المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب اللقطة اللقطة- بفتح القاف، على المشهور-: الشيء الملقوط، وادعى الأزهري - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١١

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب اللقطة اللقطة- بفتح القاف، على المشهور-: الشيء الملقوط، وادعى الأزهري

‌باب اللقطة

اللقطة- بفتح القاف، على المشهور-: الشيء الملقوط، وادعى الأزهري أنه الذي سمع من العرب، وأجمع عليه أهل اللغة ورواة الأخبار، قال: وكذا قاله الأصمعي والفراء وابن الأعرابي.

وقال الخليل بن أحمد: هي بفتح القاف اسم للرجل الملتقط، وبإسكان القاف اسم للشيء الملقوط؛ لأن ما جاء على وزن "فعلة" فهو اسم للفاعل؛ كقولهم: هُمَزة لُمَزة ضُحَكَة لُحَنة، وما جاء على وزن "فعلة" فهو اسم للمفعول.

قال الأزهري: وهذا هو القياس.

وعن ابن السكيت في "الإصلاح": اللقطة من الأسماء التي على "فُعَلة" و"فُعْلة"، ويقال: لُقاطة- بالضم-: ولَقَطُ، بفتح اللام والقاف بلا هاء.

قال الأزهري: وهي مختصة بما ليس بحيوان من سائر الأموال، وما كان حيواناً سمى: ضَوَالَّ، لا غير، وعلى ذلك جرى الشيخ في قوله:"وإن وجد ضالة .. " إلى آخره.

والالتقاط: أخذ مال محترم يكون بمضيعة، يأخذه من هو أهل الالتقاط؛ ليحفظه على مالكه، أو ليتملكه بعد التعريف.

وهذا الحد يخرج الكلب المعلم، ولا شك في جواز التقاطه للحفظ، وهل يجوز لغيره؟ فيه كلام سيأتي، فيجب أن يقال: الالتقاط: أخذ شيء محترم يكون بمضيعة، يأخذه من هو أهل الالتقاط، ليحفظه على صاحبه، أو ليختص به بعد التعريف.

ص: 420

وأما المغلَّب على اللقط هل حكم الأمانة أو حكم الأكساب؟ فيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي.

ثم الأصل في مشروعيتها من الكتاب قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وفي أخذ اللقطة وردها على صاحبها معاونة على البر والتقوى.

ومن السنة: ما روى الشافعي عن مالك عن ربيعة بن يزيد مولى [المنبعث عن] زيد بن خالد الجهني أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلا فَشَانُكَ بِهَا". وسأله عن ضالة الغنم فقال: "خُذْهَا، فَإِنَّهَا لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ"، وسأله عن ضالة الإبل فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى احمرت وجنتاه- وفي رواية: حتى احمر وجهه- وقال: "مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَاكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا"، وغير ذلك من الأخبار.

وقد أجمع المسلمون على جواز أخذها في الجملة، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل.

ومعنى قوله عليه السلام: "هِيَ لَكَ" أي: إن أخذتها ["أَوْ لأَخِيكَ" أي: إن أخذها]"أَوْ لِلذِّئْبِ" أي: إن لم تؤخذ أكلها الذئب.

وقوله- عليه السلام في ضالة الإبل: "مَا لَكَ وَلَهَا" أي: لا تأخذها.

وقوله: "مَعَهَا" أي: أجوافها؛ فإنها تأخذ ماء كثيراً فتبقى عليه أكثر ما يبقى سائر الحيوانات.

وقوله: "وَحِذَاؤُهَا" أي: خِفاف أرجلها التيت قدر بها على السير وطلب المرعى، وتمتنع بها من صغار السباع.

وقوله: "تَرِد ُالْمَاءَ وَتَاكُلُ الشَّجَرَ" عنى به: أن عنقها طويل فتنال الماء والمرعى من الشجر؛ فهي محفوظة بنفسها غير محتاجة إلى أخذ وبهذه الأمور خالفت الغنم.

ص: 421

قال: "إذا وجد الحر الرشيد لقطة في غير الحرم في موضع يأمن عليها" أي: لأمانة أهله، وليس الموضع مملوكاً، ولا في دار الشرك- فالأولى: أن يأخذها؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وهذا منه، وقوله – عليه السلام:"وَاللهِ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"، وفي الأخذ إعانة. ولا يجب؛ لأنه أخذ مال على وجه الائتمان؛ فلم يكن عليه أخذ؛ كالوديعة.

قال: "وإن كان في موضع لا يأمن عليها" أي: لخيانة أهله "لزمه أن يأخذها"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ".

ولو خاف على نفسه لوجب عليه صونها؛ فكذلك ماله، وهذه طريقة ابن سريج وأبي إسحاق وجمهور أصحابنا، كما قاله الماوردي.

قال: "وقيل: فيه قولان في الحالين"، وهذه طريقة الأكثرين كما قال الرافعي:

أحدهما: يجب [الأخذ]؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وإذا كان الواجد ولياً لصاحب اللقطة، وجب عليه حفظ ماله؛ كما يجب على ولي اليتيم حفظ ماله. وهذا أخذ من قول الشافعي في "كتاب اللقطة" من "الأم": ولا يحل ترك اللقطة لمن وجدها إذا كان أميناً عليها.

والثاني: يستحب؛ لما ذكرناه. وهذا أخذ من قول الشافعي في "المختصر": "ولا أحب ترك لقطة وجدها إذا كان أميناً عليها". وهذا صححه الغزالي، والرافعي، وحكاه الإمام طريقة جازمة؛ لأنه دائر بين أن يكون كسباً أو أمانة؛ فلا معنى لوجوبها، وما ذكره الشافعي محمول على تأكيد الندب.

ومنهم من قال: لا يجب الأخذ ولا يستحب أيضاً.

ص: 422

ثم على القول بالوجوب: لو لم يكن يأخذها حتى تلفت، لا ضمان عليه؛ لأن المال ما حصل في يده فلا يضمنه.

قال القاضي الحسين: كمن كان معه طعام وإنسان يموت جوعاً؛ فيجب عليه أن يعطيه، فلو لم يعطه حتى مات، لا دية عليه. وقاسه البندنيجي على ما لو رأى مال شخص يغرق أو يحرق وقدر على خلاصه؛ فإنه واجب عليه، فإذا لم يفعل، وتلف لا ضمان عليه.

تنبيه: جمع الشيخ بقوله: "الرشيد" البالغ العاقل المسلم الأمين، وهو مقتض لعدم التفصيل في الأمين بين أن يخاف على نفسه الخيانة أم لا [و] هو الصحيح في المذهب.

وحكى الإمام طريقة: أن الملتقط إن كان لا يأمن نفسه ولا يثق بها فلا يجب عليه الالتقاط قولاً واحداً، والقولان فيمن يغلب على ظنه أنه لا يخون.

وحكى عن الشيخ أبي محمد وجهين فيما إذا كان يخاف على نفسه الخيانة في جواز الأخذ، إذا قلنا: إن الأخذ سنة عند تحقق الأمانة، وشبههما- وكذلك الغزالي- بالوجهين في أن الصالح للقضاء إذا لم يأمن على نفسه هل يجوز له تقلد القضاء؟ لكن الغزالي في كتاب الأقضية جزم فيمن تعين عليه بوجوب القبول، وإن كان يخاف الخيانة فيمن لم يتعين عليه- لوجود مساو له أو فاضل أو مفضول، وقلنا بصحة ولاية المفضول-: بمنع القبول. ومن عدا الحر الرشيد سيأتي الكلام فيه.

أما إذا كانت اللقطة في موضع مملوك، فقد قال الماوردي:[إنه لا] يجوز له التعرض لأخذها، وهي في الظاهر لمالك الأرض إن ادعاها. ولو كانت في دار الشرك ولا مسلم فيها، فقد حكى الغزالي والفوراني في "الإبانة": أنها له من غير تعريف، ولا ضمان عليه بالإتلاف.

وفي "التهذيب": أنها تكون غنيمة خمسها لأهل الخمس، والباقي للواجد.

قال: ثم ليعرف، أي: على الفور- كما قاله المتولي- "وعاءها وعفاصها

ص: 423

ووكاءها وجنسها وقدرها وصفتها":

أما اعتبار معرفة العفاص والوكاء؛ فلحديث زيد بن خالد الذي ذكرناه.

وأما اعتبار معرفة القدر؛ فلما روى البخاري عن شعبة في حديث مطول: أن أبي ابن كعب قال له- وهو بالمدينة-: وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عرِّفْها حولاً" فعرفتها حولاً، ثم أتيته الرابعة، فقال:"اعْرِفْ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا".

وأما في الباقي: فإن لم تكن معرفته ملازمة للعدد، فيأخذه بالقياس على ما ثبت بالنص؛ بجامع الاشتراك في معرفة ما تمتاز به عن غيرها؛ حتى لا تختلط، وليعرف صدق واصفها من كذبه.

لكن لك أن تقول: حديث أبي يدل على اعتبار العدد عند إرادة التملك، وأنت تريد إثباته عند الالتقاط، [والفرق ظاهر؛ فإنه يلجئ لمعرفة القدر حتى يرد مثله، ولا كذلك في حالة الالتقاط].

وحديث زيد بن خالد لا يحسن القياس على ما ذكر فيه؛ لأن أبا غسحاق المروزي حكى عن الشافعي- رضي الله عنه أنه ذكر وجوهاً فيما يحتمله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم للملتقط بمعرفة الوعاء والوكاء:

أحدها: التنبيه على حفظها؛ فإن العادة أن من التقط لقطة يرمي وعاءها ووكاءها لقلته واستحقاره، فأمره بحفظهما؛ لأنهما مال الغير فلا يجوز تضييعه وإن قل.

والثاني: أن يكون تنبيهاً على حفظ ما في الوعاء من طريق الأولى.

والثالث: أن يكون أمره به؛ حتى يميزها إن اختلطت.

ص: 424

والرابع: أن يكون أمره به؛ حتى يذكره في تعريفه.

والخامس: أن يكون أمره به؛ حتى إذا جاء من أعطى صفتها علم أنه صادق في صفاتها، فإن غلب على ظنه صدقه جاز أن يدفعها إليه، وإن كان لا يجب.

وإذا كانت هذه الاحتمالات قائمة لم يحسن القياس على أحدها إلا أن يدل عليه دليل.

واعلم أن المعرفة بالقدرة تارة تكون بالوزن إن كان مما يوزن، وتارة بالعدد إن كان مما جرى العادة بعده.

قال القاضي أبو الطيب: إلا أن يكثر بحيث لا يعرف مثله في العادة.

تنبيه: قول الشيخ: "ثم ليعرف" هو بفتح الياء وإسكان العين، أي: ليتعرفه فيعرفه.

والوعاء، والوكاء: ممدودان بكسر الواو فيهما، والوكاء: الخيط الذي يشد به الصرة [وغيرها].

والعفاص- بكسر العين- قال الخطابي: أصله الجلد الذي يلبس رأس القارورة، وأطلق- كما قاله الأزهري- على الوعاء على طريق التوسع؛ لأنها كالوعاء، والجمهور على أن العفاص: الوعاء، وهو ما حكاه في "المهذب"، وعليه يدل كلام الشافعي الذي حكيناه عن رواية أبي إسحاق من قبل، وكلاهما صحيح، لكن الأول بكلام الشيخ هنا أنسب؛ لأنه ذكر الوعاء معه.

والصمام الذي تسد به رأس القارورة من خشب أو خرقة.

قال: ويستحب أن يشهد عليها احتياطاً وتبرئةً لغرضه؛ فإنه إذا لم يشهد، اتهم في أنه إنما فعل ذلك؛ لينتفع بها، ولا يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به في خبر زيد بن خالد، ولو كان واجباً لبينه؛ لأن ذلك وقت البيان، ولأن كل مال يجوز لواجد تناوله [فلا يلزمه الإشهاد عليه؛ كالركاز، وهذا ظاهر ما نص عليه الشافعي في "الأم" كما حكاه القاضي أبو الطيب وصححه.

وقيل: يجب، وهو ظاهر ما نقله المزني، واختاره في "المرشد"، لما روى النسائي عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ الْتَقَطَ لُقَطَةً،

ص: 425

فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهَا ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلَا يَكْتُمْهَا، وَلا يُغَيِّرْهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا، وَإِلا فَمَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ مَنْ أَخَذَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهَا ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، وَلا يَكْتُمْ وَلا يُغَيِّرْ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِيءْ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ".

والقائلون بالأول حملوا هذا على الاستحباب؛ لأنه لو كان واجباً لما خير بين الواةحد والاثنين.

ثم إذا قلنا بالوجوب ففي كيفيته وجهان:

أحدهما: يشهد أنه وجد لقطة، ولا يعلم بالعفاص ولا غيره؛ كي لا ينتشر فيتوسل الكاذب إلى أخذها إما بالوصف إذا اكتفينا به، أو بأن يواطئ الشهور إن أحوجناه إلى البينة. وهذا أصح عند صاحب "التهذيب"، لكنه قال: ويجوز أن يذكر جنسها.

والثاني: أن يشهد على صفاتها؛ حتى لو مات لم يتصرف فيها الوارث.

وأشار الإمام إلى التوسط بين الوجهين، وأنه لا يستوعب الصفات، ولكن يذكر عبضها؛ ليكون في الإشهاد فائدة. فلو ذكر تمام الوصف، قال: لم نر الأمر ينتهي إلى التحريم. وإذا ترك الإشهاد على القول بوجوبه دخلت في ضمانه، قاله القاضي. ولا خلاف في أنه لا تجب الكتابة عليها، بل يستحب.

قال: وإن أراد حفظها على صاحبها لم يلزمه التعريف؛ لأن التعريف للملك وهو لم يرده، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ

ص: 426

عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا [وَإِلَّا] فَشَانَكَ بِهَا"؛ فألزمه التعريف لما جعلها له بعده، وهذا ما أورده الأكثرون، وحكى الإمام ومن تابعه وجهاً جعلوه الأظهر: أنه يلزمه التعريف، وعلى ذلك جرى البغوي، وظاهر كلام الماوردي يقتضي الجزم به؛ فإنه جعل إيجاب التعريف مجزوماً به من غير تفصيل، وحكى الخلاف في وجوب الإشهاد، وقد يستدل له بما روى النسائي عن عياض من قوله: "وَلَا تَكْتُمْ".

فعلى الصحيح: إذا عرف، كان متبرعاً؛ فلو لزمته مؤنة بسبب التعريف، لم يرجع بها.

وعلى الثاني: لا يلزمه المؤنة؛ بل يرفع الأمر إلى الحاكم، ليبذل أجرة التعريف من بيت المال، أو يستقرض على المالك، أو يأمر الملتقط به ليرجع كما في هرب الجمال.

[و] في "الحاوي": أنه إذا قدر على استئذان الحاكم فلم يستأذنه وأشهد، فهل يرجع؟ فيه وجهان. ولو لم يأت به ضمن، حتى لو ابتدأ بالتعريف بعد ذلك فهلك في سنة التعريف ضمن.

قال: "وإن أراد أن يتملكها، عرفها سنة"؛ لخبر زيد بن خالد، والمعنى فيه: أن السنة لا تتأخر عنها القوافل، وتمضي فيها الأزمان التي يقصد فيها من الحر والبرد والاعتدال، وفي هذه الحالة إذا احتاج إلى مؤنة بسبب التعريف كانت على الملتقط؛ لأنه سببه إلى تملكه، صرح بذلك القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما.

ومنهم من قال: إن اتصل الملك بالتعريف فالأمر كذلك، فإن لم يتصل به بأن ظهر المالك فهل يكون على الملتقط أو على المالك؟ فيه وجهان، أظهرهما: الثاني.

قال الرافعي: وهما جاريان فيما لو عرف لقصد الأمانة أبداً ثم عن له أن يتملك فتملك، وحاصلهما يرجع إلى أن المعتبر حال التعريف، أو حال انتهاء الأمر؟ ومحلهما في الصورة الأخيرة يظهر أن يكون إذا قلنا بوجوب التعريف عند

ص: 427

الالتقاط، أما إذا قلنا باستحبابه فقد حكى في موضع آخر: أنه إذا عرف، ثم بدا له قصد التملك عرفها سنة من يومئذ، ولا يعتد بما عرف من قل، على أنه سيأتي خلاف عن الأصحاب فيما إذا أخذ ما لا يمتنع من صغار السباع للحفظ، ثم عن له أن يتملكه: هل يجوز ذلك؟ ولا يبعد مجيء ذلك هاهنا، وإذا أوجبنا التعريف فهل تجب المبادرة إليه؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ لأن العثور على المالك في ابتداء الضلال أقرب، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، فإن أخره على هذا من غير عذر ضمن، وإن كان ثم عذر- كما إذا خاف إن عرفها أخذها السلطان منه ظلماً وطالبه بأكثر منها- فلا يجوز له التعريف؛ بل يحفظها على صاحبها أبداً.

والثاني: لا، وهو الأشبه بكلام الأكثرين، وعليه قال الإمام: لو تمادى التأخير، وأمكن أن يقال: نسيت اللقطة في طول هذا الزمان، فهل ينفع التعريف بعد ذلك؟ فيه وجهان. ومن يصير إلى التعريف يقول: حق المعرف أن يؤرخ وجدان اللقطة في تعريفه، ويسنده إلى الوقت الذي لقيت فيه. وقد تساهل بعض الأصحاب في اشتراط ذلك، ورآه من باب الأولى، وجوز الاقتصار على التعريف المطلق.

قال: "على أبواب المساجد" أي عند خروج الناس منها، خصوصاً يوم الجمعة "والأسواق، وفي الموضع الذي وجدها فيه" أي: إن كان في عمران، وكذا يعرفها في مثل الوقت الذي وجدها فيه، إذا كان في يوم جمعة في الجامع- كما قال الفوراني- لأن ذلك أقرب إلى وجود ربها، ولا يعرف في المسجد؛ كما لا يطلب الضالة فيه، قال الشاشي في "المعتمد": إلا أن أصح الوجهين جواز التعريف في المسجد الحرام.

ولو كان الالتقاط في الصحراء فعن أبي إسحاق: أنه إن اجتازت به قافلة تبعها وعرف فيها، وإلا عرف في البلدة التي يقصدها، فإن بدا له الرجوع عرف عند الوصول إلى مقصده، ولا يكلف أن يغير قصده ويعدل إلى أقرب البلاد إلى ذلك الموضع- كما حكاه الإمام والغزالي- والذي ذكره الماوردي والمتولي وغيرهما: أنه يعدل ويعرف في أقرب البلاد إليها. وليس للملتقط تسليم المال إلى الذي يعرفه إلا بإذن الحاكم، فإن فعل ضمن، اللهم إلا أن يعرض له سفر؛ فيكون

ص: 428

الحكم كما في الوديعة.

وفي "تعليق القاضي الحسين" و"الإبانة" وكتاب المسعود: أنه إذا دفع اللقطة للقاضي ليعرفها أو يأمر غيره ليعرفها، جاز، ولو دفع لغير القاضي ففيه وجهان، وجه الجواز: أن الشرع جعله ولياً في اللقطة؛ فصار تصرفه [فيها] كتصرف الأب في مال الابن.

ولو دفع اللقطة للحاكم، وترك التعريف والتملك، ثم ندم وأراد أن يعرف ويتملك، ففي تمكنه وجهان حكاهما ابن كج.

قال: "ويقول: من ضاع منه شيء، أو: من ضاع منه دنانير"، هذه الصيغة صريحة في التخيير بين الأمرين، وقد صرح به الماوردي والبندنيجي والفوراني، ويحتمل أن يكون فيها إشارة إلى وجهين ذكرهما الأصحاب فيما يجب ذكره في التعريف: فمنهم من قال: لا يجب ذكر شيء أصلاً؛ بل يستحب ذكر بعض الأوصاف. [ومنهم من قال: يجب ذكر بعض الأوصاف]، ويكفي فيه ذكر الجنس، وحينئذ فيكون قول كلام الشيخ:"فيقول: من ضاع منه شيئ" إشارة إلى الوجه الأول، وهو الأظهر من كلام الأصحاب، وبه جزم القاضي الحسين، وقوله:"او من ضاع منه دنانير" إشارة إلى الوجه الثاني، وهو الذي ذكره القاضي أبو الطيب.

وقال الإمام: عندي أنه لا يكفي ذكر الجنس، ولكن يتعرض للعفاص والوكاء ومكان الالتقاط وتاريخه، ولا يستوعب الصفات، ولا يبالغ فيها بالاتفاق؛ كي لا يعتمدها الكاذب، فإن فعل، ففي صيروروته ضامناً وجهان، وأجراهما في "المهذب" فيما لو ذكر النوع، والقدر، والعفاص، والوكاء، واختار في "المرشد" منهما الضمان، والله أعلم.

قال: "وقيل: إن كان قليلاً كفاه أن يعرفه في الحال، ثم يملكه" هذا قول الإصطخري، ووجهه: ما روي أن عمر- رضي الله عنه رأى جراباً فيه سويق تطؤه الإبل، فأخذه، فعرفه، فلم يعرفه أحد، فأمر بقدرح، فشرب منه، وسقى أصحابه، وقال:"هذا خير من أن تطأه الإبل" ولم ينكر عليه أحد، ولأن الشيء

ص: 429

الحقير لا يدوم صاحبه على طلبه سنة، بخلاف الخطير.

قال الرافعي: وهذا أشبه باختيار المعظم.

وقيل: لا يعرف القليل، وهو قول أبي علي في "الإفصاح"؛ لما روي عن جابر أنه قال:"رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْطِ وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِ يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ".

وحكى الخراسانيون وجهين آخرين:

أحدهما: أنه يعرفه ثلاثة أيام؛ لما روى عبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري: أن عليا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [بدينار] وجده في السوق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"عَرِّفْهُ ثَلاثاً" ففعل فلم يجد أحداً يعرفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:[كُلْهُ]، أَوْ شَانُكُمْ بِهِ".

الثاني: أنه يعرفه مدة يتصور رجوع المالك في مثلها في طلب الضائع، وذلك يختلف باختلاف قدر المال.

قال القاضي الروياني: فدانق الفضة يعرف في الحال، ودانق الذهب يعرف يوماً، أو يومين، أو ثلاثة، وهذا ما جعله الرافعي أظهر.

قال: "وقدر القليل بالدينار"؛ لما روى أبو داود بسنده في حديث مطول: أن علي بن أبي طالب وجد ديناراً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابته ضائقة، فرهنه من قصاب على درهم فأخذه به لحماً، ولم يعرفه، ثم جاء رجل ينشده؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي إلى الجزار ويقول له: قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادفع الدينار إلى هذا، وعلي ضمان الدرهم.

ص: 430

قال القاضي أبو الطيب: يحتمل أن يكون علي لم يعرفه؛ لاضطراره إليه، والمضطر يجوز له الانتفاع بمال الغير من غير إذنه، وكأنه لم يقف على صدر الحديث؛ فإن فيه أن الرهن وقع بعد [أن] حصل له دقيق، وذلك ينفي الاضطرار.

قال: وقدر بالدراهم؛ لأن ما دون الدرهم لا يجب تعريفه؛ لقول عائشة- رضي الله عنها: "لَا بَاسَ بِمَا دُونَ الدِّرْهَمِ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ".

قال: "وقدر بما لا يقطع فيه السارق"؛ لأنه تافه، قالت عائشة- رضي الله عنها:"مَا كَانَتِ الأَيْدِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُقْطَعُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ"، وقد اختار هذا الوجه صاحب "المرشد".

وحكى القاضي الحسين في "تعليقه" الأوجه الثلاثة على النعت الذي ذكره الشيخ، ثم قال: والصحيح: أن كل ما لو ضاع عنه يحزن عليه [في العرف] ويتأسف في العادة عليه، إذا ضاع فهو [كثير، وما لا يحزن عليه إذا ضاع فهو] قليل، والدرهم فما فوقه كثير.

وإذا جمعت ما قيل في حد القليل كان خمسة أوجه.

قال: وظاهر المذهب: أنه لا فرق بين القليل والكثير؛ [لعموم الأخبار، ولأن اللقطة جهة من جهات التملك؛ فاستوى فيها القليل والكثير] كالابتياع، وهذا أظهر عند العراقيين، وأصح في "تعليق" القاضي الحسين، ومجزوم به في "الحاوي".

وكل هذا إذا لم يبلغ في القلة إلى حد تسقط معه القيمة، أما إذا بلغ كالتمرة والزبيبة، فلا يجب تعريفها بحال، وأبدى الرافعي احتمالاً في منع التقاطها؛ بناء على عدم ضمانها، ومنع التقاط ما لا يضمن بدله: كالكلب، كما سنذكره.

ص: 431

وحكى الماوردي وجهين في إيجاب تعريف ما له قيمة، إلا أنه لا تتبعه نفس صاحبه، ولا يطلبه إن ضاع منه: كالرغيف، والدانق من الفضة.

وقد حكى ابن الصباغ- أيضاً- وجه عدم وجوب التعريف، وجزم به، لكنه لم يمثل.

والتقاط السنابل وقت الحصاد، قال المتولي: إن أذن مالك الزرع فيها، أو كانت بحيث يشق على المالك لو علم بها أن يلتقطها، حل التقاطها، وإلا لم يحل، قاله المتولي.

واعلم أن التعريف تدخله النيابة، لكن لا يعرف من جرت عادته بالخلاعة والمجون، فإن فعل لم يعتد به.

قال: "ويجوز التعريف في سنة متفرقة" أي: مثل أن يعرفها في شهر من كل سنة، أو أكثر إلى أن تكمل سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق السنة؛ فاحتمل التوالي، واحتمل التفريق، وكان كما لو نذر صيام سنة؛ فإن له تفريقها أو موالاتها.

"وقيل: لا يجوز"؛ لأن القصد من التعريف [أن] يبلغ صاحبها، ويقف على خبر ماله، وإذا فرقها لم يحصل له المقصود بذلك، وهذا ما أورده الإمام، وقال في "التجريد": إنه المذهب.

فعلى هذا: ليس من شرط الموالاة أن يعرف الأيام والليالي في جميع السنة؛ بل المعتبر أن يعرف بالنهار دون الليل، ولا يشترط- أيضاً- استيعاب النهار؛ بل يعرف بالابتداء في كل يوم مرتين في طرفي النهار، وفي أوقات الصلاة على أبواب المساجد، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرة أو مرتين، ثم في كل شهر بحيث لا ينسى أنه تكرار لما مضى، ولو قطع الموالاة الواجبة، لم يعتد بذلك التعريف السابق، وعليه الاستئناف، وهل يصير ضامناً؟ فيه الخلاف السابق المبني على أن المبادرة إلى التعريف هل تجب أم لا؟

قال: "والأول أظهر"، وهو الذي صححه القاضي الحسين والفوراني في "الإبانة".

وقال البندنيجي: إنه المذهب، وبه أجاب الروياني؛ لما ذكرناه.

ص: 432

فإن قيل: قد روى البخاري في خبر أبي بن كعب الذي تقدم، أنه أمره بتعريفها ثلاثة أحوال؛ [فلم لا جريتم على ذلك؟.

قيل: لأن البخاري روى عن سعيد من طريق آخر أنه قال: "فَلَقِيْتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلاً وَاحِداً".

وفي مسلم في بعض طرقه: قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاماً واحداً.

وإذا اختلفت الطرق عمل بالمتفق عليه وهو الحول.

ولأن المسلمين- كما قال ابن المنذر- أجمعوا على أنه لا يجب تعريفها ثلاثة أحوال، وإنما يجب حولاً واحداً.

قال: "وإذا عرف" أي: بعد قصد التملك، ولم يجد المالك، "واختار التملك، ملك"؛ لحديث زيت بن خالد؛ فإنه جعل فيه التملك إلى اختياره بقوله: "فَشَانَكَ بِهَا"، ولأنه تمليك مال ببدل، فتوقف على الاختيار؛ كالبيع، ولا فرق في ذلك بين الغني والفقير؛ لقصة أبي بن كعب وغيره.

وقيل: يدخل في ملكه بالتعريف، أي: بانقضاء التعريف، [سواء اختار التملك بعد الحول أو سخطه وكان قد قصد عند الأخذ التملك بعد التعريف]، كما ذكرنا.

ووجهه: ما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن اللقطة؛ فقال: "مَا كَانَ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَيْتَاءِ أَوِ الْقَرْيَةِ الْجَامِعَةِ فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِيءْ فَهِيَ لَكَ". فجعلها له، ولم يعتبر اختياره.

والطريق الميتاء: الطريق المسلوك القديمة، سميت بذلك؛ لإتيان الناس

ص: 433

فيها. وروى: "في طريق مأتي"[سميت به]، لإتيان الناس إليها.

ولأن التعريف سبب التملك، فإذا حصل سبب الملك، تبعه الملك؛ كالاحتطاب والاحتشاش، وهذا ظاهر النص في "المختصر"، ونسبه الماوردي إلى قول أبي حفص بن الوكيل.

قال مجلي: ومنه من اشتراط على هذا القول ألا يتغير قصد التملك إلى انقضاء المدة.

والصحيح الذي عليه عامة الأصحاب في الأصل: الأول.

وعلى هذا: فبم يحصل الاختيار؟ فيه خمسة أوجه:

أصحها: بالقول، وهو: أن يملكها، وما أشبهه؛ كما في البيع.

والثاني: بالقول والتصرف؛ تخريجاً من القرض؛ فإن التصرف في اللقطة بالاستقراض، وعلى هذا قال الرافعي: فيشبه أن يجيء الخلاف المذكور في القرض في أن الملك بأي نوع من التصرف يحصل؟

والثالث: بتجديد قصد التملك، ولا حاجة إلى لفظ ولا تصرف؛ لأن اللفظ إنما يعتبر حيث يكون هناك إيجاب.

وهذه الأوجه لم يذكر القاضي أبو الطيب وكثيرون سواها.

والرابع: بالنية والتصرف، حكاه الماوردي.

والخامس: بمجرد التصرف فيه، حكاه في "الحلية".

وإذا حصل الملك، قال البندنيجي: كانت قرضاً عليه يثبت بدلها في ذمته.

وحكى أبو الطيب الساوي في "الزيادات على الشرح": أن أبا إسحاق سئل عن ذلك، فقال: يملكها بغير بدل، ولكن إذا جاء صاحبها وجب عليه الضمان حين الطلب؛ لأنه لو ثبت بدلها في ذمته لعزل ذلك عن تركته كالدين ورد عليه فيه.

قال: وإن هلك قبل أن يملك لم يضمن؛ لأنها محفوظة لصاحبها، ولم يفرط فيها؛ فلم يضمنها كالوديعة، ولا فرق في ذلك بين ما قبل إتمام الحول بالتعريف أو بعده إذا اعتبرنا [اختيار] التملك ولم يوجد، كما صرح به ابن

ص: 434

الصباغ وأبو الطيب والبندنيجي، ووافق ذلك الغزالي إذا كان التلف قبل تمام الحول، وجزم [به] فيما إذا تلف بعده، وقبل التملك بالضمان إذا كان عزم التملك مطرداً؛ لأنه صار ممسكاً لنفسه فأشبه المستام. وإن هلكت بعد اختيار التملك، وقلنا: لا بد [معه] من التصرف- فلا شك أنها تكون من ضمانه، وإن لم يوجد التملك؛ كالمقرض. قال:"وإن هلك بعد ما ملك ضمن، خلافاً للكرابيسي من أصحابنا؛ فإنه قال: لا يضمن؛ لأنه مال لا يعرف مالكه، فإذا ملكه لم يلزمه ضمانه؛ كالركاز".

ودليلنا عليه: ما روى أبو داود في حديث زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ كُلْهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ"، فأمره بالأداء إذا جاء صاحبها بعد الأكل، وما ضمن بالإتلاف بعد الحكم بالملك ضمن بالتلف في اليد؛ كالمبيع بعد القبض، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً بالغرم، فلما عجز به غرمه عنه ولأن مقصود اللقطة حفظها على مالكها، وفي إسقاط الغرم استهلاك لها، ويخالف الركاز؛ فإن المقصود منه ليس الحفظ، بدليل أنه لم يجب تعريفه فصار كسباً محضاً.

فعلى هذا: إن كانت من ذوات الأمثال ضمنها بالمثل، وإلا فبالقيمة وقت حصول الملك، فلو اختلفا في قدرها فالقول قول المتملك؛ لأنه غارم، كذا قاله الماوردي وغيره.

وقضية ما حكيناه من أن ملك اللقطة كملك المقترض: يكون الواجب فيما له مثل صورى، [رد] المثل الصوري على الأصح؛ كما في القرض، وفي "الجيلي": أنا إذا ضمناه القيمة فأي قيمة تعتبر؟ فيه وجهان؛ كالصداق في يد الزوج يضمن فيه وقت التلف أو أكثر ما كانت من وقت القبض إلى التلف، وهذا

ص: 435

رأيته في "الحاوي" هكذا، لكن فيما إذا أخذ ما لا يمتنع من صغار السباع، واختار تملكه في الحال، والفرق بين المسألتين ظاهر.

وفي "رفع التمويه" أن القيمة بأي وقت تعتبر؟ فيه وجهان:

أحدهما: يوم يطالب بها صاحبها.

والثاني: يوم ملكها؛ كالقرض.

وكأن الوجه الأول مفرع على ما حكاه أبو الطيب الساوي عن أبي إسحاق.

ولو لم تتلف، لكنها تعيبت استرجعها مالكها، وغرم الملتقط أرش النقصان.

ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار بين أن يأخذها ويطالبه بأرش النقصان، وبين أن يدعها ويطالبه بجميع بدلها.

قال القاضي أبو الطيب: وهذا غلط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله أحق بها بكل حال.

وفي "الشامل": أن القاضي في "المجرد" حكى وجهاً: أنه يقنع بها، ولا يغرمه الأرش؛ لأن النقصان كان ملكه.

وقال في "التهذيب": صاحبها بالخيار: إن شاء رجع بها ولا أرش له، وإن شاء أخذ بدلها سالمة.

فرعان:

أحدهما: لو أخذ اللقطة على قصد الخيانة [والإحراز] كان ضامناً، فلو عرف ذلك وأراد التملك فجواب أكثرهم- وبه قطع الشيخ أبو محمد-: أنه لا يمكن منه.

وعن رواية الشيخ أبي علي وجهان، وجه التملك: وجود صورة الالتقاط والتعريف.

الثاني: لو أخذ على قصد الأمانة في الابتداء، ثم قصد الخيانة فأصح الوجهين: أنه لا يصير ضامناً بمجرد القصد؛ كالمودع. ووجه الثاني: أن سبب أمانته مجرد نيته، وإلا فأخذ مال الغير بغير إذنه ورضاه مما يقتضي الضمان، بخلاف المودع؛ فإنه مسلط مؤتمن من جهة المالك.

ص: 436

فعلى هذا: لو أقلع وأراد أن يعرف ثم يتملك فوجهان، أصحهما في "التهذيب": الجواز، وإيراد الغزالي يشعر بخلافه، وهما جاريان فيما لو طرأت خيانة في الدوام ثم أقلع وأراد التعريف.

قال: وإن جاء [صاحبها] قبل التملك أخذها مع زيادتها، وإن جاء صاحبها بعد التملك أخذها مع الزيادة المتصلة دون الزيادة المنفصلة؛ كما إذا رد [إليه] المبيع بالفسخ لعيب في الثمن، ومؤنة الرد في هذه الحالة على الملتقط.

وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أن له إمساك العين ورد بدلها كما قيل به في القرض.

وعن الكرابيسي: أنه يمسك العين، ولا يرد بدلها؛ استدلالاً بقوله- عليه السلام:"فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَانَكَ بِهَا" وروي: "وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ" ولم يأمره برد شيء، والصحيح الأول.

فرع: إذا باع الملتقط العين، ثم جاء مالكها في زمن الخيار، ففي انفساخ العقد تفريعاً على الصحيح وجهان ردهما ابن كج إلى أنه هل يجبر الملتقط على الفسخ أم لا؟

قال: "وإن جاء من يدعيها ووصفها، وغلب على ظنه صدقه، جاز أن يدفع إليه"؛ لأن الظاهر صدقه، ولا يلزمه إلا ببينة"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، ولأن صفة المطلوب من تمام الدعوى؛ فلم يجز أن تكون بنية الطالب، ولأنه مال الغير؛ فلم يجز تسليمه بالوصف؛ كالوديعة إذا أشكل من دفعها إليه، وهذا ما ذكره عامة الأصحاب في كتبهم، ومنهم القاضي الحسين.

ص: 437

وقال الإمام: ذهب طوائف من أئمتنا إلى وجوب الدفع بالوصف، وهو اختيار الشيخ أبي حامد فيما أظن.

ووجهه غيره: بأن إقامة البينة على اللقطة قد تعز، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَ عِفَاصَهَا، وَعَدَدَهَا، فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ".

ولو وصفها ولم يغلب على الظن صدقه فلا يجب الدفع إليه اتفاقاً، وهل يجوز؟

المشهور: لا. وحكى الإمام تردداً فيهز

ولا خلاف أنه يجب الدفع عند إقامة البينة، وهي شاهدان، أو رجل وامرأتان، أو شاهد ويمين. ولا يكفي إخبار البينة للملتقط [بذلك]، وقيل: يكفي. وعلى هذا: فهل يشترط العدد أم يكفي الواحد؟ فيه وجهان في "الذخائر"، وهما من احتمالات الإمام، وكذلك وجه الاكتفاء بسماع الملتقط ذلك من شاهدين، والمنقول عن الأصحاب- كما قال الإمام-: أنه لا بد من الحاكم، ولا يكفي الواحد من غير يمين.

فرع: إذا دفع إليه بالوصف، ثم قامت بينة بأنها لغير الآخذ، نظر: إن كان الدفع بأمر الحاكم [و] رأى ذلك، والمدفوع عين اللقطة، فلا ضمان على الدافع. وإن كان المدفوع بدلها، أو عينها بغير إذن الحاكم، وقد تلفت، غرم، وله الرجوع على القابض إن لم يعترف بأنها له بأن قال: غلب على ظني أنها لك. وإن كان قد أقر بأنها له لم يرجع عليه، ولمن أقام البينة مطالبة الآخذ إن كان قد قبض عين ماله بكل حال.

فرع: إذا أقام المدعي شاهدين عدلين عنده وعند الملتقط، وهما فاسقان عند الحاكم، فعن القاضي الحسين وجهان في أن القاضي هل يلزمه الدفع

ص: 438

لاعترافهما [بالعدالة]؟ والصحيح: المنع.

فرع: إذا عرف الملتقط صاحب اللقطة فعليه الرد عند التمكن، وإن لم يطالب على أظهر الوجهين، حكاه الرافعي في كتاب الوديعة.

قال: "وإن وجد اللقطة في الحرم لم يجز أن يلتقطها إلا للحفظ على ظاهر المذهب"؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مكة: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ: لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا".

وروي: "وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ".

أحدهما- وهو قول أبي عبيد-: أنه صاحبها الطالب لها، والناشد هو الواجد المعرف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا تَحِلُّ لِمَنْ يَتَمَلَّكُهَا، إِلَّا صَاحِبَهَا الَّتِي هِيَ لَهُ".

و [التأويل] الثاين- وهو قول الشافعي-: أن المنشد: الواجد المعرف، والناشد هو المالك الطالب، روى أنه- عليه السلام سمع رجلاً ينشد في المسجد فقال:"أَيُّهَا النَّاشِد، غَيْرُكَ الْوَاجِد! " معناه: لا وجدت؛ كأنه دعا عليه.

فعلى هذا معنى قوله: " وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ". أي: لمعرف عزم [على] تعريفها، ولا يتملكها.

قال: وقيل يجوز أن يلتقطها للتملك؛ لأن الالتقاط نوع كسب فاستوى فيه الحل والحرم؛ قياساً على سائر أنواع الكسب، والمراد من الخبر: أنه لا بد من تعريفها كسائر البلاد؛ كي لا يتوهم أن تعريفها في الموسم كان لكثرة الناس، وبعد العود في طلبها من الآفاق.

ص: 439

وقيل: فائدة التعريف على هذا: إيجاب التعريف في لقطة الحرم، وعدم إيجابه في لقطة غيره، والقائلون بالأول أبطلوا القياس بالاصطياد؛ لأنه نوع كسب، ولا يجوز في الحرم، وعلى هذا: هل يجوز لقطة عرفة ومصلى إبراهيم؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وجه المنع- وإن كانا من الحل-: أن ذلك مجتمع الحاج ومنصرف النقار منه في سائر البلاد كالحرم.

قال: "وإن كان الواجد عبداً" أي: لم يأذن له السيد في الالتقاط "ففيه قولان:

أحدهما: يجوز التقاطه"؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهَا ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ"، ولأنه سبب للتمليك يصح من المجنون والصبي؛ فصح من العبد كالاحتطاب والصيد، وقد أشار الشافعي إلى هذا في الرهن الصغير من "الأم" كما حكاه البندنيجي بقوله: لأنها جهة من جهات الكسب؛ كالصيد. وقد نقل المزني هذا القول عما وضعه بخطه، ثم قال: ولا أعلمه سمع منه.

قال: ويملكها السيد بعد الحول إما بتعريفه أو بتعريف العبد.

هذا اللفظ يفهم أن الشيخ فرع على أن الملك [يحصل] بانقضاء التعريف فقط، كما صرح به في "المهذب"، وذكره بعض شارحي هذا الكتاب، وقد يقال: إن المراد به بيان أمرين يختصان بهذه المسألة:

أحدهما: بيان أن العبد يعتبر تعريفه كما اعتبر التقاطه على هذا القول، وإن كان بغير إذن السيد؛ لأن من صح منه الالتقاط- وهو صحيح العبارة- اعتد بتعريفه كالحر.

وفيه وجه: أنه لا يعتد به بدون الإذن.

الثاني: أن السيد يعتبر تعريفه- أيضاً- وإن لم يكن [ملتقطاً؛ لأن] الثمرة تحصل له، ويد عبده الملتقط كيده، ويكون قصده بذلك التنبيه على مخالفة هذا

ص: 440

حكم الهبة؛ حيث لو وهب للعبد فقبل السيد لا يصح، وكونه جعل الملك مسبباً عن التعريف لا يدل على عدم اعتبار اختيار التملك؛ لأن التعريف سبب في الملك قطعاً.

وإن قلنا: بأن الملك يتوقف على الاختيار؛ كقولنا: إن الملك في المبيع لا يحصل إلا بانقضاء الخيار، لا يخرج العقد عن أن يكون سبباً فيه، وقد ادعى الغزالي الإجماع عليه. وحينئذ فنقول: إن فرعنا على توقف الملك على الاختيار، فاختار السيد التملك بعد الحول، ملك لا محالة، لأنها من اكتساب عبده، وكذا إذا أذن للعبد فيه، ففعله، ويكون الضمان على السيد في هذه الحالة، وإن لم يختره، فتملكه العبد لنفسه، قال المارودي: صح، و [كان] للسيد انتزاعها منه، والبدل في ذمة العبد كما في القرض.

وقال الجمهور: لا يصح؛ لأنه ليس بأهل لأن يملك من جهة غير سيده، فإن تصرف فيها بعد ذلك، ضمن، لكن في ذمته أو رقبته؟ فيه وجان في "المهذب":

وجه الأول- وهو الذي أجاب به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، والبندنيجي، والشيخ أبو محمد في "الفروق"، وحكى القاضي الحسين: أنه المنصوص عليه في "المختصر"-: التشبيه بالقرض الفاسد؛ فإن ذلك وجد في وقت التملك.

ومقابله: هو الذي صححه القاضي الحسين، وكلام ابن الصباغ مصرح بوجوب الضمان بعد التلمك، وإن لم يوجد تصرف.

ولو تملكه العبد لسيده بغير إذنه ففي حصول الملك [للسيد] طريقان أشار إليهما الإمام:

أحدهما: أنه على الوجهين في أنه يصح اتهابه بدون إذن السيد، أو على القولين في شرائه بغير إذن السيد.

والثاني: القطع بالمنع، بخلاف الهبة؛ فإنها لا تقتضي عوضاً، بخلاف الشراء،

ص: 441

فإن الثمن لو صح تعلق بذمة العبد، وهنا يبعد [ألا يطالب مالك اللقطة السيد؛ لأنه لم يرض بذمة العبد، وهذا هو الأصح، وإن ثبت الخلاف].

وإن فرعنا على أن الملك يحصل بانقضاء التعريف، [فإن قلنا: عند اختيار العبد التملك للسيد يحصل له الملك، فكذلك هنا يحصل بانقضاء التعريف]، وإلا ففيه احتمالان للإمام:

أحدهما: أن التعريف لا يصح بدون الإذن.

والثاني: يصح، ولا يحصل بسببه الملك؛ كما لا يثبت إذا عري من قصد الحفظ ابتداءً.

وحكم العين في يد العبد قبل انقضاء الحول إذا كان أميناً حكم الحر، سواء علم به السيد [فأقره أو] لم [يتعرض] له، فإن تلفت من غير تفريط فلا ضمان، وإن أخر التعريف ففي الضمان الوجهان؛ ولو أتلفه ضمنه في رقبته عند الجمهور. وعن أبي إسحاق والقاضي أبي حامد: أن المسألة على قولين:

أحدهما هذا.

والثاني: التعلق بالذمة؛ لأنا إذا جوزنا الالتقاط، وكان المال حصل في يده برضا صاحبه، وإن كان خائناً، وأذن له السيد في استمرار يده، ضمن؛ كما لو أخذها منه ثم سلمها إليه، ولو علم بها وأهمل أمره فهل يضمنها السيد؟ قال القاضي أبو الطيب: الحكم فيه مبني على القولين في نظير المسألة؛ تفريعاً على القول الثاني: فيجيء فيه وجهان:

أحدهما يضمن.

والثاني: لا يضمن.

ومقتضى كلامه أن العبد يتعلق الضمان برقبته بكل حال، كما سيأتي في الحالة الثانية، وهو مشكل؛ لما سيأتي أن الفاسق إذا صححنا التقاطه لا يضمن العين إلا إذا تعدى فيها.

ص: 442

وقول القاضي الحسين: إذا أذن له السيد في الإمساك فأتلفها العبد تعلق الضمان برقبته، وإن تلفت في رقبته فالضمان في مال اسيد مفهم أن الضمان لا يتعلق برقبته إذا لم يتلفها، وحكمها بعد انقضاء الحول عند أمانة العبد وتملكه بإذن السيد لا يخفى. وإن أذن له ولم يتملك ثم تلفت ففي تعلق الضمان بالسيد وجهان منقولان في "النهاية":

أظهرهما: التعلق؛ لأنه في سبب الضمان فصار كما لو أذن في استيام شيء فأخذه وتلف في يده.

والثاني: لا؛ كما لو أذن [له] في الغصب.

وعلى القولين يتعلق الضمان برقبة العبد عنده، وهذا بناء على أن العين بعد انقضاء الحول وقبل التلمك مضمونة، وقد حكيت عن العراقيين خلافه؛ فلا يتأتى عندهم هذا التفريع، ويكون حكمها كما قبل الحول.

قال: "والثاني: لا يجوز" التقاطه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عَرِّفْهَا سَنَةً؛ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَاتِ فَهِيَ لَكَ"، والعبد لا يصح أن يتملك؛ فدل على أن الخبر يتناول الأحرار دون العبيد؛ ولأن الالتقاط أمانة وولاية في الابتداء وتملك في الانتهاء، والعبد لا يملك ولا هو من أهل الولاية والأمانة، وهذا هو المنصوص في "الأم"، واختاره المزني وصاحب "المرشد" والجمهور، وفي بعض الشروح: أن ابن سريج قال: القولان مبنيان على أن العبد يملك، أما إذا قلنا: بأنه لا يملك، فليس له الالتقاط بحال.

قال الرافعي: وفي هذا نظر؛ من جهة أن القولين ليسا في [أن] العبد هل يملك مطلقاً، وإنما هما في أنه هل يملك من جهة السيد؟ ولا تمليك هنا من جهته.

قلت: [قد] يظهر أن مراد ابن سريج: الملك الواقع في ضمن الشراء بثمن

ص: 443

في ذمته وبالإقراض، لا في مطلق الملك، وعلى هذا فيستقيم البناء.

وعن صاحب "التقريب": أن محل القولين إذا نوى نفسه، أما إذا نوى سيده، قال: احتمل طرد القولين، واحتمل القطع بالصحة، والاحتمال الثاني هو المذكور في "الحاوي".

وعن القاضي ابن كج حكاية عن أبي إسحاق والقاضي أبي حامد: أن القولين فيما إذا نوى سيده، أما إذا قصد نفسه لم يكن له ذلك قولاً واحداً.

قال: "فإن تلفت في يده ضمنها في رقبته"[أي]: سواء كان بتفريط أو غيره؛ لأنه مال لزمه لا برضا مستحقه فتعلق برقبته؛ كأرش الجناية، ولا فرق فيه بين أن يعلم السيد بذلك فلا يتعرض له، أو لا يعلم.

نعم، وإن علم وأقرها في يده وكان أميناً، كما لو انتزعها من يده، وسنذكره. وإن كان خائناً ضمنها السيد، وهل يسقط ضمانها عن رقبة العبد؟ فيه وجهان في "الحاوي". وإن لم يتعرض له بعد العلم فهل يكون السيد ضامناً أيضاً؟ فيه اختلاف نقل عن الشافعي:

فالذي حكاه المزني عن "المختصر": المنع؛ كما لو رآه يتلف مالاً فلم يمنعه.

والذي رواه الربيع: التعلق.

وعكس الإمام والغزالي ذلك: فنسبا الأول إلى رواية الربيع، والثاني إلى رواية المزني. وقد اختلف الأصحاب في المسألة على أربعة طرق:

أحدها: أن المسألة على قولين:

أظهرهما عند الروياني وغيره: التعلق بالسيد أيضاً.

قال القاضي أبو الطيب: ومن يرى بهذا لا يسلم عدم وجوب الضمان فيما إذا رأى عبده يتلف شيئاً على غيره، فسكت عنه.

والطريق الثاني: القطع بما رواه المزني.

والطريق الثالث: القطع بما رواه الربيع، وبه قال أبو إسحاق، ونسب المزني إلى الغلط؛ فإنه كى في "الجامع الكبير" ما قاله الربيع، فأشعر بفعله هنا عن آخر الكلام.

ص: 444

والرابع- حكاه ابن أبي هريرة، وينسب إلى أبي علي الطبري-: أن ما رواه المزني محمول على ما إذا كان [العبد بالغاً مميزاً، وما رواه الربيع محمول على ما إذا كان] غير مميز لصبا أو لكونه أعجمياً.

قال: "وإن دفعها إلى السيد زال عنه الضمان" هذا اللفظ يقتضي أمرين:

أحدهما: جواز الأخذ للسي.

والثاني: براءة العبد بالأخذ.

وجه الأول- كما قاله الأصحاب-: أن يد العبد إذا لم تكن يد التقاط كان الحاصل في يده يعد ضائعاً لعدم ذمته في الحال؛ فجاز للسيد أخذه كما لو كان ملقى.

ووجه الثاني: أن العبد دفعها إلى نائب المالك، فإن كان أهلاً للالتقاط كأنه نائب عنه.

وبهذا خالفت هذه المسالة ما إذا غصب العبد شيئاً ثم انتزعه منه سيده؛ حيث لا يزول الضمان؛ لأنه غير مأذون له في ذلك. ثم ما حكم يد السيد بعد الأخذ؟ فيها ثلاثة أوجه:

المشهور منها- وهو الصحيح في "تعليق" القاضي الحسين وغيره-: أنها يد ملتقط فيعرفها، ويتملكها، ولا يعتد بتعريف العبد السابق إن اتفق، واستبعد الإمام هذا؛ لما في الأخذ على هذا الوجه من سقوط الضمان عن العبد، وتضرر المالك به.

والثاني: أنها يد أمانة، وليس له أن يتملكها بعد التعريف؛ لأنه غير الواجد، حكاه الماوردي.

والثالث- حكاه القاضي الحسين وغيره-: أنه لا يمسكها في يده، بل يدفعها إلى الحاكم.

فإن قلنا: بأنها يد التقاط، فلو أراد أجنبي أن يأخذها من يد العبد [ابتداء]،

ص: 445

جاز، وبرئ العبد كما أبداه ابن الصباغ احتمالاً، والإمام تخريجاً على قاعدة العراقيين، وحكاه الرافعي ولم يعزه، وجعل المتولي أخذ الأجنبي على الخلاف فيما لو تعلق صيد بشبكة إنسان، فجاء غيره وأخذه، وسيأتي من كلام الأصحاب ما يأبى ذلك.

وإن قلنا: إن يده يد موصل إلى الحاكم، فسلم للحاكم برئ العبد، وإن لم يصل إلى الحاكم: فإن تلفت في يد السيد بعد [التمكن من] الرد ضمن، وإن تلفت قبل التمكن من الرد لا يبرأ العبد، وهل يكون السيد طريقاً في الضمان؟ فيه وجهان؛ كذا حكاه المتولي في ولي الصبي، وقال: إن حكم العبد على هذا القول حكمه. وسلك الإمام طريقاً آخر فقال: إذا لم نجعل يد السيد يد التقاط ففي أخذه بنفسه وحفظه لمالكه وجهان مرتبان على أخذ الآحاد المغصوب للحفظ، [و] أولى بعدم الجواز؛ لأن السيد ساع لنفسه غير محتسب. ثم إذا جوزنا الأخذ ففي حصول البراءة وجهان مرتبان على الوجهين في براءة الغاصب إذا أخذ القاضي المال المغصوب منه، وأولى بألا يبرأ.

أما إذا كان العبد قد التقط بإذن سيده، بأن كان قد قال له: أي لقطة وجدتها فخذها، وأتنى بها، ففيه طريقان:

أحدهما: القطع بالصحة، وبه جزم الماوردي، وإليه ميل الإمام؛ كما لو أذن له في قبول الوديعة.

والثاني- عن ابن أبي هريرة-: طرد القولين؛ لما في اللقطة من معنى الولاية، والإذن لا يفيد أهليتها.

ولو أذن له في التجارة والاكتساب مطلقاً هل يدخل الالتقاط فيه؟ فيه وجهان. ولو كان السيد قد نهاه عن الالتقاط، فعن الإصطخري: القطع بالمنع، وعن سائر الأصحاب- كما قال الماوردي-: أنه على ما مضى من القولين.

فرع: قال الماوردي: لو التقط العبد، ثم أعتق قبل الحول فالصحيح: أنها

ص: 446

كسب للسيد؛ فله أن يتملكها.

وقال بعض أصحابنا: تكون كسباً للعبد؛ لأنها قبل التعريف أمانة، وبعد التعريف كسب. وبنى ابن الصباغ والبندنيجي الأول على أن العبد يصح التقاطه، والثاني على قول المنع، وغيرهما جعل الخلاف المذكور مع قولنا بالصحة، وقال: إذا لم يصح التقاطه، كان للسيد حق التملك إذا قلنا للسيد التملك- على هذا القول- لو كان قناً، وجواب المعظم: أنه ليس للسيد أخذها، وهل للعبد تملكها؟ فيه وجهان:

أظهرهما: نعم.

ومقابله: لا؛ فيتسملها الإمام وهذا يؤخذ مما تقدم.

والمعلق عتقه بصفة والمدبر كالعبد، وكذا أم الولد، وإنما تخالفهم فيما إذا قلنا: لا يلتقط العبد، فالتقطت، وهلك المال في يدها؛ فإن السيد يضمنه، سواء علم بالتقاطها أو لم يعلم- على المذهب- لكن هل قدر قيمتها، أو أقل الأمرين من قيمة اللقطة أو قيمة أم الولد؟ الخلاف يأتي في موضعه.

وفي "الأم": أنه إذا لم يعلم فالضمان في ذمتها، وصححه أبو إسحاق، وغيره قال: إنه سهو، وغلط [أبا إسحاق]؛ [لأنه شبه اللقطة بالإيداع على رأي، وليس المشبه بصحيح]؛ لأن التفريع على منع الالتقاط.

وفي "حلية الشاشي" طرد قول التعلق بذمتها، خاصة فيما إذا علم السيد أيضاً.

قال: "وإن كان نصفه حراً ونصفه عبداً فهو كالحر على المنصوص"؛ لأنه يملك بنصفه الحر حصته من الكسب كما يملك الحر، وله ذمة صحيحة؛ فعلى هذا قال:"فيكون بينه وبين مولاه" أي: [إذا] التقط يعرفان ويملكان إن لم تكن بينهما مهايأة كسائر الأكساب.

وعن أبي حفص بن الوكيل: أن السيد يختص بها، إلحاقاً للقطة القن.

قال: "فإن كان بينهما مهايأة" أي: مثل أن كان يكتسب لنفسه يوماً وعليه نفقته، ولسيده يوماً مثله وعليه نفقته، كما قال الماوردي "فهل تدخل اللقطة

ص: 447

فيها؟ فيه قولان"، وكذا في دخول الوصية والهبة والصدقة والركاز، وكل ما هو نادر.

قال: "أحدهما: تدخل"؛ لأنها نوع كسب فكان كسائر الأكساب، وهذا هو الأصح في "الحاوي" وغيره، وهو المنصوص في "المختصر"، فعلى هذا قال:"فإن وجدها في يومه كانت له" أي: فيعرفها ويملكها، "وإن وجدها في يوم السيد كانت له" أي: فيعرف ويملك كل المنافع.

وفي "الحاوي": أنه إذا وجدها في يوم سيده: إن قصد بها سيده كانت له، وإن قصد بها نفسه كانت على القولين.

وأشار في "النهاية" إلى وجه آخر: وهو أن الاعتبار بوقت التملك، وأبدى تردداً فيما إذا وقع الالتقاط في نوبة أحدهما وانقضاء مدة التعريف في نوبة الآخر، وعلى المذهب: الاعتبار في الهبة والصدقة بيوم القبض، وفي الوصية إن قلنا: يملك بالقبول، فالاعتبار بوقته، وإن قلنا: موقوف، اعتبرنا الموت في أي اليومين كان، كذا قاله القاضي الحسين [هنا.

وحكى الرافعي وجهاً آخر على قولنا: إنه يملك بالقبول، أن الاعتبار بيوم الموت- أيضاً- وصححه.

وحكى عن بعض الأصحاب وجهاً: أن الاعتبار بيوم الوصية مطلقاً، فإن وجدت الوصية في يوم السيد فهي له، وكذا إن وجدت في يوم العبد كانت له، ووجهاً: أن الاعتبار في الهبة بيوم العقد مطلقاً؛ بناء على أنا نتبين بالقبض حصول الملك بالعقد، ووجهاً: أن الاعتبار بيوم عقد الهبة، وإن قلنا إن الملك يحصل عقيب القبض].

قال: "والثاني: لا تدخل؛ [فتكون بينهما] "؛ لأن المهايأة معاوضة؛ لأن كل واحد منهما يأخذ نصف الكسب في أحد اليومين بنصف الكسب في الآخر، والمعاوضة إنما تصح فيما يقدر على تسليمه ويكون معلوماً، والأكساب النادرة تتفق في وقت ولا يقدر عليها في كل وقت، فليست معلومة،

ص: 448

كذا قاله القاضيان الطبري والحسين. وهذا ما مال إليه العراقيون، والصيدلاني في زكاة الفطر.

[فعلى هذا: لو عمت الهبات والوصايا في قطر، فهل تدخل كالأكساب العامة، أو يجيء فيها هذا القول؟ فيه تردد للإمام، فطرده فيما إذا صرح بإدراج الأكساب النادرة في المهايأة، هل تدخل جزماً، أو يجيء فيها هذا القول، كما أبداه في الوصية؟]

قال: "وخرج فيه قول آخر: أنه كالعبد"؛ لأن الرق الذي فيه كامل، وإذا كمل الرق ضعف التصرف فيما يقابل الرق، وإذا تحقق ذلك في بعض الملتقط عم جميعه؛ فإن التقاط البعض الذي يضاف إلى الحرية غير ممكن؛ إذ من ضرورته لقط الكل، فعلى هذا يكون على القولين في العبد، وإذا منعناه وأخذ كان ضامناً للنصف في ذمته يؤخذ منه إن كان له مال، والنصف الآخر في رقبته.

وقيل: التقاطه في النصف جائز قولاً واحداً، والطريقان فيما سواه، وهذا ما أبداه الشاشي في "المعتمد" احتمالاً، وأورده المتولي.

وقال الماوردي: إن التقاطه للنصف صحيح، والنصف الآخر إن قصد به سيده كان له، وإلا فعلى القولين.

وفي تعليق القاضي الحسين: أنا إذا قلنا: إنه ليس أهلاً للالتقاط، فالنصف له، والنصف لبيت المال.

تنبيه: ظاهر قول الشيخ: إنه كالحر، يقتضي أنه لا تنزع منه اللقطة، وكذا حكى ابن كج في أنها تنزع منه أو تبقى في يده ويضم إليه مشرف؟ والظاهر الانتزاع، ثم وجهين على القول بالانتزاع في أنه [هل] يسلم إلى السيد أو يحفظه الحاكم إلى ظهور مالكه؟ والأظهر الثاني.

ص: 449

قال: "وإن كان مكاتباً ففيه قولان:

أحدهما: أنه كالحر يعرف ويملك"؛ لأنه يملك المال الذي في يده، ويملك التصرف فيه، وله ذمة صحيحة يمكن مطالبته بالحق أي وقت جاء صاحب اللقطة، مع أن اللقطة نوع اكتساب يستعين بها على أداء نجوم الكتابة، وهذا ما نص عليه في "المختصر" في موضع [من] "الأم"، وهو الصحيح.

"والثاني: أنه لا يلتقط"؛ لأنه وإن كان متصفاً بما ذكرناه لكن اللقطة تحتاج إلى حفظها لمالكها حولاً ويعرفها فيه، وذلك تبرع بأخذ، وحصول الملك موهوم؛ فمنع منه كتوكيله عن الغير بغير جعل، وإن أذن السيد [فيه] على قول.

قال: "فإذا أخذ انتزع الحاكم من يده وعرفه"؛ لتعذر إقرارها في يده وتسليمها إلى سيده؛ لأنه ليس له عليه ولاية.

قال: "ثم يتملك المكاتب"؛ لأن سبب التملك- وهو الالتقاط- وجد منه، وهو أهل له؛ لأنه [أهل لتملك، والمنع منه كان لأجل الشرع، فإذا وجد الحفظ والتعريف] من غيره- لعجزه عنه شرعاً- كان له التملك؛ كما في الصبي والمجنون إذا التقطا، ثم عرف وليهما وبلغ الصبي وعقل المجنون. وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب في "المجرد"؛ تفريعاً على قولنا بمنع الالتقاط، وبه جزم القاضي الحسين؛ تفريعاً على هذا أيضاً، ويرجع على هذا- حاصل الأمر إلى أن المكاتب يتملك اللقطة قطعاً،

ص: 450

والخلاف في أنه هل تدام في يده أم لا؟ وهذا [هو] الذي حكاه الإمام عن العراقيين، واستحسن ما قالوه من القطع بالتملك، واستبعد ما ذكروه من إزالة يده. ووراء ذلك أمور [أخرى:].

أحدها: حكى الشيخ في "المهذب" وابن الصباغ والقاضي أبو الطيب والبندنيجي والمراوزة في جواز التقاط المكاتب طريقين:

أحدهما: القطع بأنه كالحر.

والثاني: أنه كالعبد، فيكون في صحة التقاطه قولان:

أحدهما: [أنه] يصح، ويكون الحكم كما على الطريق الأول.

والثاني: [أنه] لا يصح؛ فإذا أخذ ضمن، وإذا أخذها الحاكم برئ المكاتب.

والحاكم يحفظ اللقطة لمالكها أبداً، ولا يعرفها ولا يتملكها المكاتب- كما صرح به في "المهذب" والبندنيجي وأبو الطيب في "تعليقه"- ويظهر أن يأتي في البراءة بأخذ الحاكم ما سنذكره في براءة الصبي بأخذ الحاكم اللقطة منه.

قال القاضي أبو الطيب: ولا يبرأ المكاتب بالدفع إلى سيده؛ لأنه لا يد له على شيء من أكسابه، وليس للسيد أن يأخذها منه؛ كما ليس له أن يأخذ شيئاً من أكسابه، ويخالف العبد؛ لأن كسبه له وله يد على ما في يده، وكذا حكاه الرافعي عن الأصحاب، وبه يقوى ما اختاره الشيخ أبو حامد من تملك المكاتب بعد تعريف القاضي على قولنا: لا يلتقط، ومنه يظهر أنا إذا قلنا: لا يصح التقاط العبد، ليس لأجنبي أن يأخذ ما التقطه العبد- كما أشرت إلي من قبل- لكن الرافعي جعل جواز أخذ الأجنبي ما التقطه العبد إذا لم يصح التقاطه أصلاً، واستشكل عليه ما حكاه عن الأصحاب هنا، وقال: ليس السيد في حق المكاتب بأدنى من الأجنبي في القن. وعلى ذلك جرى ابن الصباغ، حيث اختار

ص: 451

أن من يجوز له الالتقاط إذا أخذها من يد المكاتب جاز ذلك، وبرئ من الضمان كما في العبد.

الثاني: حكى ابن القطان طريقة قاطعة بالمنع، بخلاف القن؛ لأن سيده ينزعه من يده، والمكاتب انقطعت ولاية السيد عنه على نقصانه.

الثالث: حكى ابن كج خلافاً في أن الخلاف في المكاتب سواء صحت الكتابة أو فسدت، وفي المكاتب كتابة صحيحة، وأما المكاتب كتابة فاسدة فهو كالقن لا محالة، والصحيح: الثاني.

فروع:

إذا تملك المكاتب فيدل اللقطة في كسبه، وفي تقديم صاحب اللقطة بها على سائر الغرماء وجهان مذكوران في "أمالي" أبي الفرج الوراق السرخسي.

وإذا عتق في مدة التعريف أتم، وإن عاد إلى الرق قبل تمام التعريف فالقضي يأخذها ويحفظها للمالك.

وقال صاحب "التهذيب": وجب أن يأخذها المولى ويعرفها ويملكها؛ لأن أخذ اللقطة اكتساب، وكسب المكاتب إذا عجز يكون للمولى، وكذا لو مات المكاتب أو العبد الملتقط؛ كما أن الحر لو مات بعد أن التقط عرف وارثه وتملك.

قال: "وإن كان فاسقاً كره له أن يلتقط"؛ كي لا تدعوه نفسه إلى إتلافها، وهل هذه الكراهة كراهة تنزيه أو تحريم؟ الذي حكاه القاضي أبو الطيب في أول هذا الباب: الثاني؛ فإنه قال: إذا كان خائناً الأولى ألا يأخذها، والذي حكاه ابن يونس الأول.

قال: "فإن التقط، أقر في يده في أحد القولين"؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: "اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها حولاً"، ولم يفرق، ولأن الالتقاط سبب التكسب، فهو كالاحتطاب والاحتشاش، ولأنه لما ساوى الأمين بعد الحول، فكذلك قبله، ولما لم ينتزع من الأمين، فكذلك من غير الأمين،

ص: 452

وعلى هذا هل يضم مشرف يمنعه من التصرف فيه أم لا؟ فيه وجهان:

اختيار أبي علي الطبري في "إفصاحه": الأول، واختيار ابن أبي هريرة: الثاني.

قال: "وانتزع في الآخر" أي: ينزعها الحاكم؛ لأن اللقطة أمانة وولاية في السنة الأولى على مال لم يأتمنه، وغير الأمين ليس [من أهل] الولايات، ولأن مال أولاده لا يقر في يده، فكيف مال الأجانب؟

قال: "ويسلم إلى ثقة"؛ احتياطاً لحفظها، وهذا هو الأصح، وعلى كل قول لا يضمنها إلى بالتعدي، كما قاله القاضي أبو الطيب في أوائل الباب.

قال: "وهل ينفرد بالتعريف" أي: الملتقط الفاسق؟ فيه قولان:

أحدهما: ينفرد به؛ إذ لا خيانة في التعريف، [وهذا رواية الربيع.

والثاني: أنه يضم إليه من يشرف عليه؛ خشية من التفريط في التعريف]. وهذا أصح في "تعليق" القاضي أبي الطيب، وهو ظاهر النص في "المختصر".

وفي "الحاوي": أن الأمين هو الذي يعرف على هذا القول، والقولان جاريان – كما قال أبو الطيب- سواء قلنا: إن اللقطة تقر في يده، أو لا.

ومؤنة التعريف عليه على القولين.

قال: "فإذا عرف تملكه"؛ لأنه أهل للتملك، وهذه طريق أصحابنا العراقيين، وحكى الخراسانيون قولاً: أنه لا يصح التقاطه؛ كما في العبد.

فرع: الصبي إذا التقط صح التقاطه عند العراقيين كاصطياده.

وحكى المراوزة قولاً: أنه لا يصح؛ تغليباً لشائبة الولاية والأمانة.

فعلى الأول إذا تلفت في يده من غير تفريط لا ضمان، وقيل: يضمن إذا أقامت في يده، والأول أرجح كما في الوديعة، وكما لو تلفت قبل تمكن الولي من أخذهان وإن كان التلف بتفريط منه لزمه الضمان في ماله، وإذا رآها الولي في يده لزمه أخذها منه، فإن لم يأخذها صار ضامناً لها، وإذا أخذها من يده ناب عنه

ص: 453

في تعريفها، ثم إن رأى المصلحة في تمليكه جاز حيث يجوز الاستقراض عليه، [وقال ابن الصباغ: عندي يجوز له التملك وإن كان ممن لا يجوز الاستقراض عليه]؛ لأنا ألحقناها على هذا القول بالاكتساب، وإن لم ير التملك حفظها أمانة أو يسلمها إلى القاضي.

وإذا احتاج التعريف إلى مؤنة لم يعرفها من مال الصبي؛ بل يرفع الأمر إلى القاضي ليبيع جزءاً من اللقطة لمؤنة التعريف، وعلى الثاني: إذا تلفت في يد الصبي ضمنها في ماله، وليس للولي أن يقرها في يده، فإن أمكنه رفع الأمر إلى القاضي فعل، وإذا انتزع القاضي ففي براءة الصبي عن الضمان خلاف، والأولى حصول البراءة؛ نظراً للطفل. وإن لم يمكنه الرفع إلى القاضي أخذه بنفسه، وفي براءة الصبي الخلاف المذكور في براءة الغاصب بأخذ الأجنبي المال المغصوب منه إذا جوزناه، فإن لم تحصل البراءة ففائدة الأخذ صون عين المال عن الضياع، وقد ذكرت عن المتولي شيئاً في ذلك فيما تقدم.

ولو ترك الولي المال فلم يأخذه حتى تلف.

قال المتولي: لا يضمن؛ لأنه لم يحصل في يده، ولا حق للصبي فيه حتى يلزم الحفظ ما إذا عرفنا على صحة التقاطه.

وقال الإمام: هذا إذا قلنا: إن أخذه لا يبرئ، أما إذا قلنا: إنه يبرئ، فعليه الضمان. ويجوز أن يضمن وإن قلنا: إن أخذه لا يبرئ؛ لأن المال عرضة للضياع فمن حقه أن يصونه.

وأطلق القاضي الحسين القول بوجوب الضمان عند عدم الأخذ، لكنه جعل القرار على الصبي، وهو موافق لما حكاه الإمام [عنه] في كتاب الرهن فيما إذا تلاعب صبيان بجوز؛ حيث قال: إذا حصل في يد صبي جوزات صبي، وعلم بها الأب أو القيم أو من يلي بنفسه أو بتوليته، ولم ينزعها، وجب عليه الضمان؛ للتفريط، وإن علمت به أمه ولم تنزعها فلا ضمان عليها على الأصح؛ تخريجاً على أن الأم ليست ولية.

ص: 454

وقال الإمام: ثم لا إشكال في ذلك وما ذكرناه في أخذ الولي إذا لم يقصد به الالتقاط، أما إذا قصد به ابتداء اللقطة ففيه وجهان، جواب الأكثرين منهما: المنع.

وحكم المجنون حكم الصبي، وكذا المحجور عليه بالسفه، إلا أنه يصح تعريفه [وكذا] يملك لنفسه إذا كان الحظ فيه، كما قاله الماوردي.

وفي "الحلية": أنه هل يصح تعريفه؟ فيه وجهان. ولعلهما محمولان على ما إذا فعله بدون إذن الولي.

قال: وإن كان كافراً أي: ذمياً- كما قاله أبو الطيب- فقد قيل: يلتقط أي: في دار الإسلام وغيرها ويملك؛ لأن له ذمة صحيحة وولاية؛ لأنه يلي أمر ابنه الصغير وماله، فهو في معنى الحر المسلم، كذا وجهه القاضي أبو الطيب، "و" هذا وهو الأصح، فعلى هذا يقر في يده، وينفرد بالتعريف.

وقيل: فيه قولان كالفاسق، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد.

قال الرافعي: وربما شرط في التجويز كونه عدلاً في دينه.

قال: وقيل: لا يلتقط في دار الإسلام، ولا يملك؛ كما ليس له أن يجبي؛ ولأن اللقطة أمانة وولاية فلا تثبت للكافر، وعلى هذا: إذا التقط أخذه الحاكم وحفظه لمالكه.

واعلم أن الشيخ نفى بقوله: ولا يملك توهم من يفهم أن الحكم فيه كالمكاتب إذا قلنا: لا يلتقط.

فرع: المرتد إذا التقط، إن قلنا: إن ملكه زائل، انتزع من يده؛ كما لو احتطب ينزع من يده.

قال: وإن وجد جارية، يحل له وطئها، أي: وهي غير مميزة لم يجز أن يلتقطها للتملك؛ لأن التملك في اللقطة كالتملك في القرض، وإقراض مثل هذه لا يجوز؛ فكذلك هاهنا.

ص: 455

قال: "بل يأخذها للحفظ"؛ كما يجوز له استيداعها. ولو كانت ممن لا يحل [له] كالمجوسية وأخته المملوكة التي أبيعت لمن لا يعرفه في موضع لا يعرفه، جاز له التقاطها للتملك؛ كما يجوز إقراضها.

وفي طريقة المراوزة حكاية وجه في جواز التقاط الجارية للتملك.

وإذا جمعت ذلك حصل في المسألتين ثلاثة أوجه [كما] حكاها مجلي، والمجزوم به في الرافعي في صورة التحريم الجواز، وجعل الجيلي محل الوجهين فيما إذا كانت تحل له إذا قلنا: يجب عليه رد عين اللقطة. أما إذا قلنا: لا يجب، فيجوز الالتقاط وجهاً واحداً.

ثم على قول المنع- وهو المشهور- تباع على مالكها إن كان البيع أحظ له، ثم هل يجوز للواجد أن يتملك ثمنها أم لا؟ على وجهين في "الحاوي"، وجه الجواز: أن معنى الأصل مفقود في الثمن.

أما إذا كانت الجارية مميزة لم يجز التقاطها، قاله مجلي.

والعبد الصغير يجوز التقاطه ونفقته في كسبه، فإن فضل منه شيء حفظ معه.

وقال في "التتمة": يكون لقطة كالأصل.

وإن لم يكن له كسب فعلى ما سنذكره في غير الآدمي.

وإذا بيع، ثم ظاهر المالك وقال: كنت أعتقته قبل البيع، فأظهر القولين عند الشيخ أبي حامد، وهو ظاهر النص في "المختصر": أنه يقبل قوله ويحكم بفساد البيع؛ إذ لا تهمة.

وحكى القاضي أبو الطيب طريقة قاطعة بعدم القبول وصححها.

فعلى هذا: لو أكذب نفسه في دعوى العتق هل يقبل منه بالنسبة إلى تملكه الثمن خاصة؟ فيه وجهان في "الحاوي".

قال: وإن وجد ضالة تمتنع من صغار السباع، أي: مثل صغار الثعالب، وابن

ص: 456

آوى، وأولاد الذئب ونحو ذلك.

قال: "لقوته: كالإبل، والبقر" أي: والخيل والبغال والحمير، "أو بسرعته، كالظباء" أي: والأرانب المملوكة "أو بطيرانه كالحمام- فإن كان في مهلكة لم يلتقطها للتملك"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن ضالة الإبل: "مَا لَكَ وَلَهَا؟ " الحديث السابق. فنص على منع التقاط الإبل، وقسنا الباقي عليها.

والمهلكة- بفتح الميم وفتح اللام وكسرها-: موضع خوف الهلاك، والمراد بها هاهنا: البرية مطلقاً، وهي ما سوى القرى.

قال: فإن التقط لذلك ضمن؛ لتعديه بأخذه ما ليس له عليه ولاية من جهة [مالكه ولا من جهة] الشرع.

قال: "وإن سلمها إلى الحاكم برئ من الضمان"؛ لأن للحاكم الولاية على مال الغائبين بدليل جواز أخذه ذلك للحفظ، وهذا هو الأصح.

وقيل: لا يبرأ؛ إذ لا ولاية للحاكم على رشيد، وقد يكون لحاضر لا يولى عليه، ولا خلاف عندنا: أنه إذا ردها إلى الموضع الذي أخذها منه لا يبرأ.

قال: "وإن التقط للحفظ: فإن كان حاكماً جاز"؛ لأن له ولاية على أموال الغيب، وقد كان لعمر- رضي الله عنه حظيرة يحفظ فيها الضوال، [فعلى هذا: إن كان هناك حمى سرحها فيه، ووسمها ووسم الضوال]، ويسم نتاجها أيضاً، وإن لم يكن حمى فالقول في بيعها كلها أو بيع بعضها للنفقة- كما سنذكره- فيما إذا كانت في البلد والتقطها غير الحاكم تملك، لكن لو توقع مجيء المالك في طلبها عن قرب بأن عرف بأنها من نعم بني فلان، تأنى أياماً كما يراه، وحكم نائب الحاكم حكمه.

قال: "وإن كان غيره فقد قيل: يجوز"، كي لا يأخذها خائن فتضيع، وهذا أظهر عند الشيخ أبي حامد والمتولي وغيرهما، ويحكي عن رواية الربيع [عن

ص: 457

النص] "وقيل: لا يجوز"؛ إذ لا ولاية [له] على المالك، ويخالف الحاكم؛ لأنه مرصد للمصالح وهذا منها، وهو أظهر عند البغوي.

وهذا كله فيما إذا كان زمن أمن، أما إذا كان زمن الفساد والنهب فيجوز التقاطها- كما سيأتي- فيما لا يمتنع من صغار السباع، ذكره المتولي وغيره، وألحق الماوردي بذلك ما إذاعرف مالكها فأخذها ليردها إليه، وأنها تكون أمانة في يده إلى أن يردها إليه مع حكاية الخلاف السابق عند عدم معرفته.

قال: "وإن كان مما لا يمتنع" أي: من صغار السباع "كالغنم وصغار الإبل والبقر، جاز التقاطه" أي: للحفظ والتملك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد لما سئل عن الغنم: "هي لك [أو] لأخيك أو للذئب"؛ فثبت فيها بالنص، وقيس الباقي عليها، وفي معنى ما ذكر: الكسير من كبار الإبل.

قال: فإن التقطه فهو بالخيار بين أن يحفظها على صاحبها ويتبرع بالإنفاق عليها، وبين أن يعرفها سنة ثم يتملكها، وبين أن يأكلها ويغرم قيمتها إذا جاء صاحبها أو يبيعها في الحال" أي بأن ينقلها إلى بلد "ويحفظ ثمنها على صاحبها، ويعرفه سنة ثم يتملكه"؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك، فاستبقى الحيوان غير متبرع بنفقته، احتاج إلى نفقة دائمة تذهب قيمة الحيوان وغيرها، وفي ذلك إضرار بالمالك.

وفي "الحاوي": أن له أن يتملكها في الحال ويستبقيها، كما له أن يأكلها.

وحكى وجهاً عن الأصحاب: أنه إذا أراد أن يستبقيها في يده أمانة لا يجوز ويضمنها؛ لأنإباحة أخذها مقصور على الأكل المؤدي للضمان دون الائتمان.

وعلى المذهب: إذا استبقاها، ثم عن له تملكها بالإنفاق عليها، ولا حمى للمسلمين، فلينفق بإذن الحاكم إن أراد الرجوع، [فلو لم يستأذنه] مع القدرة، لم يرجع، وإن لم يقدر على إذنه فأنفق ولم يشهد لم يرجع، وإن أشهد واشترط الرجوع فهل يرجع؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وقد يطلب [الفرق] على هذا

ص: 458

بين هذه المسألة وبين ما إذا أنفق مؤنة التعريف؛ فإن الماوردي حكى في رجوعه عند الإشهاد مع وجود الحاكم وجهين، وهل يجوز بيع جزء منها لنفقة الباقي؟

قال الإمام: نعم؛ كما يباع جميعها.

وحكى عن شيخه احتمالاً: أنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أن يأكل بقيتها، وهذا ما أورده أبو الفرج الزاز، وإن كان ثم حمى وأنفق فهو متبرع.

فرع: إذا تملكها، ثم نوى أن يسقط [عنه] ملكه ويحفظها على مالكها، لم يسقط عنه الضمان، وهل يزول ملكه عنها؟ فيه وجهان في "الحاوي".

فإن قلنا: لا يزول، أو: لم يقصد حفظها لمالكها، ثم أفلس كان صاحبها أحق بها من الغرماء، وإذا اختار الأكل فأكل فظاهر كلام الشيخ: أنه لا يجب التعريف بعده كما هو ظاهر النص.

وبه قال بعض الأصحاب، وصححه القاضي الحسين. وحكي وجه آخر: أنه يجب، وأجري في وجوب إفراز القيمة من ماله بعد الأكل، كما سنذكره.

قال: "فإن وجد في البلد" أي: ما يمتنع من صغار السباع وما لا يمتنع منها "فهو لقطة يعرفها سنة"؛ لفقد ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من العلة وهي الاستقلال؛ لأن الصغار والكبار يخاف عليها في البلد، ولأن البهائم في العمران لا تهمل،

ص: 459

وفي الصحراء [قد] تهمل وتسرح؛ فيحتمل أن صاحبها لم يصلها، وهذا هو الأصح، وبه قال أبو إسحاق. وحكم القرية وما جاورها حكم البلد.

قال: "إلا أنه إذا وجدها في البلد لا يأكل"؛ لإمكان البيع، "وفي الصحراء يأكل" أي: ما يجوز له التقاطه وهو مما لا يمتنع؛ لتعذر بيعه إلا بمشقة تحصل بسبب نقلها إلى البلد.

قال: "وقيل هو كما لو وجده في الصحراء لا يأخذ الممتنع، ويأخذ غير الممتنع"؛ لعموم الخبر، إلا أنه ليس له الأكل في البلد، وله الأكل في الصحراء، وهذا قد أثبته بعضهم وجهاً، وبعضهم قولاً.

وحكى عن القاضي أبي حامد حكاية طريقين آخرين:

أحدهما: القطع بالأول.

والثاني: القطع بالثاني.

وعنه: أنه يجوز الأكل في البلد أيضاً؛ قياساً على ما يتسارع إليه الفساد.

وعن صاحب "التقريب" وجه: أن ما لا يمتنع لا يلتقط في العمران؛ لأن الحيوان لا يكاد يضيع.

فرع: صغار ما لا يؤكل: كالجحش والفلو، يجوز التقاطها، وحكمه في الإمساك والبيع حكم المأكول، وهل يجوز تملكها في الحال؟ فيه وجهان:

أحدهم: نعم، كما يجوز أكل ما [لا] يؤكل.

وأصحهما: المنع؛ لأن الشاة إنما جاز أكلها للحديث.

قال: "وإن كان ما وجده مما لا يمكن حفظه كالهريسة وغيرها" أي: ما يتسارع إليه الفساد [كالشواء والبطيخ] والخيار "فهو مخير بين أن يأكل وبين أن يبيع" كما سبق في الغنم، والبيع أولى، فإن أكل عزل قيمته مدة التعريف وعرف، [أي: اللقطة] "سنة" أي: إذا كان في البلد، ثم "يتصرف فيها"؛ لأنه ليس له أن يتصرف في اللقطة قبل الحول، فإذا أكل أقيمت القيمة مقامها.

ص: 460

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه الذي يعزل القيمة، فإذا عزلها صارت ملكاً لصاحب اللقطة، فإن تلفت من غير تفريط لا ضمان على الملتقط، كما صرح به القاضيان أبو الطيب والحسين وغيرهما.

وفي "الرافعي": أنه يرعف الأمر إلى الحاكم ليقبض عن صاحب المال.

وقال في "الإشراف": أنه الوجه المنقاس.

فإن لم يجد حاكماً فهل للملتقط بسلطان الالتقاط أن ينيب عنه؟ فيه احتمال للإمام. وإذا فرزها، قال الغزالي: لم تصر ملكاً لصاحب المال، لكن هو أولى بتملكها، ويقدم بها عند إفلاس الملتقط. وفي ذلك نظر؛ لأنه لو كان كذلك لما سقط حقه بهلاك القيمة المفروزة، وقد نص على السقوط وعلى أنه إذا مضت مدة التعريف كان له أن يتملك تلك القيمة، وهذا يقتضي صيرورتها ملكاً لصاحب اللقطة.

ص: 461

قال: "وقيل: يعرف، ولا يعزل القيمة"؛ لأن البلد إذا لم يعزل مرض، وإذا عزل أماننة، والقرض- لأنه في الذمة- لا يخشى هلاكه، وهذا قول أبي إسحاق، وهو الأظهر في "الرافعي".

أما إذا كان في الصحراء، فقد قال الإمام: الظاهر أنه لا يجب التعريف؛ لأنه لا فائدة فيه في الصحراء.

وإذا تأخر بعد العثور على المستحق فقد حكى القاضي الحسين قولاً في عدم وجوب التعريف؛ أخذاً من عدم وجوبه في الشاة في الصحراء، ثم قال: والصحيح الفرق، وهو أن الطعام يمكن تعريفه حيث وجد، بخلاف الشاة في المفازة.

وحكي قول آخر قال به أبو إسحاق وابن أبي هريرة وطائفة: أنه لا يجوز له الأكل في البلد، بل يبيع؛ لأن البيع متيسر في العمران.

والأول أرجح عند عامة الأصحاب، ومنهم من قطع به كالشيخ.

وحكى الماوردي أن أبا علي الطبري حمل القولين على اختلاف، وقال: إن تيسر البيع فلا يأكل، وإلا فيأكل.

وقال الصيمري: إن كان الآخذ فقيراً أكل، وإن كان غنياً لم يسغ الأكل.

ولا خلاف أنه إذا لم يقدر على البيع جاز له الأكل، قاله القاضي الحسين.

فرع: إذا اختلفت القيمة يوم الأخذ ويوم الأكل ففي بعض الشروح: أنه إن أخذ للأكل غرم قيمته يوم الأخذ، وإن أخذ للتعريف اعتبر قيمته يوم الأكل.

قال: وإذا أراد البيع رفع إلى الحاكام لولايته، فإن لم يكن حاكم باع بنفسه وحبس ثمنه؛ لأنه موضع ضرورة، فلو باع بنفسه مع وجود الحاكم فأظهر الوجهين- وبه قال أبو حامد وأبو الطيب في "تعليقه"-: أنه لا يجوز، بل لابد من استئذانه.

ووجه الثاني: أن الملتقط ناب عن المالك في الحفظ؛ فكذلك في البيع. وهذا الترتيب في الخلاف يجري في كل موضع جوزنا فيه بيع اللقطة كما نبه عليه الرافعي.

ص: 462

وفي "الحاوي": أن قول المنع هنا لا يأتي في واجد الشاة؛ لأن يده على الشاة أقوى لما استحقه عاجلاً من أهلها.

فرع: لو حضر المالك في زمن الخيار كان له فسخ البيع وجهاً واحداً لبيعها في حقها؛ كالوكيل، قاله الماوردي.

قال: وإن كان ما وجده [مما يمكن حفظه] كالرطب، فإن كان الحظ في بيعه باعه، وإن كان [الحظ] في تجفيفه جففه إحرازاً للحفظ، ولو احتاج إلى بيع البعض لأجل التجفيف باعه.

فروع:

إذا وجد كلباً يقتنى فهل يجوز التقاطه لغير الحفظ؟

الذي مال إليه الإمام: لا؛ لأن الاختصاص به بالعوض ممتنع، ولا بعوض يخالف وضع اللقطة.

وقال أكثرهم: يعرفه سنة ثم يختص به وينتفع، فإن ظهر صاحبه بعد ذلك وقد تلف لم يضمنه، وهل عليه أجرة المثل لمنفعة تلك المدة؟ فيه وجهان؛ بناء على إجارته، وجعل ابن الصباغ الانتفاع به مخرجاً على [جواز] إجارته.

ولو وجد خمراً أراقها صاحبها، فأخذها، قال في "المهذب": لم يلزمه تعريفها، وإذا صارت عنده خلا فهل هو للمريق أو الآخذ؟ فيه وجهان، الوجه الثاني: كون المريق أسقط حقه منها، بخلاف الغصب؛ فإنه حينئذ مأخوذة بغير رضاه.

ص: 463

وجزم الرافعي بأن المحترمة إذا ضاعت من صاحبها، بأنها تعرف كالكلب.

ولو ضاعت اللقطة من الملتقط، فوجدها غيره أطلق الجمهور: أن الأول أحق بها.

وقيل: الثاني أحق إذا لم يكن الأول قد تملكها، حكاه ابن كج.

ولو تماشى اثنان، فرأى أحدهما لقطة، فقال الآخر: ناولنيها، فأخذها لنفسه، كان هو الملتقط، وإن أخذها للآمر فوجهان بناءً على جواز التوكيل في الاحتطاب والاحتشاش. والله أعلم.

ص: 464