (ح/1416) ، وأبو يعلى في "مسنده": (ح/2549) ، وابن السني في "عمل
اليوم والليلة": (ح/425) ، والبيهقي في "الشعب": (2/27، و28) ، والطبراني في
"الكبير": (ح/12988و 12989) ، جميعهم من طريق قيس بن الحجاج عن حنش
الصنعاني عن ابن عباس.
وقيس صدوق، وحنش ثقة.
والحديث قال عنه الترمذي: "حسن صحيح".
قال ابن رجب في "نور الاقتباس" ص30: "وقال ابن منده: لهذا الحديث طرق عن ابن
عباس وهذا أصحها". وقال كذلك: "هذا إسناد مشهور رواته ثقات".
وقال ابن رجب: "إسناد حسن لا بأس به
…
"
ولقد روي هذا الحديث من طرق لا تخلو من مقال قال ابن رجب في "نور الاقتباس"
ص30: "قد روي هذا الحديث عن ابن عباس من رواية جماعة فمنهم: علي ابنه، وعطاء
وعكرمة، ومن رواية عمر مولى غفرة وعبد الملك بن عمير وابن أبي مليكة عن ابن عباس
وقيل إنهما لم يسمعا منه، وفي أسانيدها مقال وفي ألفاظها بعض الزيادة
والنقص.." ثم قال: "وأجود أسانيده من رواية حنش عن ابن عباس
…
".
وقال أيضاً في "جامع العلوم والحكم" ص174: "وبكل حال فطريق حنش التي خرجها
الترمذي حسنة جيدة".
وقصر ذلك على الله، وذلك في فاتحة الكتاب:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} (1)، أي: إياك نعبد لا غيرك، وإياك نستعين لا بغيرك، ولا يخفى أن تقديم المعمول يفيد الحصر، فاشتملت هاتان الكلمتان على نوعي التوحيد؛ توحيد الإلهية، وهو الغاية وهو فعل العبد {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} هو الوسيلة والمعين هو الله وحده. فالاستعانة بغيره فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك في الإلهية والربوبية، وقوله:{وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ} (2)، أي: في ذلك كله. قال العماد ابن كثير في تفسيره (3) : (أي قصدي ونيتي وعزمي) .
قلت: فتناول هذه الآية أعمال العبد باطنها وظاهرها، وإن ذلك كله لله وحده لا يستحق غيره منه (4) قليلاً ولا كثيراً. قال الله (5) تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّه} (6) .
قال العماد ابن كثير (7) –رحمه الله – في تفسيره: {مُتَشَاكِسُونَ} ، أي: متنازعون (8) في ذلك العبد المشترك بينهم، {وَرَجُلاً سَلَماً (9) لِرَجُلٍ} خالصاً
(1) سورة الفاتحة، الآية:5.
(2)
سورة الأنعام، الآيتان: 162و 163.
(3)
انظر (2/198) .
(4)
في "م" و "ش": "
…
منه غيره".
(5)
سقط لفظ الجلالة "الله"من: "ش".
(6)
سورة الزمر، الآية:29.
(7)
انظر "تفسير ابن كثير": (2/214) .
(8)
في مطبوعة "تفسير ابن كثير""يتنازعون".
(9)
في مطبوعة "تفسير ابن كثير""أي سالماً".
لرجل لا يملكه أحد غيره، {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} أي: لا يستوي هذا وهذا؛ /كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فأين هذا من هذا؟
قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: (هذه الآية ضربت مثلاً للمشركين والمخلصين (1)، ولما كان هذا المثل ظاهراً بيناً جلياً قال:{الْحَمْدُ لِلَّه} ، أي: على إقامة الحجة عليهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون} أي: فلهذا يشركون بالله) .
(1) في "م" و"ش" ومطبوعة "تفسير ابن كثير""للمشرك والمخلص".