الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
باب الشفعة
الشفعة من شفعت الشيء إذا ضممته وثنيته، ومنه شفع الأذان، وسميت شفعة؛ لضم نصيب إلى نصيب، وقيل: من الزيادة. ولهذا إذا ضم إلى الوتر غيره صار شفعاً. فسميت شفعة؛ لأن الشفيع يضم نصيب شريكه [إلى نصيبه] فيصير نصيبه زائداً بعد أن كان ناقصاً. وهذا قول ثعلب، كما حكاه عن الهروي في الغريبين.
وقيل: من التقوية والإعانة، يقال: شَفَعْتُهُ عند السلطان فشفعني فيه؛ لأن كل واحد من الفردين يتقوى بالآخر، ومنه قوله تعالى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [النساء: 85] أي: من أعان محسناً في إحسانه، ومنه الحديث:"القرآن شافع مشفع". ومنه: شاة شافع: التي معها ولدها لتقويتها به، قاله الرافعي، وفي تعليق القاضي الحسين أن الشاة الشافع: السمينة.
وقيل: من الشفاعة؛ لأن في الجاهلية كان [الرجل] إذا أراد بيع منزل أو حائط أتاه الجار أو الشريك أو الصاحب ليشفع إليه [فيما باع] فيشفعه، وهذا قول ابن قتيبة في غريب الحديث كما حكاه الماوردي.
وقد فسرت في [الشريعة: بحق تملك] قهري يثبت للشريك القديم على الشريك الحادث بسبب الشركة بالبدل الذي تملك به لدفع الضرر.
والأصل في مشروعيتها من الكتاب: قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 3] وهي منه؛ لأن فيها إزالة الضرر عن الشريك.
ومن السنة أحاديث: منها ما روى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشُّفْعَةُ في كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ، لا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَريكِهِ فَيَاخُذَ أَوْ يَدَعَ، فَإِنْ أَبي فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤذِنَهُ".
ومنها: ما روى البخاري ومسلم وأبو داود بسند كل منهم عن جابر.
أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط "لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَركَ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ".
وقد اختلف في المعنى الذي لأجله ثبتت على قولين:
أحدهما: دفع ضرر مؤنة القسمة واستحداث المرافق وغيرها، وهو اختيار الشافعي.
والثاني: وإليه ذهب ابن سريج: دفع ضرر سوء المشاركة.
ولهذا الاختلاف فائدة تظهر من بعد.
قال- رحمه الله: لا تجب الشفعة أي: لا تثبت إلا في جزء مشاع، من عقار أي:[من] أرض محتمل القسمة، فأما الملك المقسوم فلا شفعة فيه؛ لما ذكرناه من [حديث] جابر الذي رواه البخاري.
وقد روى عنه أيضاً: "إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة".
وأخرجه أبو داود والترمذي وإن اختلفت ألفاظهم، وقال الترمذي: إنه
حديث حسن صحيح.
وجه الدلالة منه: أنه ذكر الشفعة بالألف واللام، وليس لهما معهود يرجع اللفظ إليه؛ فثبت أنه للجنس. وكلمة إنما موضوعة للحصر، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171].
وقد قال الأزهري: قال أهل اللغة: إنما تقتضي إيجاب شيء ونفي غيره وذلك يدل على المدعي.
فإن قيل: فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ .. "، وروى البخاري عن أبي رافع [قال]: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ".
وروى الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِباً إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِداً"، وذلك يقتضي ثبوت الشفعة للجار.
قلنا: قد روى صاحب "التقريب" عن ابن سريج أنه أثبتها للجار الملاصق دون المقابل فيشبه أن يكون مستنده ذلك، وروي عن الروياني أنه قال: رأيت بعض أصحابنا يفتي به، وهو الاختيار.
وذكر الإمام أن الشيخ أبا علي لم يثبت ذلك عن ابن سريج، وحمل كلامه على أنه لا يعترض في الظاهر علي الشافعي إذا قضى له الحنفي بشفعة الجوار،
وأن في الحِل في الباطن خلافاً، والمذهب الأول.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أَحَقُّ بِصَقَبِهِ" المراد [بالصقب] بالسين والصاد: القرب، كما حكاه ابن الصباغ، فيكون معنى الخبر: أحق بقربه، وهذا مجمل فلا بد فيه من حمله على معنى صحيح.
ونحن نحمله على الرحبة تكون للرجل، فيتنازع اثنان في الانتفاع بها، فيكون الجار الأقرب أحق بالانتفاع بها.
وأيضاً: فإن المراد بالجار: الشريك؛ لأن جميع أجزاء ملك شريكه مجاورة لجميع أجزاء ملكه، فهو أحق باسم الجوار من الجار المقاسم.
ومعنى الجوار: القرب؛ ولهذا تسمي العرب الزوجة: جارة لقربها، قال الأعشى في جملة أبيات:
أجارتنا بيني فإنك طالقه
…
..... .... .... .... ..... وموموقة ما كنت فينا ووامقه.
قال الماوردي: وكان السبب في قول الأعشى ذلك، أنه تزوج امرأة كرهه قومهأ، وأخذوه بالنزول عنها فلم يقنعوا منه بالطلقة الأولى والثانية، فلما طلقها الثالثة كفوا عنه.
ومن جهة المعنى: أن الشفعة شرعت لدفع الضرر بها [لا] لدخول الضرر
منها، وفي وجوبها للجار ضرر داخل لتقاعده بالملك عن بدل النجش من الثمن؛ لتيقنه بأن غيره لا يقدم على ابتياعها مع علمه بشفعته، ولا يوجد مثل ذلك في المشترك؛ لأن الشريك يقدر على دفع هذا الضرر بالمقاسمة، وما كان موضوعاً لدفع الضرر [لا يجوز] أن يدخل منه الضرر.
قال: وغير العقار من المنقولات فلا شفعة فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شُفْعَةَ إِلا في رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ"، ولأن المنقول لا يبقى دائماً، والعقار يتأبد؛ فيتأبد ضرر المشاركة فيه، والشفعة تملُّكُ قَهْريُّ فلا يحكم بثبوته إلا عند شدة الضرر.
فإن قيل: قد روى البخاري عن أبي هريرة أنه قال: "جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لمْ يُقْسَمْ"، وهذا عام.
فجوابه: أنه محمول على ما لم يقسم من العقارات، يدل عليه تتمة الحديث: فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. فأثبت جنس الشفعة فيما لم يقسم ثم فسر ذلك بتفسير لا يتناول إلا ما لا ينقل ولا يحول؛ لأن الحدود وصرف الطرق إنما تستعمل في الأرض.
قال: وأما البناء والغراس فإنه إن بيع مع الأرض أي: الحاملة لذلك والمتخللة بينه، إذا كانت تقسم قال: ففيه الشفعة؛ للخبر الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود؛ [إذا] الربعة والربع: المنزل الذي يربع به الإنسان ويتوطنه، يقال: هذا ربع بفتح الراء، وهذه ربعة.
وقيل: الربع: اسم للدار ببنائها، والحائط: اسم للبستان بغراسه.
ولأن البناء والغراس متصلان بالأرض، فصارا كأجزائها؛ ولهذا يندرجان تحت
مطلق [بيع الأرض].
أما إذا بيع ذلك مع الأرض الحاملة [له] لا غير، وكان ذلك عريضاً بحيث يقبل القسم فهل تثبت فيه الشفعة أم لا؟ فيه وجهان في الطريقين: أقيسهما في الرافعي: المنع؛ لأن الأرض في هذه الحالة تابعة والمنقول متبوع، والعبرة بالمتبوع لا بالتابع، وهذا ما ادعى في [البحر] أنه المشهور [عند أهل العراق.
وقال الإمام أبو محمد الجويني: إنه المذهب المشهور] ولا فرق في جريان الخلاف بين أن ينص على إدراج المغارس والأساس في البيع، أو يقول باندراجها في البيع عند إطلاق بيع البناء والغراس على وجه، صرح بذلك الرافعي.
فرع: إذا كانت دار ذات علو مشترك وسفلها لغير الشركاء، فباع أحد الشركاء في العلو نصيبه- نظر في السقف: فإن كان لرب السفل فلا شفعة، وإن كان لرب العلو ففي ثبوت الشفعة وجهان في الطريقين؛ وجه الجواز: أن السقف كالعرصة، وهو المختار في "المرشد"، وفي "البحر" والرافعي: عدمه أحسن.
ولو كان السفل لاثنين، ولأحدهما العلو، فباعه صاحبه مع نصيبه من السفل ثبت للشريك في السفل الشفعة [فيه]. وهل تثبت له في نصف العلو تبعاً؟ فيه جوابان للقفال، أصحهما: عدم الثبوت ومثل ذلك [الخلاف جار] فيما لو
كانت الأرض مشتركة بين اثنين ولأحدهما فيها غراس فباعه مالكه مع نصيبه من الأرض.
قال: وإن بيع منفرداً فلا شفعة فيه؛ لأنه منقول فأشبه العبد وادعى الروياني في [ذلك] نفي الخلاف، وحكى أبو الفرج السرخسي أنه يثبت فيه الشفعة؛ لثبوتها في الأرض.
وقال الإمام: إن بعض الأصحاب خرجها على تفصيل القول في القسمة، وقال: إن قلنا: [إن ما لم يقسم] لا شفعة فيه؛ فلا شفعة فيها، إذا كانت مما لا تقسم وإن قلنا: بثبوت الشفعة فيه أو كان المبيع جداراً عريضاً، أو سقفاً كاملاً لها؛ ففي المسألة قولان:
وجه الثبوت: أنها لا تعد من المنقولات، والمذهب الأول.
قال: وإن كان على النخل أي: التي في الشقص طلع غير مُؤَبَّر- أي حال العقد- فقد قيل: يؤخذ مع النخل بالشفعة: لأنه تبع للأصل في البيع، فكذلك في الأخذ. وهذا ما نقله المزني، وهو الأصح في "التهذيب".
فعلى هذا: لو تأخر الأخذ لغيبة الشفيع حتى أُبِّرَت، فهل يأخذها؟
فيه وجهان: أصحهما في الرافعي، و"التتمة"، وتعليق القاضي الحسين: نعم، لأن حقه تعلق بها، وزيادتها كزيادة الشجر تطول أغصانها، وبُسُوقها.
وعلى هذا لا فرق بين أن [تكون تابعة] للنخل، أو قطعت، كما صرح به في "البحر".
والثاني: لا، وبه قال القاضي أبو الطيب؛ لخروجها عن أن تكون تابعة للنخل. فعلى هذا هل يحط من الثمن شيء لأجل الثمرة؟ الذي جزم به القاضي الحسين: نعم، وغيره حكى وجهين، وقال: إنهما مبنيان على الخلاف في أن الثمرة غير
المؤبرة يقابلها قسط من الثمن أم لا؟
والأصح: المقابلة.
قال: وقيل: لا يؤخذ أي: الطلع بالشفعة؛ لأنه منقول فأشبه الزرع، وهذا الخلاف قد أثبته بعضهم قولين، وبعضهم وجهين، وهو يجري فيما إذا كان المبيع شقصاً من طاحونة، وقلنا بدخول الحجر الأعلى في البيع في أنه هل يأخذه بالشفعة أم لا؟
وأما الأسفل إذا قلنا بدخوله [في البيع][له] أخذه بالشفعة جزماً.
قلت: ويتجه جريان الخلاف في كل ما لا يمكن الانتفاع به مع كونه منقولاً إلا بشيء ثابت في الأرض كغطاء التنور ونحوه كما ذكرناه في البيع.
قال: وما لا ينقسم كالرحى، والحمام الصغير والطريق الضيق أي ونحو ذلك كالعضائد الصغار، وفي بعض النسخ: والبئر [فلا شفعة فيه؛ لقول عثمان- رضي الله عنه لا شفعة في بئر ولا فحل، والأُرف تقطع كل شفعة.
وأراد: البئر التي] لا تقبل القسمة، وفحل النخل، ولا يعرف له مخالف من الصحابة.
ولأن كل من ليس له المطالبة بالقسمة، ليس له المطالبة بالشفعة، أصله الجار المقابل. ولأن الشفعة تثبت لدفع الضرر عند طلب القسمة، ببدل المؤن وبضيق المكان واستحداث المرافق من المصعد والمبرز والبالوعة ونحوها، وذلك مفقود هنا.
والمراد بـ"الأرف" في حديث عثمان: المعالم والحدود بين المواضع المقسومة. وهي [بضم الهمزة وفتح الراء].
واحدها أرفة.
ويقال: الإرث بالثاء أيضاً، قاله في المستغرب.
وحكى الجيلي عن الأزهري أن الأرف بضم الهمزة وفتح الراء
المهملة وضم الفاء: الحدود بين المواضع المستوية، وبفتح الهمزة وسكون الراء: المعالم والحدود بين الأرضين.
قال: وقيل فيه قولان:
أحدهما: لا تثبت؛ لما ذكرناه.
والثاني: تثبت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "الشُفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسْمْ"؛ ولأنها شرعت لدفع الضرر عن الشريك، والضرر فيما لا يقبل القسمة أدوم منه فيما يقبلها؛ فكان ثبوتها فيه بطريق الأولى. وما ذكره القائل الأول من أن الشفعة إنما تثبت لأجل الضرر اللاحق بسبب القسمة، لا يصلح أن يكون علة؛ لأن ذلك ثابت مع بقاء الشريك الأول فلم يجدده البيع، وهذا ما صار إليه ابن سريج واختاره أبو خلف السلمي والروياني.
وقال: إن الفتوى عليه اليوم، ومنهم من حكاه عنه قولاً مخرجاً كما حكاه الشيخ، وعلى ذلك جرى ابن الصباغ والمذهب الأول؛ لما ذكرناه.
ولأن إثبات الشفعة فيه يُضِرُّ بالبائع؛ لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بقسمته، وقد يمتنع المشتري من الشراء؛ لأجل الشفعة فيقل ثمنه والضرر لا يزال بالضرر.
وما ذكره من الحديث شاهد لنا؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: [إنما الشفعة] فيما لو يقسم يقتضي أن يكون ذلك فيما يقبل [القسمة]، فإنه لو أراد نفي القسمة جملة لقال: فيما لم ينقسم، والذي يؤيد هذا وأن المراد ما يقسم ولكنه لم يقسم
بعد: قوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا وَقَعَت الْحُدُودُ [وَصُرِفَتِ الطُّرق] فَلَا شُفْعَةَ".
وهذا بيان لما اشتمل عليه اللفظ الأول.
وعلى الخلاف يخرج ما إذا كان لشخص في دار عشرها ولآخر تسعة أعشارها، وكانت بحيث لو طلب صاحب العشر القسمة لم يُجِبْ إليها، فباع صاحب العشر نصيبه- فإن قلنا: إن الشفعة تثبت فيما لم يقسم، ثبتت، وإلا فلا. ولو باع مالك [التسعة أعشار نصيبه] وقلنا: لا تثبت الشفعة ففيما لم يقسم، فهل تثبت الشفعة لصاحب العشر؟ فيه وجهان [ينبنيان على أن صاحب الأعشار إذا طلب القسمة هل يجاب إليها أم لا]؟ فيه وجهان يأتيان [من بعد]، إن شاء الله تعالى.
هكذا حكاه الإمام، والغزالي، والرافعي ومقتضاه: أن الشفعة إنما ثبتت على المذهب خوفاً من طلب المشتري القسمة، والذي ذكره الشيخ في المهذب أنها إنما تثبت لدخول غير شريكه عليه، فيتأذى به فتدعو الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضرر.
قلت: وعلى هذا ينعكس التفريع على المذهب فيقال: إن باع صاحب الأعشار نصيبه فلا شفعة لصاحب العشر؛ لأنه لو طلب القسمة لم يجب إليها كما حكاه المراوزة والشيخ؛ لعدمك [انتفاعه] بالقسمة، فيكون طلبها منه سفها، فإن باع صاحب العشر نصيبه ثبتت الشفعة للآخر على الأصح؛ لأنه لو طلب القسمة أجيب إليها على الصحيح كما ذكره المراوزة والشيخ؛ لأنه ينتفع بها، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين في تعليقه ومجلي، وقد يصار إلى هذا الترتيب مع نظرنا إلى الخوف من طلب المشتري القسمة، إذا راعينا ما حكاه أئمة العراق عن الشيخ [في الإجبار على القسمة]، فإنهم قالوا: إن كان الضرر فيها على الممتنع أجبر، وإن كان على الطالب فوجهان، والله أعلم.
أما الطاحون الكبير الذي يمكن أن يجعل طاحونين لكل منهما حجران،
والحمام الذي بيوته واسعة بحيث يمكن جعل كل بيت [منها] بيتين، أو كل بيت حماماً، والبئر الواسعة التي يمكن أن تجعل بئرين، لكل واحد منهما بياض يقف عليه المستقي، ويلقي فيه ما يخرج منهما، ولم تنقص القيمة [بالقسمة] نقصاناً فاحشاً، أو كان مع البئر بياض بحيث يمكن جعل البئر في سهم والبياض في سهم، كما قاله ابن الصباغ وأبو الطيب- تثبت فيه الشفعة.
وحكى الإمام والقاضي الحسين- فيما إذا كانت قسمة البئر غير ممكنة والبياض الذي عليها يمكن قسمته- وجهين في ثبوت الشفعة: وجه الثبوت: القياس على ثبوتها في الأشجار إذا بيعت تبعاً للأرض. ووجه المنع: أنها مباينة عن الحريم؛ إذ هي بقعة أخرى فلم تتبع الحريم بخلاف الغراس فإنه متصل بالشقص [في محل الشفعة].
وخص في "البحر" الجواز في مسألة البئر عند البياض بما إذا لم يكن فيها ماء، وقال فيما إذا كان فيها ماء ولم يكن لها بياض: إنه ينظر فإذا كانت واسعة لها عينان، ويمكن أن تجعل بئرين، ويجعل بينهما حاجز مثل الحريرة، فهذه تثبت [فيها] الشفعة.
وإن كان فيها عين واحدة لا تثبت فيها؛ لأنه لا يجبر الشريك على قسمتها.
وقال في الرحى: الواحد إذا لم يمكن قسمته، لكن كان معه في البيع البيت الذي لا يستغني عنه الرحى، كالذي يجعل فيه الطعام ويرد إليه البهائم التي تعمل في الرحى، وقيمتهما واحدة: إن ذلك مما يمكن قسمته وتثبت فيه الشفعة.
ومحل عدم الثبوت: إذا لم يكن مع الرحى بيت، وهو في ذلك موافق لما في "الشامل".
وأما الطريق الواسع الذي يمكن قسمته [إذا كان مملوكاً] كالسكة المفسدة الأسفل إن بيع منه شيء منفرداً، ثبت فيه الشفعة.
وإن بيع مع الدار التي يستطرق إليها منه، نظر: إن كان للدار طريق غيره، تثبت
فيه الشفعة دون الدار على الأصح، وإذا أخذه الشفيع امتنع على المشتري التطرق منه.
وفي البحر، والرافعي عن ابن سريج: أن الشفعة تثبت في الدار للشريك في الطريق أيضاً.
وإن لم يكن للدار طريق غيره، نظر: فإن كان الطريق بحيث إذا قسم نصفين كفى أحد النصفين للاستطراق، ثبتت الشفعة في أحد النصفين بلا خلاف.
وهل تثبت في النصف الآخر؟
الحكم فيه كما لو كان لا يمكن الاستطراق إلا في جميعه، وفيه أربعة [أوجه]:
أصحها عند القاضي أبي الطيب وغيره من العراقيين: أنها لا تثبت.
وهو ظاهر المذهب في "البحر"؛ وبه قال ابن سريج، وأبو إسحاق.
والثاني: أنها تثبت لإمكان القسمة.
ونسبه الروياني إلى ابن أبي هريرة.
والثالث: [إن مكن] الشفيع المشتري من التطرق فيه تثبت، وإلا فلا، وهذا ما ذهب إليه أبو الفرج السرخسي، واختاره في "المرشد".
والرابع: أن الشفعة تثبت وللمشتري الاستطراق، حكاه ابن الصباغ وغيره.
قال الروياني: فعلى هذا إن أخذ أهل الدرب جميعهم الحصة المبيعة بالشفعة واقتسموا، كان للمشتري الاستطراق في حصة كل [واحد] منهم، وإن أخذها بعض الشركاء في الدرب [و] اقتسموا، فهل يثبت للمشتري الطروق في حصة الآخذ خاصة أو في حصة كل من الشركاء؟ فيه وجهان.
والحكم فيما إذا أمكن اتخاذ ممر الدار المشتراة من سكة نافذة عند القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ، كالحكم فيما إذا كان لها ممر آخر.
وعند الشيخ أبي محمد: كما إذا لم يكن لها ممر لكن بشرط أن يلحقه في
الفتح [عسر وتلحقه] مؤنة لها وقع.
فرع: شركة مالكي بيوت الخان في صحنه، كشركة مالكي الدور في الدرب.
وكذا الشركة في مسيل ماء الأرض دون الأرض.
وفي بئر المزرعة [دون المزرعة].
تنبيه: [اختلفت أقوال] الأئمة فيما يمكن قسمته على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه الذي لا تنقص القسمة قيمته نقصاناً فاحشاً، كما لو كانت قيمة الدار مائة، ولو قسمت عادت [قيمة] كل نصف [إلى] ثلاثين.
قال البندنيجي: وهذا ما صار إليه عامة الأصحاب والشيخ؛ يعني أبا حامد.
وقال الإمام: إن العراقيين زيفوه.
والثاني: أنه الذي يبقى منتفعاً به بعد القسمة بوجه ما.
والثالث: أنه الذي إذا قسم أمكن أن ينتفع به من الوجه الذي كان ينتفع به [قبل] القسمة.
فإن كانت مزرعة أمكنت الزراعة في كل حصة، وإن كانت داراً مسكونة أمكن السكن فيما يقسم وإن كان بتجديد مرافق كما ذكره الإمام، ولا عبرة بإمكان الانتفاع [به] من وجه آخر؛ للتفاوت العظيم بين أجناس المنافع، [وهذا ما] صححه الإمام، والرافعي.
وقال في "البحر": إنه الذي رواه العراقيون مع الأول.
وكلام الشيخ في منع الشفعة في الحمام الصغير منطبق عليه.
[وفي تعليق البندنيجي في كتاب القسمة أن الشافعي قال: وإن كان ينتفع واحد منهم بما يصير إليه أجبرتهم، [و] هذا اللفظ يحتمل الوجه الثاني وهو ظاهر
فيه، ويحتمل الوجه الثالث].
وفي الوسيط حكاية وجه: أن المعتبر: أن تبقى تلك المنفعة من غير تضايق، كالدار الفيحاء وعرصة الدار.
[وعلى ذلك ينطبق قول الماوردي في كتاب القسمة: إن ظاهر مذهب الشافعي أن النقصان الذي يحصل به الضرر المانع من القسمة نقصان المنفعة [والله أعلم]].
قال: ولا شفعة إلا فيما ملك بمعاوضة يريد أن الذي يستحق أخذه بالشفعة هو المملوك بعقد المعاوضة.
قال: كالبيع، والإجارة، والنكاح، والخلع، وكذا السلم والقرض والجعالة بعد العمل، ومعاوضته عن نجوم الكتابة إذا حصل العتق، وعن المتعة، وفي الصلح عن دم العمد، أو جراحة لها أرش مقدر إذا جوزنا ذلك بشرطه وغير ذلك.
ووجه ثبوتها في البيع: ما روى البخاري ومسلم، وأبو داود، بسند كل منهم عن جابر [أنه] قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط:"لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤذِنَ شَريكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ".
وفيما عداه: القياس عليه بجامع الاشتراك في المعاوضة مع لحوق الضرر الذي تقدمت الإشارة إليه، ولا فرق في ذلك بين أن يعتاض عنه ما ثبت في الذمة بعقد السلم والقرض، أو لا.
وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي أن صاحب "التقريب" قال: إذا كان ما يقابل الشقص مما لا يثبت في الذمة [بعقد] السلم، ولا بالقرض؛ فلا شفعة [فيه]؛ لأنه تعذر أخذه بما ملك به المتملك، وهو
غريب.
قال: فأما ما ملكه بالإشارة أو بوصية أو هبة أي لا تقتضي ثواباً كهبة الأعلى للأدنى فلا شفعة فيه؛ لأنه مملوك بغير بدل، فلا تجب فيه الشفعة، كما لو ملكه بالإرث.
قال الرافعي: ولأن الموهوب له والموصى له يقلد المنة من المواهب والموصي بقبول تبرعهما. ولو أخذ الشفيع [لأخذ عن استحقاق وتسليط، فلا يكون متقلداً للمنة، ووضع [الشفعة] على أن يأخذ [الشفيع] بما أخذ به المتملك.
أما إذا كان الهبة تقتضي الثواب إما عند الشرط أو عند إطلاق هبة الأدنى للأعلى وقلنا: إنه يستحق الثواب فهل تثبت الشفعة فيه؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة.
فعلى هذا هل يأخذه قبل قبض الموهوب [أم لا؟]؟ فيه وجهان:
أظهرهما: نعم؛ لأنه صار بيعاً.
قال الرافعي: وهذا الخلاف مبني على أن الاعتبار باللفظ أم بالمعنى؟
ولو قايل المشتري البائع في صورة إسقاط الشفيع حقه بسبب
الشراء، ثبتت له الشفعة بسبب الإقالة إن قلنا: إنها بيع كما صرح به القاضي الحسين.
وإن قلنا: إنها فسخ، فلا، وكذا لو رد عليه بالعيب؛ لأن الفسوخ وإن كانت تشتمل على تراد العوضين، فلا تعطى أحكام المعاوضات؛ ألا ترى أنه يتعين فيها العوض الأول؟
ولا نزاع في ثبوتها بالتولية.
فروع:
لو قال لأم ولده: إن خدمت ورثتي شهراً، فلك هذا الشقص، فخدمتهم شهراً ملكت الشقص. وهل تثبت فيه الشفعة؟ فيه وجهان:
وجه المنع وهو الأصح: أن ذلك وصية [في الحقيقة لأنها] تعتبر من الثلث.
لو دفع المكاتب عن نجوم كتابته شقصاً، ثم عجز ورق، فهل للشفيع [في الشقص شفعة]؟ فيه وجهان:
أصحهما: لا.
لو حضر رجل مغنماً، فأعطاه الإمام لحضوره شقصاً من دار، فهل تثبت فيه الشفعة؟
نظر: إن أعطاه عن رضخ فلا؛ لأنه تبرع.
وإن أخذه بسهم مستحق؛ ففيه وجهان:
وجه الثبوت: أنه اعتاضه بدلاً عن حضور وعمل.
فعلى هذا يأخذه الشفيع بقدر سهمه من الغنيمة، حكاه في "البحر"
قال: وما ملكه بشركة الوقف لا يستحق. أي: الموقوف عليه فيه الشفعة؛
لأن الوقف لما لم يستحق أخذه بالشفعة لم يستحق به الأخذ، وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب.
وقيل: إن قلنا: إن الملك للموقوف عليه؛ كان له الأخذ بالشفعة؛ لأنه يلحقه الضرر في ماله من جهة الشركة، وهذا ما اختاره في "المرشد".
ونسب الماوردي في كتاب الوقف مقابله إلى أبي إسحاق.
وبنى الغزالي الخلاف على أن الوقف والملك هل يقسم أم لا؟ وحكاه الرافعي مرتباً على القول بجواز القسمة، وجزم بالمنع على القول بامتناعها. ثم إذا قلنا بثبوت الشفعة للموقف عليه، فلو كان الوقف على جهة عامة كان للناظر الأخذ بالشفعة، إذا رأى المصلحة في ذلك.
ولا نزاع في أن المسجد إذا كان له حصة مملوكة من دار، بابتياع قيمة ذلك، أو اتهابه ليصرف ريعها في عمارته، وبيع من تلك الدار حصة، ورأى القيم أخذها بالشفعة أن له ذلك، كما صرح به القاضي الحسين، وكذلك الرافعي، وقاسه على ما لو كان لبيت المال شركة في دار، فباع الشريك نصيبه، فإن للإمام الأخذ بالشفعة.
وفي "البحر" حكاية وجهين فيما إذا مات الشفيع قبل العلم بالشفعة، ووارثه بيت المال، أن الإمام هل له الأخذ أم تبطل الشفعة؛ لأنها تثبت لدفع الضرر، وهاهنا لا يتعين [للضرر] واحد.
ومقتضى هذا أن يجري هذا الوجه فيما لو بيع ما لبيت المال فيه شركة.
تنبيه: اقتصار الشيخ على منع ثبوت الشفعة لمن سبب ملكه الوقف، يعرفك أنها تثبت لكل من ملك بغيره سواء كان بعقد معاوضة أو بغيره، وهو ما صرح به غيره حتى طرده في "المرشد" في المُعْمَر والمُرْقَب، والشيخ أبو محمد فيما إذا ملك عبده شقصاً من دار وقلنا: إنه يملك.
وقال الإمام: فيه احتمال ظاهر من حيث إن ملك العبد ضيعف، والشفعة لا تستحق بالملك الضعيف عند كثير من أصحابنا، وأشار- رضي الله عنه بذلك إلى الملك في زمن الخيار وسنذكره، ثم إذا قلنا بالثبوت للعبد، فهل يحتاج في
الأخذ إلى إذن من جهة السيد؟ فيه وجهان.
فائدة: ثبوت الخيار في الملك الذي يستحق به الشفعة، هل يمنع استحقاق الشفعة؟
قال الماوردي: إن كان خيار عيب لم يمنع؛ لبقائه على ملك مشتريه، وإن كان خيار رؤية، لم يملك به المشتري الشفعة، سواء قيل بصحة البيع أو بفساده؛ لأنه إما غير مالك أو غير مستقر الملك إن صح البيع.
وأما البائع فإنه يملك به الشفعة إن أبطلنا البيع. وفي ملكها مع القول بالصحة وجهان مبنيان على اختلافهم في لزوم البيع في خيار الرؤية قبل وجود الرؤية.
وأما خيار المجلس فلا يملك البائع فيه شفعة بالشقص الذي باعه في مجلس بيعه وخياره، سواء قيل: إن ملكه قد انتقل بالعقد أو لا؛ لأنه ببيعه راض بإسقاط شفعته.
وأما المشتري، فإن فسخ العقد فلا شفعة له [بما لم] يستقر ملكه عليه.
وإن تم له البيع، فله الشفعة، وكذا لا شفعة له إن قلنا: لا ملك له قبل انقضاء الخيار.
وإن قلنا بانتقال الملك [إليه]، أو بقول الوقف، ففي استحقاقه الشفعة وجهان:
وجه المنع: أن ملكه غير مستقر؛ لأنه لا يجوز له أن يعاوض، فلم يجز أن يملك به.
وأما خيار الشرط فإن كان لهما؛ فحكمه حكم خيار المجلس، وكذا إن كان الخيار للمشتري وحده.
وإن كان [الخيار] للبائع وحده ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا شفعة لواحد منهما. أما البائع؛ فلما في بيعه من الرضا بإسقاط حقه.
وأما المشتري؛ فلعدم ملكه واستقراره.
والثاني: أنها للبائع؛ لأن في اشتراطه الخيار [لنفسه] تمسكاً بما تعلق به من حقوق.
والثالث: إن تم البيع بينهما، فالشفعة للمشتري. وإن انفسخ فللبائع، كذا حكاه الماوردي.
وفي كلام الرافعي ما يقتضي خلافه في بعض ذلك؛ فإنه قال: لو باع أحد الشريكين نصيبه بشرط الخيار لزيد، ثم باع الشريك الآخر نصيبه في زمن الخيار بيعاً بتاً لعمرو، فلا شفعة في المبيع الأول لبائع عمرو؛ لزوال ملكه، ولا لعمرو وإن تقدم ملكه على ملك زيد، إذا فرعنا [على] أن الخيار يمنع الملك؛ لأن سبب الشفعة البيع وهو سابق على ملكه.
وأما الشفعة في المبيع لعمرو فموقوفة إن توقفنا في ملك زيد، ولبائع زيد إن أثبتنا الملك له، ولزيد إن قلنا بانتقال الملك إليه.
وعلى هذا قال المتولي: إن فسخ البيع قبل العلم بالشفعة بطلت شفعته إن قلنا: إن الفسخ بخيار الشرط يرفع العقد من أصله.
وإن قلنا: يرفعه من حينه فهو كما لو باع ملكه قبل العلم بالشفعة.
وإن أخذه بالشفعة ثم فسخ البيع، فالحكم في الشفعة كالحكم في الزوائد الحادثة في زمن الخيار.
قال: ويأخذ الشفيع [الشقص بالعوض] الذي استقر عليه العقد هكذا هو نسخة عليها خط المصنف رحمه الله؛ لأنه جاء في حديث جابر: "فَإِنْ بَاعَهُ فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ".
قال الماوردي: ولأن عدولهما عن الثمن لا يخلو من ثلاثة أحوال فاسدة.
إما أن يأخذه بما يرضى به المشتري، وفي ذلك إضرار بالشفيع.
وإما أن يأخذه بما يرضى به الشفيع، وفي ذلك إضرار بالمشتري.
وإما أن يأخذه بالقيمة، وقد تكون أقل من الثمن فيستضر المشتري، أو أكثر فيستضر الشفيع، وإذا بطلت هذه الأحوال ثبت أخذه بالثمن.
ثم اعتبار الشيخ الأخذ بما استقر عليه العقد، يعني من زيادة أو نقصان في مدة الخيار؛ بناء على ما هو الصحيح من إلحاق الزيادة والنقص في حال الخيار بالعقد، وقد ذكرنا في باب المرابحة ما قيل في ذلك، وعليه ينبني أمر الشفيع.
قال: فإن كان له مثل أي العوض كما إذا كان من الدراهم والدنانير أو الحبوب والأدهان- أخذه بمثله؛ لأنه الأعدل، فلو كان الثمن مائة رطل من الحنطة فهل يكال ويدفع للمشتري قدرها بالكيل، أم يعطى له مائة رطل [من الحنطة]؟ فيه وجهان.
والذي ذهب إليه الجمهور منهما وبه جزم في "البحر": الأول.
والذي حكاه القاضي الحسين: الثاني، موجهاً له بأن ذلك في مقابلة الشقص؛ ولذلك اختاره الغزالي، وقال: إنه حسن [بالغ].
فرع: لو كان المثل منقطعاً عند إرادة الأخذ.
قال المتولي: فللشفيع الأخذ بالقيمة كما لو اشتراه بما لا مثل له.
قال: وإن لم يكن له مثل أي كالثوب والعبد ومنفعة البضع والمنافع في الإجارة، والجعالة، وحق القصاص، ونحو ذلك أخذه بقيمته [أي بقيمة] العوض؛ لأنها مثل في المعنى، ولأن ما يضمن بالمثل إذا كان له مثل- ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل، كما لو أتلف على رجل مالاً.
قال: وقت لزوم العقد كما يعتبر قدر الثمن فيه، وهذا الذي أورده في المهذب، هو من تخريج ابن سريج. وقد صححه [الروياني] في "البحر"، واختاره في "المرشد"، واقتصر عليه أيضاً صاحب "التهذيب"، والشاشي في "حليته"، وصاحب "الفروع".
كما حكاه في "البيان".
والذي نص عليه الشافعي كما حكاه البندنيجي، وذهب إليه جمهور الأصحاب: أنها معتبرة بحالة العقد؛ لأنها وقت وجوب الشفعة، فلا اعتبار بما يحدث بعدها من زيادة [أو نقصان؛ لأن الزيادة تكون] في ملك البائع،
[والنقصان عن ملكه، وليس على الشفيع شيء مما يحدث].
وفي هذا التعليل ما يرشد إلى أن هذا تفريع على القول بانتقال الملك بنفس العقد.
أما إذا قلنا بأنه لا ينتقل إلا بزوال الخيار، فالوجه ما قاله ابن سريج.
وفي "الذخائر" أن بعضهم قال فيما إذا شرط في العقد خيار: إن قلنا: الملك ينتقل بنفس العقد، اعتبرت القيمة حين العقد.
وإن قلنا: لا ينتقل إلا بانقضاء الخيار اعتبرت عند انقضائه.
ثم قال: وهذا ليس بشيء؛ إذ يلزم عليه خيار المجلس ولم يطرده فيه.
والذي جزم به الماوردي أنا نعتبر أقل قيمة من حين العقد إلى [حين] أن يقبض البائع الثمن؛ لأنه إن زاد فالزيادة حادثة في ملك البائع لم يتناولها العقد.
وإن نقص فالنقصان مضمون على المشتري فخرج من العقد.
وعلى ذلك ينطبق ما حكاه فيما إذا كان العوض عبداً، فاعور في يد المشتري ورضي به البائع- أن الشفيع يأخذه بقيمة العبد أعور.
وقياس ما حكيناه عن ابن سريج أن العور إذا حصل في حال بقاء الخيار، فالحكم كذلك وإن حصل بعده أخذه بقيمة عبد سليم.
وهو الذي يقتضيه قياس المذهب في كل حال، وهو ما حكاه [المتولي عن] الجمهور فيما إذا اشترى الشقص بعبد، فخرج معيباً ورضيه البائع.
ووجهه بأن رضا البائع بالعيب نوع مسامحة فصار كما لو حط بعض الثمن، وكما لو اشترى [بألف] من نقد جيد، فوفاه من نقد دونه ورضي به، فإن الشفيع لا يأخذ إلا بالجيد.
وحكي عن ابن سريج أنه يأخذه بقيمة عبد معيب.
وإن كان عوض الشقص منفعة في إجارة، أو جعالة رجع بمثل أجرة تلك المنفعة، وذلك في الجعالة بعد الفراغ من العمل.
وإن كان منفعة بضع، كما لو أصدقها شقصاً، أو خالعها على شقص، رجع
بمهر مثلها حال العقد والخلع على الصحيح.
وفي "البحر" أنه يحكى عن القديم في مسألة الصداق أنه يأخذه بقيمة الشقص لا غير، وحكاه المتولي عن بعض الأصحاب وجهاً مخرجاً في الصداق.
والخلع أيضاً من قول لنا في الصداق إذا رد بالعيب، أن الزوجة تأخذ قيمته لا مهر المثل.
وإن كان الشقص مقرضاً أخذه بقيمته، وإن قلنا: يرد في القرض المثل الصوري؛ لأن أخذ الشفيع كالإتلاف، قاله المتولي.
وإن كان الشقص عوضاً عن نجوم الكتابة أو متعة أو عن دم عمد، أخذه بقدر النجوم والمتعة والدية.
تنبيه: في قول الشيخ: أخذه بقيمته وقت لزوم العقد ما يعرفك أن الأخذ في زمن الخيار غير جائز؛ لأن الأخذ لا يكون إلا بثمن المثل أو قيمته، وذلك لا يجوز إلا بعد اللزوم؛ فلزم منه تأخر الأخذ إلى اللزوم.
وقد قال الأصحاب: إن الحكم كذلك فيما إذا كان خيار البائع باقياً؛ لأن في الأخذ قبل انقضائه- إن قلنا بعدم انتقال الملك- تسليط على ملك البائع، ووضع الشفعة أخذ ملك المشتري، وإن قلنا: بانتقال [الملك] ففيه إبطال لحقه، وفي ذلك إضرار به.
وعن صاحب "التقريب" احتمال في جواز الأخذ في هذه الصورة الأخيرة.
وإن كان الخيار للمشتري وحده، وقلنا: لا ملك له فكذلك الحكم؛ لما أشرنا إليه.
وعن صاحب "التقريب" وجه أن له الأخذ في هذه الحالة، ويتبين بالأخذ الملك قبيله وينقطع الخيار.
وإن قلنا: إن الملك له، فالذي رواه المزني، أن للشفيع الأخذ، وكذلك هو منصوص في الأم، وهو الأصح عند عامة الأصحاب، لأنه مسلط عليه بعد لزوم الملك واستقراره، فقبله أولى.
وروى الربيع قولاً أنه ليس له الأخذ حتى ينقضي الخيار.
وقال أبو إسحاق المروزي: إنه الصحيح، واختاره القفال كما حكاه في "البحر"، وكلام القاضي أبي الطيب يدل على اختياره، فإنه وجهه بأمرين:
أحدهما: أنه خيار مشروط لأحد المتبايعين، فوجب أن يمتنع الشفيع عن الأخذ، أصله خيار البائع.
والثاني: أن المشتري إنما شرط هذا الخيار لينظر أي الأمرين أحظ له، وفي أخذ الشفيع إبطال لهذا الغرض فلا يجوز، وما ذكروه فيبطل بما إذا كان الخيار للبائع، فإن البيع إذا استقر للمشتري بانقطاعه أخذ الشفيع الشقص، وقبل [أن يستقر بانقطاعه] ليس له الأخذ.
وقد روى الإمام ومن تبعه عن بعضهم القطع به.
ولا فرق فيما ذكرناه بين خيار المجلس وخيار الشرط.
فرع: إذا قلنا بعدم جواز الأخذ في زمن الخيار، لو قال المشتري: اشتريت بشرط الخيار، وكذبه الشفيع.
قال أبو حامد في "الجامع": القول قول المشتري مع يمينه حكاه في "البحر".
قال: وإن كان الثمن مؤجلاً ففيه [ثلاثة] أقوال:
أحدها: أنه مخير بين أن يعجل ويأخذ، وبين أن يصبر إلى أن يحل فيأخذ؛ لأن مطالبته بالمال في الحال تجحف به؛ لإلزامه زيادة على ما لزم المشتري؛ فإن الأجل يقابله قسط من الثمن. وأخذه بثمن مؤجل يجحف بالمشتري؛ لاختلاف الذمم.
ولهذا إذا مات من عليه دين مؤجل؛ حكم بحلوله وعدم انتقاله إلى ذمة الورثة، وإن رضوا به مع إقرارهم بالحلول.
وأخذه بسلعة تساوي الثمن خروج عن وضع الأخذ بالمثل والقيمة، فلما بطل ذلك تعين ما ذكرناه.
وهذا هو الجديد.
قال: والثاني: يأخذه بثمن مؤجل؛ لأنه الثمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ [بِهِ] " أي بالثمن.
وهذا قوله في القديم، ونسبه الإمام إلى رواية حرملة.
وقال ابن الصباغ: إن الشيخ أبا حامد اختاره.
ومحله كما قال في "التتمة": إذا لم يكن الشفيع معسراً ولا مطولاً.
فإن كان، فليس له الأخذ.
وكذلك حكاه الإمام عن الشيخ أبي علي وأنه أقام الكفيل مقام الملاءة.
وحكى أن من الأصحاب من لم يشترط ملاءة الشفيع، ولا الإتيان بكفيل، وأحل الشفيع محل المشتري، واستبعده.
وعلى هذا القول إذا مات أحدهما حل عليه ولم يحل على الآخر.
قال: والثالث: أنه يأخذه بسلعة تساوي الثمن؛ لتعذر أخذه بثمن مؤجل أو حال [لما ذكرناه]، فتعين هذا؛ لأنه أقرب إلى العدل، فعلى هذا إذا كان الثمن مائة إلى شهر أعطاه سلعة تساوي مائة إلى شهر، وهذا حكاه ابن سريج عن النص في كتاب الشروط.
وقال ابن الصباغ عن هذا [القول: إنه أضعف، يعني من الذي قبله، وبعضهم قال: إن هذا] القول من تخريج ابن سريج من قول الشافعي في كتاب الشروط: إنه يجوز بيع الدين.
وحكى مجلي أن الشيخ أبا حامد اختاره وغيره، فعلى هذا لو لم يتفق طلب الشفيع حتى حل الأجل.
قال الإمام: وجب ألا يطالب إلا بالسلعة المعدولة؛ لأن الاعتبار بقيمة عوض المبيع [حال البيع]؛ ألا ترى أنه لو باع بمتقوم يعتبر قيمة يوم البيع.
قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه.
قال مجلي والرافعي: فعلى هذا إذا قلنا: إن حق الشفعة على الفور، فأخر الشفيع الطلب حتى حل الأجل فهل يبطل حقه؟ فيه وجهان: منهم من لم يبطله؛ إذ لا فائدة في طلبه، ومنهم من قال: إن أشهد لم يبطل، وإلا بطل؛ لأن التأخير قد يكون للزهد، وقد يكون لانقضاء الأجل، فلا بد من تميز.
قال: والشفعة على الفور في قول: [أي خيار طلب الشفعة على الفور، كما صرح به في "المهذب"، ووجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "الشُّفْعَةُ] لِمَنْ وَاثَبَها". أي: بادر إليها، وروي [أنها] "كَنَشْطَةِ العِقَالِ: ِان قُيِّدَتْ ثَبَتَتْ، وَإِنْ تُرِكَتْ فَاللَّومُ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا". وهذا نصه في الجديد والإملاء.
قال: وإلى ثلاثة أيام في قول: لأن التأبيد فيها يضر بالمشتري؛ لأنه لا يبقى على ثقة مما يبنيه ويحدثه، والفور يضر بالشفيع؛ لأنه لا يتمكن من معرفة الحظ والمصلحة: هل هو في الأخذ أو الترك. [فعلق] على غاية حد القلة وبداية حد
الكثرة، وهذا ما قاله في السير التي يرويها الطحاوي عن المزني كما نقل البندنيجي.
وفي "الذخائر": أنه مذكور في سير حرملة.
قال الماوردي: وعلى هذا لو حصل في خلال الثلاثة أيام زمان تتعذر فيه المطالبة؛ لم يحسب به منها، بل لا بد من ثلاثة أيام يتمكن في جميعها من المطالبة.
ولو عرض بإسقاط الشفعة فيها؛ سقطت كما حكاه الإمام، ثم قال: ولا يبعد [على] قولٍ اشتراط التصريح بما يسقط الشفعة، كما سنذكره من بعد تفريعاً على القول الثالث.
ولهذا القول الذي ذكره الشيخ نظائر في مسائل: قتل المرتد، وتارك الصلاة، وطلاق المولى، وفي العنة، ونفي الولد باللعان، وفسخ الزوجة بإعسار الزوج، وخيار الأمة إذا عُتِقَتْ.
قال: وعلى التأبيد في قول، وإلى أن يصرح بالإسقاط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذي حكيناه عن رواية مسلم [في صدر الباب: فَإِنْ أبى فَشَريكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤذِنهُ" فكان على عموم الأوقات ما لم يسقطه].
ولأنه خيار لا ضرر على المستحق عليه في تأخيره، فكان على التراخي كخيار القصاص، وهذا ما قاله في القديم، فعلى هذا ليس للقاضي أن يقطع خياره إذا رفع إليه؛ لأن الحاكم لا يملك إسقاط الحقوق كالدين، قاله الماوردي.
وإذا أخذ الشفيع الشقص بعد أن عمر فيه المشتري، أو أحدث فيه شيئاً، أخذ ما أحدثه بقيمته وقت الأخذ، قاله القاضي أبو الطيب.
قال: أو يعرض بأن يقول: بعني، أو بكم اشتريت- في قول؛ لاشتراك التعريض والتصريح في المقصود بالعفو ومن جملة التعريض طلب القسمة والعمارة واستئجاره منه ومساقاته عليه.
وحكى الإمام عن [صاحب] التقريب تفريعاً على هذا القول: إن المساومة ليست مبطلة؛ فإن [الشفيع قد يبغي الشراء استرخاصاً.
وحكى الماوردي قولاً ثالثاً على قولنا بأن الشفعة على] التأبيد أنها تسقط بأحد أمور ثلاثة: بالعفو الصريح، [أو] بما يدل عليه من التعريض، [أو] بأن يحاكمه المشتري إلى القاضي فيلزمه الأخذ أو الترك، فإن أخذ، وإلا حكم عليه بإبطال الشفعة.
وحكى مجلي عن بعضهم طريقة قاطعة: بأن للمشتري الرفع إلى الحاكم وإجباره على الأخذ أو الترك.
وحكى صاحب "التقريب" قولاً رابعاً في أصل المسألة، أنها تختلف باختلاف المطلوب ومقدار الثمن، فيدوم الطلب إلى حد لا يعد الشفيع فيها مقصراً [بل متروياً].
قال: والصحيح: أنه- أي: الخيار- على الفور لما تقدم، وأخر ذكر الصحيح؛ ليقع عليه التفريع. والجواب عن قولهم: إن في الفور ضرراً على أحدهما وفي التراخي ضرراً على الآخر- أنه يبطل بخيار الرد بالعيب.
وعن الحديث: أنه عام مخصوص بما ذكرناه من الأحاديث.
وعن قياسهم على خيار القصاص: [منع] كون التأخير لا ضرر فيه على المشتري؛ لأنه إذا عمر شيئاً أخذه بقيمته [وقد تكون قيمته أقل من ثمنه]، وقد يكون [له غرض] في أعيان أمواله، وذلك ضرر ظاهر.
والمراد بالفور: حال اطلاع الشفيع على البيع عند بعض الأصحاب كما في العيب، وهو المتبادر إلى الفهم من إطلاق الأئمة وميل النص إليه.
ومن ألفاظ الشافعي في ذلك: أنه إن علم فطلب [مكانه فهو له]، والمذهب على ما حكاه البندنيجي: أن له الخيار في الطلب وتركه ما لم يفارق مجلس البلاغ كخيار المتبايعين.
والمراد بالطلب: طلب المشتري بالشفعة [ويقوم مقامه طلب الحاكم ليطلب الشفعة] بحضرته، ولا يقوم مقام واحد منهما في القدرة عليه؛ للإشهاد على الطلب، كما صرح بها لأئمة هنا.
وقد حكينا في باب الرد بالعيب وجهاً أنه يقوم مقام طلب الحاكم.
وحكى مجلي عن الشيخ أبي حامد: أن الشفيع متى قدر على مطالبة المشتري فرفع الأمر إلى الحاكم؛ بطلت شفعته.
وليس عليه في السير [إلى الطلب] إرهاق ولا عجلة على خلاف المعتاد، بل يمشي على عادته ولا يكلف بسوق دابته.
وإذا علم بالشراء ليلاً ولم يمكنه السير [فيه] أخر إلى [أن يصبح] وإن علم [بها] نهاراً فله أن يؤخر إلى أن يلبس ثيابه ويجمع ماله ويغلق بابه، وإن كان في أكل فحتى يفرغ منه ويتنظف.
وإن كان في حمام فحتى يفرغ حاجته. وإن كان في صلاة فحتى يتمها، وكذا لو حضر وقت الصلاة، فله التأخير حتى يؤذن ويقيم ويصلي الفريضة وسننها، كما صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ.
وحكى الإمام عن بعض الأصحاب أنه قال: يجب قطع ذلك سوى الفريضة، وأنه أشار إليه القاضي يعني الحسين.
وعلى الأول لا يفتقر إلى الإشهاد على الطلب على ظاهر المذهب وإن أمكن.
وقيل: باعتباره عند الإمكان.
قال: وإن طلب وأعوزه الثمن بطلت شفعته؛ لأن تأخير الثمن يضر بالمشتري، والضرر لا يزال بالضرر.
وصورة ذلك، كما حكاه الماوردي: أن يبادر بالطلب ويقول: أنظروني بالثمن، فإن للحاكم أن ينظره يوماً ويومين، وأكثره ثلاثة أيام، فإذا لم يحضره في المدة التي أنظره الحاكم إليها؛ بطلت شفعته، وإن أحضره في المدة استمر على حقه
وسنذكر ما قيل في كيفية تملكه.
وإنما أنظرناه هذه المدة؛ لأن تحصيل الثمن في الحال يتعذر في الغالب، فاعتباره يؤدي إلى إسقاط الشفعة والإضرار بالشفيع.
وحكى الإمام عن الأصحاب أنهم عبروا عن النسخة التي أشرنا إليها في التأدية بأن قالوا: كل اشتغال لا يوجب حبس من عليه الحق في الديون، فهو محتمل فيما نحن فيه، وكل اشتغال يجر تطويلاً يسوغ لصاحب الحق استدعاء الحبس معه؛ فهو غير محتمل فيما نحن فيه.
لكن هل يبطل الحق بمجرد ذلك، أم لا بد من إبطال القاضي؟ فيه خلاف للأصحاب.
ثم هل نقول عند اطراد العسرة إن الشفعة لم تثبت أصلاً، أو نقول: ثبتت ثم سقطت؟ فيه خلاف بين الأصحاب أيضاً [كما] حكاه الإمام، وعلى الثاني كلام الشيخ.
فرع: لو قال الشفيع: عندي عقار وأنا أظهره وأحصل الثمن منه فهل ينظر إلى بيعه؟ قال الإمام: إن كان عقاراً لا يطلب مثله فلا تعلق به.
وإن كان [عقاراً] يطلب مثله ولكن تباطأ انتظام بيعه، فهذا مما لو فرض في الديون لا يستحق صاحب الدين طلب الحبس إلى اتفاق البيع.
وهل يبطل حق الشفيع في مثل هذا المقام.
والضياع المعروض معروف؟ فيه احتمال عندنا.
قال: وإن أخَّر الطلب [أي] من غير عذر على الفور بطلت شفعته؛ [للحديث] ومن جملة الأعذار غير ما ذكره الشيخ: عدم علمه بالمشتري ولا قدر الحصة المبيعة، وكذا قدر الثمن، وجنسه، كما صرح به القاضي الحسين والفوراني، ووافقهما في كون الجهل بقدر الثمن عذراً في ترك الطلب: الطبري،
وزاد فقال: لو عفا صريحاً قبل معرفته كم الثمن لم تسقط شفعته.
وفي "الإشراف" ما يقتضي ذلك وزيادة فإنه قال: إذا لم يعرف الشفيع الثمن سعى في طلب المشتري ليعرف منه الثمن ثم يقول: تملكته عليك بالثمن المعلوم.
ولا يجوز أن يتوانى في طلب المشتري، ليعرف منه الثمن، وهو معنى قول أصحابنا: إن الطلب [على الفور.
وقال الرافعي: إنهم لم يشترطوا في الطلب أن يكون الثمن] معلوماً للشفيع.
وهل يكون الجهل بكون الشفعة على الفور [عذراً]؟ فيه وجهان مخرجان من الخلاف المذكور في جهل المعتقة بأن خيارها على الفور، هل يبطل حقها أم لا [كما] صرح به [في]"البحر"؟
وفي "النهاية" الجزم بأنه إذا كان حاله يليق به أن يجهل هذا أنه يعذر.
وكذا الخلاف في أن الجهل بثبوت أصل حق الشفعة مع العلم بالبيع، هل يكون عذراً أم لا؟ صرح به الشاشي في الحلية.
ولو كان على النخل المأخوذ مع الأرض بالشفعة طلع غير مأخوذ بالشفعة فهل يكون تأخيره إلى جذاذه عذراً أم لا؟ فيه وجهان في "النهاية" ولا نزاع في أن التأخير إلى حصاد ما في الأرض من زرع عذرُ.
فرع: لو عفا الشفيع قبل العلم بالمشتري أو قدر الحصة، فهل يصح عفوه؟ قياس ما ذكرناه عن الطبري في العفو قبل العلم بقدر الثمن: عدم الصحة.
وهو ما جزم به الفوراني.
وفي "التتمة" حكاية خلاف فيه، وبناه في الأولى على الخلاف فيما إذا قال لغريميه: أبرأت أحدكما، ومقتضاه أن يكون الصحيح الصحة، وكذا صرح به في "البحر"، وبناه في الثانية على الإبراء من الحقوق المجهولة هل يصح أم لا؟
قال: وإن قال: بعني، أو كم الثمن، بطلت شفعته يعني: أن الشفيع لما بلغه البيع بادر إلى طلب المشتري، فلما لقيه بادره بقوله له: بِعْنِي، أو كم الثمن.
ووجه إبطال الشفعة في الأولى: أنه عدل عن المطالبة بالشفعة إلى أن يتملك بجهة أخرى. وذلك يدل على الإعراض.
وفي ابن يونس حكاية وجه عن المراوزة: أن الشفعة لا تبطل بذلك، ولم أقف عليه فيما وقفت عليه من كتبهم إلا على قولنا: إن الشفعة على التأبيد.
ووجه إبطال الشفعة في الثانية: ما حكي عن الشيخ أبي حامد، والمحاملي، وقاله القاضي "الحسين" في تعليقه أيضاً أنه كان يمكنه أن يقول عوض ذلك: أخذت بالثمن الذي ابتعت به، فلما لم يقل ذلك، كان تاركاً لطب الشفعة مع القدرة عليه؛ فبطلت الشفعة.
قال في "البحر" وهذا على قولنا: [إنه] لا يتقدر الأخذ بالمجلس: يشير إلى خلاف سنذكره في أن الشفيع إذا ترك الطلب أو عفا صريحاً: هل يكون له الطلب ما دام في المجلس أم لا؟
واعلم أن ما حيكناه عن الشيخ أبي حامد وغيره، يفهم أن الأخذ يجوز بالثمن المجهول، وهو مخالف لما يفهم من اللفظ الذي حكيناه من قبل.
ولما صرح به الرافعي، وصاحب "المرشد" من أن الأخذ بالثمن المجهول لا يجوز.
وحينئذ فيجتمع من مفهوم ما حكيناه عن الشيخ أبي حامد وغيره خلاف في جواز الأخذ بالثمن المجهول، وقد قال الرافعي: ينبغي أن يكون في صحة التملك مع كون الثمن مجهولاً ما ذكرناه في بيع المرابحة.
وادعى أن في "التتمة" إشارة إليه.
ويقتضي هذا أن يكون في المسألة ثلاثة أوجه كما هي ثَمَّ:
أحدها: عدم الصحة مطلقاً.
والثاني: الصحة مطلقاً؛ لبناء العقد الثاني على الأول.
والثالث: إن علمه في المجلس نفذ، وإن تفرقا قبل البيان بطل العقد؛ لأن المجلس جعل في الشرع كحالة المقاولة.
والذي رأيته في "التتمة" هاهنا الجزم بأنه إذا لم يطلع على الثمن في مجلس [الأخذ لم يصح، وإن اطلع علي في المجلس] انبنى على مسألة المرابحة.
وهذا الذي قاله متضح إذا قلنا بثبوت خيار المجلس في الأخذ بالشفعة كما سنذكره.
فإن قيل: لم لا يحمل ما قاله [الشيخ] أبو حامد ومن تابعه على ما إذا كان الشفيع عالماً بقدر الثمن وأراد أن يستنطق المشتري؛ ليكون قوله حجة عليه إن وقع اختلاف في قدر الثمن؛ [إذ به يقع الجمع بين النقلين] ويؤيده أمران.
أحدهما: أن البندنيجي- وهو أحد المتلقين عن الشيخ أبي حامد- وابن الصباغ- وهو من أجلاء أصحاب القاضي أبي الطيب- جزما بعدم [جواز] الأخذ بالثمن المجهول، ولم يحكيا عنهما شيئاً من ذلك؛ [مع محافظتهما] على نقل كلامهما.
والثاني: أن الروياني [في "البحر"] جزم بأن الأخذ بالثمن المجهول [لا يمتنع]، وأن التأخير لمعرفته لا يسقط الشفعة.
وقال بعده بأسطر مثل قول الشيخ أبي حامد ومن تابعه، فلولا أنه محمول على ما ذكرناه لكانت مناقضة ظاهرة؟
قلت: يمنع [من] ذلك أن الإمام أفهم بكلام الأصحاب منا، وقد حكي عن العراقيين: أنه لو انتهى إلى المشتري، وقال: بكم اشتريت الشقص، بطل حقه.
وقال: قياس المراوزة في ذلك: [إنه] لا يبطل؛ فإنه معذور في [البحث] من جهة أنه ربما يطالب بالشفعة إذا كان الثمن مقدراً عنده، ولا
يطلبها إذا كان أكثر منه.
ثم قال: ولا شك أن هذا يفرض فيه إذا لم يكن عالماً مقدار الثمن من جهة أخرى.
ولا يمتنع أن يقال: إن كان عالماً يعذر في البحث، ويحمل الأمر فيه على إقرار المشتري. انتهى.
وهذا ينفي أن يكون ما قاله الشيخ أبو حامد محمولاً على حالة العلم.
وقد جعل الغزالي ما أبداه من قياس المراوزة مذهباً له وطرده في حالة العلم والجهل.
وقد جعل الغزالي.
وكلام القاضي الحسين يدل على خلافه فإنه قال: إذا قال: بكم الثمن؟
وقال أصحابنا: بطل حقه؛ لأنه لم يبادر إلى الطلب مع الإمكان.
والذي عندي أنه لا يبطل؛ لما بينا أن الجهل بقدر الثمن وجنسه يسوغ له التأخير. وحكى الإمام ذلك في آخر الباب عنه وعنهم.
ولا خلاف عند العراقيين أن الشفيع لو ابتدأ المشتري عند لقياه بتحية السلام لم تبطل شفعته، بل ذلك مستحب؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَدَأَ بِالكَلامِ قَبْلَ السَّلامِ فَلَا تُجِيبُوه".
وكذا لو قال: بارك الله في صفقة يمينك [كما قال في "المهذب"، أو بارك الله لك في صفقة يمينك]، كما قاله ابن الصباغ، وأبو الطيب، والبندنيجي،
والماوردي؛ لأن وصوله إلى الثمن من الشفيع بركة في صفقته.
وألحق المتولي بذلك ما لو قال: بلغني أنك اشتريت نصيب شريكي، بارك الله لك في صفقة يمينك.
واستحسن الإمام ما قالوه في السلام، وقال: إنه خارج على ما ذهب إليه المحققون من أنا لا نشترط قطع الأشغال التي يكون الشفيع ملابسها عند بلوغ الخبر وأما [من أبعد] من أصحابنا باشتراط قطعها؛ فلا يبعد أن يشترط الابتداء بطلب الشفعة.
وقال: قياس المراوزة في الدعاء خلاف ما قالوه، فإن قوله: بارك الله لك، يشعر بتقرير الشقص في يده.
والمذكور في تعليق القاضي [الحسين] ما حكيته عن العراقيين.
فرع: ضمنه مسائل نحتاج إلى ذكرها:
إذا ابتدر الشفيع الطلب عند لقيا المشتري، ثم أمسك بعد الطلب من غير تعريض ولا تصريح.
قال القاضي الحسين، والماوردي: بطلت شفعته حتى يكون مستديماً للطلب بحسب الإمكان.
وهذا منهما يدل على أن حقيقة الطلب غير حقيقة الملك، وهو ما يفهمه كلام الرافعي حيث قال: اعتبر الأصحاب في التمليك أن يكون الثمن معلوماً للشفيع ولم يشترطوا ذلك في الطلب، وقد صرح بذلك الماوردي حيث قال: الشفعة تجب بالبيع، وتستحق بالطلب، وتملك بالأخذ، وذلك [يدل] على التغاير، وكلام الشيخ أبي حامد ومن تابعه الذي حكيناه في تعليل بطلان الشفعة بقوله: بكم اشتريت. يدل على أن المراد بالطلب نفس الأخذ حيث قالوا: لما لم يقل: أخذت بالثمن- كان تاركاً لطلب الشفعة مع القدرة عليه، وكلام الشيخ يحتمل الأمرين.
وعلى كل احتمال فإن قيل: اعتبار العراقيين مبادرة الشفيع إلى طلب المشتري، أو الحاكم على الفور إذا لم يكن ثم عذر، وجعل الشفيع معذوراً في تأخير الطلب إذا اطلع ليلاً إلى الصباح، أو قضى ما هو فيه من شغل كما ذكرتموه
- مشكل؛ لأن تمليك الشقص بالشفعة لا يفتقر باتفاق [أهل] الطريقين إلى حضرة الحاكم؛ لأنه ثابت بالنص، ولا إلى رضا المشتري، ولا إلى حضوره كما حكاه ابن الصباغ وغيره؛ لأن من لا يعتبر رضاه لا يعتبر حضوره كالزوجة إذا طلقها الزوج.
وفي "الإشراف" وغيره: أن الشيخ أبا سهل الصعلوكي قال: الطلب من باب الإضافة يستدعي مطلوباً، ولا معنى لإظهار الشفيع الطلب إلا في وجه المشتري أو وكيله أو البائع إن كان الاستشفاع منه ولا يفتقر التملك عند العراقيين إلى بذل الثمن، كما دل عليه كلام ابن الصباغ حيث قال: إذا أخذ الشفيع الشقص وجب عليه الثمن ولا يلزم المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن، فإن كان الثمن موجوداً سلمه، وإن لم يقدر عليه في الحال؛ أجلناه ثلاثاً، فإن أحضره وإلا فسخ الحاكم عليه الأخذ ورده [إلى] المشتري ونسب البندنيجي هذا القول لابن سريج.
وقال الشيخ أبو حامد: هكذا الحكم فيما لو هرب الشفيع بعد الأخذ؛ جاز للحاكم فسخ الأخذ ورده للمشتري وصرح به في "الإشراف" و"التتمة"، وكذا في تعليق البندنيجي حيث قال: إذا قال اخترت التمليك، انتقل المبيع إلى الشفيع ووجب عليه الثمن بغير اختيار المشتري.
ولفظ الشيخ في المهذب أنه يملك الشقص بالأخذ؛ لأنه تمليك [مال] ثابت له بالقهر، فوقع الملك له فيه بالأخذ؛ كتملك المباحات، وإذا كان التمليك لا يفتقر إلى ذلك، فهو قادر حين اطلاعه [على الشراء على التمليك] فإذا لم يفعله وجب أن يعد مقصراً؛ لأنه اشتغل عن المقصود بغيره.
وإذا تملك عقيب الاطلاع، وأشهد خشية ألا يصدق في دعواه التملك
على الفور: وترك مطالبة المشتري بانتزاع الشقص من يده لا يعد مقصراً؛ لأن التملك بعقود المعاوضات ليس من شرطه تقابض العوضين، نعم ذلك شرط فيما يحذر فيه الربا.
فإذا كان في الشقص صفائح من ذهب وقد أبيع بفضة، اشترط فيه التقابض؛ حذراً من ذلك.
قلت: أما كون الشفيع إذا تملك وجب أن يقال: لا يعد مقصراً بترك مطالبة المشتري [بقبض الشقص]؛ ففي كلام البندنيجي ما يقتضيه فإنه [قال]: إذا قال: اخترت التملك انتقل المبيع إليه ووجب الثمن عليه بغير اختيار المشتري.
فإذا عرف هذا الفصل فقد استغنى عن أن يكون على الفور أو على التراخي؛ لأنه إذا ملك نقل المبيع إلى ملكه بغير اختيار المشتري، فقد بلغ مراده، وكان الخيار إليه.
وأما اعتبار التملك عقيب الاطلاع حتى إنه إذا لم يفعله، واشتغل بطلب المشتري ينبغي أن يعد مقصراً، فقد استشعره صاحب "الإشراف" وأجاب في أثناء كلامه عنه في حالة كون الشفيع جاهلاً بقدر الثمن، بأن التملك ممتنع والطلب لأجل معرفة قدر الثمن حتى يتعقبه التملك.
وفي حالة العلم بمقدار الثمن وقدرته على التملك جعل جوابه مبنياً على أصل بعد العهد به، وهو أن المشتري إذا اطلع على عيب بالمبيع ولا أحد حاضر معه، هل يجب عليه أن يقول: فسخت العقد أم لا؟
وحكي فيه عن القاضي الحسين أنه قال بالوجوب؛ إذ الثابت على الفور كلمة الرد والفسخ، وهي لا تنحبس على الرد الفاسخ بعذر.
وعن القفال المروزي أن المشتري لو أخر الرد إلى الرفع إلى الحاكم جاز، وأن الاشتغال بالرفع إلى الحاكم كالاشتغال بنفس الرد.
والحكمة فيه أنه أراد أن يرد رداً خارجاً عن الخلاف؛ إذ على قول بعض العلماء لا بد من رضا المردود عليه أو حكم الحاكم.
ثم قال: والاستشفاع بمنزلة الرد بالعيب.
فنقول: الشفيع على رأي القاضي في أي حال كان يملك الربع بالشفعة.
ثم إن حضره شاهدان فقد تحملا الشهادة عليه، وإلا إذا ظفر بهما أشهدهما عليه؛ ليخرج من الخلاف، يعني خلاف أبي حنيفة، فإنه يعتبر حضور المشتري، أو حكم الحاكم، كما حكاه عند الرافعي، أو رضا المشتري أو حكم الحاكم، كما حكاه ابن الصباغ.
ثم قال صاحب "الإشراف": [وعلى ذلك يخرج ما قاله الأصحاب في تفسير الأعذار]، وعلى ذلك يتخرج أيضاً.
أما الذي على الفور فيجيء فيه جوابان، وما قاله في حالة عدم العلم بالثمن حسن بالغ، وما قاله في حالة العلم فهو الممكن في الجواب، ويجعل كأن العراقيين صاروا إلى ما صار إليه القفال من التعليل؛ وهذا مع [تسليم] ما نقل عنهم في عدم اعتبار ما ذكرناه، وإلا فقد حكي في "الإشراف" أيضاً في فصل كيفية الحكم وما يختص [به القاضي] أن التملك لا يحصل إلا ببذل الثمن [على وجه، وعلى وجه] لبعض أصحابنا أنه لا يحصل إلا ببذل الثمن وقضاء القاضي.
وكلام الماوردي يقتضي أنه لا يحصل له الملك إلا ببذل الثمن، فإنه قال: لو قال من بادر بالطلب: أنظروني بالثمن واحكموا لي بالملك [حتى أحضر الثمن]- لم يجز أن يحكم له بالملك حتى يكون حاضراً، فلو أحضر رهناً بالثمن أو عوضاً عنه، لم يجز أن يحكم له بالملك.
وعلى هذا يندفع السؤال، فإن البذل لا يتم إلا بقابض، والقابض إما المشتري أو وكيله أو الحاكم، فيتعين طلبه لعدم القدرة على الملك بدونه. والله أعلم.
فإن قيل: هل يتوجه إيراد هذا السؤال على المراوزة؟
قلت: لا.
وذلك يظهر لك إذا عرفت ما ذكروه فيما يحصل به الملك، فأذكره وإن طال لما فيه من فوائد.
وقد قالوا: لا بد من لفظ دال على الرضا، إذا لم يكتف بالمعاطاة، وإن أفهم لفظ "الوسيط" و"البحر" عدمه.
ثم اللفظ الدال قوله: تملكت، أو اخترت الأخذ بالشفعة، أو أخذت الشقص بالشفعة، وما أشبه ذلك؛ ولا يحصل بنفس الطلب كما صرح به المتولي.
ووجهه: بأن المطالبة رغبة في التملك، والملك لا يحصل بالرغبة المجردة.
وهذا قضية ما حكيته عن كلام الماوردي في صدر الفرع.
وحكى الرافعي عن أمالي السرخسي أن الطلب يكفي سبباً لثبوت الملك، ولا يقف على قوله: تملكت، وعليه ينطبق كلام [القاضي] مجلي حيث جعل قوله: طلبت شفعتي لفظاً مملكاً؛ كقوله أخذت وهو مؤيد لما استنبطه من كلام أبي حامد أن المراد بالطلب نفس الأخذ.
والأظهر كما قاله الرافعي: الأول. ثم وجود اللفظ وحده [عندهم] غير كاف في حصول الملك، وهو الذي استقر عليه جواب شيخهم القفال بعد أن كان يقول بحصوله بمجرد الأخذ، لكن بعده لا ينفذ تصرف المشتري في الشقص بالبيع وغيره، وإن كان يجوز قبله. كما حكاه القاضي الحسين عنه، وحكاه الإمام عن صاحب "التقريب".
ثم أبدى احتمالاً في جواز التصرف، وجعل الأظهر النفوذ إذا لم يحصل الملك.
وإذا وجد مع اللفظ تسليم الثمن إلى المشتري، فقد حصل الملك، فإن بذله فامتنع المشتري من قبضه، خلى بينه وبينه، أو رفع الأمر إلى القاضي حتى يلزمه التسليم.
فإن لم يوجد ذلك وسلم المشتري الشقص إلى الشفيع راضياً بذمته؛ حصل الملك أيضاً.
وإن [وجد مجرد] رضا المشتري بذمة الشفيع، ولم يسلم [له] الشقص، أو لم يوجد ذلك، ورفع الشفيع الأمر إلى الحاكم وأثبت حقه في الشفعة لديه وحق طلبه، فقضى له [بحق الشفعة] فوجهان:
أصحهما في الرافعي: الحصول، وفي الوسيط الأظهر: عدم الحصول في الثانية، وفي الوجيز الأظهر: عدم الحصول فيهما.
ثم على الأول [لا يملك] تسليم الشقص ما لم يسلم الثمن، وإن قلنا: في البيع يبدأ بالبائع.
وخرجه الإمام في الصورة الأولى على الخلاف في البيع.
ولو عدم قضاء القاضي [ورضا] المشتري، ووجد من الشفيع الإشهاد على الطلب واختيار الشفعة.
فإن قلنا: بعدم الحصول الملك مع قضاء القاضي فهاهنا أولى.
وإن قلنا: بالحصول ثم فهاهنا وجهان.
والفرق قوة قضاء القاضي.
ثم على القول بحصول الملك بقضاء القاضي أو الإشهاد، فإذا أخر الشفيع تأدية الثمن مقصراً من غير عجز، فهل يحكم ببطلان ملكه بعد جريانه أم يحتاج في إبطاله إلى الرفع إلى الحاكم؟ فيه وجهان في "النهاية" و"البسيط".
واختار القاضي منهما الثاني. وسلك في الوسيط طريقاً آخر فقال: إذا قلنا بحصول الملك بذلك، فقصر في أداء الثمن، بطل ملكه، لكن بطريق التبين أم بطريق الانقطاع؟
فيه وجهان:
ثم قال: [هذا] إذا رضي المشتري فإن أبى إلا أخذ الثمن، فهل يبقى خيار الشفيع إلى أن يسلم الثمن؟ فيه وجهان.
وقد حشا بعضهم على الوسيط فقال قوله: هذا إذا رضي المشتري [و] لم يظهر معناه [ومعناه: أن الخلاف الذي ذكره في [أن] الملك [يبطل] تبيناً أم انقطاعاً، شرطه طلب] المشتري ورضاه.
أما إذا أبى ذلك فلا يبطل، لكن هل يكون للشفيع إبطاله ما لم يسلم الثمن؟ فيه الخلاف الذي ذكره.
والمذكور في "الإشراف" أن الامتناع من الأداء مع القدرة عليه هل يثبت [للمشتري] فسخ الاستشفاع أو يتعين حبس الشفيع إلى الوفاء؟ فيه وجهان.
فإذا عرفت ما قالوه فيما يحصل به الملك، تلخص لك منه وجهان:
أحدهما: لا يحصل إلا باللفظ وبذل الثمن أو تسليم الشقص، وعلى هذا لا بد من طلب المشتري؛ لأن القدرة على التملك لا تحصل بدونه أو نائبه، فلا يرد ما ذكرناه من السؤال.
والثاني: أنه لا يحصل إلا بذلك، أو باللفظ، وقضاء القاضي، أو الإشهاد، فيكون مخيراً في طلب واحد منها، ومن سلك ما خير فيه لم يعد مقصراً، نعم السؤال متوجه عليهم في الرد بالعيب.
فرع: إذا لقي الشفيع المشتري حين اطلع على الشراء في غير بلد الشقص المشفوع، فأخر الأخذ إلى حضورهما إلى بلد الشقص، بطل حقه لقدرته عليه، فلو أنكر المشتري الملك وكانت بينته في بلد الشقص فأخر إلى الحضور إليها؛ لم يبطل حقه لأنه معذور.
ثم البينة المكتفى بها رجل وامرأتان، أو رجل مع يمينه، ويسمع فيها شهادة السيد لمكاتبه كما حكاه في "الزوائد" عن القاضي في "المجرد"، وحكاه الإمام عن شيخه وقال: أراه هفوة غير معتد بها، فإن شهادة السيد لمكاتبه لا تقبل.
ولا خلاف في أن البينة إذا [شهدت له] بالملك ثبت حقه في الشفعة ولو شهدت له باليد دون الملك فهل يثبت [له] حق الشفعة؟ فيه وجهان في الحاوي.
والذي دل عليه كلام الشيخ أبي حامد وغيره في كتاب الصلح الثبوت، فإن الرافعي حكى عنه ثَمَّ أنه قال: لو ادعى رجل على رجلين داراً في يدهما، فأقر
أحدهما وكذبه الآخر؛ ثبت له النصف بإقرار المصدق، فلو صالح المدعي المقر على مال، وأراد المنكر أخذه بالشفعة، فله ذلك إن ملكا في الظاهر بسببين مختلفين وكذا إن ملكا بسبب واحد من إرث أو شراء على أحد الوجهين، وهو الذي جعله الرافعي في الصلح الأظهر؛ لحكمنا في الظاهر بصحة الصلح وانتقال الملك إلى المقر [له]، وإن كان الغزالي وإمامه جعلا الأصح عند اتحاد السبب عدم الأخذ، لزعم المكذب بأن الصلح ما صح.
ووجه دلالة هذا اللفظ [على] ما ادعيته أن المصدق مكذب للمنكر في دعواه الملك مع ثبوت يده، وقد حكمنا بالملك له بسببها ومع هذا لم يكن ذلك مانعاً من ثبوت شفعته.
والذي صرح به المتولي، وابن الصباغ، وصاحب "الإشراف" هاهنا: عدم الثبوت، وهو الذي دل عليه كلام الرافعي في آخر الإيلاء حيث قال: لو وجدنا داراً في يد اثنين، وادعى أحدهما أن جميعها له، والآخر أنها بينهما نصفين، وصدقنا الثاني بيمينه؛ لأن اليد تشهد له، ثم باع مدعي الكل نصيبه من ثالث، فأراد الآخر أخذه بالشفعة وأنكر المشتري ملكه، فإنه يحتاج إلى البينة، ويمينه في الخصومة مع الشريك أفادت دفع ما يدعيه الشريك لا إثبات [الملك][له][والله أعلم].
قال: وإن قال: صالحني عن الشفعة على مال، أو أخذ الشقص بعوض مستحق، فقد قيل: تبطل، وقيل: لا تبطل.
هذا الفصل ينظم مسألتين:
صورة أولاهما: أن يقول الشفيع للمشتري: صالحني عن الشفعة على مال فيصالحه عليه، فهذا الصلح غير صحيح على المذهب؛ لأنه إسقاط خيار ثابت بالشرع لا يسقط إلى مال، فلم يجز أخذ العوض عنه؛ كخيار المجلس.
وفي "التتمة": أنه حكي عن ابن سريج جواز المصالحة عن حق الشفعة. والمشهور أن المجوز لذلك أبو إسحاق، وأنه جوز المصالحة أيضاً على مقاعد الأسواق وحد القذف.
فعلى هذا يجب رد المال، وهل تسقط الشفعة؟ فيه خلاف.
ووجه السقوط: أن عدوله عن طلب الشفعة إلى العوض رضا بإسقاطها.
ووجه عدم السقوط: أنه إنما سمح بالترك طمعاً في العوض فإذا لم يسلم له رجع إلى حقه كما في البيوع الفاسدة.
وهذا الخلاف هو الخلاف [الذي تقدم] في الرد بالعيب، ومحله إذا كان الشفيع جاهلاً بعدم صحة المصالحة، أما إذا كان عالماً بطلت وجهاً واحداً.
وصورة الثانية: أن يقول الشفيع: أخذت الشقص بالشفعة بهذه الدراهم ثم ظهرت مستحقة.
ووجه السقوط فيها: أنه أخذ الشفعة بما لا يملك فصار كأنه ترك الأخذ مع القدرة عليه، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد والبغوي.
ووجه البقاء: أنه لم يقصر في الطلب والأخذ، والشفعة لا تستحق بمال معين حتى تبطل باستحقاقه.
وهذا ظاهر لفظ المزني، وبه قال أبو إسحاق وابن أبي هريرة واختاره كثير من الأصحاب ومنهم الغزالي.
ولو قال: أخذت الشقص بثمن في ذمتي، ثم دفع عنه [شيئاً] مستحقاً؛ لم تبطل وجهاً واحداً إلا أن يعسر بالعوض، حكاه الماوردي.
وقيل بجريان الخلاف في هذه الحالة أيضاً.
وخروج الدراهم نحاساً كخروجها مستحقة.
ولو خرجت معيبة فلا تبطل بها الشفعة.
وفيه وجه: أنها كما لو خرجت مستحقة.
ومحل الخلاف في الأصل كما حكاه الرافعي فيما إذا كان الشفيع عالماً باستحقاق المأخوذ به.
أما إذا كان جاهلاً باستحقاقه؛ فلا تبطل وجهاً واحداً.
لكن [هل] يتبين أنه لم يملك بأداء المستحق حتى يفتقر إلى تملك جديد أو نقول: إنه ملكه والثمن دين عليه؟
فيه وجهان حكاهما الإمام.
وقال مجلي: لا وجه لعدم السقوط مع علمه بالاستحقاق، وقولنا الشفعة على الفور.
قال: وإن بلغه الخبر وهو مريض، أي مرضاً يمنعه [من] السعي والمطالبة، أو محبوس أي: حبساً لا يقدر على إزالته ولم يقدر على التوكيل فهو على شفته لقيام عذره.
وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا حاجة في هذه الحالة إلى الإشهاد، وهو قول أو وجه اختاره الشيخ أبو محمد.
وقيل: إن يشترط إذا أمكن، فإذا لم يفعله سقطت شفعته، وهو ما صار إليه أكثر الأصحاب كما حكاه في "البحر"، والأظهر في الرافعي.
[فعلى هذا] يعتبر أن تشهد بينة كاملة يقبل قولها عند الحاكم.
قال في "البحر": ولا يكفي إشهاد عدل واحد ليحلف معه؛ لأن من الحكام من لا يحكم بالشاهد واليمين.
قلت: قد ذكر في باب الضمان والوكالة ما يمكن أن يخرج منه الاكتفاء به على رأي فيطلب منه.
وإذا لم يقدر على الإشهاد فلا يجب عليه أن يقول بينه وبين الله تعالى: أنا طالب بالشفعة، صرح به الإمام وفيه ما ذكرناه.
أما إذا قدر على التوكيل فلم يفعله؛ ففيه ثلاثة أوجه:
المذهب منها في "تعليق" أبي الطيب و"الشامل" و"التتمة": أنها تسقط.
وبعضهم حكاه عن القاضي أبي حامد.
والثاني: لا [لأن التوكيل] إن كان بعوض- لزمه غرم، وإن كان بغير عوض ففيه منة، وذلك ضرر، وأيضاً فقد يكون ألحن بحجته من وكيله.
وهذا ما اختاره أبو إسحاق كما حكاه في "البحر".
والثالث: إن وجد متطوعاً بها [فلم يفعل] بطلت [شفعته] وإلا فلا؛ لأن المنة في ذلك يسيرة.
أما إذا كان المرض لا يمنعه من المطالبة، كالصداع اليسير [ونحوه] أو كان يقدر على الخروج من الحبس، بأن كان معسراً قادراً على إقامة البينة على إعساره، أو كان مليئاً يقدر على وفاء ما اعتقل بسببه؛ فهو كالصحيح المطلق.
والخائف من العدو في هذا المعنى؛ كالمريض.
قال: وإن بلغه [الخبر] وهو غائب، فسار في طلبه وأشهد فهو على شفعته؛ لشروعه في الطلب بقدر الإمكان.
وهكذا الحكم فيما لو لم يسر، لكنه وكل عقيب بلوغ الخبر وسار الوكيل، وليس عليه في السير إلى ذلك إرهاق ولا عجلة كما ذكرناه من قبل.
قال: وإن لم يشهد أي مع تيسر البينة؛ ففيه قولان: مأخذهما تقابل الأصلين: بقاء حق الشفعة وبقاء ملك المشتري، فإن الذي وجد من السير [كما] يحتمل أن يكون للطلب يحتمل أن يكون لغيره، وقد صحح في "البحر" وغيره قول عدم السقوط؛ لأنه اعتمد بالظاهر أيضاً.
ولا نزاع في أن مقابله لا يجري فيما إذا وكل ولم يشهد؛ لأن التوكيل قائم مقامه.
فرع: حيث اعتبرنا الإشهاد فقال الشفيع: قد أشهدت وسرت، وقال المشتري لم يشهد. [أو قلنا]: الإشهاد ليس بشرط، فقال الشفيع: سرت عقيب السماع، وقال المشتري لم يسر عقيبه مع الإمكان، فالقول قول الشفيع؛ لأنه اختلاف في فعله وهو أعلم [به].
وكذا لو اختلفا فقال [الشفيع] أخرته للعجز، وقال المشتري: بل مع القدرة، فالقول قول الشفيع، قاله في "البحر".
وقال الرافعي في هذه الحالة: إن وجد مع ذلك ما يدل عليه [فالقول قول الشفيع] وإلا فالقول قول المشتري.
قال: وإن لم يقدر أن يسير أي لخوف [في] الطريق أو لحر أو برد مفرط
أو لعدم النفقة كما قاله القاضي الحسين، ولا أن يوكل فهو على شفعته [أي] إلى أن يتمكن لإيضاح عذره.
والحكم في اعتبار الإشهاد والتوكيل مع القدرة عليه، وفي وجوب اختيار التملك في الباطن كما ذكرناه.
قال: وإن أخر وقال: أخرت لأني لم أصدق المخبر [أي] بالبيع فإن كان المخبر صبياً أو امرأة أو عبداً لم تبطل شفعته؛ لأن أقوال هؤلاء لا تثبت بيعاً.
ويلتحق بهم أخبار [الكفار والفساق] وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد والقاضيان أبو الطيب والحسين، وابن الصباغ.
وفي "المهذب"[حكاية] قول أنها تسقط بإخبار المرأة والعبد تغليباً لحكم الخبر لا لحكم الشهادة، وحكاه في "البحر" من تخريج القاضي الطبري، وهو في "الوجيز" و"الرافعي" الأظهر عند إخبار العبد.
وعلى هذا يجيء في سقوطها بإخبار الصبي الذي لا عرامة [به] وجه بناء على قبول روايته، وقد صرح به ابن يونس.
وفي الحاوي: أنها تسقط بإخبار من يقع في قلبه صدقة ولو من كافر.
قال: وإن كان حراً عدلاً فقد قيل: هو على شفعته [إذ ليس] الشاهد الواحد ممن يثبت البيع وحده.
وقيل بطلت شفعته؛ لأن حجة في الشرع عند اليمين، فأشبه ما لو أخبره عدلان أو رجل وامرأتان.
وهذا ما اختاره في "المرشد"، وجعله الغزالي الأظهر.
فرع: لو أخبره نسوة هل تسقط شفعته على قولنا: إن إخبار الواحدة لا يسقطها؟
قال المتولي: ذلك ينبني على أن المدعي إذا أقام امرأتين هل يقضي بيمينه معهما؟ إن قلنا لا: فهن كالمرأة الواحدة.
وإن قلنا نعم: فكالعدل الواحد.
وهذا كله إذا لم يبلغ الخبر حد التواتر.
أما إذا بلغ [حد التوتر] وأخر- بطلت شفعته، وإن كان المخبرون فساقاً.
قال: وإن دل في البيع أي صار دلالاً في بيع الشقص أو ضمن الثمن أي في مدة الخيار أو قال: اشتر ولا أطالبك [بالشفعة] لم تسقط شفعته.
أما في الأولى والثانية، فلأن ذلك سعى في تحصيل السبب المثبت للشفعة فلا يكون مانعاً منها.
وأما في الثالثة: فقد ادعى في "البحر" الإجماع عليها وأنه لم يخالف فيها إلا عثمان البتي، ويشبه أن يكون متمسكاً بمفهوم الخبر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ".
ولنا عليه أنه أسقط الحق قبل ثبوته فلم يسقط، كما لو أبرأه من الدين قبل وجود سببه، وضمان الدرك وجعل الخيار المشروط للشفيع برضاه كضمان الثمن في عدم إسقاط الشفعة، صرح به الأصحاب وسنذكر شيئاً فيه.
قال: وإن توكل في شرائه لم تسقط شفعته [لما ذكرناه.
وقيل: تسقط] لأنه رضي له بالملك فألزم مقتضاه.
[قال الإمام]: وكان شيخي في غالب ظني يطرده في ضمان الشفيع العهدة وضمان الثمن، وما ذكره إن كان ينقدح في ضمان العهدة فليس له ظهور في ضمان الثمن.
ولو اشترى الوصي ليتيم تحت نظره شقصاً له فيه شفعة، فهل له الأخذ بها؟
فيه وجهان في "الشامل":
والمشهور منهما كما حكاه الرافعي الجواز، وإيراد صاحب "البحر" يقتضي ترجيح خلافه.
ووجهه بأن ذلك يثبت عهدة على اليتيم إن استحق الشقص.
قال: وإن توكل في بيعه سقطت شفعته؛ لأن التهمة تلحقه من تخفيف الثمن ليأخذ به، ولو قدر البيع بأكثر من ثمن المثل؛ لأنه قد يتهاون في طلب زيادة [ثمن] عليه، وإذا كان كذلك بطل حقه، كما لو باع الوصي شقصاً له فيه شفعة.
وقد ادعى الشيخ أبو علي كما حكاه الإمام عنه فيه إجماع الأصحاب على أنه لا شفعة للوصي، وهذا قول ابن الحداد كما حكاه ابن الصباغ ورأيته في فروعه.
وقيل: لا تسقط؛ لأنه تولى أحد طرفي العقد، فلم تسقط شفعته، كما لو ولي الشراء، وهذا ما حكاه في الحاوي، والقاضي أبو الطيب، وصار إليه الأكثرون كما حكاه الشيخ أبو علي وصححه في الوسيط.
وعن رواية صاحب "التقريب" جريانه في الوصي أيضاً.
وبه قال ابن القطان والقفال أيضاً كما حكاه ابن الصباغ، ووجهه بأن ذلك يجب على المشتري بعد تمام العقد.
والفرق على الأول [أن البالغ] العاقل متمكن من دفع الظلامة عن نفسه في الحال [إن اتفقت] بخلاف اليتيم.
واعلم أن مقتضى ما عللنا به الوجه الأول، أن الشفعة لا تسقط جزماً إذا وكل [في البيع] من معين بثمن معين؛ إذ لا تهمة في هذه الحالة، فإنه لا يقدر على البيع [في هذه الحالة] بأكثر من [ثمن المثل].
وما ذكرته هو المشهور في مسألة التوكيل في الشراء والبيع.
وفي رفع التمويه عن التنبيه أن من أصحابنا من قال: إذا توكل في البيع لم تسقط شفعته، وإن توكل في الشراء سقطت.
والفرق: أنه إذا توكل عن المشتري فهو معين على التملك، وإذا أعانه على تحصيل الملك لم يجز أن يزيل ملكه.
ولا خلاف في جواز أخذ الوصي الشقص إذا باعه بطريق الوصاية لمن هو تحت ولايته بالشفعة.
فرع: إذا اشترى عامل القراض شقصاً لرب المال فيه شفعة هل لرب المال أخذه؟ فيه ثلاثة أوجه رواها في "البحر" عن ابن سريج:
أحدها: نعم لكن ليس بطريق الاستشفاع بل بحكم استرجاع مال القراض؛ فإنه لم يظهر فيه ربح.
والثاني: يأخذه بالشفعة لا بحكم القراض؛ لأن المالك لا يملك أخذ مال القراض إلا ناضاً.
والثالث: لا يأخذ أصلاً.
فعلى هذا لو باعه العامل فهل يأخذ رب المال بالشفعة؟ فيه وجهان.
وجه المنع: أن الملك المبيع له فلو أخذ لأخذ ما بيع له، وهذا قريب مما حكاه الأصحاب فيما إذا مات من عليه دين يستغرق ما خلفه من حصة من عقار، [فبيع فيه] ولوارثه شركة في العقار قديمة، فإنه ليس له الأخذ بالشفعة؛ لما أشرنا إليه.
وقد صار ابن الحداد إلى ثبوت الشفعة للوارث، وقال في "البحر" إن القاضي صار إليه؛ لأنه [يجعل] كأن الميت باعه في حياته، وأنه لم يذكر سواه.
وقد يظن [أن] ابن الحداد فرع على أن الدين يمنع الإرث كما حكاه الإمام هنا عن القديم وغيره عن الإصطخري، وليس كذلك، لأن ابن الحداد قد جزم فيما إذا مات شخص وله شقص من عقار، وعليه دين يستغرقه، فباع شريك الميت حصته من العقار قبل [بيع] حصة الميت في دينه، أن لوارثه الأخذ بالشفعة، فلو اعتقد مذهب الإصطخري لم [يكن له] الأخذ.
قال: وإن باع حصته قبل أن يعلم بالشفعة ثم علم فقد قيل: تسقط؛ لأن الشفعة شرعت لإزالة الضرر وهو منفي عنه، وهذا قول ابن سريج، وهو الأصح في "الحاوي" و"البحر"، واختاره في "المرشد".
وقيل: لا تسقط لأنه تجب بالشركة عند العقد وقد وجدت، وهذا قول أبي حامد، ولهذا نظائر منها: إذا لم يعلم بالعيب حتى زال، ومنها إذا لم تعلم الأمة بالعتق حتى عتق الزوج.
ومحل الخلاف في مسألة الكتاب، كما صرح به في "المرشد" إذا باع بغير شرط خيار، أما إذا باع [به] وفسخ البيع ثم علم فله الشفعة.
ولو باع حصته بعد العلم بالشفعة سقطت [شفعته] وجهاً واحداً.
ولو باع بعضها فحيث لا تسقط إذا باع الجميع فهاهنا أولى، وحيث تسقط إذا
باع الجميع إما مع الجهل أو العلم فهاهنا وجهان:
وجه الثبوت في حال الجهل وهو الأصح في "التهذيب" بقاء الضرر، وبالقياس على ما لو [لم يكن] في ملكه من ذلك ابتداء إلا قدر ما بقي من ملكه.
وفي حال العلم والبناء على أنه إذا عفا عن بعض شفعته لا تسقط شفعته كما في "البحر" و"الحلية".
ومقابله في هذه الحالة عند الإمام وغيره أظهر.
قال: وإن أظهر له شراء جزء يسير، أو جزء كثير بثمن كثير فترك الطلب، ثم بان خلافه، فهو على شفعته؛ لأنه لم يترك الاستشفاع للزهد فيه بل للقلة والغلاء فلا يكون مقصراً.
ولو أظهر له شراء جزم كثير فظهر يسيراً نظر: إن كان بالثمن الأول فلا شفعة له، وإن كان بأقل منه ثبتت؛ لأنه قد تيسر معه ثمنه دون ثمن الكثير، فكان تركه لذلك.
ولو بلغه أن المشتري زيد فعفا، فإذا هو عمرو، أو قد اشتراه زيد لعمرو- لا تسقط شفعته؛ لأنه قد يرضى بمشاركة زيد دون [مشاركة] غيره.
وفي "الحاوي"[في الأولى] حكاية وجه: أنها تسقط بناء على أن الشفعة إنما وجبت لأجل مؤنة القسمة وقد رضي بها.
ومقتضى هذا أن يكون هو الصحيح؛ إذ هذه علة المذهب.
ولو علم أن المشتري وكيل فعفا عن الموكل دون الوكيل سقطت شفعته، ولو عفا عن الوكيل دون الموكل ففي بطلان شفعته وجهان في الحاوي:
وجه البطلان: أن الوكيل خصم فيها.
ووجه عدمه: أنها مستحقة على غيره.
ولو بلغه الشراء بنقد فعفا، ثم ظهر الشراء بنقد غيره، كان على شفعته.
وقال الإمام: إن لم يتفاوت القدر عند التقويم فلا شفعة.
ولو بلغه الشراء بألف [حال] فعفا، فإذا هو مؤجل لم تسقط شفعته، ولو كان بالعكس فلا شفعة له عند العراقيين، كما حكاه البندنيجي، والروياني في "البحر"، وهو الذي صححه بعض المراوزة، وجزم به القاضي الحسين [والله أعلم].
قال: ولا يأخذ الشقص إلا من يد المشتري أي: ومن يقوم مقامه؛ لأن الشفيع يحل محل المشتري في الأخذ بالثمن، وشراء ما لا يقبض لا يجوز فكذلك أخذه بالشفعة، وهذا ما وجه به الماوردي والروياني، وقد يفهم أن المراد بالأخذ التملك لا نفس القبض.
وغيرهما وجهه بأن الأخذ من البائع يبطل التسليم المستحق بالعقد للمشتري، فيؤدي إلى إبطال البيع والشفعة، وهذا يفهم أن المراد بالأخذ القبض دون حصول الملك، وهو الذي دل عليه كلام ابن الصباغ حيث قال: إذا وجبت له الشفعة، وقضى له بها القاضي، والشقص في يد البائع، ودفع الثمن إلى المشتري، فقال البائع للشفيع: أقلني فأقاله لم يصح؛ لأنها إنما تصح بين المتبايعين، وليس الشفيع مالكاً من جهته، فإن باعه منه لم يجز قبل قبضه.
قال: وعهدته عليه أي إذا خرج الشقص مستحقاً رجع الشفيع بالثمن على المشتري، وإن تلف قبل القبض تلف من ضمانه؛ لأنه منه انتقل إلى الشفيع، فكانت عهدته عليه، كما أن عهدة الشقص للمشتري على البائع وكما لو اشتراه منه.
قال: فإن امتنع من قبضه أي: امتنع المشتري من قبض الشقص من البائع أجبر عليه؛ ليتمكن الشفيع من الوصول إلى حقه المتوجه عليه.
قال: ثم يؤخذ منه لما تقدم، وألحق القاضي أبو الطيب [بقبض المشتري] في ضمان العهدة ما إذا تسلمه الشفيع من البائع بإذن الحاكم، وقال: إن الشقص لو خرج مستحقاً رجع الشفيع على المشتري بالثمن، ثم المشتري يرجع على البائع، وكذلك ابن الصباغ، وقال: إن للحاكم أن ينيب من يسلمه للمشتري من البائع عند امتناعه، أو غيبته ثم يأخذ الشفيع.
وذكر الماوردي هذه الحالة في [حالة] غيبة المشتري، وحكى هو وابن
الصباغ وجهاً [عن ابن سريج] أن للشفيع أخذه من يد البائع قبل قبض المشتري.
ووجهه الماوردي: بأن الشفيع يأخذه جبراً للحق وإن كره المشتري فجاز وإن كان قبل قبضه، كما يجوز الفسخ والإقالة قبل القبض، ويبرأ البائع من ضمان الشقص بقبض الشفيع [المبيع]؛ لأنه أخذه بحق توجه على المشتري، وعلى هذا قال ابن الصباغ: لا يجبر المشتري على القبض.
قلت: وحاصل ما حكاه الماوردي يرجع إلى أن الشفيع بمنزلة مشتر أم لا؟
وعلى ذلك ينبغي أن يتخرج جواز قبض الشقص الذي لم يره الشفيع قبل الرؤية، وجواز بيع الشقص قبل قبضه، وثبوت خيار المجلس، وقد قال ابن سريج: لا يجوز أخذ ما لم ير، وإن قلنا بجواز بيع الغائب إلا أن يرضى المشتري بخيار الرؤية [فيجوز إذا جوزنا بيع الغائب.
والفرق أنا إذا جوزنا بيع الغائب أثبتنا [فيه] خيار الرؤية] برضا البائع بالعقد، وفي مسألتنا: الشفيع يأخذ قهراً فلا يثبت الخيار وهو شرطه.
وفي تعليق القاضي الحسين: أنا إن لم نشترط الرؤية في البيع ففي الشفعة [أولى، وإن اشترطناها في البيع ففي الشفعة] وجهان، بناء على الوجهين في ثبوت خيار المكان للشفيع، وعلى ذلك جرى في "الوسيط".
وقد حكينا عن ابن الصباغ الجزم بأن الشفيع إذا أراد بيع الشقص من بائعه بعد تملكه، وإقباضه المشتري الثمن، أنه لا يجوز.
وحكى الإمام في جواز البيع قبل قبضه وجهين، وجعل المذهب منهما ما حكاه ابن الصباغ، وقال [إن الشفيع] مع المشتري، كالمشتري مع البائع فيما
ينفذ ويرد من التصرفات، والذي حكاه البندنيجي أن للشفيع بعد قبض المشتري الثمن- أن يقبض المبيع من البائع، ويكون كالنائب عنه في القبض.
فلو قال الشفيع: لا أقبضه ولكن أكلف المشتري قبضه.
قال أبو العباس: في المسألة قولان يعني وجهين:
أحدهما: أنه ليس له ذلك، [ويقال له: إما أن تأخذ من البائع أو تدع.
والثاني: له إجبار المشتري على ذلك].
قال: ولا يأخذ بعض الشقص أي بالشفعة، وإن بذل الشفيع ما يقابل ما يأخذه، أو بذل جميع الثمن في [مقابله] البعض.
أما في الحالة الأولى؛ فلما في ذلك من الإضرار بالمشتري بسبب تفريق الصفقة عليه، والضرر [لا يزال بالضرر].
وأما في الحالة الثانية؛ فلما في ذلك من تقليد المنة، وهي ضرر أيضاً مع ما في الشركة من أضرار.
ولو قال الشفيع: عفوت عن أخذ نصف الشقص [بالشفعة] فهل تسقط شفعته في الجميع أم لا؟
فيه وجهان في الحاوي، أصحهما وبه قال ابن سريج: السقوط، كما لو عفا عن بعض القصاص.
وحكى الخراسانيون وجهاً ثالثاً: أنه يسقط ما عفا عنه، ويبقى ما لم يعف عنه.
وحكى الروياني عنهم أنهم قالوا: إنه المنصوص.
قال الصيدلاني: وموضعه إذا رضي المشتري بتبعيض الصفقة، أما إذا أبى؛ فله أخذ الكل.
قال الإمام: وهذه الوجوه على القول بأن الشفعة ليست على الفور.
أما على القول بأنها على الفور، فمنهم من قطع بأن العفو عن البعض تأخير للطب في الباقي.
ومنهم من احتمل ذلك إذا بادر إلى طلب الباقي، وأجرى الوجوه.
قال: وإن اشترى شقصين من أرضين في عقد واحد؛ جاز للشفيع أن يأخذ
أحدهما: لأنه قد يكون الضرر عليه فيما أخذه، وفي أخذ الآخر إضرار به؛ ومع ذلك فلا ضرر على المشتري، لأن الشقص الآخر يبقى له ولا تبعيض عليه في الشقص المأخوذ.
وعلى هذا لا خيار للمشتري في تبعيض الصفقة عليه؛ لأنه دخل على ذلك، أو لأن التفريق جاء من جهة غير البائع بعد القبض.
[قال] وقيل: لا يجوز أي إذا كان الشفيع شريكاً فيهما؛ لأنه بعض ما وجب له، فلم يكن له ذلك، كما لو ثبتت الشفعة في شقص فأراد أخذ بعضه، وهذا ما ادعى الماوردي أنه الأظهر في المذهب، وكذلك الشيخ في "المهذب".
والذي صححه الرافعي والبندنيجي الأول، وكذلك ابن الصباغ بعد أن قال: إنه منصوص الشافعي.
قال القاضي الحسين: وهذا الخلاف مبني على القولين في جواز تفريق الصفقة بالرد بالعيب.
أما إذا لم يكن شريكاً في الشقصين أخذ ما هو شريك فيه مقتصراً عليه وجهاً واحداً.
قال: وإن هلك بعض الشقص يفرق أخذ الباقي بحصته من الثمن؛ لأنه
أخذ بالشفعة بعض ما تناولته الصفقة، فوجب أخذه بالحصة، كما لو اشترى مع الشقص سيفاً بثمن واحد، فإنه يأخذ الشقص بحصتيه من الثمن.
فعلى هذا يقوم الجميع حال العقد، فإذا قيل: مائة. قوم بعد الفرق.
فإذا قيل: تسعون، علم أن الفائت العشر، فيأخذ الشقص الموجود بتسعة أعشار الثمن.
وقال الإمام: إذا فرعنا على أن الملك ينتقل بانقضاء الخيار، فيجوز أن نعتبر القيمة وقت انقطاع الخيار، وما حكاه الشيخ هو ما رواه الربيع، ونسبه الماوردي والبندنيجي إلى القديم، والقاضي أبو الطيب إلى رواية الزعفراني في القديم، والرافعي إلى القديم ومواضع في الجديد.
وقيل: يأخذ الشفيع بكل الثمن لقوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ" أي الثمن، فجعله [أحق] بجميع الثمن ولم يفصل، وبالقياس على ما لو سقطت يد العبد في يد البائع قبل القبض.
وهذا ما رواه المزني [هاهنا وقاله في كتاب التفليس.
وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق أن المزني] نقل ذلك عن رواية حرملة.
وحكى الإمام مثله في كتاب التفليس في مسألة الشقص والسيف عن رواية صاحب "التقريب" والعراقيين قولاً أخذاً من قول من قال: إذا رد أحد العبدين بالعيب، كان المشتري مخيراً بين أن يمسك الباقي بجملة الثمن أو يدع، ثم قال:[وهو] عندي قريب من خرق الإجماع.
وقد تحزب الأصحاب في مسألتنا ستة أحزاب:
فذهب أبو الطيب بن سلمة، وأبو حفص بن الوكيل إلى إثبات النصين قولين في المسألة، وتوجيههما ما ذكرناه، وهذه الطريقة تجري فيما إذا انهدم الشقص ولم يذهب من نقضه شيء مع القطع بأن الشقص يسلم للمشتري كما صرح به أبو الطيب وغيره.
وذهب ابن سريج، وأبو إسحاق [المروزي] كما حكاه الماوردي إلى القطع بما رواه الربيع، ونسبا المزني إلى الغلط فيما نقله في هذا الموضع، وأنه لا يعرف للشافعي في شيء من منصوصاته، وكذلك حكى البندنيجي إنكار هذا النقل عن أكثر الأصحاب.
وذهب جماعة من الأصحاب إلى صحة ما نقله المزني والربيع، ولم يثبتوا ذلك قوليلن، لكن حملوا ذلك على حالين واختلفوا في الحالين.
فمنهم من قال وهو ابن أبي هريرة: أن رواية المزني محمولة على ما إذا ذهب التالف وبقي النقض، فيكون للشفيع- نظراً إلى حالة وجوب الشفعة-[الأخذ بجميع الثمن]، ورواية الربيع محمولة على ما إذا فات النقض.
وفي تعليق أبي الطيب أن أبا إسحاق المروزي قال بهذه الطريقة، [واختارها القاضي] أبو الطيب، والبندنيجي، وأكثر المشايخ ببغداد، كما قال في "البحر"، وهي موافقة لما في الكتاب.
ومنهم من قال: رواية المزني محمولة على [ما إذا كانت العرصة باقية بحالها، ورواية الربيع محمولة على] ما إذا تلف بعض العرصة.
وهذه الطريقة لا يأباها كلام الشيخ.
ومنهم من قال: رواية المزني محمولة على ما إذا كان سبب الهلاك آفة سماوية.
ورواية الربيع محمولة [على ما إذا كان بفعل مضمون؛ لأنه لا ضرر على المشتري.
ومنهم من حمل رواية المزني] على ما إذا تزلزل الشقص وتكسرت الجذوع ولم تسقط، ورواية الربيع على ما إذا سقطت على الأرض، فيكون النقض للمشتري، لأنه منقول حالة الأخذ.
وهذه الطريقة إذا انضمت مع طريقة ابن أبي هريرة حصل منهما وجهان أو قولان في أن النقض هل يؤخذ مع الأرض بالشفعة أم لا؟ [كما صرح به الأصحاب وهما كالوجهين المذكورين فيما إذا اشترى شقصاً فيه نخل وعليه طلع غير مؤبر، فأبر قبل الأخذ، هل يؤخذ مع النخل بالشفعة أم لا]؟
وسلك القاضي الحسين فيما إذا تزلزل الشقص طريقاً حسناً فقال: إذا تزلزل الشقص المشفوع [فيه]، وتكسرت أخشابه ولم تسقط؛ فالشفيع بالخيار بين [الترك] والأخذ بكل الثمن.
وإن سقط على الأرض فإن كان النقض تالفاً ابتنى ذلك على أن البناء والنقض يجري مجرى الصفات أو مجرى الأعيان؟ وفيه جوابان:
فإن جعلناه بمنزلة الصفات أخذ الشقص بكل الثمن إن شاء.
[وإن جعلناه] بمنزلة الأعيان، وهو ظاهر المذهب، أخذ الشقص بحصته من الثمن؛ كالشقص، والسيف.
وإن كان النقض قائماً فهل له أخذ النقض؟ يحتمل وجهين وقد ذكرناهما وأصلهما، وما ذكره [من ثبوت الخيار] عند عدم سقوط شيء منه لم يخالف فيه.
قال: وإن كان في الشقص نخل فأثمرت في ملك المشتري ولم تؤبر، أخذ الثمرة مع الأصل في أحد القولين كما يأخذها في الربيع.
[قال] دون الآخر؛ لأن الشفيع يأخذ بالشفعة ما ملكه المشتري من جهة البائع بالثمن، والثمرة ليست كذلك، وهذا الخلاف حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه وجهين مبنيين على القولين في المفلس إذا أطلعت النخل المبيعة في
ملكه ولم تؤبر فرجع البائع في النخل فهل تكون الثمرة له أم لا؟
وابن الصباغ، والماوردي، والقاضي الحسين حكوا الخلاف قولين [كالقولين].
وقال في "المهذب"، و"البحر": إن الأول هو القديم، والثاني هو الجديد.
وكلام الرافعي يقتضي ترجيح الأول؛ فإنه قال: وقد ذكر كثير من الناقلين أنه القديم، ومقابله هو الجديد، وعلى هذا فالمسألة مما يجاب فيها على القديم.
قال: وإن كان للشقص شفيعان- أخذا على قدر النصيبين في أحد القولين؛ لأنه حق مستحق بسبب الملك فيقسط عند الاشتراك [على قدر] الأملاك؛ كأجرة الدار وثمرة البستان، وهذا هو الأصح.
وبعضهم يرويه عن الجديد، وبعضهم عن القديم.
[قال] وعلى عدد الرؤوس في الآخر؛ لأن سبب ثبوت الشفعة أصل الشركة بدليل أخذ الشريك الواحد الجميع عند الانفراد قل نصيبه أم كثر، وهما في أصل الشركة سواء، وهذا ما اختاره المزني، واستدل له أيضاً بأن العبد الواحد إذا كان لثلاثة على التفاوت فأعتق اثنان نصيبهما، وهما موسران في وقت واحد، فإنهما يغرمان نصيب الثالث بالسوية، فكذلك هاهنا.
وهذا ما قال بعضهم: [إنه منصوص عليه في القديم.
وبعضهم]: إنه منصوص عليه في الجديد، كما ستعرفه.
وبنى القاضي الحسين القولين على أصل ثم على أصل:
أحدهما: أن العلة الموجبة للأخذ بالشفعة ما يلحقه من مؤنة القسمة بسبب [الدخيل] والاحتياج إلى إفراز المرافق.
إذا ثبت هذا كما حكيناه من قبل أنه مختار الشافعي، ابتنى على أن مؤنة القسمة تقسم على قدر الأنصباء أو على عدد الرؤوس؟ وفيه قولان:
أظهرهما: الأول.
قال: فإن منعوه، فالدليل عليه أن القسام يستحقون الأجرة بسبب العمل، وعمله
لصاحب الكثير أكثر من صاحب اليسير، وهذا يثبت أن الأجرة تقسم على قدر الأملاك، فالغنم في مقابلة الغرم، فلما كان الغرم عليه أكثر كان [الغنم له أكثر].
وأجاب الأصحاب عن الدليل الأول للقول الثاني: بأن الاستقلال بالشيء عند الانفراد لا يلزم منه التساوي عند الاجتماع مع التفاوت، بدليل ما لو كان لرجل مائتان على شخص ولآخر [عليه] مائة، ومات المدين وماله مائة، فإن صاحب [المائة يأخذ] الثلث [من المائة المخلفة، والآخر ثلثيها مع أن صاحب المائة] لو انفرد لأخذ [جملة] المائة.
وكذلك الفارس والراجل إذا انفرد أحدهما بالحضور عند أخذ المال استحق جميعه، ولو حضرا معاً اختلفا في الأخذ والاستحقاق.
وعن الثاني: بأنا لا نمنع الحكم، بل إنما يغرم كل [واحد] منهما على نسبة ملكه، كما صار إليه بعض الأصحاب، وعلى تقدير التسليم، وهو الصحيح في "البحر"، فالفرق أن ذلك ضمان إتلاف، فالنظر فيه إلى المتلفين لا إلى حالة الإتلاف، والشفعة من فوائد [الملك] فتتقدر بقدره.
فإن قيل: السريان إلى ملك الغير إنما استفيد بسبب الملك فوجب أن يكون على قدر الملكين بعين ما ذكرتم.
فالجواب: أن ذلك إنما حصل بعد زوال ملكهما، فلو استفاداه بالملك لسقط بزواله كما نقول في الشفعة.
وما ذكره الشيخ هاهنا فيما إذا وجبت الشفعة لشخصين ابتداء.
أما إذا وجبت لهما بالدوام بالإرث فسيأتي.
[قال:] فإن عفا أحدهما أو غاب، أخذ الآخر جميع المبيع أو يترك، أي فلا يجوز له أخذ البعض كي لا يتضرر المشتري بتبعيض الصفقة عليه، وذلك في صورة العفو [يقيناً] وفي صورة الغيبة توقعاً، فإن الغائب قد لا يأخذ، وهذا هو الأصح.
وقيل في مسألة العفو: يسقط حق الآخر، كما لو عفا أحد الوارثين عن القصاص، وهو ما ينسب إلى ابن سريج.
وقيل: لا يسقط [حق واحد منهما؛ لأن العفو لا يتجزأ فغلب جانب الثبوت.
ونظير ذلك ما ذكرناه في خيار المجلس إذا أسقط أحدهما خياره هل يسقط] خيار الآخر أو يبقى خيار المسقط؟
وقيل: يسقط حق العافي خاصة وليس للآخر إلا أخذ حصته كما لو لم يعف صاحبه، وليس للمشتري إجبار الشفيع على أخذ الجميع أو الترك.
وهذا فيما إذا ثبتت الشفعة لهما ابتداء.
أما إذا ثبتت [لهما دواماً] بالإرث فسيأتي.
فرع: لو قال الحاضر: لا آخذ بالشفعة حتى يقدم الغائب، فإن أخذ نصيبه أخذت نصيبي، وإن ترك أخذت المجموع، فهل يكون ذلك عذراً [في التأخير] على قول الفور؟
فيه وجهان: اختيار ابن أبي هريرة: لا.
وأصحهما وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق: نعم.
وهو الذي صححه الشيخ أبو حامد، وقال في "البحر": إنه أقيس.
فرع: لو عفا الشفيع عن الشفعة في مرض موته، فهل للوارث إبطال عفوه أو لا؟ فيه وجهان في البحر:
وأصحهما: الثاني؛ كما لو لم يقبض الهبة.
قال: فإذا قدم الغائب، أي بعد أخذ الحاضر الجميع، أخذ منه ما يخصه؛ لأنه مستحقه، ثم إذا خرج الشقص مستحقاً رجع الغائب بما دفعه للحاضر من الثمن على المشتري.
وقيل: يرجع به على الحاضر، ثم الحاضر يرجع على المشتري، وهو الأظهر عند الغزالي والرافعي، والأول عند العراقيين أرجح.
وقال في "البحر" إنه الذي قاله أكثر الأصحاب.
وفي "التتمة": أن هذا الخلاف في الرجوع بالمغروم من أجرة المثل وما عساه ينقص من قيمة الشقص، فأما الثمن فلا رجوع به على قابضه بلا خلاف.
وما حصل من الزائد والفوائد بعد أخذ الأول وقبل أخذ الثاني، يستبد به الأول؛ لحدوثه على ملكه في أصح الوجهين، وبه جزم في "البحر" والقاضي الحسين.
فرع: لو كان للشقص ثلاثة شفعاء، وحصصهم متساوية، وأحدهم حاضر، فالحكم في الأخذ والترك كما ذكرناه.
فإذا حضر واحد بعد الأخذ، كان له أخذ النصف أو الترك، فإذا أخذ النصف ثم قدم الثالث، استرجع من كل واحد منهما ثلث ما أخذه.
والحكم في الرجوع بالثمن عند استحقاق الشقص، ولمن تكون الزوائد والفوائد [الحاصلة] بعد أخذ الثاني وقبل أخذ الثالث كما تقدم.
ولو أراد الذي حضر أولاً بعد أخذ الحاضر جميع الشقص أن يأخذ الثلث دون رضا الآخذ أولاً مقتصراً عليه فهل له ذلك؟
فيه وجهان في "البحر" وغيره:
أحدهما: لا، كما لو أراد الأول أن يأخذ نصيبه ويدع الباقي.
وأصحهما: نعم كما لو صالحه عليه؛ ولأنه أخذ لا يفرق الحق على الأول، فإن الحق [لهم ثبت] هكذا، بخلاف الحاضر إذا أراد أخذ الثلث؛ فإن فيه تفريق الصفقة على المشتري.
وعلى هذا إذا حضر الآخر وأخذ من الأول نصف ما في يده وهو ثلث الشقص فذاك، وإن أراد أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده فله ذلك؛ لأنه يقول: ما من جزء [إلا ولي] فيه ثلثه، وترك الثاني حقه وهو السدس، حيث لم يشاطر الأول لا يلزم منه أن أترك حقي.
ثم له أن يجيء إلى الأول فيقول: ضم ما معك إلى ما أخذته ليقسم نصفين فإنا ممتساويا القدر والشقص، وحينئذ تصح القسمة من ثمانية عشر؛ لأنا نحتاج إلى عدد له ثلث ولثلثه ثلث صحيح وأقله تسعة ثم يضرب في اثنين [لأجل أن ما استرد من الراضي بالثلث وهو سهم لا ينقسم على اثنين]، فيضرب التسعة في اثنين يبلغ ثمانية عشرة، للذي اقتصر على أخذ الثلث [منها] أربعة، ولكل من الآخرين سبعة.
هكذا حكاه الرافعي عن الأكثرين وأنهم نقلوه عن ابن سريج، وهو وجه حكاه في "البحر" مع وجه آخر، أن الحاضر ليس له إلا مقاسمة من بيده الثلثان فيأخذ منه الثلث، كما لو كانوا حضوراً عند وجوب الشفعة.
وقال: [إنَّ] ابن سريج اختاره، [و] قال الماوردي: الصحيح عندي غير هذين الوجهين: أن يجعل الشقص تسعة أسهم؛ سهمان لمن اقتصر على أخذ الثلث في غيبة الآخر، وثلاثة أسهم للذي حضر آخراً، وأربعة أسهم للذي أخذ أولاً بالشفعة.
ووجه ذلك: أن الراضي بالثلث لما صالح على الثلث صار الشقص بينه وبين الأول على ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان للآخر، فرضي بإسقاط حقه [له].
فإذا قدم الغائب رجع على من أخذ الثلث بثلث ما في يده، وهو [ثلث سهم؛ لأنه شريكه بالثلث، وعلى الآخر بثلث ما في يده وهو ثلثا سهم؛ لأنه شريكه بالثلث، فيكمل له سهم، وبقي ما في يد الراضي بالثلث] ثلثا سهم، وفي يد الآخر أولاً سهم وثلث، فيضرب ذلك في مخرج الثلث وهو ثلاثة فيبلغ تسعة أسهم كما ذكرنا.
وحكى الإمام عن القاضي الحسين أن الثاني بتركه السدس على الأول
عاف عن بعض حقه، والشفيع إذا عفا عن بعض حقه، سقط جميعه على الظاهر، فينبغي أن يكون الشقص بين الأول والحاضر آخراً، ويسقط حق الراضي بالثلث بالكلية وبذلك يجتمع في المسألة أربعة أوجه.
ولو حضر من الثلاثة عند وجوب الشفعة اثنان، فأخذا الشقص، ثم حضر الغائب وأحد الآخذين غائب.
قال ابن الصباغ: فإن قضى له القاضي على الغائب، أخذ من كل واحد من [الحاضر والغائب] ثلث ما في يده، وإن لم يقض له لكونه لا يرى القضاء على الغائب كما بينه البندنيجي، فوجهان:
أحدهما: أنه يأخذ من الحاضر ثلث ما في يده.
والثاني: نصفه.
ثم إذا حضر الغائب وغاب الحاضر، فعلى الأول يأخذ منه الثلث مما في يده، وعلى الثاني يأخذ منه سدس ما في يده؛ إذ به يتم نصيبه، وحينئذ يقسم الشقص على اثني عشر؛ لأنه أقل عدد له نصف، ولنصفه ثلث ونصف وسدس.
قال: وإن كان البائع أو المشتري اثنين؛ فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما دون الآخر.
أما في الأولى- وصورتها: إذا كان العقار لثلاثة، فباع اثنان نصيبهما لثالث بثمن واحد- فلأن بيع الاثنين من الواحد يجري عندنا مجرى العقدين المنفردين، ولو باع كل منهما نصيبه لشخص واحد [بعقد منفرد كان له أخذ نصيب كل واحد]، فكذلك في هذه الحالة.
وأما في الثانية- وصورتها: إذا كان للعقار مالكان فباع أحدهما نصيبه من اثنين صفقة واحدة- فلأنه إذا أخذ نصيب أحدهما لم يلحقه ضرر، فأشبه ما لو لم يكن بائعه قد باع شيئاً غير ما باعه منه، وهذا ما يوجد في طريق العراق.
وادعى الفوراني في الثانية الإجماع.
وحكى القاضي الحسين وغيره في الأولى وجهاً أنه ليس له إلا أخذ الجميع أو الترك.
فرع: لو كان بين ثلاثة عقار فوكل [أحدهم] واحداً من شركائه في بيع نصف نصيبه، وجعل له إذا أراد أن يبيع مع ذلك نصيبه [أو بعضه] أن يفعل، فباع نصف ما يملكه ونصف ما يملكه موكله من شخص.
قال الماوردي: فللموكل أخذ نصيب [الوكيل، وللوكيل أخذ نصيب] الموكل، ولا يجوز للثالث أخذ نصيب أحدهما دون الآخر؛ لأن البائع واحد، فإما أن يأخذ الجميع أو يدع.
وما قاله مبني على أن اتحاد الصفقة وتفرقها يكون بالنسبة إلى العاقد، وأن الوكيل له أخذ ما باعه، وفي كل من ذلك خلاف قد تقدم في موضعه.
وقد حكى الرافعي: إنه يمتنع على أحدهما أخذ نصيب صاحبه؛ لأجل تفريق الصفقة عليه.
قال: وإن كان المشتري شريكاً فالشفعة بينه وبين الشريك الآخر على ظاهر المذهب.
صورة المسألة: أن يكون العقار بين ثلاثة أثلاثاً، فيبيع أحدهم نصيبه لشريكه، فللآخر أخذ السدس منه لا غير؛ لأن المشتري شريك في بعض المشتري فلم يكن لغيره من الشركاء أخذ جميع الشقص بالشفعة، كما لو كان المشتري أجنبياً، وأحد الشفيعين حاضر فأخذ الجميع، ثم قدم الغائب فإنه لا يأخذ من الحاضر إلا حصته، والجامع بينهما أن [الشراء مملك] كما أن الأخذ بالشفعة مملك،
وهذا ما ذكره المزني، وبه قال أبو إسحاق وعامة أصحابنا.
وحكى الشيخ أبو حامد والقاضيان أبو الطيب والحسين عن ابن سريج أنه قال: للشريك [الآخر] أخذ جميع الشقص المشتري؛ لأنا لو جعلنا للمشتري أن يأخذ بالشفعة لكان يأخذ بها من ملك نفسه [والإنسان لا يستحق أخذ الشفعة من نفسه].
ورد الأصحاب عليه بأنا لا نقول إنه يأخذ بالشفعة من ملك نفسه، وإنما يدفع الشريك عن الأخذ عن نفسه.
وقال الماوردي: إنه وجد أبا العباس ابن سريج قائلاً بخلافه وموافقاً لأصحابه، فحينئذ ارتفع الخلاف.
وعلى هذا لا يلزم غير المشتري أن يأخذ غير حصته، وإن رضي المشتري بأخذه جميع الشقص؛ لأن الشفعة إنما وجبت له فيه، فلا يلزم أكثر منه، وليس هذا تفريقاً في الصفقة، وإنما هو تفريق في الشفعة وهو لا يمتنع فيها.
وحكى الإمام عن الشيخ أبي على رواية وجه: أن الشفيع المشتري إذا عرض على الشفيع الذي لم يشتر أخذ الجميع، فليس له إلا أخذ الجميع أو الترك.
قال: وإن ورث رجلان داراً عن أبيهما، ثم مات أحدهما وترك ابنين، ثم باع أحد هذين الابنين نصيبه- كانت الشفعة بين [الأخ والعم] في أصح القولين؛ لأنهما شريكان في الدار حالة وجوب الشفعة، [فكانت الشفعة] بينهما كما لو ملكا بسبب واحد؛ لوجود المعنى الذي لأجله ثبتت الشفعة وهو لحوق الضرر.
وهذا ما حكى الإمام والقاضي الحسين أنه الجديد [وأطلقا والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ أنه منصوص في الإملاء، والماوردي أنه منصوص عليه في الجديد] وبعض القديم.
قال: وللأخذ دون العم في القول الآخر؛ لاشتراكهما في سبب الملك، وذلك دليل على قربه.
وهذا ما نص عليه في القديم [كما حكاه الجمهور وقال الماوردي: إنه أحد قوليه في القديم].
فعلى هذا لو عفا الأخ عن الشفعة فهل تثبت للعم؟ فيه وجهان عن ابن سريج:
أحدهما: لا؛ لأنه لو كان مستحقاً له لما تقدم عليه غيره.
والثاني: نعم؛ لأنه شريك وإنما تقدم [عليه] الأخ؛ لزيادة قربه، وصار هذا كما لو قتل واحد جماعة على الترتيب، فإن لولي الأول والقصاص، فلو عفا كان لولي المقتول ثانياً القصاص، لزوال المرجح.
وعلى الأول هل تقسم الشفعة بين الأخ والعم على عدد الرؤوس أو على قدر الأنصباء؟ فيه طريقان:
أحدهما: وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب والماوردي: طرد القولين السابقين، والقديم منهما، ما حكاه [الماوردي، والقاضي الحسين] والإمام أنها على عدد الرؤوس.
والجديد كما حكوه أنها على قدر الأنصباء.
[والثاني: حكاه القاضي الحسين مع الأول: القطع بأنها على قدر الأنصباء] ولا يتخرج على القولين؛ لأن قول القسمة على عدد الرؤوس قول قديم، وقول مشاركة [الأخ العم] قول جديد، فلا معنى لبناء الجديد على القديم.
وهذا الطريق أبداه الإمام احتمالاً، ونازعه الرافعي في [دعوى] أن القسمة على عدد الرؤوس هو القول القديم، وقال: إن الذي نقله الأكثرون أن القولين في التوزيع وعدمه منصوصان معاً في الأم، والقديم منهما هو التوزيع على الحصص.
وكذلك اعترضوا على ابن القاص ومن أثبت قول التوزيع [في المسألة تفريعاً
على ثبوت الشفعة للأخ والعم جميعاً [بأن الشفعة] إنما تثبت لهما في الجديد، وفي الجديد التوزيع على عدد الرؤوس، فلا يجيء فيها إلا قولان: التخصيص بالأخ [وحده]، والتسوية بينهما.
قلت: وطريق جواب المعترضين على من أثبت قول التوزيع على قدر الأنصباء أو على عدد الرؤوس] في هذه المسألة على التفريع على أن الأخ والعم يشتركان، يؤخذ مما حكيته عن الماوردي أن قول التشريك بين الأخ والعم في الشفعة هو الجديد، وأحد قولي القديم.
فإن من قال [بأنها] تقسم بين الأخ والعم على السواء، فرع على أحد قوليه في القديم إن كان يعتقد أن القديم التوزيع على عدد الرؤوس [كما حكاه الإمام وغيره إذ هذا مقتضاه، أو على الجديد إن كان يعتقد أن الجديد القسمة على عدد الرؤوس] كما حكاه الرافعي.
[ومن قال] بأن الشقص يقسم بين الأخ والعم على [قدر] الأنصباء، فرع: على الجديد: إن كان يعتقد أن الجديد التوزيع على قدر الأنصباء. كما حكاه الإمام [وغيره] إذ هو مقتضاه أو على أحد قولي القديم: إن كان يعتقد أن القديم التوزيع على قدر الأنصباء.
واعلم أن القولين الذين حكاهما الشيخ جاريان في كل صورة ملك [فيها] اثنان شقصاً بسبب واحد، وغيرهما من الشركاء ملك بسبب آخر.
كما إذا باع رجل شقصاً من دار لرجلين أو وهبه منهما أو أوصى لهما به فقبلاه، ثم باع أحد الاثنين نصيبه من ذلك. فهل الشفعة لمن شاركه في السبب خاصة أو له ولبقية الشركاء؟ فيه القولان.
ولو مات مالك الدار وخلف بنتين وأختين [ثم باعت إحدى الأختين]
نصيبها، فعلى القديم هل تختص [به] الأخت [أو تشاركها البنات]؟ فيه وجهان عن ابن سريج.
أظهرهما: الثاني؛ لأن سبب ملكهن واحد وهو الإرث.
وإنما الاختلاف في مقادير الملك،.
فرع: مات شخص وخلف ثلاثة بنين وخلف أرضاً، ثم مات أحدهم وخلف ابنين، فباع أحد العن نصيبه.
فهل يكون العم الآخر أحق به أو يشاركه فيه ولدا أخيه؟
قال ابن سريج: يحتمل وجهين:
أحدهما: إن ذلك كمسألة الكتاب فيكون على القولين.
والثاني: أنهم يشتركون.
والفرق: أن هاهنا يقوم ابنا الميت مقام أبيهما لكونهما خلفاه في الملك، ولو كان أبوهما باقياً شارك أخاه في الشفعة [فكذلك ولداه].
وفي مسألة الكتاب، البائع ابن أخيهما وهما لا يقومان مقام أخيهما، وإنما يقومان مقام أبيهما، كذا حكاه ابن الصباغ.
قال: وإن تصرف المشتري في الشقص [بالغراس والبناء] فالشفيع مخير بين أن يأخذ ذلك بقيمته. أي يأخذ البناء والغراس بقيمته [والشقص بالثمن]، وبين أن يقلع ويضمن [له] أرش ما نقص [بالقلع].
لأن البناء والغراس موضوع بحق، وقلعه مجاناً يضر بصاحبه، وإبقاؤه يضر بالشفيع، فتعين ما ذكرناه طريقاً لدفع الضرر عنهما بقدر الإمكان.
وهذا ما اقتصر العراقيون على ذكره هاهنا وحصروا التخيير بين التملك بالقيمة أو القلع مع غرامة النقص أو ترك الشفعة.
وزاد في الحاوي فقال: لو قال الشفيع أنا أقر بناءه في الأرض لم يجز؛ لأمرين:
أحدهما: أنه متطوع بهبة لا يلزمه قبولها.
والثاني: أنه إقرار بناء في غير ملك قد يلحقه فيه ضرر.
وهذا يدل على أنه لو طلب التبقية بأجرة لا يجاب إليها من طريق الأولى.
وقد تقدم في باب العارية أن المعير للبناء والغراس مخير [بعد رجوعه في] ثلاثة أشياء:
[أحدها: التبقية بأجرة]. وقد صرح الإمام والقاضي الحسين والرافعي بجريان مثل ذلك هاهنا، وما ذكرناه من كيفية التخيير ثَمَّ يجري هاهنا.
وإذا اختار المشتري هاهنا قلع بنائه وغراسه، وأثر ذلك نقصاً في الأرض، لا يلزمه تسوية الأرض ولا يسقط بسببه عن الشفيع شيء [من الثمن] بل هو مخير بين أن يرضى بها كذلك بكل الثمن أو يترك. صرح به القاضي أبو الطيب وغيره.
ولو تصرف المشتري في الشقص بالزرع فحكمه حكم المستعير في التبقية إلى أوان الحصاد، ولا يجب عليه هنا أجرة في الأصح، وبه جزم القاضي الحسين وغيره بخلاف المستعير فإن الأصح وجوب الأجرة عليه.
وقد حكى الإمام أن في كلام صاحب "التقريب" ما يدل على جريان مثله في حق المشتري، ثم قال وهو غير بعيد في القياس وإن كان بعيداً في الحكاية وصرح به المتولي.
فإن قيل: الشفعة إنما تثبت على المذهب في الملك المشاع حالة البيع، وغرس المشتري وبناؤه إن كان بعد المقاسمة فهي مبطلة للشفعة؛ إذ التفريع على أنها على الفور، [أو يكون] ذلك رضا بالشركة.
وإن كان قبل المقاسمة بإذن الشفيع، فكذلك الحكم، وإن كان بغير إذنه فالمشتري عرق ظالم، فيقلع بناؤه وغراسه مجاناً، وحينئذ فالمتلخص أحد أمرين:
إما القلع مجاناً، أو لا شفعة، فما وجه ما ذكرتموه؟
قيل: المسألة مصورة بما إذا حصلت مقاسمة بعد الشراء، ومع ذلك لا تبطل الشفعة، وذكر لذلك [صور] نبدي منها ما تيسر:
فمنها إذا قيل للشفيع أنه اشترى بثمن كثير فعفا [ثم قاسم] ثم ظهر أن الثمن قليل، فإنه على شفعته.
ومنها: إذا أظهر المشتري أنه اتهب الشقص فقاسمه الشفيع، ثم ظهر أنه اشتراه، فالشفعة ثابتة.
ومنها: إذا كان الشفيع وكل في القسمة، فقاسم الوكيل المشتري، فالموكل على شفعته.
ومنها: إذا كان الشفيع غائبا، فرفع المشتري الأمر إلى الحاكم وطلب منه القسمة فقاسمه، ثم حضر الشفيع فإنه على شفعته، وللإمام وقفة في جواز مقاسمة الحاكم مع علمه بثبوت الشفعة للغائب، والمشهور الإجابة.
ومنها: إذا وكل المشتري البائع في المقاسمة، فقاسمه الشفيع ظاناً أنه قاسمه لنفسه، فإن شفعته لا تبطل.
ومنها: إذا كان الشراء بثمن مؤجل، ولم يرغب الشفيع في الأخذ بثمن حال، فجاء المشتري وطلب القسمة من الشفيع وقاسمه، ثم حل الأجل، فإن له الأخذ بالشفعة، كما صرح به القاضي الحسين في تعليقه؛ لأنه كان معذوراً.
ثم قال: وهذه المسائل لم يختلف أصحابنا في ثبوت الشفعة فيها، وفيه إشكال من حيث إن القسمة تمنع ثبوت الشفعة عندنا؛ لعدم الملك، ولو زال ملكه ولم يعلم ببيع الشريك نصيبه ثم علم؛ فهل له الشفعة أم لا؟
فعلى وجهين:
ويمكن أن يقال [ها] هنا أيضاً في وجه لا شفعة له.
قال: إلا أنه خلاف النص.
وفي "التتمة" إشارة إلى جعل ما أبداه القاضي طريقاً حيث قال بعد ذكر الصور: [فالقسمة صحيحة وعلى] أحد الطريقين لا تبطل الشفعة.
واعلم أن الجيلي ذكر من جملة الصور:
ما إذا أظهر المشتري شاء جز يسير، ثم ظهر أنه اشترى جزءاً كثيراً بعد المقاسمة.
وما إذا كانت دار بين ثلاثة؛ فاستأجر أحدهم نصيب أحد شريكيه واشترى الآخر ثم بنى وغرس.
وما قاله فيه نظر:
أما الأول: فلأن المقاسمة إن وقعت على ما أظهره فهي مقاسمة على بعض الحق، فلا يحصل المقصود، وإن وقعت على كل الحصة فقد اطلع الشفيع عليها، وذلك يسقط شفعته.
وأما في الثاني: فإن أراد أن مسألة الكتاب مصورة بما ذكره فليس كذلك؛ لأن المشتري شريك، وبناؤه وغراسه محترم، وقد ذكرنا في باب العارية أن الشريك إذا استعار حصة شريكه للبناء والغراس [ثم رجع الشريك بعد البناء والغراس] أنه يتعين حقه في التبقية بأجرة، ولا يتمكن من التملك والقلع.
ويشبه أن يكون هاهنا كذلك.
وإن أراد تصوير مسألة [ما] لا تعلق لها بالكتاب فهذا صحيح.
فرع: لو كان للشقص شفيعان، فغاب أحدهما وأخذ الآخر الجميع، ثم بنى وغرس بالطريق المشروع، ثم حضر الغائب وأخذ حصته بالشفعة،
فهل يقلع بناء الشفيع الآخذ [أولاً] مجاناً أم لا؟
المذهب: لا.
وفي وجه: نعم.
قال المتولي: وأصل الخلاف أن الشفيع الثاني يرجع على الشفيع الأول بالعهدة أم على المشتري؟
فإن قلنا بالثاني: فقد جعلنا ملكه كالمعلوم.
قال: وإن وهب أي هبة لا ثواب فيها. أو وقف فله أن يفسخ ويأخذ؛ لأن استحقاقه سابق لتصرف المشتري والجمع متعذر. وقال البندنيجي: إن ذلك إجماع.
وحكى الرافعي عن أبي إسحاق أن تصرف المشتري ليس بأولى [من غراسه وبنائه] فلا ينقضي، وأن بعضهم أجراه على عمومه.
وحكى القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي أن تصرف المشتري بالوقف لا ينقض، وينقض ما عداه.
والمذهب: الأول.
والفرق بين [البناء والغراس] ونقض التصرفات ما قاله القاضي الحسين؛ أن الشفيع لا يتوصل إلى أخذ حقه بالعقد الأول من غير نقض [التصرفات، بخلاف البناء والغراس، فإنه يتوصل إلى [أخذ] حقه بالعقد الأول من غير نقضها] فلا ضرورة به إلى النقض.
تنبيه: إخبار الشيخ [بأن للشفيع][الفسخ] يدل على صحة التصرف من المشتري قبل الأخذ بالشفعة، كما صرح به غيره.
واستدل له بأن التصرف صادف ملكه، وحق تملك الشفيع [لا يمنع] من التصرف، كما أن حق تملك الواهب بالرجوع لا يمنع تصرف المتهب.
وفي "التتمة": حكاية وجه عن ابن سريج أن تصرفات المشتري باطلة؛ لأن للشفيع حقاً لا سبيل إلى إسقاطه، فأشبه حق المرتهن.
وهذا أعم مما حكيناه من قبل عن القفال ورواية صاحب "التقريب".
أما لو كانت الهبة تقتضي ثواباً، وشرط فيها عوضاً معلوماً وصححناها فهي بيع وسنذكره.
قال: وإن باع فله أن يفسخ ويأخذ [أي يفسخ البيع الثاني ويأخذ] من المشتري الأول بما اشترى [وله أن يأخذ من المشتري الثاني بما اشتراه] لوجود سبب الأخذ [منه] وهو الشراء.
وهكذا الحكم فيما لو أصدق المشتري الأول الشقص أو جعله عوضاً في خلع أو صالح عليه ونحو ذلك.
وقيل: ليس للشفيع إبطال البيع الثاني؛ لإمكان أخذه من المشتري الثاني، وهذا ما حمل بعضهم كلام أبي إسحاق المروزي عليه.
وقد روى الشيخ أبو علي عن أبي إسحاق: أنه لا يأخذ من الأول ولا من الثاني؛ لأن تصرف المشتري إذا كان مبطلاً للشفعة فلا يكون مثبتاً لها، كما إذا تحرم بالصلاة، ثم شك فجدد [نية وتكبيراً] لا تنعقد به الصلاة؛ لأنه يحصل بها الحل [فلا يحصل] بها العقد.
ثم قال: ويمكن أن ينبني الوجهان على القولين فيما إذا عَتَقَتْ الأمة تحت عبد، فطلقها قبل أن تختار، هل ينعقد الطلاق أم لا؟
ووجه الشبه أن الطلاق يبطل حقها في الفسخ ولم تسلط عليه كما ذكرنا في الشفيع.
قلت: قد يمنع اتجاه البناء؛ لأن ثم الطلاق حصل أحد مقصوديها وهو إزالة قيد النكاح فاغتفر بصنيع الآخر وهو السلطنة [الثابتة لها] وهاهنا لم يحصل للشفيع بالبيع الثاني غرض، بل جدد له ضرراً.
فرع: لو باع أحد الشريكين نصف نصيبه من شخص، ثم لم يطلع الشريك عليه حتى باع البائع باقي حصته من آخر، كان للشريك الذي لم يبع أخذ أي النصفين شاء وأخذ المجموع، فإن [أخذ] أحدهما فذاك، وإن أخذ الأول وعفا عن الثاني استقل به، وإن عفا عن الأول وأخذ الثاني شاركه المشتري للنصف الأول- في النصف الثاني، هكذا ذكره العراقيون.
وحكى القاضي الحسين [وغيره] فيما إذا أخذ الأول: أن للمأخوذ منه أن يشاركه في النصف الثاني على وجه؛ لثبوت ملكه حالة البيع الثاني.
فرع: إذا أجر المشتري الشقص أو رهنه فله نقض [ذلك] على المذهب، فلو أراد تأخير الأخذ إلى حين انفكاك الرهن وانقضاء الإجارة بطل حقه؛ لقدرته على الأخذ في الحال ونقض التصرف.
قال: وإن قابل البائع فله أن يفسخ ويأخذ؛ [لما ذكرناه].
وهذا إذا قلنا: إن الإقالة فسخ.
أما إذا قلنا: إنها بيع فهو كما لو باع، وحكى القاضي الحسين على الأول أنه يمتنع على الشفيع فسخها، كما يمتنع عليه [رد] الرد بالعيب على وجه.
قال وإن رد عليه أي [رد] البائع الثمن المعين بالعيب فقد قيل: له أن يفسخ ويأخذ لما ذكرناه.
فعلى هذا فسخ البائع العقد لا يرتفع، وإنما الشفيع يأخذ الشقص ويرجع البائع على المشتري بقثمة الشقص.
قال الماوردي: أقل ما [كان قيمة] من وقت عقد البيع [أو قبض المشتري]
والشفيع هل يأخذ بالثمن الأول أم بقيمة الشقص؟ فيه وجهان في تعليق القاضي أبي الطيب وغيره.
قال: وقيل: ليس له؛ لأن الشفعة جعلت لدفع الضرر عن الشفيع، فلا يزال
ضرره بإدخال الضرر على البائع، وهذا الخلاف مفرع على قولنا: إن البائع لو لم يرد واجتمع هو والشفيع، وأراد البائع الرد والشفيع الأخذ- أن الشفيع مجاب، أما إذا قلنا: البائع هو المجاب كما هو المختار في "المرشد" فبعد الرد ليس للشفيع الأخذ وجهاً واحداً.
وقد حكى الإمام في مسألة ازدحامهما على الأخذ طريقة جازمة بتقديم البائع. ولو اطلع البائع على عيب الثمن بعد أخذ الشفيع فله الرد، لكنه لا يملك نقض ملك الشفيع.
[وعن صاحب "التقريب" رواية [قول] إن المشتري يسترد الشقص من الشفيع] ويرد عليه ما أخذه منه، ويسلم الشقص إلى البائع؛ لأن الشفيع نازل منزلة المشتري فرد البائع يتضمن نقض ملكه، كما يتضمن نقل ملكه المشتري لو كان في ملكه.
وعلى الأول: للبائع أخذ قيمة الشقص من المشتري، فإن كانت مثل الثمن فذاك، وإن كانت أقل أو أكثر، ففي رجوع من بذل الزيادة من المشتري والشفيع على صاحبه وجهان:
أظهرهما: عدم التراجع:
ولو عاد [الشقص إلى يد] المشتري يوماً من الدهر، فلا يملك البائع إجباره على نزعه منه، ولا يملك المشتري إجبار البائع على قبوله ورد ما أخذه [منه]، كما حكاه الجمهور.
وفي "التتمة" حكاية وجهين في ذلك بناء على ما لو خرج المبيع من ملك المشتري ثم عاد إليه ثم اطلع البائع على عيب بالثمن المعين هل يسترجعه أم لا؟
هذا حكم البائع إذا اطلع على عيب بالثمن المعين.
أما إذا اطلع المشتري على عيب بالشقص، وأراد رده وأراد الشفيع أخذه. فمن المجاب منهما؟
فيه [أيضاً] القولان أو الوجهان.
والأرجح منهما عند الأكثرين، وبه جزم القاضي أبو الطيب والبندنيجي: الشفيع.
ولو لم يطلع الشفيع على البيع حتى رد المشتري الشقص [فإن قلنا عند التزاحم: المشتري هو المجاب فليس للشفيع النقض.
وإن قلنا: المجاب هو الشفيع. فهاهنا وجهان:
والأظهر منهما: أن للشفيع النقض، وهو ما جزم به القاضي أبو الطيب والبندنيجي أيضاً.
وهذه الحالة هي التي صور الجيلي بها مسألة الكتاب، والذي صورها به ابن الخل وابن يونس ما ذكرته، وهو الأولى؛ فإن الشيخ في "المهذب" وغيره من العراقيين، [و] الذي وقفنا على كلامهم- لم يحكوا في هذه المسألة خلافاً، بل الموجود منها مثل ما حكيته عن البندنيجي وغيره.
فرع: لو كان ثمن الشقص عبداً فقبض المشتري الشقص، وتلف العبد قبل أن يقبضه البائع، وقبل أخذ الشفيع الشقص، بطل البيع والشفعة عند ابن الصباغ وغيره، وهو كذلك في "التهذيب" على وجه، وعلى وجه: للشفيع الأخذ بالشفعة، ويدفع المشتري للبائع القيمة والشفيع للمشتري القيمة.
قال: وإن تحالفا على الثمن فله أن يأخذ بما حلف عليه البائع؛ لأن إقرار البائع بالبيع يضمن حقاً للمشتري وهو حصول الملك له بالثمن، وحقاً للشفيع وهو استحقاقه أخذ الشقص] بالثمن، فإذا بطل حق المشتري [بالتحالف] لم يبطل حق الشفيع، كما لو أقر لاثنين بحق فكذبه أحدهما وصدقه الآخر.
ولا فرق في ذلك بين أن نقول: إن العقد ينفسخ بنفس التحالف أو لا ينفسخ إلا بفسخ الحاكم.
قال ابن الصباغ: لأن حقه ثبت بالعقد فلا يسقط باختلافهما.
وعلى ذلك جرى القاضي الحسين وصاحب "البحر" وقالا: لا فرق [بين] أن نقول: ينفسخ في الظاهر والباطن أو في الظاهر فقط.
وفي الحاوي: إنا إذا قلنا: ينفسخ العقد بمجرد التحالف أو كان الاختلاف في عين الثمن، بأن قال البائع: بعتك بهذا الثوب، وقال المشتري: بل بهذا العبد، فليس للشفيع الأخذ؛ لبطلان البيع في الأولى، وعدم قدرة الشفيع على بذل عين الثمن الذي ادعاه البائع في الثانية.
وحكى الرافعي فيما إذا طلب الشفيع الأخذ بعد فسخه بسبب التحالف هل له فسخ ذلك والأخذ أم لا؟
[فيه] الخلاف المذكور فيما إذا أراد الأخذ [بعد رد] الشقص بالعيب، وهو كذلك في الإبانة، وجرى القاضي أبو الطيب على [مقتضى قوله في] مسألة رد الشقص بالعيب.
وقال: له هاهنا رد الفسخ والأخذ.
فرع: إذا وقع الاختلاف بين البائع والمشتري بعد أخذ [الشفيع] الشقص بما ادعاه [المشتري]؛ فلشفيع أن يشهد على المشتري بما ادعاه البائع من الثمن، وليس للمشتري أن يرجع بالزائد على الشفيع إذا غرمه؛ لأنه لا يدعيه، ولو تعذر غرم المشتري له بغيبه أو عسر، فهل يستحق البائع أخذه من الشفيع أم لا؟ فيه وجهان في الحاوي.
وهل للبائع أن يدعي على الشفيع ابتداء في هاتين الحالتين ويحلفه؟
فيه وجهان بناء على الوجهين السابقين.
وقد أطلق الرافعي القول بسماع شهادة الشفيع للبائع، ومنع شهادته للمشتري؛ لأنه متهم في تقليل الثمن، ولعله يريد ما بعد الأخذ بالشفعة كما ذكرنا.
أما لو كان قبل الأخذ، فقد يتطرق إليه تهمة امتناع جريان التحالف المفضي إلى إبطال الشفعة على رأي، [والله أعلم].
قال: وإن أنكر المشتري الشراء، وادعاه البائع أي: وأنه لم يقبض الثمن، أخذ من البائع؛ لإقراره بحق المشتري والشفيع [وقد] بطل حق المشتري بالتكذيب، فبقي حق الشفيع لتصديقه.
وهذا ما جزم به الماوردي، وبه قال عامة الأصحاب، كما حكاه القاضي أبو الطيب، وقال الإمام: إنه قول المزني، وهو الأصح.
قال: ودفع إليه الثمن؛ لأنه يندفع الضرر عن البائع بذلك.
قال: وعهدته عليه؛ لأنه منه أخذ وإليه دفع الثمن.
وفي "الشامل" و"تعليق" القاضي أبي الطيب أن البائع إن اختار أن يترك مخاصمة المشتري ويدفع الشقص إلى الشفيع ويأخذ منه الثمن، فله ذلك، وإذا دفع الشقص وأخذ الثمن؛ كانت عهدة الشفيع عليه، وإن اختار مطالبة المشتري فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لأنه يحصل له المقصود [من جهة الشفيع فلا حاجة إلى خصومة المشتري].
والثاني: له ذلك؛ لأنه ربما كان له غرض لكون المشتري أسمح من الشفيع وأسهل معاملة، وماله أقل شبهة.
فعلى هذا، إن حلف المشتري، أخذ البائع الثمن من الشفيع وكانت عهدته عليه، وإن نكل وحلف البائع، سلم الشقص إلى المشتري وأخذ منه الثمن وتكون عهدة الشفيع [عليه. انتهى.
وقد رجع حاصل ما قالاه إلى أنه يتعين على وجه أخذ الثمن من الشفيع وتكون عهدته] على البائع كما ذكره الشيخ.
[و] على وجه: يقال للبائع: هل تريد أن تخاصم؟ فإن قال: بلى، يتوقف دفع الثمن إليه حتى يتبين له أي شيء يظهر، فإن ثبت البيع؛ دفع الثمن إلى المشتري ويرجع بالعهدة عليه، وإلا فالحكم كما قلناه.
وقد حكى هذا القاضي الحسين مع وجه ثالث عن ابن سريج أن القاضي ينصب قيماً يقبض الثمن للمشتري من الشفيع ويدفعه للبائع وإذا خرج الشقص مستحقاً رجع الشفيع بالعهدة على المشتري، وهل يرجع على قيم القاضي؟ فيه وجهان.
وسلك في "التهذيب" طريقاً آخر فقال: إذا قلنا: يأخذ الشفيع الشقص من البائع [ويقبضه الثمن] فهل للبائع مخاصمة المشتري ومطالبته بالثمن؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: نعم، فإن حلف المشتري فلا شيء عليه، وإن نكل، حلف البائع وأخذ الثمن من المشتري وكانت عهدته عليه وما أخذه من الشفيع يترك في يده أم يؤخذ ويوقف؟ فيه وجهان.
قال: وقيل: ولا يأخذ لأن الشفعة فرع للبيع، فإذا لم يثبت الأصل؛ لم يثبت الفرع، وصار هذا كما لو أقر أحد الابنين بنسب أخ وكذبه الآخر، فإن النسب لما لم يثبت [لم يثبت] فرعه وهو الإرث.
وهذا ما قال البندنيجي: إنه ظاهر كلام الشافعي، ويحكى عن ابن سريج. والقائلون بالأول فرقوا بين ما نحن فيه وبين النسب، فإن النسب يتضمن حقاً له وحقاً عليه، فإذا لم يثبت ما له لم يثبت ما عليه. وهاهنا قد ثبت ما له وهو الثمن، فثبت ما عليه، كذا حكاه ابن الصباغ.
قال: وإن قال البائع: أخذت الثمن، لم يأخذ الشفيع على ظاهر المذهب؛ [لأنه لا سبيل إلى دفع الثمن إلى البائع لإقراره بقبضه، ولا إلى المشتري لإنكاره استحقاقه، فلو سلط الشفيع على الأخذ لكان بغير عوض، وذلك ممتنع، وبهذا قال ابن سريج، وأبو إسحاق، وابن أبي هريرة. [وللشفيع على هذا مخاصمة المشتري في الشفعة، وإحلافه على إنكاره الشراء].
وقيل: يأخذ لما تقدم، وهو الأظهر في الرافعي، وبه قال كثير من الأصحاب كما حكاه الماوردي، والثمن يبقى في ذمة الشفيع، أو يأخذه
الحاكم ليحفظه إلى أن يدعيه صاحبه. أو يقال للمشتري عند طلب الشفيع: إما أن تقبضه أو تبرئ عنه، أو يؤخذ من الشفيع ويدفع إلى البائع، ويسترجع منه ما أقر بقبضه؛ ليكون هو الموقوف للمشتري في بيت المال؟ فيه أربعة أوجه؛ رابعها حكاه الماوردي، ولا يخفى أن محل هذا الخلاف إذا قلنا في المسألة الأولى: إنه يأخذ، [أما إذا قلنا في الأولى: لا يأخذ] فهاهنا أولى.
فرع: لو كان المشتري غائباً حين أقر البائع بالبيع منه، واطلع الشفيع، قال القاضي الحسين قبل الكلام في مسألة الكتاب بسبع ورقات: إن الحكم كما لو كان حاضراً وأنكر الشراء.
قال: وإن ادعى المشتري الشراء والشقص في يده والبائع غائب، فقد قيل، يأخذ؛ [لأنه أقر له بحق فيما في يده، فيلزمه الوفاء به، وهذا هو الأظهر.
وقال الإمام: الوجه القطع به.
فعلى هذا يكتب الحاكم ذلك في السجل وإذا حضر الشريك، فإن صدقه في دعواه الشراء فذاك، وإن كذبه انتزع الشقص من الشفيع].
وقيل: لا يأخذ؛ لأنه أقر بالملك لغائب، ثم ادعى انتقاله إليه فلم يقبل قوله، فعلى هذا يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الشريك ليسأل عن ذلك.
ويقال لمن في يده العين: إن كنت صادقاً [في الشراء] فسلم للشفيع. كذا قال القاضي أبو الطيب.
وحكى الإمام أن صاحب اليد لو سلم الشقص طوعاً إلى الشفيع ففيه جوابان:
أحدهما، وبه قطع صاحب "التقريب": أنا لا نتعرض لهذا.
والثاني: وهو الذي قطع [به] العراقيون تفريعاً على هذا القول: أنه لا يجوز
وما ذكره الشيخ من الخلاف قال الإمام: إنه تردد محكي عن ابن سريج، وهو مخصوص بالشفعة، ولم يصر أحد إلى إزالة [يد] من يدعي الشراء، ولا يجوز أن يكون في هذا الخلاف، فإن الأيدي نراها تتبدل ولا يتعرض لها، و
كما لا يتعرض لأصحاب [الأيدي]، كذلك لا يتعرض لانتفاعهم بما في أيديهم وهذا أصل مجمع عليه.
والخلاف الذي ذكره الشيخ يجري فيما لو ادعى حاضر أنه وكيل عن الغائب في البيع، وباع حصة الغائب وسلمها إلى المشتري، كما حكاه البندنيجي وقال: إن للشريك- على قولنا بجواز الأخذ إذا حضر وأنكر التوكيل- طلب الشفيع بأجرة الشقص، ويرجع بها الشفيع على الوكيل على وجه.
ويجري الخلاف الذي حكاه [الشيخ] أيضاً فيما لو أراد صاحب اليد الذي ادعى الشراء من غائب أن يتصرف فيما في يده ببيع أو هبة أو رهن أو تصرف يستدعيه حقيقة الملك، كما حكاه الإمام.
فروع:
[أحدها:] لو لم يتعرض من في يده الشقص إلى ذكر الشراء بل قال: هو ملكي بسبب هبة أو إرث ولا شفعة لك فيه، وادعى [الشفيع] عليه الشراء فالقول قول من [في يده العين، وإن كان للشفيع بينة عمل بموجبها، وما حكم الثمن؟ فيه الثلاثة أوجه السابقة وإن لم يكن له بينة، فله تحليفه، فإن حلف فذاك.
قلت: وكان يتجه أن يتخرج تحليفه على أنه لو أقر، هل يأخذ منه أو لا؟ فإن قلنا عند إقراره: لا يأخذ؛ فلا فائدة في التحليف.
وإن نكل؛ حلف الشفيع أنه اشتراه.
وهل يلزمه أن يقول في يمينه: وأنه يستحق الشفعة؟ فيه وجهان في الحاوي.
والمذكور منهما في تعليق أبي الطيب: اللزوم، ثم إذا حلف كما ذكرنا حكم له بالشفعة، وفي الثمن: الأوجه.
ولو قال من في يده العين: أنا وكيل لمالكها الغائب ولم أكن أملكها فالقول قوله، فإن نكل؛ حلف الشفيع وحكم له بالشفعة.
قال الماوردي: ولا يكون ذلك حكماً على الغائب بنقل ملكه إلى الشفيع، وإنما يكون رفعاً ليد الحاضر، ثم في الثمن وجهان:
أحدهما: يقبض من [يد] الشفيع ويوضع في بيت المال حتى يحضر الغائب.
والثاني: يترك في ذمة الشفيع إلى قدوم الغائب، ويمكن من التصرف في الشقص بما لا يؤدي إلى استهلاكه، وإن باعه لم يمنع من بيعه. وهل يؤخذ بكفيل فيما يحصل عليه؟ فيه وجهان.
ولو اعترف من في يده الشقص بالشراء لغيره نظر، إن كان حاضراً استدعاه الحاكم، فإن صدقه كانت الشفعة عليه.
وإن كذبه حكم بالشراء لمن هو في يده وأخذ منه بالشفعة.
وإن ادعاه لغائب أخذه الحاكم منه ودفعه إلى الشفيع، وكان الغائب على حجته إذا قدم.
قال ابن الصباغ: لأنا لو أوقفنا الأمر في الشفعة إلى حضور المقر له، كان في ذلك إسقاط الشفعة؛ لأن كل من يشتري شقصاً يدعي أنه اشتراه لغائب.
ولو قال: اشتريته لابني الطفل أو لطفل له عليه ولاية، ففيه وجهان:
أحدهما: أن الشفعة لا تثبت؛ لأن الملك يثبت للطفل فلا تجب الشفعة بإقرار الولي عليه.
والثاني: تثبت لأنه يملك الشراء له فصح إقراره فيه، كما يصح في حق نفسه.
قال: وإذا أخذ الشقص لم يكن له أن يرده إلا بعيب، أما رده بالعيب؛ فلما في الإبقاء من الضرر، وأما عدم رده إذا كان في مجلس الأخذ؛ فلأنه إزالة ملك لدفع الضرر، فلم يثبت فيه الخيار كالرد بالعيب، وهذا ما صار إليه ابن سريج.
وقيل: [له] أن يرد بخيار المجلس؛ لأنه تمليك مال بالثمن، فيثبت فيه خيار المجلس كالبيع، وهذا ما نص عليه في اختلاف العراقيين كما حكاه ابن الصباغ.
وقد حكى القاضي أبو الطيب في "التعليق" هذا الخلاف أيضاً في أنه إذا عفا عن الأخذ صريحاً، فهل له أن يعود إلى الطلب في المجلس [أم لا]؟ وهو في العدة أيضاً.
وحكى البندنيجي ما حكاه القاضي من الخلاف تفريعاً على قولنا: إن خيار
الشفيع في الطلب وتركه يمتد إلى مفارقة مجلس البلاغ، ونسب الأول إلى ابن سريج، والثاني إلى نصه في اختلاف العراقيين.
فعلى [هذا] لو فارق المشتري المجلس، وتخلف [فيه الشفيع] ففي انقطاعه وجهان في النهاية.
قال: وإن مات الشفيع انتقل حقه إلى ورثته أي: إن مات قبل العلم بالشفعة ووجهه: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَلَّفَ حَقاً فَلِوَرَثَتِهِ"؛ ولأنها حق مالي لازم؛ فانتقل إلى الورثة كالرد بالعيب.
لكن هل يثبت لهم على قدر أنصبائهم أو على [عدد] رؤوسهم؟ فيه ثلاث طرق: أظهرها: أنها على قدر الأنصباء.
وقال البندنيجي: إنها التي عليها شيوخ أصحابنا أبو العباس وأبو إسحاق وغيرهما.
والثانية: في المسألة قولان كما سبق، وهذه الطريقة مع الأولى مبنيان على أن الورثة يأخذون للموروث ثم يتلقون منه أو [يأخذون] لأنفسهم ابتداء؟
وفيه خلاف؛ فالأولى مبنية على الوجه الأول، والثانية مبنية على الوجه الثاني.
والطريقة الثالثة: القطع بأنها على عدد الرؤوس، لأن للموروث من الشفيع حق تملك الشقص [لا الشقص]، ومجرد الحق قد يسوَّى فيه بين الورثة كحد القذف.
قال: فإن عفا بعضهم عن حقه أخذ الآخر الجميع أو يدع، لأنها شفعة من اثنين، فإذا عفا أحدهما عن حقه كان للآخر أخذ الجميع أو الترك كالشريكين، وهذا ما قال البندنيجي إنه المذهب.
وعلى مقتضى هذه الرواية تجيء الأوجه السالفة المجموعة من
الطريقين، ومجموعها أربعة أوجه.
وقيل: إن عفو أحدهما كعفو الموروث [عن بعض حقه] فيجيء في [المسالة] ثلاثة أوجه.
وهذا الخلاف ينبني على الأصل الذي ذكرناه في أنهم يأخذون لمورثهم أو لأنفسهم.
فرع: لو كان من جملة الورثة حمل فليس لوليه الأخذ بالشفعة [له]؛ لأنه لا يتحقق ملكه، قاله ابن الصباغ وغيره.
فلو أخذ له ثم ظهر حياً صح ذلك الأخذ على أحد الوجهين كما حكاه العمراني في "الزوائد" في الوصية والرافعي هنا حكى [في] جواز الأخذ في هذه الحالة وجهين:
قال: وإن اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن [أي] بأن قال المشتري: [هو] ألف، وقال الشفيع:[بل] خمسمائة [أو كان عرضاً وقال المشتري قيمته ألف، وقال الشفيع: بل خمسمائة] قال: فالقول قول المشتري؛ لأنه [العاقد فكان] أعرف بالثمن [ولأن الشقص] ملكه فلا ينزع منه إلا بقوله.
فإن حلف كان للشفيع أن [يأخذه بما حلف عليه] المشتري أو يدع.
وإن نكل حلف الشفيع وأخذ بما حلف عليه.
فإن قيل: قد حكيتم عن المتولي أن الأخذ بالشفعة كالإتلاف بالنسبة إلى جنس ما يغرمه فهلا جعلتم هاهنا كذلك حتى يكون القول قول الشفيع [كالمتلف].
قيل: إنما كان القول قول المتلف؛ لأنه ثبت في ذمته شيء [والمتلف عليه يدعي عليه] زيادة، الأصل فراغ ذمته منها، وهنا الشفيع يريد أن ينزع مال الغير ببذل يبذله، فلم يكن له ذلك إلا بما يقوله المشتري، كما ليس للمشتري أن يأخذ المبيع إلا بما يقوله البائع، كذا وجه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ
والماوردي ذلك وهو ظاهر عمن يقول: لا يملك الشقص إلا ببذل الثمن.
أما إذا قلنا: إنه يملكه بمجرد الأخذ، فهو شبيه بما إذا أعتق شركاً له في عبد وهو موسر وقلنا: إنه يملك حصة الشريك ويعتق عليه دون دفع القيمة، والحكم في هذه الصورة إذا وقع الاختلاف في القيمة أن القول قول المعتق، تمسكاً بأن الأصل فراغ ذمته من القدر الزائد.
ووجه الشبه: قدرة المعتق والشفيع على تملك [مال] الآخر [بفعل أحد المتنازعين] قهراً.
وطريق الجواب أن يقال: الاختلاف في مسألتنا وقع في أمر دخل الوجود بفعل أحد المتنازعين، فكان المرجع فيه إليه؛ لأنه أعرف به.
والاختلاف في قيمة المعتق اختلاف في أمر مظنون لكل من المختلفين، فلم يكن أحدهما فيه بأولى من الآخر، ويرجح جانب المعتق بفراغ ذمته من القدر الزائد [والله أعلم].
فإن قيل: لم لا يتحالفان كما يتحالف المتبايعان؟
قيل: لأن كل [واحد] من المتابعين مدع ومدعى عليه؛ فتحالفا لاستوائهما، وفي الشفعة الشفيع مدع وحده دون المشتري، بدليل عدم سماع بينة المشتري ابتداء، وإذا كان كذلك جعل القول قول المشتري؛ لتفرده بالإنكار، وهذا ما أورده الماوردي.
وقيل: لأن البائع والمشتري اتفقا [على السواء] على وقوع الملك للمشتري وكل منهما مباشر للعقد، والاحتمال في قولهما على السواء. وهاهنا لم يتفقا على وقوع الملك للشفيع، والشفيع أجنبي عن العقد، فكان تصديق المباشر أولى.
وقيل: لأن البائع والمشتري يرجع كل منهما إلى شيء بعد التحالف، والشفيع لو جوز له التحالف لم يرجع إلى شيء بعده، فلا فائدة في تحليفه. وهذا قول أبي إسحاق.
و [اعلم أنه] لا خلاف [في] أنه إذا كان لحدهما بينة عمل بها، ويكفي فيها شاهد [ويمين ورجل] وامرأتان، ولا تسمع في ذلك شهادة البائع
لا [للشفيع ولا للمشتري] وبهذا جزم العراقيون.
وقيل: تسمع شهادته لهما أما للشفيع فلأنه ينقض حقه [وهو ما صححه في "التهذيب" فيه، وأما المشتري، فلأنه لم يجر بشهادته نفعاً لنفسه والثمن ثابت له بإقرار المشتري.
وقيل: إن شهد للشفيع قبل قبض الثمن قبلت شهادته؛ لأنه ينقض حقه] إذ لا يأخذ أكثر مما شهد به، وإن شهد بعده، لم تقبل؛ لأنه يجر إلى نفسه نفعاً من حيث إنه إذا قل الثمن قل ما يغرمه عند ظهور الاستحقاق.
وهذا ما حكاه في الإبانة.
والصحيح هوا لأول لكونه شاهداً على فعل نفسه.
ولو أقام كل واحد منهما بينة على ما يدعيه، ففي "الشامل" وغيره أن الذي حكاه الشيخ أبو حامد: أن بينة المشتري أولى كما أن بينة الداخل أولى من بينة الخارج، وأن القاضي أبا حامد قال: تتعارض البينتان، وأنه الأصح.
فعلى هذا على قول يسقطان، ويكون القول قول المشتري، وهو ما صححه في "التهذيب" وإيراد ابن الصباغ يقتضيه أيضاً.
وعلى قول: يستعملان القرعة.
وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان كذا قال الماوردي [وابن الصباغ وغيرهما].
وفي الرافعي أنا على [قول] الاستعمال نوقف أو نقرع.
فرع: لو ادعى المشتري أن الثمن ألف، فقال الشفيع: هو دون الألف ولكن لا أعرف كم ينقص عنه، فله تحليف المشتري على أن الثمن ألف.
ولو قال الشفيع: لا أعلم [أنه ألف] أو دونها، وطلب يمين المشتري على أنه ألف لتهمة رآها، فهل له ذلك؟ فيه وجهان في الحاوي.
قال: وإن ادعى المشتري الجهل بالثمن، أي بأن قال الثمن كف من الدراهم لا أعرف [قدرها] أو صبرة من الحنطة لا أعرف كيلها، وقد تلف ذلك أو تعذرت معرفته، وقال الشفيع بل قدره كذا.
قال: فالقول قوله؛ لإمكان صدقه، ويحلف على نفي العلم بالثمن، فإذا حلف فلا شفعة.
كذا نص عليه الشافعي وبه قال أبو حامد المروروذي والشيخ الإسفراييني؛ لأنه لا يمكن الأخذ بثمن مجهول، قال: وقيل: يقال له: بين، وإلا جعلناك ناكلاً كمن ادعي عليه ألف، فقال في جوابه: لا أعلم كم لك علي [منه].
فعلى هذا إذا لم يبين حلف الشفيع على مبلغ الثمن، وأخذ بالشفعة.
وهذا قول ابن سريج [وأبي علي] بن أبي هريرة، وحملا ما نقل عن الشافعي على ما إذا كان الشفيع أيضاً جاهلاً بقدر الثمن.
وقد حكى الماوردي في صورة جهل الشفيع بالثمن أن له تحليف المشتري: إنه لا يعلم قدر الثمن وتسقط الشفعة.
وحكى البغوي فيها وجهين:
أحدهما: أن دعواه تسمع على المشتري بأنه عالم بالثمن، فإذا نكل حلف الشفيع على علمه بالثمن وحبس المشتري حتى يبين قدر الثمن.
وأصحهما: أن دعواه غير مسموعة على هذا النحو.
وطريق دعواه كما حكاه القاضي الحسين وكذا الرافعي عن ابن سريج وغيره أن يعين الشفيع قدراً فإن ساعده عليه المشتري أخذ به وإلا حلفه على نفيه فإن نكل؛ استدل الشفيع بنكوله وحلف على ما عينه، وإن حلف المشتري زاد وادعى ثانياً، وهكذا يفعل إلى أن ينكل فيحلف الشفيع، والصحيح [هو القول] الأول.
ويخالف ما لو ادعى على شخص ألفاً فقال: لا أعلم كم يستحق علي منه، فإن المدعى- هاهنا- هو الشقص لا الثمن المجهول، وبتقدير صدق المشتري ليس له الأخذ بالشفعة فكان ذلك كإنكاره لولاية الأخذ.
وعلى هذا الخلاف لو قال: نسيت مقدار الثمن الذي اشتريت به وكذبه الشفيع.
وادعى الروياني [أن الماوردي] والقفال وافقا ابن سريج وابن أبي هريرة في هذه الصورة [والله أعلم بالصواب].
ولنختم الباب بفروع تتعلق به:
إذا باع في مرض موته شقصاً قيمته ألفان بألف من أجنبي وثلثه يحتمله، ولوارثه شفعة في الشقص ففيما يصنع؟ خمسة أوجه:
أحدها: أن البيع يصح ولا يأخذ الوارث بالشفعة.
أما صحة البيع مع المحاباة؛ فلكون المشتري أجنبياً، وأما عدم ثبوت الشفعة للوارث؛ فلأنها لو ثبتت كان المريض متسبباً إلى نفع وارثه بالمحاباة.
والثاني: أن البيع يصح ويأخذ الشفيع الشقص بالثمن.
والثالث: لا يصح البيع أصلاً؛ لأنه لو صح لتقابلت فيه أحكام متناقضة.
والرابع: يصح البيع في الجميع ويأخذ الشفيع ما يوازي الثمن [منه]، ويبقى الباقي للمشتري محاباة.
والخامس: لا يصح إلا في القدر الموازي للثمن؛ لأنه لو صح في الكل فإن أخذه الشفيع وصلت إليه المحاباة، وإن أخذ ما وازى قدر المحاباة؛ كان إلزاماً لجميع الثمن ببعض المبيع، وهو خلاف وضع الشفعة.
وقد يقال في العبارة عن هذا الوجه إن ترك الشفيع الشفعة صحت المحاباة مع المشتري، وإلا فهو كما لو كان المشتري وارثاً فلا تصح المحاباة.
والأصح من هذه الأوجه عند العراقيين وصاحب "الإفصاح" والأستاذ أبي منصور والإمام [و] البغوي: الثاني.
وعن ابن الصباغ الأول، [وهي تجري] فيما إذا لم يجزم الورثة عند كون المحاباة أكثر من الثلث، وصححنا البيع في قدر بعض المحاباة.
إذا شهد شاهدان بأن المشتري سلم الشقص المشفوع إلى الشفيع، وآخران بأن الشفيع سلم الشفعة إلى المشتري، ففيه أقوال لابن سريج.
أحدها: أن البينة بينة من في يده الشقص.
والثاني: بينة المشتري؛ لاحتمال أنه سلم الشقص قبل العلم بالعفو عن الشفعة، والأصل بقاء ملكه.
والثالث: أن بينة الشفيع أولى، كذا حكاه صاحب "الإشراف".
والحيلة في إبطال الشفعة بالجوار مباحة قبل العقد وبعده.
قال البندنيجي: لأنها حيلة في إبطال ما ليس بواجب.
وأما الحيلة في إبطال [حق] الشفعة بالمشاركة فينظر فيها؛ فإن كان بعد وجوبها فلا يحل ذلك؛ لأنه حق قد وجب فلا يجوز السعي في إسقاطه، وأما قبل وجوبها كما إذا فعل شيئاً يزهد الشفيع فيها.
قال أبو العباس: يكره ذلك فإذا فعل صح.
وقال أبو بكر الصيرفي في كتاب "الحيل": هو مباح كما حكاه البندنيجي.
وفي كلام الزبيلي في "أدب القضاء" له ما يدل على المنع، فإنه قال: إذا أراد أحد الشريكين في عقار أن يبيع نصيبه من غير شريكه، فلقنه إنسان أن يهب بعض نصيبه من المشتري ويبيع الباقي منه، فإن هذا التلقين لا يجوز؛ لأن فيه إسقاط حق الشفيع، والمشهور الأول، وقد ذكر الأصحاب في ذلك صوراً:
منها: أن يبيع الشقص الذي قيمته مائة بمائتين، ثم يأخذ عرضاً قيمته مائة عن المائتين.
وفي هذه الصورة غرر على المشتري.
ومنها: أن يشتري الشقص بمائة وهو يساوي خمسين، ثم يحط عن المشتري بعد المجلس خمسين.
وفيها أيضاً تغرير المشتري، فإنه قد لا يبرأ.
ومنها: أن يشتري عرضاً من المشتري بمائتين وهو يساوي مائة [ثم يعطيه [عن المائتين] الشقص وهو يساوي مائة] [لكن] في هذه الصورة تغرير بالبائع، فإنه بعد شراء العرض [قد] لا يشتري منه بائعه الشقص بما عليه، وذكروا غير
ذلك صوراً.
وعندي صورة أخرى، وهي أن يستاجر المريد لشراء الشقص [الشقص] مدة لا يبقى الشقص لأكثر منها، بأجرة يسيرة، ثم يشتري الشقص بقيمة مثله. فإن عقد الإجارة لا ينفسخ بهذا الشراء [على] المذهب، ولو أراد الشفيع الأخذ لأخذ [الشقص مسلوب المنافع] مدة بقائه، وهذا مما ينفر به الشفيع فيأمن المشتري المحذور [عن مطالبته] والله [عز وجل] أعلم.