الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب اللقيط
اللقيط، والملقوط، والمنبوذ، والمدعى: اسم للطفل الذي يوجد مطروحاً، وهو "فعيل" بمعنى "مفعول"؛ كقتيل، ورهين، ودهين، وخصيب. وسمى لقيطاً؛ لأنه يلتقط، ومنبوذاً؛ لأنه ينبذ، ويرمى.
وأصل الالتقاط: وجود الشيء على غير طلب.
وهو في الشرع: دفع صبي لا متعهد له للقيام بحضانته.
فمن هو مستغن عن الحضانة محتاج إلى الكفالة كالمميز، لا يدخل في ذلك، وللإمام احتمال في جواز التقاطه.
وقربه بعضهم من منع التفرقة بينه وبين أمه، إلحاقاً بغير المميز، وهو ما اقتضاه كلام القاضي الحسين عند ازدحام شخصين على الالتقاط؛ حيث قال: يقرع بينهما، سواء كان ابن سبع، أو أقل، أو أكثر، وحكاه البندنيجي عن الشافعي في "الأم". وقال الرافعي: إنه الأوفق لكلام الأكثرين.
فعلى هذا ينبغي أن يقال: هو في الشرع أخذ صبي لا متعهد له للقيام بترتبيه.
قال: [و] التقاط المنبوذ فرض على الكفاية"؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] فوجبت المعاونة على كفالة الطفل؛ لأنها من البر والتقوى، ولأنه آدمي له حرمة فوجب حفظه؛ كالمضطر إلى طعام الغير، بل أولى؛ لأن البالغ ربما احتال لنفسه، والطفل لا حيلة له. فعلى هذا إذا التقطه أهل الحضانة سقط الفرض عمن علم به، وإلا أثم من علم به من أهل تلك الناحية.
قال: "فإذا وجد لقيط حكم بحريته" أي: ظاهراً لما روى [الزهري] أن رجلاً من بني سليم يقال له أبو جملية وجد منبوذاً، فأتى به عمر، فقال له عمر: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال: وجدتها، ضائعة؛ فأخذتها، فقال عريفه:
يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح، فقال: كذا؟ قال: نعم، فقال عمر- رضي الله عنه:[اذهب] فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته. فحكم عمر- رضي الله عنه بحريته، و"العريف" في الحديث المراد به: المعرف الذي قال: هو رجل صالح.
وقول عمر- رضي الله عنه: "ولاؤه"، المراد به: ولايته التربية والحضانة، لا ولاية الإعتاق، ولأن الرق طارئ والحرية أصل؛ فكان الحر في الظاهر على حكم الأصل أولى.
وفي "الحاوي" حكاية قول آخر عن الشافعي: أنه مجهول الأصل؛ لإمكان رقه وحريته، وهذا ما أبداه الإمام تخريجاً.
قال: فإن كان معه مال متصل به، أو تحت رأسه فهو له؛ لأن ذلك منسوب إليه فحكم بأنه له؛ كالبالغ؛ لأن الصبي يملك كما يملك البالغ.
وصورة ذلك: أن تكون عليه حلي، أو ثياب ملبوسة أو ملفوفة عليه أو مفروشة تحته، أو دراهم أو دنانير مربوطة في ذيله، أو في السفط الذي هو فيه، أو منثورة عليه، أو كان على دابة أو على الأرض وعنانها بيده، أو مربوطاً برجله [أو ثيابه]، أو كان في خيمة، أو في دار لا يعرف مالكها فليس فيها غيره، وكل ما على الدابة التي حكمنا بكونها له، فلو كان عليها شخصان كانت بينهما، ولو كان في ضيعة أو بستان ليس فيه غيره فهل يحكم [بكونه] له؟ فيه وجهان في "الحاوي"؛ لأن ذلك لا ينسب إلى السكنى، بخلاف الدار.
ولو كان تحت بساطه الذي هو جالس عليه دراهم فهل تكون له؟ فيه وجهان في "الحاوي"، والمذكور في "النهاية": أن حكمه حكم الفراش.
قال: وإن كان مدفوناً تحته [لم يكن له؛ كالبائع لا يحكم بكون ما هو مدفون تحته]، وكذا لو كان بالبعد منه لا يحكم بكونه له. ثم إطلاق الشيخ
يقتضي أنه لا فرق [في المدفون] بين أن يكون قريباً بحيث يكون بينه وبين الطفل بقدر ما بينه وبين المال الذي يعد قريباً منه، أو لا، ولا بين أن يكون في ثوب اللقيط رقعة تدل على ما تحت اللقيط مدفوناً له أو لا، وقد حكى الإمام في حالة القرب ووجود الرقعة وجهين، أظهرهما في "الوسيط": اتباع ما فيها، ثم قال الإمام: وليت شعري، من عول على الرقعة، ما قوله إذا أرشدت إلى دفن بعيد، وإلى دابة مربوطة بالبعد؟ وفيه تردد ظاهر.
قال: "وإن كان بقربه، فقد قيل: هو له"؛ كما لو كان بقرب البالغ، فادعاه فإنه يكون له، كما حكاه المتولي وغيره وهذا قول ابن أبي هريرة.
[قال]: "وقيل: ليس له"؛ لأن يده لا تثبت إلا على ما كان متصلاً به، وهو ظاهر النص، والأصح في التهذيب وغيره، وبه جزم القاضي أبو الطيب، وقال: ويفارق البالغ، لأن البالغ يراعيه؛ فتثبت يده عليه بالمراعاة، والصبي لا يتصور المراعاة منه؛ فوزانه من البالغ: أن يكون المال بعيداً منه بحيث لا يمكنه مراعاته؛ فإنه لا يكون تحت يده.
وعكس الماوردي الفرق فقال: ما بقرب البالغ لا يحكم بكونه له، بخلاف الصبي؛ لأن الكبير يقدر على إمساك ما يفارقه من مال أو فرس، فإذا لم يفعل ارتفعت يده؛ فزال الملك، والصغير يضعف عن إمساك ما يفارقه؛ فجاز أن ينسب إليه ملكه، وأنه في حكم ما بيده.
قال: "وإن وجد في بلد المسلمين" أي: سواء خطه المسلمون: كبغداد، والبصرة، والكوفة، أو [لم] يخطوه، لكنهم فتحوه: إما صلحاً على أن تكون رقبته لنا أو لهم وعليهم الجزية، وإما عنوة وتركناهم فيه بالجزية.
قال: وفيه مسلمون، أو في بلد كان لهم ثم أخذه [الكفار]، أي: وفيه مسلمون- كطرسوس، والمصيصة- فهو مسلم، أي: محكوم بإسلامه ظاهراً؛ لأن المسلمين إن كانوا أكثر فالظاهر أنه منهم، والحكم يتبع الظاهر.
وإن كان الأكثر خلافهم فهو متردد بين أن يكون مسلماً أو كافراً، والدار دار الإسلام، فغلبناه؛ لعلوه وانحطاط غيره عنه.
وقال الإمام في الثانية: يجوز أن تجري هذه الدار مجرى دار الكفر؛ لغلبة الكفر عليها.
أما إذا أخذ الكفار بلد المسلمين، ولم يبق فيه من يتظاهر بالإسلام فهو كافر – كما سنذكره في بلد الكفار- نص عليه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما.
وعن أبي إسحاق: أنه مسلم؛ لأن الدار دار إسلام، وربما يبقى فيها من يكتم إسلامه [أو إيمانه].
قال: وإن وجد في بلد فتحه المسلمون ولا مسلم فيه، أو في بلد الكفار ولا مسلم فيه فهو كافر؛ لأن حكم الإسلام إنما يغلب في حالة الاحتمال، ولا احتمال في هذه الحالة، وادعى الإمام: أن أئمتنا لم يختلفوا في الأولى، وعدم الاختلاف في الثانية الأولى.
وفي "التتمة" حكاية وجه مخرج فيما إذا وجد في بلد فتحه المسلمون، وأقر الإمام أهلها فيها على خراج يؤدونه: أنه يكون مسلماً؛ لجواز أن يكون فيها مسلم لم يظهر إسلامه.
قال: وإن وجد في بلد الكفار وفيه مسلمون، فقد قيل: هو مسلم؛ تغليباً للإسلام، كما ذكرنا، [وهذا قول ابن أبي هريرة، وهو ظاهر كلام الشافعي، كما قال الماوردي].
وقيل: هو كافر؛ تغليباً لحكم الدار، ولا فرق عند الفوراني بين المجتاز والمقيم من المسلمين في ذلك [البلد]، وأنه لو نفى من في البلد المسلمين اللقيط عنه، لا ينتفي الإسلام عنه، بل يحكم بإسلامه، وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره فرض المسألة في التجار الساكنين والأسارى، ورأى الإمام ترتيب الخلاف في الأسارى على التجار، [وأنه] يشبه أن ذلك في قوم
مَسْبِيِّين؛ لأنهم ممنوعون في الخروج من البلدة، وأما المحبوسون في المطامير فيتجه ألا يكون لهم أثر؛ كما لا أثر [لطروق العابرين من المسلمين].
فرع: حيث حكم على اللقيط بأنه كافر، فلو كان أهل البقعة أصحاب ملك مختلفة، قال الرافعي: فالقياس أن يجعل من خيرهم ديناً.
ثم إذا حكمنا بكونه مسلماً: فإن كان لكونه وجد في بلد المسلمين ولا كافر فيه، فهو مسلم ظاهراً وباطناً، وإن كان لكون فيه مسلمون وكفار، فهو محكوم بإسلامه في الظاهر، دون الباطن؛ قاله الماوردي.
تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أن البدل متى كان فيه مسلمون كان اللقيط مسلماً، وأنه إذا لم يكن فيه مسلم أنه لا يكون مسلماً- قد يوهم أنه إذا وجد فيه مسلم واحد يكون في موضع النظر أو يكون فيه خلاف، وقد صرح القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين والمراوزة بأنه ملحق بما إذا كان فيه مسلمون.
قال: "فإن التقطه حر أمين مسلم مقيم، أقر في يده"؛ لقصة أبي جميلة مع عمر، وقد ادعى الإمام أن ذلك مجمع عليه، وأنه لا يحتاج إلى مراجعة الإمام في ابتداء الأخذ ولا في دوامه، كما في أخذ اللقطة.
ولأنه لابد له من أن يكون في يد من يكفله، فكان الملتقط أحق به.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الملتقط غنياً أو فقيراً، وفي كلام الشيخ من بعد ما يدل عليه.
وفي "المهذب" حكاية وجه: أنه لا يقر في يد الفقير؛ لأنه لا يتفرغ للحضانة لاشتغاله بطلب القوت.
قال: ويستحب أن يشهد عليه وعلى ما معه، وقيل: يجب [ذلك]، وتوجيههما ما تقدم في اللقطة، وقد أثبت بعضهم هذا الخلاف وجهين، وبعضهم قولين بالنقل والتخريج؛ لأنه نص هنا على الوجوب، وفي اللقطة على الاستحباب.
ومنهم من أقر النصين، وهو الأظهر في "الرافعي"، وفرق بأن القصد من اللقطة المال والإشهاد في التصرفات المالية مستحب، وفي اللقيط يحتاج إلى حفظ الحرية والنسب؛ فوجب الإشهاد؛ كما في النكاح.
وأيضاً: فاللقطة يشيع أمرها بالتعريف، ولا تعريف في اللقيط.
وحكى الإمام وجهاً فارقاً بين أن يكون الملتقط ظاهر العدالة؛ فلا يكلف الإشهاد، أو مستورها؛ فيكلف؛ ليصير الإشهاد قرينة تغلب على الظن الثقة به، وهذا الوجه قريب الشبه من وجه حكيناه في عدم وجوب الإشهاد على أخذ الراهن الرهن؛ لينتفع به إذا كان ظاهر العدالة.
ثم إذا أوجبنا الإشهاد فلم يفعله، قال في "الوسيط": لا تثبت له ولاية الحضانة، ويجوز الانتفاع.
قال الرافعي: وهذا يشعر باختصاص الإشهاد الواجب بابتداء الالتقاط، وفيما ادعاه من الإشعار نظر.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن للملتقط ولاية حفظ مال اللقيط كما له حفظ نفسه، وهو وجه حكاه الإمام مع وجه آخر: أنه يتعين عليه رفعه إلى القاضي؛ لأن إثبات اليد على المال يفتقر إلى ولاية عامة أو خاصة، ولا ولاية للملتقط، وإيراد البغوي يقتضي ترجيح الأول، وبه جزم الماوردي؛ حيث قال: لو كان الملتقط أميناً عليه [وعلى] ما معه فيقران في يده، وهل يكون للحاكم عليه نظر أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما- وهو قول أبي علي الطبري-: لا نظر له عليه، ولا اجتهاد له فيما إليه؛ كما لا نظر له في اللقطة على واجدها إذا كان أميناً.
والثاني- وهو قول أبي علي بن خيران-: للحاكم عليه في المنبوذ نظر، وله في كفالته اجتهاد؛ لأنه الولي على الأطفال، [وخالف] اللقطة؛ لأنها كسب.
فإن قيل: هذا عين الخلاف الذي حكاه الإمام؛ فلا جزم.
قلت: لو كان كذلك للزم أن يكون في الافتقار إلى إذن القاضي في استمرار المنبوذ في يد ملتقطه خلاف، وقد ادعى الإمام الإجماع على عدم اعتباره، لكن
يظهر أن المراد من الخلاف: أن اثنين لو التقطا، وتنازعا هل يقرع بينهما؟
وللقاضي مدخلفي ذلك فيرجح واحداً بالاجتهاد، كما قال مثل ذلك في مقاعد الأسواق كما حكيته عنه من قبل.
ويؤيده: أنه حكي عن ابن خيران أن عند تنازع الملتقطين في حضانته أن القاضي يرجح أحدهما.
فإن قيل: قد حكى الماوردي وجهين في أن الملتقط هل يكون خصماً فيما نوزع فيه اللقيط من أمواله أم لا، وذلك يدل على أن الخلاف في ثبوت أصل ولايته.
قلت: لا منافاة في ثبوت ولاية الحفظ وعدم المخاصمة، فإن المودع تثبت له ولاية الحفظ، وليس له المخاصمة على الأصح.
قال: فإن كان له مال كان نفقته في ماله؛ لأنه لو كان في حضانة أبيه الموسر، وله مال كانت نفقته في ماله؛ فهنا أولى.
قال: ولا ينفق عليه الملتقط من ماله بغير إذن الحاكم، [أي]: إذا أمكن؛ لأن الذي يلي التصرف في مال الطفل بغير تولية أبوه وجده، وأما ما عداهما من العصبات فليس له ولاية وإن كان حاضناً؛ فالملتقط أولى، وهذا ما ادعى الإمام نفي خلافه، وكذلك الماوردي، وقال: سواء قلنا: إن للحاكم عليه نظراً أم لا.
وفي الجيلي: أن في "الحاوي" حكاية وجه: أن له أن ينفق بغير إذن الحاكم.
قال: فإن أنفق [عليه من] غير إذنه، ضمن؛ لتصرفه في مال الغير بغير إذنه؛ فأشبه ما لو كان للطفل مال مودع عند إنسان، فأنفق عليه منه بغير إذن وليه؛ فإنه يلزمه الضمان.
وفي كتاب ابن كج وجه غريب: أنه لا يصير ضامناً.
قال: فإن أذن له الحاكم، جاز؛ لأنه أمين، فإذا فوض إليه الحاكم، الإنفاق صار ولياً؛ كالوصي، وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ"، وقيل فيه قولان:
أصحهما: أنه يجوز كما ذكرناه.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يكون قابضاً من نفسه ومقبضاً، وذلك ليس لغير الأب والجد.
قال الإمام بعد حكايته هذا الوجه عن العراقيين: وهذا لا أعرف له وجهاً، ولا آمن أن يكون غلطة من الناسخ.
قلت: قد يظهر وجهه على طريق من أوجب على الملتقط تسليم المال إلى الحاكم؛ فإنه إذا وجب كان في إنفاقه إسقاط لذلك الواجب فيتحد القابض والمقبض، لكن قد قلنا: إن الآجر لو أذن للمستأجر في صرف الأجرة في العمارة، جاز، ولم يخرج على اتحاد القابض والمقبض، وهذا أولى.
وعلى هذا قال الماوردي: ففي كيفية ما يفعل وجهان:
أحدهما: أنه يؤخذ من مال المنبوذ [القدر] الذي ينصرف في نفقته، ويدفع إلى أمين، يتولى شراء ما يحتاج إليه المنبوذ من طعام وكسوة، ثم يدفعه للملتقط حتى يطعمه ويكسوه؛ لأنه أحوط.
والثاني: يأخذ قدر النفقة، ثم يدفع إلى الملتقط؛ ليتولى شراء ذلك بنفسه؛ لما فيه من حق الولاية عليه.
قال: "وإن لم يكن حاكم، فأنفق من غير إشهاد، ضمن؛ لأنه ترك الاحتياط".
وفي "النهاية" وجه: أنه لا يضمن؛ فيجوز أن يكون عند تعذر الإشهاد، ويجوز أن يكون مع القرة عليه، وإلى ذلك أشار الرافعي بقوله: وفيه وجه: إما مطلقاً، وإما عند تعذر الإشهاد؛ كما ذكرنا في مسألة الجمال.
قال: وإن أشهد ففيه قولان، وقيل وجهان:
أحدهما: يضمن؛ لأنه أنفق بغير إذن معتبر، فكان كما لو أنفق مع وجود الحاكم؛ فعلى هذا: يدفع المال إلى أمين لينفقه عليه.
"والثاني: لا يضمن"؛ لأنه محل الحاجة؛ فإنه لا يجوز تضييع الصبي به، وهو أحق به من سائر الناس، وهذا أصح، وبه جزم المتولي.
قال القاضي الحسين: وهذا الخلاف كالخلاف فيما لو هرب الجمال، فأنفق المستأجر على الجمال بمحضر الشهود دون إذن الحاكم. ثم قال: ويمكن أن نفرق بأن هناك يريد أن يرجع على [الغير بمال؛ فلم يجز له ذلك، وفيما نحن فيه ليس يريد أن يرجع على] أحد بشيء.
وفي "الحاوي": أن من أصحابنا من جعل المستأجر يرجع، وجعل الملتقط ضامناً؛ لأن المستأجر مضطر إلى استيفاء حقه، وليس الملتقط مضطراً إلى التقاطه. ثم قال: وهذا لا وجه له؛ لأنه ربما وجده ضائعاً في مهلكة فلزمه أخذه.
وعلى الأصح قال مجلي: يجب أن يشهد في كل مرة.
قال: "فإن لم يكن له مال وجبت نفقته في بيت المال" أي: من سهم المصالح- كما صرح به الإمام وغيره- لقول عمر في خبر أبي جميلة: "لك ولاؤه وعلينا نفقته".
وقد روي أن عمر- رضي الله عنه استشار الصحابة في نفقة اللقيط، فأجمعوا على أنها في بيت المال، كما حكاه القاضي الحسين والإمام. ولأن البالغ المعسر ينفق عليه من بيت المال؛ فاللقيط العاجز أولى.
قال: "فإن لم يكن في بيت المال شيء" أي: أو كان ولكن ثم ما هو أهم [من ذلك كسد ثغر] يعظم ضرره لو ترك "ففيه قولان:
أحدهما: يستقرض له في ذمته" أي: من المسلمين؛ كالمضطر إلى الطعام يجبر من هو معه على دفعه ببدله، وهذا ما قال به الأكثرون كما حكاه أبو الطيب. فعلى هذا: لو امتنع أهل تلك البلدة من الإقراض، حصرهم الحاكم، وأحصى نفسه معهم، وقسط نفقته عليهم بالحصص، ثم ينظر:
فإن حصل في بيت المال شيء قبل بلوغ اللقيط ويساره، قضاه منه.
قال القاضي أبو الطيب: لأنه لما وجب الإنفاق عليه منه ابتداء، وجب القضاء منه في الثاني؛ كما نقول في ماله. وهذا يوهم أن القضاء يكون من سهم المصالح؛ لأنه ابتداء يجب فيه، وليس الأمر كذلك؛ بل القضاء يكون من سهم الفقراء والمساكين والغارمين؛ لأنه دين ثبت في ذمة اللقيط على هذا القول.
ولو بان رق اللقيط أو غناه، رجع على سيده أو في ماله.
وكذا لو اكتسب قبل حصول شيء في بيت المال، قضى ما أقرض له من كسبه.
ولو حصل لبيت المال واللقيط مال دفعة واحدة، قضى من مال اللقيط.
قال: "والثاني: يقسط على المسلمين من غير عوض؛ لأنه آدمي محتاج له حرمة وقد عجز عن نفقته فكانت على المسلمين؛ كنفقة المجنون والفقير الزمن، وهذا ما يقتضي إيراد الغزالي ترجيحه".
فعلى هذا: إن قام بها البعض، اندفع الحرج عن الباقين، وإن امتنعوا طالبهم الإمام، فإن أصروا قاتلهم؛ فإن تعذر الإنفاق، استقرض على بيت المال، وأنفق عليه.
ثم حيث قلنا بالتقسيط فذاك عند إمكان الاستيعاب، أما إذا كثروا وتعذر التوزيع عليهم، قال الإمام: يضربها الإمام على من يرى منهم باجتهاده، فإن استووا في نظره تخير.
وحكى الإمام: أن هذا الخلاف يجري فيمن أنفق على فقير مضطر بالغ
بأمر الإمام عند خلو بيت المال عن مال، ولم يقصد المنفق تبرعاً هل يرجع به على بيت المال أم لا؟
وأما الفقير إذا أيسر، فلا يرجع عليه بحال، وما ذكره المصنف هو طريقة أبي إسحاق المروزي، والشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب، وابن الصباغ، ووراءها طريقان:
أحدهما: ذكر في "المهذب" و"الحاوي": أن اللقيط إذا لم يكن له مال ففي نفقته قولان:
أحدهما: أنها في بيت المال، وهو الأصح، فعلى هذا لا يرجع على أحد بما أنفق.
والثاني: لا يجب في [بيت] المال؛ لجواز رقه أو حريته، وله مال أو قريب موسر تلزمه نفقته؛ فتكون على سيده وفي ماله وعلى قريبه، وبيت المال لا يلزم فيه إلا ما لا وجه له سواه.
فعلى هذا: يجب على الإمام أن يقرض له ما ينفق عليه من بيت المال أو من أحد من المسلمين، فإن لم يمكن جمع الإمام من له مكنة، وعد نفسه منهم، وقسط نفقته عليهم، فإن بان عبداً أو له قريب أو مال رجع على مولاه وفي ماله وعلى قريبه، فإن لم يكن ذلك، رجع في كسبه، فإن لم يكن له كسب، قضى من سهم من يرى من المساكين أو الغارمين.
والطريق الثاني- حكاه القاضي الحسين-: أن نفقته عند عدم ماله في محلها قولان:
أحدهما: في بيت المال، فإن لم يكن ذلك، رجع في كسبه، فإن لم يكن له كسب، قضى من سهم من يرى من المساكين أو الغارمين.
والثاني: يجب على كافة الناس، والإمام يحسب مياسير البلد، ويضرب على جماعة منهم.
فعلى هذا: إذا بلغ اللقيط، قال الصيدلاني: ليس لهم الرجوع عليه، ومن أصحابنا من قال: لهم الرجوع؛ كما في المضطر.
فرع: حيث قلنا: يستقرض، فلو أمر الحاكم الملتقط أن ينفق عليه قرضاً؛ ليرجع- قال الشافعي هنا في "المختصر"، وفي الدعاوى: إنه يجوز.
وقال في "الأم" في الضالة: أنه لا يأذن لواجدها في الإنفاق عليها من مال نفسه ليرجع على صاحبها، بل يأخذ المال منه، ويدفعه إلى أمين، ثم الأمين يدفع إليه كل يوم.
فمن الأصحاب من جعل في المسألتين قولين، أشبههما عند الشيخ أبي حامد: الجواز؛ لما في ذلك من العسر.
ومنهم من أقر النصين، وفرق بأن اللقيط لا ولي له ظاهر؛ فجاز أن يجعل القاضي الملتقط ولياً، وصاحب اللقطة قد يكون رشيداً لا يولى عليه.
وهذا الخلاف مفرع على القول بأن للملتقط أن ينفق على اللقيط من ماله بإذن الحاكم، أما إذا قلنا: ثم إنه لا يجوز، فهاهنا من طريق الأولى، صرح به القاضي الحسين عن شيخه.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ قد يفهم أنه لا فرق بين اللقيط المحكوم بإسلامه أو بكفره في الإنفاق عليه من بيت المال، وهو وجه حكاه الأصحاب واستقربه الرافعي؛ فإنه لا وجه لتضييعه، وفيه نظر للمسلمين؛ فإنه إذا بلغ، أعطى الجزية.
والصحيح: أن ما ذكره في اللقيط المحكوم بإسلامه، ويدل عليه أنه قال: والثاني: يقسط على المسلمين. فلو كان المراد الذمي والمسلم، لما اختص المسلمون بذلك.
وقد جزم في "الحاوي" بأن المحكوم بكفره لا ينفق عليه من بيت المال؛ لأن مال بيت المال مصون لصالح المسلمين دون المشركين.
ثم إن تطوع أحد من المسلمين أو من أهل الذمة بالنفقة عليه، وإلا جمع الإمام أهل الذمة الذين كان المنبوذ بين أظهرهم، وجعل نفقته مقسطة عليهم؛ ليكون ديناً لهم إذا ظهر أمره، فإن ظهر له سيد أو قريب موسر رجع بها عليه، وغن لم يظهر ذلك كانت ديناً عليه، يرجعون بها في كسبه، وهذا ظاهر النص كما حكاه القاضي الحسين.
قال: وإن أخذه عبد [أي]: بدون إذن سيده أو فاسق، [لم يقر في يده] أي: يخشى منه استرقاقه انتزع منه؛ لاشتغال العبد بخدمة السيد، وتهمة الفاسق أن يسترقه، ولأنهما ليسا من أهل الأمانة والولاية، وبهذا خالف التقاط المنبوذ اللقطة حيث تصح من العبد والفاسق على قول؛ لأن اللقطة جهة اكتساب، والعبد والفاسق في الكسب سواء.
أما إذا أذن السيد لعبده في التقاطه، جاز، وكان السيد هو الملتقط، وهو نائبه في الأخذ والتربية.
ولو كان الملتقط يؤمن على اللقيط من استرقاقه وهو غير مأمون على ماله، قال الماوردي: فهذا يقر المنبوذ في يده وينزع المال منه؛ لأنه قد صار له بالتقاطه حق في كفالته، فما لم يخرج عن حد الأمانة [فيه] كان مقراً معه، وليس يراعي فيه العدالة؛ فيكون جرحه في شيء جرحاً في كل شيء، وإنما تراعى فيه الأمانة، وقد يكون أميناً في شيء وإن كان غير مؤتمن في غيره.
وهذا يوافق كلام المصنف في أول الباب، وكلام غيره يقتضي أنه ينزع؛ لأنه جعل العدالة شرطاً، حتى زاد الرافعي فقال: المبذر المحجور عليه لا يقر اللقيط في يده؛ فإنه ليس مؤتمناً شرعاً، وإن كان عدلاً، وفرع الماوردي على ما قرره: أن الملتقط لو كان أميناً على ماله غير أمين على نفسه: إما من استرقاقه، وإما لأنها ذات فرجح فينزع المنبوذ منه، وفي إقرار المال معه وجهان، ووجه التقرير هنا بعيد جداً.
فرعان:
من نصفه حر ونصفه رقيق إذا التقط منبوذاً في نوبة نفسه ففي استحقاقه الكفالة وجهان في "الحاوي".
وفي "المعتمد": المكاتب إذا التقط بغير إذن سيده لم يقر في يده عند الجمهور.
وفي "الحاوي": أنا إن عللنا المنع في العبد بكونه ليس بأهل الولاية؛ فكذلك
هاهنا: وإن عللناه بكونه مشتغلاً بخدمة السيد، فالمكاتب مستحق للكفالة؛ لأنه أملك من السيد بمنافع نفسه.
ثم على المشهور: لو كان الالتقاط بإذن سيده على أن يكون هو كافله، خرج على تبرعاته بإذن السيد، وإن أذن له في أن يلتقطه للسيد جاز.
قال الرافعي: ويشبه أن يكون على الوجهين في التوكيل في الاصطياد.
قال: وإن أخذه كافر أي: عدل في دينه، فإن كان اللقيط محكوماً بإسلامه، لم يقر في يده؛ لقوله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ولأنه غير مأمون عليه في يده من أن يسترقه، وفي دينه أن يفتنه، وفي ماله أن يتلفه؛ لأن عداوة الدين تبعث على ذلك كله.
قال: وإن كان محكوماً بكفره أقر في يده؛ لأنه أهل للحضانة، بدليل ولده. وكذا لو التقطه مسلم أقر في يده.
قال: "وإن أخذه ظاعن" أي: مسافر، [فإن] لم تختبر أمانته، لم يقر في يده"؛ لأنه لا يؤمن أن يسترقه في غيبته، وهذا بخلاف ما لو أخذه من لم تختبر أمانته، وكان مقيماً، فإنا لا ننزعه من يده؛ لأن الظاهر الأمانة، لكن يوكل به الإمام من يراقبه من حيث لا يدري؛ كي لا يتأذى؛ فإذا وثق به، صار كمعلوم الأمانة.
قال: وإن اختبرت نظر فإن كان ظاعناً إلى البادية واللقيط في الحضر لم يقر في يده"؛ لأنه ينقله من العيش في الرخاء إلى العيش في الشقاء.
ولأن البلد أرفق باللقيط [وأحظ له]؛ لوجود من يعلمه، ويؤدبه فلا يفوت عليه ذلك، ولأنه أرجى لظهور نسبه، وأبعد عن استرقاقه.
فعلى العلة الأولى: لو نقله إلى موضع قريب من البلد يسهل تحصيل ما يراد منها، أقر في يده، وهو المنصوص، وبه أجاب المعظم.
وعلى العلة الثانية والثالثة: ينتزع.
قال: "وإن كان ظاعناً إلى بلد آخر"، أي والطريق آمن، وبينهما أكثر من يوم وليلة ودون مسافة القصر، بحيث أن تكون أخباره متصلة، والورود منه كثير- "ففيه وجهان":
أحدهما: يقر في يده؛ لتساوى البلدين، وهو ظاهر النص؛ كما قاله في "المهذب"، واختاره في "المرشد".
والثاني: لا يقر؛ لأن مقامه في البلد الذي وجد فيه أرجى لظهور نسبه، وأبعد عن استرقاقه، وهذا هو المذهب في "تعليق" القاضي الحسين.
أما إذا كان الطريق مخوفاً، أو كان بينهما مسافة شاسعة؛ بأن تصير أخباره منقطعة، والطارئ إليه أو منه نادر: كمن بالعراق إذا أراد نقله إلى المشرق أو المغرب- فلا يقر في يده وجهاً واحداً.
وإن كان بينهما أقل من يوم وليلة، أقر وجهاً واحداً كما قاله الماوردي.
ويجيء فيما ذكرناه من قبل وجه: أنه يمتنع؛ مراعاة لحفظ النسب.
وعلى قول الجواز: لو كان المنقول إليه قرية، والمنقول عنه بلد، فهل يجوز؟ فيه وجهان في "الحاوي".
قال المتولي: ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يريد سفر نقلة أو تجارة أو زيارة.
قال: وإن كان اللقيط في البادية، وأخذه حضري يريد حمله إلى الحضر جاز؛ لأنه أرفق باللقيط.
وحكى عن القاضي الحسين وجه: أنه لا يجوز؛ نظراً للنسب.
قال: وإن كان بدوياً: فإن كان له موضع راتب، أقر في يده؛ [لأن الحلة كالقرية].
وإن كان ينتقل من موضع إلى موضع، أي: لطلب الماء والكلأ- فقد قيل: يقره [في يده]؛ لأنه أرجى لظهور نسبه، وهذا ما اختاره في المرشد.
وقيل: لا يقر؛ لأن اللقيط يشقى بالتنقل، وفيه تضييع لنسبه.
قال: وإن التقطه رجلان من أهل الحضانة، وأحدهما موسر، والآخر معسر- فالموسر أولى؛ لأنه أرفق بالطفل؛ فإنه ربما يوسع عليه، والفقير قد يشتغل بطلب القوت عن الحضانة.
وقيل: هما سواء.
والأول أصح، وبه قال أبو إسحاق.
فعلى هذا: لو تفاوتا في الغنى، فهل يقدم أكثرهما مالاً؟ فيه وجهان في "النهاية".
قال: وإن كان أحدهما مقيماً والآخر ظاعناً أي: واللقيط [في البادية] فالمقيم أولى؛ لأنه أرفق بالطفل، وأحوط لنسبه.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه ينظر:
إن كان الظاعن له موضع راتب في البادية، فهو أولى، وإلا فإن قلنا: له حق الكفالة، كانا سواء.
ولو كان أحدهما ظاهر العدالة بالإخبار، والآخر مستورها – قدم الأول عند الشيخ أبي محمد وغيره.
وقيل: هما سواء.
ولو كان أحدهما كامل الحرية، والآخر متبعضها، وقلنا: له حق الكفالة- فالحر أولى، قاله الماوردي.
وإن كان أحدهما مسلماً، والآخر كافراً، واللقيط كافر- فهما سواء، وقيل: المسلم أولى ليعلمه [دينه]، وهذا خرجه الماوردي من مذهب ابن خيران، كما سنذكره.
وفي بعض الشروح تقديم [الكافر] لأنه على دينه.
ولا تقدم المرأة على الرجل، بخلاف الأم حيث قدمت على الأب؛ لأن الرجل
هنا لا بد له من امرأة تكفله، وهي مساوية للأخرى في كونهما أجنبيتين.
قال: "وإن تساويا وتشاحا أقرع بينهما"؛ لتساويهما في الالتقااط، وتعذر اجتماعهما على حضانته؛ لما في ذلك من المشقة، وعدم إمكان المهايأة؛ لكونها تضر بالطفل لتبدل الأيدي وقطع الألفة واختلاف الأخلاق، وقد قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] وعن ابن خيران- كما حكاه الماوردي والمصنف-: أنه لا يقرع بينهما بل الحاكم يجتهد، ويقدم من يراه أولى، فإن تساويا في نظره، فلا سبيل إلى التوقف. ونسب في "الوسيط" هذا الوجه لابن أبي هريرة، ولعلهما قالا: ولا يخير الصبي بينهما، وإن [كان ابن سبع فأكثر، كما يفعل بين الأبوين؛ لأن التعويل تم على الميل الناشئ من الولادة.
وقال الإمام: يجوز أن يقال: يخير، ويجعل اختياره أولى من القرعة. ثم إنه صور المسألة [إذا] التقطاه صغيراً، ثم لم يتفق انفصال الخصومة إلا بعد بلوغ الصبي سن التمييز. وهذا أحوجه إليه تردده في جواز التقاط المميز. وكلام القاضي الحسين وغيره مطلق.
وأيضاً: فإن بقاء اللقيط في يديهما هذه المدة مستبعد.
قال: "فإن ترك أحدهما حقه" أي: لو غاب "أقر في يد الآخر"؛ لأن المنع كان بحقه، وإلا فهو له حق الالتقاط.
"وقيل: يرفع [الأمر] إلى الحاكم حتى يقر في يد الآخر".
قال الرافعي: كما لو ترك حقه بعد خروج القرعة له؛ فإنا لا نجيز ذلك، وكما لو ترك المنفرد حقه، وسلم اللقيط لأمين بغير إذن الحاكم، وللحاكم على هذا أن يقرع بين الذي لم يترك وبين أمين آخر يعينه.
قال: "وليس بشيء"؛ لأن الحق [كان] لهما، فإذا ترك أحدهما حقه ثبت
للآخر؛ كالشفعة.
ثم اعلم أن ما حكيناه عن الرافعي مصرح بأن محل الخلاف قبل خروج القرعة.
وفي "الحاوي" أجراه في الحالين معاً، وهو الذي يقتضيه إطلاق الشيخ هنا، ومنه يؤخذ أنه إذا كان منفرداً بالالتقاط: أن له أن يترك حقه، ويسلمه إلى الحاكم- وإن لم يكن له عذر- ولا يلزم بحفظه، كما صرح به الماوردي وغيره، بخلاف الوديعة على أحد الوجهين.
وعن ابن كج وغيره حكاية الوجهين هنا- أيضاً- بناء على أن الشرع في فروض الكفايات هل يلزم الإتمام؟ وهل يصير الشارع معيناً له؟ لكن الذي رأى ابن كج ترجيحه: الأول.
ومن قال باللزوم، قال: إذا ترك أحد الملتقطين حقه لا يتركه الحاكم، بل يقرع بينه وبين صاحبه: فإن خرجت القرعة عليه ألزمه القيام بحضانته، كذا صرح به الإمام.
ولا خلاف في أنهما لو تساويا إلى المنبذو ولم يضع يده أحدهما عليه، وقال كل منهما: أنا آخذه وأحضنه- أن للحاكم أن يجعله في يد من يراه منهما أو من غيرهما، نعم: لو سبق أحدهم بالوقوف على رأسه من غير أخذ فهل يقدم بذلك؟ فيه وجهان عن الشيخ أبي محمد، وأظهرهما المنع.
قال: "وإن ادعى كل منهما أنه الملتقط، فإن كان في يد أحدهما فالقول قوله مع يمينه"؛ لأ اليد تشهد له، "وإن كان في يديهما أقرع بينهما؛ لأن الكفالة لا تتبعض، ولا يمكن المهايأة فيها؛ لما ذكرناه؛ فتعينت القرعة. وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، ويجيء فيه وجه ابن خيران: أن الحاكم يقدم أحدهما بالاجتهاد، وفي "المهذب" و"المرشد": أنهما يتحالفان، فإن حلفا أو نكلا، صارا كالملتقطين يقرع بينهما على المذهب، وعلى قول أبي علي بن خيران: يقره الحاكم في يد من هو أحوط له.
والظاهر أن المراد من التحالف هنا: الحلف من كل منهما، كما هو مذكور في
باب التحالف، [و] حينئذ يكون موافقاً لما ذكرناه أولاً، وقد أشار إلى ذلك ابن الصباغ في أثناء الفصل.
قال: "وإن لم يكن في يد واحد منهما، سلمه الحاكم إلى من يرى منهما أو من غيرهما"؛ لأنه لم يثبت لهما حق الكفالة، و"إن قام أحدهما ببينة حكم له"؛ عملاً بها، ولا يكفى فيها إلا شاهدان؛ لأنهما يثبتاان الكفالة، وليست بمال.
قال: وإن أقاما بينتين مختلفتي التاريخ، قدم أقدمهما تاريخاً؛ لثبوت سبقه إلى الالتقاط، ويفارق هذا ما إذا اختلف اثنان في مال، فأقام أحدهما بينة بالملك من سنة، والآخر بالملك من سنتين [حيث] سوينا بينهما على قول؛ لأن الملك قد ينتقل عن الأسبق إلى الأحدث، وليس كذلك هنا؛ فإن يد الملتقط لا تنتقل عنه من غير أن يتغير حاله، وإن كان باقياً بحاله كان حق الالتقاط ثابتاً له، وكان أولى.
قال الشيخ أبو الفرج الزاز: وهذا إذا قلنا: إن من التقط لقيطاً، ثم نبذه، لم يسقط حقه، فإن أسقطناه، فهو على القولين في الأموال.
قال: وإن كانتا متعارضتين، أي: بأن كانتا مطلقتين أو مؤرختين وقتاً واحداً، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة- سقطتا في أحد القولين، وصار كما لو لم تكن لهما بينة". لعدم المرجح.
والقول الثاني: أنهما تستعملان بالقرعة، ولا يجيء قول الوقف؛ لما في ذلك من الإضرار بالطفل، ولا قول القسمة؛ لعدم إمكانها، وعلى هذا: من خرجت له القرعة هل يحلف معها؟ فيه قولان.
قال: وإن ادعى [مسلم نسبه]، لحق به؛ لأنه أقر له بحق لا ضرر فيه على غيره؛ فأشبه ما لو أقر له بمال.
وأيضاً: فإن إقامة البينة على النسب تعسر، فلو لم نثبته بالاستلحاق،
لضاع كثير من الأنساب.
قال: وتبعه في الإسلام؛ لأنه ابنه ولا فرق بين أن يكون في يد الملتقط أو [في يد] غيره [أو في يده ويد غيره]، وقد تنازعا في التقاطه، ويسلم إليه؛ ليكفله، وكذلك ماله، ويعامله معاملة الأولاد في كل شيء، كما صرح به البندنيجي.
ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق بين الحر والعبد، وهو المذهب، وبه جزم في "المهذب"، وكذا القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، إلا أنه إذا استلحقه العبد لا يسلم إليه.
وفي "الحاوي" حكاية وجه: أن العبد لا ينفذ استلحاقه ما لم يصدقه السيد، وغيره حكاه قولاً منصوصاً في الدعاوى، وعن [الشيخ] الشريف ناصر الدين العمري حكاية طريق قاطع بالأول إذا كان مأذوناً له في النكاح، ومضى من الزمان ما يحتمل حصول الولد، وتخصيص القولين بما إذا لم يكن مأذوناً، وسيأتي الكلام في ذلك مرة أخرى، إن شاء الله تعالى.
قال: لو بلغ اللقيط وأنكر النسب فهل ينقطع؟ فيه وجهان، محلهما كتاب الإقرار، فلو أقام آخر بينة: أنه ولده، كانت البينة أولى من الدعوى، فيقدم بها، وينقطع نسبه من الأول.
فلو أقام آخر بينة: أنه ولد على فراشه، كانت أولى من البينة المطلقة، كذا قاله البندنيجي [وغيره] في باب عقل من لا يعرف نسبه.
قال: "فإن كان هو الملتقط استحب أن يقال له: من أين هو ابنك؟؛ كي لا يعتقد أنه يصير ابناً له بالالتقاط والتربية.
فرع: لو كان للمستلحق امرأة وقد أنكرت كونه ابنها لم يلحقها، صرح به القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ وغيرهما.
قال: وإن ادعاه كافر لحق به؛ [لأنه] كالمسلم في النسب، ولأنه أقوى في الفراش من العبد؛ فإنه يثبت له بالنكاح والوطء في ملك اليمين؛ فكان استلحاقه أولى.
قال: وإن أقام البينة على ذلك تبعه الولد في الكفر، وسلم إليهن عملاً بالبينة، وإن لم يقم البينة، لم يتبعه في الكفر؛ لأن الولد يحتمل ان يكون كافراً، ويحتمل أن يكون مسلماً؛ لكون أمه مسلمة، وقد حكمنا بإسلامه بالدار فلا ننقضه مع الاحتمال، ولأنه أقر بما يضره، وما يضر غيره، فقبلنا قوله فيما يضر به من لزوم مؤنة الطفل، ولم نقبله فيما يضر بالطفل وهو جعله كافراً، وهذا ام نص عليه [في هذا النعت في "الإملاء" كما قاله القاضي الحسين، وحمل عليه قول] أبي إسحاق المروزي، قوله في "الدعاوى والبينات" جعلته مسلماً. وقوله هاهنا:"أحببت أن أجعله مسلماً".
قال: "ولم يسلم إليه؛ كي لا يفتنه، وهو ظاهر كلام الشيخ هنا، وإطلاق غيره يقتضي أن ذلك على وجه الوجوب".
وقال في "المهذب": [و] يستحب أن يسلم إلى مسلم إلى أن يبلغ؛ احتياطاً للإسلام.
قال: "وقيل: إن أقام البينة جعل كافراً قولاً واحداً؛ لما سبق، وإن لم يقم البينة، ففيه قولان".
وجه جعله كافراً- وهو ما استنبط من قوله هنا: "أحببت أن أجعله مسلماً"-: إن كل ما يثبت به نسبه يثبت به دينه كالبينة، وعلى هذا: يحال بينه وبين اللقيط أيضاً، [ويكون] كما لو وصف ولد الذمي الإسلام، صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. وهذه طريقة أبي علي الطبري، والأولى أصح عند القاضيين الحسين والطبري وغيرهما، وجعل الماوردي محل الخلاف في الحكم يتبعه في الكفر إذا استلحقه قبل أن يصدر من اللقيط صلاة وصوم، أما إذا صدر منه ذلك
والتزام شرائع الإسلام، فلا يغير عن حكم الإسلام".
قال: "وإن ادعته امرأة، لم يقبل في ظاهر النص إلا ببينة" أي: تشهد بالولادة، ولا يثبت بالقافة كما صرح به البندنيجي، وهو الأظهر في الطرق؛ لإمكان إقامة البينة على ذلك، بخلاف الرجل فإنه لا يمكنه ذلك؛ ألا ترى: أنه لو علق طلاقها على ولادتها لا يقع إلا ببينة، ولو علقه على حيضها قبل قولها مع يمينها؟
"وقيل: يقبل"؛ لأنها أحد الأبوين؛ فصحت دعوتها كالأب، ولأن لحوق الولد بالمرأة أقوى من الرجل؛ لمساواتها له في كل سبب، وانفرادها بالتحاق ولدها من الزنى، وإذا كانت آكد حالاً في ذلك كان قبول دعوتها أولى، وما فرق به يبطل بإمكان إقامة البينة على الفراش؛ فإن الأب متمكن منها، ومع ذلك لا يكلفها، وهذا ما قال الشيخ أبو حامد: إنه رآه الشافعي في اللعان أو في غيره. فعلى هذا: إن كانت فراشاً لزوج أو سيد، لم يلحق به، وإن كانت رقيقة، لم يتبعها في الرق. وحكى الإمام وجهين في كتاب اللعان، في أن القائف لو ألحق الولد بالزوج، هل ينزل منزلة البينة على ثبوت الولادة؟ وأصحهما: أن الولادة لا تثبت.
وقيل: إن كان لها زوج لم يقبل"؛ لأنه لو لحق بها لوجب لحوقه بزوجها؛ لأن الفراش لا يتبعض؛ بدليل: أنه يلحق به إذا قامت بينة على ذلك، ولا يجوز إلحاقه بالزوج مع جحوده بإقرارها؛ كما أن أحد الابنين لو أقر بأخ، لا يلحق بأخيه المنكر.
"وإن لم يكن لها" زوج "قبل؛ لوجود ما ذكرناه وانتفاء المانع، قال البندنيجي: وليس يعني بالزوج أن تكون في عصمة زوج؛ بل المراد أن تكون فراشاً لشخص لو ثبت نسب اللقيط منها بالبينة للحق صاحب الفراش، سواء كانت في عصمته أو في عدة طلاق أو وفاة. قال: "وإن ادعاه اثنان" أي: معاً، وهما ممن يصح استلحاقهما، [أي]: سواء كانا مسلمين أو مسلماً وكافراً [أو
حرين] أو حر وعبد أو ذكرين أو امرأتين، "ولأحدهما بينة، أي: بأنه ولد على فرشه عند تنازع رجلين، أو ولدته عند تنازع امرأتين- "قضى له"؛ عملاً بالبينة، ويلحق الولد في هذه الحالة زوج المستلحقة إن كان العلوق به منه ممكناً، ولو أقامت البينة على أنه ولدها ولم تتعرض للفراش، ففي ثبوت نسبه من الزوج وجهان عن حكاية أبي الفرج الزاز.
قال: وإن لم يكن لواحد منهما بينة، أو لكل واحد منهما بينة- "عرض" الولد "على القافة"؛ لأن لها أثراً في الأنساب عند الاشتباه والاختلاف، كما ستعرفه في "باب ما يلحق به النسب".
وفي "المهذب" حكاية وجه: أنه لا مدخل للقافة في الحاق الولد بأمه، وإنما يحكم بها في الإلحاق بالأب.
ونسبه الماوردي إلى ابن أبي هريرةن وعلى الصحيح المنصوص- وهو دخولها فيه- إذا ألحقه بإحدى المرأتين عند عدم البينة فهل يلحق بزوجها؟ فيه وجهان في "الحاوي" و"النهاية"، والصحيح: اللحوق.
ولا فرق فيما ذكره الشيخ عند إقامة البينة بين أن يقول: إذا تعارضت البينتان في الأموال، تسقطان أو تستعملان، [و] على قول الاستعمال في الأموال في كيفيته ثلاثة أقوال، لا يجيء منها هاهنا شيء؛ لأنه لا يمكن القسمة ولا الوقف، ولا مدخل للقرعة في النسب، وإنما يدخل في المال؛ لأن [البينة] ترجح باليد فجاز أن ترجح بالقرعة، والنسب بخلاف ذلك.
قال القاضي أبو الطيب والحسين، والإمام وابن الصباغ، وغيرهم: لأن ترجيح إحدى البينتين يمكن بالقافة، وانتساب الطفل بعد البلوغ، وذلك أقرب من القرعة.
وفي "المهذب" حكاية وجه، وهو المجزوم [به] في "تعليق" البندنيجي في
موضع منه، ويحكى عن الشيخ أبي حامد [أن] قول القرعة يأتي هاهنا – أيضاً- وأن من خرجت له القرعة هل يحلف معها؟ فيه وجهان. وفي موضع آخر من "تعليق" البندنيجي عند الكلام في تنازع المرأتين: أنه لا مدخل للقرعة في النسب؛ فإنه ليس على قول الشافعي موضع تسقط فيه الأقوال الثلاثة إلا هذا المكان.
ثم أثر استعمال البينة عند إلحاق القائف، أو انتساب الطفل، أو عند خروج القرعة- إن اعتبرناها تظهر فيما لو كان المتنازع في اللقيط امرأتين، ولكل منهما زوج؛ فإنا نلحق الولد بزوج من ألحقه القائف بها، أو انتسب إليها الطفل، أو خرجت عليها القرعة، وإن ماتت إحداهما أو زوجها، وقف من مال الميت نصيب ولد إلى أن يوجد القائف أو ينتسب الطفل.
وحكى الماوردي عن ابن أبي هريرة: أنا إذا قلنا بالتساقط عند تعارض البينتين لا نقول به هاهنا.
والفرق: أنهما لما تكافأتا في الأملاك، ولم يكن ما يرجح يد أحداهما جاز أن تسقطا، ولما أمكن ترجيح إحداهما في الانتساب بالقافة، لم تسقطا، وحكم لمن انضم إلى بينته بيان القافة.
قال: فإن كان لأحدهما يد، لم تقدم بينته باليد [فإن ألحقته القافة بأحدهما لحق به]؛ لأنها لا تدل على النسب فلا ترجيح بها، بخلاف يد المال؛ فإنها تدل على الملك عند تجردها فرجحت البينة بها.
وعن "الإيضاح" للمسعودي، و"أمالي" أبي الفرج الزاز: أن أحدهما لو أقام بينة على أنه في يده منذ سنة، والثاني على أنه في يده منذ شهر، وتنازعا في نسبه- فالتي هي أسبق تاريخاً أولى. وهذا كلام لا طائل تحته.
واعلم أنه لا فرق فيما ذكره الشيخ بين أن تكون اليد للملتقط [أو لغيره، نعم: لو كانت اليد للملتقط]، وقد استلحقه، وحكمنا له بالنسب ثم ادعاه آخر-
فإنه يعرض مع الثاني على القائف: فإن نفاه عنه [بقي لاحقاً بالأول، وإن ألحقه بالثاني عرض مع الملتقط عليه: فإن نفاه عنه]، فهو للثاني، وإن ألحقه به، فقد تعذر العمل بقول القائفن فيوقف- كما سنذكره- وهذا ما حكاه الرافعي عن الشافعين وبه جزم البندنيجي.
وقيل: يعرض عليها دفعة واحدة كما لو تداعياه معاً.
وإن كان صاحب اليد غير الملتقط، وقد استلحقه وحكم له بالنسب، ثم جاء آخر وادعى نسبه؛ فقد حكى الإمام [و] الغزالي: أنه لا يلتفت إلى الثاني؛ لثبوت النسب من الأول معتضداً باليد. وإن لم يسمع استلحاقه إلا بعد ما جاء الثاني واستلحقه، ففيه وجهان:
أحدهما: يقدم صاحب اليد كما يقدم استلحاقه.
وأشبههما: التساوي؛ لأن الغالب من حال الأب أنه يذكر نسب ولده، ويشهره؛ فإذا لم يفعل، صارت يده كيد الملتقط في أنها لا تدل على النسب.
وحكى العمراني عن ابن القطان أنه قال: إذا ادعى رجلان نسب لقيط فهل يقدم السابق بالدعوى، وكذا هل يقدم صاحب اليد بها؟ فيه وجهان:
منهم من قال: يقدم.
فعلى هذا إذا سبق واحد وادعى ثبت نسبه، ولو كان في يد غيره، فلو ادعى نسبه بعد ذلك آخر لم يقبل وإن كان في يد المدعي ثانياً.
ولو ادعى [رجلان] نسبه معاً وكان في يد أحدهما قدم صاحبه اليد به.
ومنهم من قال في أصل المسألة: السابق والمتأخر سواء، ولا يقدم أحد باليد؛ بل يرى القائف.
فرع: إذا كذب أحد المدعين نفسه في دعواه النسب، وبقي الآخر مصراً عليه – قال العراقيون في أوائل كتاب الجنايات: إن نسب اللقيط يتعين من الآخر.
وحكى الفوراني في "الإبانة" ذلك قولاً مع قول آخر: أنه لا يتعين؛ بل يصير كما لو ولطئ رجلان امرأة، فأتت بولد يمكن أن يكون منهما، ونفاه أحدهما عن
نفسه بغير لعان، وادعاه الآخر- فإنه لا يلحق بالمدعي بمجرد ذلك، ولا ينتفي عن الثاني؛ بل يعرض على القائف.
وفي "التهذيب" حكاية وجه في الصورة الأخرى.
قال: فإن ألحقته [القافة] بهما، أو نفته عنهما، أو أشكل عليها، [أو] لم تكن قافة- ترك حتى يبلغ فينتسب إلى من تميل إليه نفسه"؛ لما سيظهر في "باب ما يلحق به النسب".
وقد حكى الماوردي قولاً: أنه لا ينتظر البلوغ؛ بل سن التمييز سبع سنين أو ثمان، وهو مذكور ثم عن القديم.
ثم نفقة اللقيط في مدة الانتظار عليهما، فإذا انتسب إلى أحدهما، رجع عليه الآخر بما أنفق إن كان الإنفاق بإذن الحاكم، كما قيده الرافعي في الباب الثاني من العدد.
وفي "تعليق" البندنيجي: أنه لا رجوع لمن لم ينتسب الولد إليه؛ لأنه يقول: ما أنفقت إلا على ولدي. وهذا بين.
ولو وجد القائف بعد الانتساب، فألحقه بغير من انتسب إليه- قدم من ألحقه القائف به.
وفيه وجه: أنه لا ينقض ما فعل، كما ستعرفه في "باب ما يلحق به النسب".
وعن أبي إسحاق- فيما رواه ابن كج-: أن الانتساب يقدم على قول القائف.
قال: وعلى هذا إذا ألحقه القائف بأحدهما كان للآخر أن ينازعه، ويقول: ينتظر حتى يبلغ؛ فينتسب.
ولو أقام أحدهما بينة وألحقه القائف بالآخر فالعمل بالبينة.
ولو ألحقه القائف [بأحدهما]، فبلغ، وانتسب إلى غيرهما فهل يقبل منه؟ فيه وجهان في "الحاوي".
وأكثر الفروع المذكور هاهنا في الكتب مذكورة في "باب ما يلحق به النسب" فما أخللت بذكره هنا فليطلب [ثَمَّ].
قال: "وإن ادعى رجل رقه" أي: من ملتقط وغيره كما صرح به في "الحاوي""لم يقبل" أي، قوله؛ لأن الظاهر حريته، وفي قبول خلافه إضرار باللقيط.
ويخالف ما إذا ادعى نسبه حيث يقبل؛ لأن اللقيط لا نسب له فجاز أن يثبت بالدعوى مع أنه لا ضرر فيه، بل يثبت للقيط حقاً.
وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه إن ادعى رقه قبل أن يلتقط قبل كما في دعوى [النسب]، والذي عليه الأكثرون الأول.
وفي "الرافعي": أن اللقيط لو ادعى رقه، وهو في يده، قبل على أحد القولين، وبه جزم الفوراني كما في يد غيره.
ثم إذا بلغ! وأنكر الرق، فهل يستمر على الرق أو يكون القول قوله؟ فيه وجهان، وأصح القولين وبه أجاب في "الصرف": أنه لا يقبل، بل يحتاج إلى البينة، كما ذكره الشيخ.
قال: إلا ببينة تشهد بأن أمته ولدته" أي: فلا تكفي البينة بأنه ملكه مطلقاً؛ لأن البينة قد يكون اعتمادها على ظاهر يد كانت عليه، وتكون اليد يد التقاط، وأمر الرق صعب خطير؛ فاحتيج فيه إلى الاحتياط.
فإذا شهدت البينة بأن أمته ولدته عرف عدم استنادها إلى ظاهر اليد، والغالب أن ما تلده أمة الإنسان ملكه؛ فحكم له بالملك، وهذا ما نص عليه في "المختصر" هنا، وأنه يكفي في ذلك شاهدان، [أو شاهد] وامرأتان، أو أربع نسوة.
قال الماوردي: وتكون شهادتهن بملك الأم؛ عند الولادة مقبولة [تبعاً] للشهادة بالولادة، وهذا إذا لم يكن في ملك الأم منازع، فإن نوزع فيه لم تقبل شهادتهن
بملك الأم فإذا ثبت ملكه لها سمعت شهادتهن بالولادة.
قال: "و [قيل] فيه قول آخر: أنه لا يقبل حتى تشهد بأن أمته ولدته في ملكه"، وهذا نصه في كتاب الدعاوى؛ لأن من اشترى جارية قد ولدت أولاداً يصدق أن يقال: بأن أمته ولدتهم، وليسوا ملكاً له، فإذا تعرضت بأنها ولدته في ملكه انتفى هذا الاحتمال، وهذا ما جزم به البندنيجي، وقال: إنه يكفي في ذلك شهادة رجلين، ورجل وامرأتين، وأربع نسوة.
وقال الإمام: لا تكفي هذه الشهادة أيضاً؛ لأن أمته قد تلد في ملكه حراً بالشبهة ومملوكاً للغير بوصية، ولا خلاف في أنها إذا شهدت أن أمته ولدته مملوكاً له أنه يكفي، ويقوم مقام ذلك إضافة الملك إلى السبي أو الشراء أو الهبة مع الإقباض، ولا بد في هذه الشهادة من رجل.
وقد قيل: إنه تكفي الشهادة بالملك المطلق كما لو شهدت في دار أو دابة أو غيرهما، ويحكى هذا عن نصه في الدعاوى، وعن القديم، وأن المزني اختاره، وكذلك ابن كج وأبو الفرج الزاز.
لكن الذي اختاره الإمام، والبغوي والروياني وآخرون: أن الإطلاق لا يكفي.
وحكى البندنيجي أن بعضهم حمل النصين على حالين: فحيث قال: تكفي، فذاك إذا كانت الدعوى قبل الحكم بحريته. وحيث قال لا تكفي، فذاك إذا كانت الدعوى بعد الحكم بحريته. وأنه ليس بشيء، وأن محل الخلاف في السماع مطلقاً إذا كان المدعى لرقه غير الملتقط، أما إذا كان هو الملتقط فلا يسمع وجهاً واحداً.
وقال الإمام: محلهما إذا كان المدعي هو الملتقط، أما إذا كان غيره، فيسمع وجهاً واحداً. والذي عليه الجمهور: أنه لا فرق، والصحيح في "الوجيز"، والمذهب في "تعليق" القاضي أبي الطيب: ما ذكره الشيخ أولاً، وبعضهم جزم به، وحمل نصه في الدعاوى على التأكيد.
فرع: إذا كان المدعي لرقه هو الملتقط، ولم يثبت رقه، قال في "الحاوي": يقر في يده مع ماله ولا ينزع منه؛ لما استحقه من كفالته بالالتقاط، وعزا ذلك
إلى نقل المزني في "الجامع"، ثم قال: والذي أراه أن انتزاعه من يده واجب؛ لأنه قد خرج بدعوى رقه عن الأمانة في كفالته، وربما صارت استدامة يده ذريعة إلى تحقيق رقه.
آخر: لو شهدت البينة لمدعي الرق باليد، قال في "المهذب": إن كان المدعي الملتقط، لم يحكم له، وإن كان غيره فقولان، وكذا هما في "الحاوي"- أيضاً- لكنه قيد الصورة بما إذا شهدوا باليد قبل الالتقاط:
أحدهما: لا يحكم بأنها موجبة للملك كما لا يحكم بها للملتقط؛ لتغليظه حال اللقيط.
قال الماوردي: فعلى هذا هل يبقى في يده؟ فيه ما تقدم.
والقول الثاني- ذكره المزني في "جامعه الكبير"-: أنه يحكم له برقه بعد حلفه إنه كان في يده رقيقاً، بخلاف الملتقط؛ لأن في إقراره بأنه لقيط تكذيباً لشهوده بأن اليد موجبة للملك. ثم إحلافه هل هو واجب أم مستحب؟ فيه وجهان.
والمذكور في "الشامل": أن غير الملتقط إذا أقام بينة، شهدت له باليد، حكم له باليد، وكان القول قوله مع يمينه، وكذا هو في "تعليق" القاضيين أبي الطيب والحسين، وفي "التتمة".
وحكى الرافعي عن "الشامل" وغيره: أن المدعي إن أقام البينة على أنه كان في يده قبل [أن] التقطه الملتقط، قبلت، وتثبت يده، ثم يصدق في دعوى الرق؛ لأن من ثبتت يده على صغير مجهول الحال، وادعى رقه حكم له به؛ إذا لم يكن في يده غير التقاط، وبمثله أجاب صاحب "التهذيب" فيما إذا أقام الملتقط بينة على أنه كان في يده قبل أن التقطه.
لكن روى ابن كج في هذه الصورة عن النص: أنه لا يرق حتى يقيم البينة على سبب الملك؛ لأنه لما اعترف بأنه التقطه فكأنه أقر بالحرية ظاهراً؛ فلا تزال إلا عن تحقيق.
قلت: وقضية ما حكيته آنفاً عن الرافعي وغيره في قبول قول من ادعى رق اللقيط وهو في يده: أن يجري هاهنا: فيقال: إن أقام غير الملتقط البينة بأنه كان في يده [حكم له بها، ويكون القول قوله في رقه مع يمينه جزماً. وإن أقام الملتقط البينة بأنه كان في يده]، فإن قبلنا قوله في دعواه الرق إذا كان في يده، حكم له باليد، وحلف على رقه، وإلا فلا، ولم أر ذلك لأحد من الأصحاب.
فرع: إذا كان مجهول النسب غير لقيط، فادعى رجل أنه مملوكه، وكان طفلاً لا يعقل- حكمنا أنه ملكه. وإن كان عاقلاً مراهقاً، وادعاه وأنكر الصبي ذلك- فهل يحكم له به أم لا؟ على وجهين في "تعليق" البندنيجين وبناهما غيره على الوجهين في المولود إذا ادعاه اثنان ولا قائف، هل يؤمر بالانتساب لسن التمييز أم ينتظر بلوغه؟ وفي "الحاوي أن الخنثى المشكل: هل يراجع لسن التمييز أم ينتظر بلوغه؟ وعلى قول القبول- وهو المشهور من قول الشافعي-: أنه كالثوب لابد من اليمين؛ لخطر شأن الحرية.
وهل ذلك مستحب أو واجب؟ فيه خلاف، والأول يحكى عن النص.
ثم إذا بلغ، وأقر بالرق لغير صاحب اليد، لم يقبل. وإن قال: أنا حر، فوجهان:
أصحهما- وبه أجاب ابن الحداد-: أنه لا يقبل إلا ببينة، وله تحليف السيد.
والثاني: وبه قال أبو علي الثقفي: أنه يقبل.
والوجهان عند الشيخ أبي علي مبنيان [على القولين] فيمن حكم بإسلامه بأبيه أو بالسابي، ثم بلغ، واعترف بالكفر هل يقبل؟
قال: "وإن قتل اللقيط عمداً، فللإمام أن يقتص من القاتل إن رأى ذلك، وله أن يأخذ الدية إن رأى ذلك" أي: سواء كان القاتل عبداً أو حراً، صدق على حرية اللقيط وإسلامه أو كذب؛ لأنه محكوم بإسلامه وحريته، ولا وارث له؛ فكان حق القصاص للمسلمين، ولنائبهم- وهو الإمام- العمل بما فيه المصلحة، وهذا هو المذكور في كتب العراقيين، وبه قطع بعض الأصحاب كما حكاه أبو الفرج
الزاز، ونفى [أن يكون] في المسألة خلاف.
وحكى المراوزة قولاً آخر: أنه لا قود على القاتل؛ لأنه قد يدرأ بالشبهة.
ووجهه المتولي: بأن الإنسان لا يخلو عن ابن عم وإن تباعد عنه، والحق له على القاتل، ولا ندري حاله، ومن الجائز أنه طفل أو مجنون.
ووجهه غيره: بأنه لو وجب، لوجب لعامة المسلمين.
ومنهم من لا يستوفي القصاص، وهم الصبيان والمجانين، وأبطل صاحب "التقريب" هذه العلة؛ بأن الاستحقاق منسوب لجهة الإسلام لا على آحاد المسلمين، ولهذا لو أوصى من لا وارث له خاصاً [لجماعة] المسلمين، لا تجعل وصيته لارث، وقال: إن الخلاف مبني على أن اللقيط تجري عليه أحكام الإسلام، أو تتوقف فيه إلى أن يعترف بالإسلام؟ فإن قلنا بالأول، أوجبنا القصاص، وإن قلنا بالثاني، فقد فات الاعتراف بقتله فلا يجب.
قلت: وما قاله من الاستشهاد بمسألة الوصية قد يمنعه القائل بالأول؛ فإن لبعض أصحابنا وجهاً: أنه لا تصح الوصية- كما سنقف عليه في موضعه- وخرج الماوردي الخلاف في فصل آخر على القولين في أن اللقيط محكوم بحريته ظاهراً، أم هو مجهول الأصل كما تقدم.
وحكى الماوردي في موضع آخر: أن بعض أصحابنا كان يجعل القولين على حالين، ويقول: إن قتله قبل البلوغ وجب القود، وإن كان بعد البلوغ، فلا؛ لأنه كان يقدر على إظهار حاله. ثم قال: وهذا الفرق مسلوب المعنى؛ لأنه إن اعتبر حال الشبهة، ففي الحالين، وإن اعتبر حال الظاهر، ففي الحالين؛ فلم يكن للفرق بينهما وجه. وهذا منه يدل على اعتقاده إجراء القولين في حال الصغر والكبر، لكن كلام الشيخ في حال الصغر، وأما حال الكبر فسيأتي، وقد نسب القاضي الحسين والإمام قول عدم وجوب القصاص إلى رواية البويطي، والمتولي إلى رواية الربيع.
قال الرافعي: والمفهوم من كلام المعظم أنه غير منصوص عليه، جاء في
المسألة بخصوصها ولكن قال قائلون: اللقيط لا وارث له، وقد روى البويطي قولاً: أنه لا قصاص بقتل من لا وارث له. فيتناول اللقيط تناول العموم الخصوص.
وعن أبي الطيب بن سلمة والقفال تخليجه من أحد القولين في أن من قذف اللقيط بعد بلوغه لا يحد، أما إذا قتل اللقيط خطأ [أو عمد خطأ] فالواجب فيه دية حر، توضع في بيت المال ميراثاً للمسلمين؛ كما يتحمل بيت المال جنايته الخطأ.
وقد حكى القاضي الحسين في كتاب الوصية: أن [مال] من لا وارث له من المسلمين يكون سبيله سبيل المال الضائع، ويشبه أن يجيء مثله في ديته.
قال الرافعي: وقياس من قال بالتوقف في أحكام اللقيط ألا يوجب الدية الكاملة، ولم أَرَ [من] ذكره.
وفي ابن يونس حكاية قولين عن رواية البصريين:
أحدهما: تجب فيه دية الحر.
والثاني: يوقف إلى أن يتبين أنه حر أم عبد، وهما مذكوران في "الإبانة"، وحكاهما القاضي الحسين أيضاً، وقال: إن المذهب الأول.
وحكى الرافعي في موضع آخر من الباب قولاً أن الواجب أقل من الأمرين من الدية والقيمة؛ بناءً على أن الحرية غير مستيقنة، فلا يؤاخذ الجاني بما لا يستيقن شَغْل ذمته به.
قال الإمام: وقياس هذا أن يوجب الأقل من قيمة عبد أو دية مجوسي؛ لإمكان الحمل على التمجُّس.
قال: [وإن] قطع طرفه عمداً، وهو موسر، انتظر حتى يبلغ؛ كي لا يفوت عليه حق التشفِّي والانتقام، وقد ادعى الإمام نفي الخلاف فيه إذا كان عاقلاً مميزاً، وهكذا لو كان معتوهاً موسراً.
وقيل: للإمام في هذه الحالة أن يعفو على مال، حكاه الماوردي.
[و] عن القفال: أن له في حال جنونه أن يقتص، وعلى المذهب: يحبس القاطع إلى أوان الإفاقة؛ كما يحبس إلى أوان البلوغ.
قال: "وإن كان معسراً: فإن كان معتوهاً، كان للإمام أن يعفو على مال يأخذه، وينفقه عليه". أشار الشيخ بهذه التتمة إلى علة الحكم، وهي الحاجة إلى النفقة، مع أن العَتَهَ يخفي وقت زواله، وهذا نصه في "المختصر"، وادعى الإمام نفي خلافه، لكنه زاد في القيود: أن يتحقق مسيس الحاجة إلى المال، [ويبعد] توقع الإفاقة.
وقال المتولي: ليس تتضح هذه المسألة إلا على قول لنا: أن موجب العمد أحد الأمرين، وأن اللقيط إذا لم يكن له مال، فلا يجب على المسلمين نفقته، وإنما يجب إقراضه؛ فيجوز استيفاء المال على طريق المصلحة؛ لأنه أولى من الاستقراض، وربما لا يوجد من يقرضه. وعلى هذا: يجوز له أن يقتص على [وجه]، وهو مطرد في موضع جوزنا له أن يعفو على مال؛ لأنه أحد البدلين فكان له استيفاؤه.
وقيل: ليس له العفو على مال.
قال: "وإن كان عاقلاً، انتظر حتى يبلغ"؛ لما ذكرناه، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أن له العفو؛ نظراً للحاجة إلى النفقة.
قال المتولي: فعلى هذا: لو بلغ، واختار أن يرد الدية، ويقتص، ففيه وجهان؛ كالوجهين فيما إذا عفا وليه عن شفعته لمصلحة، ثم بلغ، وأراد الأخذ بها، وصاحب "التقريب" بناهما على أن أخذ المال عفو كلي وإسقاط للقصاص، أم أخذُ المال سببه الحيلولة لتعذر استيفاء القصاص الواجب؟ وما ذكرناه في أخذ الأرش للقيط يجري في كل طفل يليه أبوه أو جده.
وحكى الإمام عن شيخه: أنه ليس للوصي أخذه، قال: وهو حسن إن جعلناه إسقاطاً، أما إذا جوزناه للحيلولة، فينبغي أن يجوز للوصي أيضاً.
واعلم: أنه لا فرق فيما ذكره الشيخ بين أن يعترف الجاني بحرية اللقيط وإسلامه أو يجحدهما، ويجيء فيه قول آخر- بناءً على مأخذ صاحب "الحاوي"، وأبي الطيب بن سلمة-: أنه لا يجب القصاص، وعلى مأخذ صاحب "التقريب": إن بلغ فأعرب بالإسلام، بان وجوبه، وإلا بان عدمه.
قال: "وإن بلغ، فقذفه رجل، وادعى بأنه عبد، وقال اللقيط: بل أنا حر- ففيه قولان" أي: منصوصان في "المختصر":
أصحهما: أن القول قول القاذف" أي: في درء الحد؛ لأنه يحتمل أن يكون عبداً، والأصل براءة الذمة من الحد مع أنه يسقط بالشبهة، وهذا ما نص عليه في اللعان.
ومنهم من جزم به؛ بناءً على أن اللقيط غير محكوم بحريته ظاهراً، فعلى هذا يجب عليه التعزير.
والقول الثاني: أن القول قول اللقيط؛ لأنا حكمنا بحريته ظاهراً؛ فلا ننقضها بالدعوى.
وأيضاً: فكما وجب القصاص بالجناية عليه فكذلك يجب الحد بقذفه. وهذا ما نص عليه هنا، واختاره المزني، وصححه الشيخ أبو علي، ومنهم من قطع به، وحمل الأول على مجهول لم تعرف حريته بالدار.
ومن جزم بالأول، فرق بين القذف والقتل إن سلّم وجوبه: بأن المقذوف حي يمكنه إقامة البينة على حريته؛ فإذا عجز عنها، ضعف حاله، والمقتول لا يقدر على إقامة البينة بعد قتله؛ فعمل فيه ظاهر حاله كالدية.
ولا خلاف أن اللقيط لو سكت بعد القذف، ولم يدع الحرية، وطالب بالحد: أنه لا يجب، صرح به الماوردي وغيره.
قال: "وإن جنى عليه حر" أي: بأن قطع طرفه، وقال: أنت عبد، وقال: بل أنا حر- فالقول قول اللقيط، فيحلف، ويقتص منه؛ لأن القصاص وجب من جهة الظاهر والقيمة مشكوك فيها، فلو تركنا القصاص إلى الدية عدلنا من الظاهر إلى مشكوك فيه، وذلك ممتنع. وتخالف المسألة قبلها؛ لأن التعزير ثَمَّ واجب،
وهو بعض الحد فهو متيقن، فإذا تركنا إليه، عدلنا من الظاهر إلى يقين ولأن القصد من القذف الزجر، والتعزير يحصله، ومن القصاص التشفي، وهو لا يحصل بالمال، ولأن القصاص آكد ثبوتاً من حد القذف، بدليل ثبوته لغير العفيف وللصغير على الكبير، بخلاف حد القذف، وهذا ما نص عليه.
"وقيل: فيه قولان؛ كالقذف"، والجامع: قدرة اللقيط على إقامة البينة على الحرية، وهذه الطريقة التي أوردها الفوراني.
قال: وإن بلغ القيط، ووصف الكفر: فإن كان قد حكم بإسلامه تبعاً لأبيه، [فالمنصوص: أنه لا يقر عليه.
أشار الشيخ بهذا الفصل إلى أمرين:
أحدهما: أن إسلام الطفل يحكم به تبعاً لأبيه].
والثاني: أنه إذا وصف الكفر بعد ذلك وبعد بلوغه، هل يقر عليه أم لا؟
والثاني مرتب على الأول، فنقول: إذا أسلم الأبوان قبل بلوغ الطفل، حم بإسلامه، سواء كان لقيطاً وغير لقيط، وهذا مما لم يختلف العلماء فيه؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، وهكذا الحكم فيما إذا أسلم الأب. وسواء كانا في دار واحدة، أو كان الأب في دار الكفر والابن في دار الإسلام، كما قاله القاضي في "الفتاوى".
وصوره بما إذا سبي الصغير مع أمه.
وأما إذا أسلمت الأم والأب كافر، فهو عندنا كذلك، خلافاً لمالك؛ فإنه أتبعه بأبيه في الكفر، ولم يتبعه لأمه في الإسلام كما لا يتبعها في الأمان، ولنا عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"الإِسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعْلَى عَلَيْهِ".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ؛ كَمَا تنْتجُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ، هَلْ [تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ]؟! " قال: يا رسول الله،
أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"، فأخبر أن الأبوين معاً يهودان الصبي، وينصرانه، [وعنده يهوده أحدهما].
ومعنى قوله: "يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ" أي: على الإقرار بأن الله [تعالى] خالقه، وضرب لليهود والنصارى مثلاً بالإبل إذا أُنتجت من بهيمة جمعاء- أي: سليمة- سميت بذلك؛ لاجتماع السلامة لها في أعضائها، فتُجدع أنوف نتاجها، وتفقأ عيونها.
وأيضاً: فإنه يتبع الأم إذا كان حملاً فيتبعها إذا انفصل؛ كالأب، مع أنه يتبعها في الرق والحرية؛ لكونه منها حقيقة، فكانت التبعية بها في الإسلام أولى، ولبعض أصحابنا شيء في تبعيته للأم سنذكره في قتال المشركين، إن شاء الله تعالى.
ولا فرق عندنا في ذلك بين أن يبلغ الصبي سن التمييز، ويحكم بإسلامه إذا اعترف به أم لا، وإن كان لأصحاب أبي حنيفة تردد في منعه.
قال الإمام: وهو موضع التردد؛ لأن الجمع بين إمكان الاستقلال وبين إثبات التبعية بعيد؛ فإن البالغ العاقل لما قدر على الاستقلال، لم يتبع غيره في الإسلام اتفاقاً.
وحكم من بلغ مجنوناً، ثم استمر إلى أن أسلم أحد أبويه- حكم الصغير عندنا. ولو كان مجنوناً عند الإسلام، وقد بلغ عاقلاً، ففي تبعيته وجهان، أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين الاستتباع-[أيضاً- كما] أن الأصح عود ولاية المال لأبيه. وهو الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب كما قال الماوردي، وجعله القاضي أبو الطيب والمصنف في كتاب السير المذهب.
ولو كان عند الإسلام بالغاً [عاقلاً]، ثم جن بعد ذلك، فهو كافر.
وإسلام الجد وإن علا من قبل الأبوين عند فقد مَنْ دونه، وكذا الجدة وإن علت من قبل الأبوين عند فقد من دونها- كإسلام الأب والأم في التبعية.
ولو كان ثم من هو أقرب منهما كافراً: كما إذا أسلم الجدُّ، والأبُ كافرٌ، أو الجدة، والأم كافرة، أو الجدة، والأب كافر- ففي الحكم بتبعية الولد في الإسلام وجهان:
أقربها في "الرافعي": الاستتباع؛ لأن سبب التبعية القرابة، ولأنها لا تختلف بحياة الأب وموته؛ كسقوط القصاص، وحد القذف.
والمذهب في "تعليق" القاضي الحسين: عدمه.
وسنذكر في باب قتال المشركين طريقين آخرين فيه.
وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب في باب دعوى الأعاجم: أن القاضي أبا الطيب قال: سمعت أبا الحسين الماسرجسي يقول: سمعت أبا علي بن أبي هريرة يقول: إذا كان الصغير ذميّاً، فأسلم جده، هل يكون إسلاماً له؟ فيه وجهان لأصحابنا، ووجه المنع: أن إسلام الجد لو كان إسلاماً له، لوجب أن يحكم بإسلام جميع الأطفال بإسلام جدهم آدم؛ لأنه جد الأجداد.
والماوردي حكى في الباب المذكور في تبعية ولد الولد لجده أو جدته ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان الأب أو الأم موجوداً، لم يتبع، وإلا تبع، [قال القاضي الحسين في باب دعوى الأعاجم: والوجهان في تبعية الجد دون الأب يجريان في انعقاده مسلماً إذا تقدم إسلام الجد وبقي الأب كافراً عند العلوق].
وإذا حكمنا بإسلامه تبعاً، أجرينا عليه جميع أحكام الإسلام، حتى لو كان عبداً أجزأ عتقه عن كفارة الظهار وغيرها، وكان للمعتق وطء المرأة المظاهر عنها في الحال.
فإذا تقرر ذلك، فبلغ الصبي، وعقل المجنون، ووصف الكفر- فالمنصوص في كتاب [السير]: المرتد الكبير أنه لا يقر عليه، ويقتل بالردة. وسواء حصل
إسلام الأبوين بعد العلوق وقبل الانفصال، أو بعد الانفصال- كما صرح به الإمام- لأنه سبق الحكم بإسلامه جزماً في الظاهر والباطن؛ فأشبه من باشر الإسلام، ثم ارتد.
ومن أسلم أحد أبويه قبل العلوق، فإنه لا خلاف أنه لا يقر عليه، وخرج فيه قول آخر- أي من المسألة بعدها-: أنه يقر عليه؛ لأنه كان محكوماً بكفره حين خلق، فأزيل ذلك بطريق التبعية، فإذا استقل، انقطعت؛ فوجب أن يعتبر بنفسه. وهذا ما ادعى الإمام أنَّ مَيْلَ ظاهر النص الذي نقله المزني إليه، ومنهم من لم يثبت هذا القول أصلاً، وقطع بالأول.
فعلى هذا: لا يجب عليه إذا بلغ أو أفاق أن يتلفظ [بكلمة الإسلام ولا ببعض شيء مما أمضيناه من أحكام الإسلام. وعلى الثاني: يجب عليه أن يتلفظ] بكلمة الإسلام بعد البلوغ والإفاقة، حتى لو مات، مات كافراً، [كما] صرح به الرافعي في كتاب الظهار، وهل ينقض ما جرى من الأحكام؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا.
وأظهرهما: أنا [لا] نتبين الانتقاض، ويستدرك ما أمكن استدراكه حتى يسترد ما أخذه [منه] من النفقة من بيت المال كما حكيناه عن النص، وما أخذه من تركة قريبه المسلم، ويأخذ من تركة قريبة الكافر ما حرمناه منه، ويحكم بأن عتقه عن الكفارة لم يقع مجزئاً، ثم ينظر: فإن كان الكفر الذي كان عليه مما يقر عليه بالجزية، فلا نقاتله، ونقره بالجزية، وإن كان لا يقر عليه، ألحقناه بدار الحرب، فلو كان على اليهودية، وأراد أن ينتقل إلى النصرانية، فهو كمن انتقل من دين إلى دين، ومحله نكاح المشركات.
وحكم المحكوم بإسلامه تبعاً للسابي- كما ذكره الشيخ في قتال المشركين- حكم المحكوم بإسلامه تبعاً لأبيه، صرح به القاضي الحسين وغيره.
قال: وإن حكم بإسلامه تبعاً للدار، ثم بلغ ووصف الكفر- فالمنصوص:
أنه يقال له: لا نقبل منك إلا الإسلام. ويفزعه، فإن أقام على الكفر، قبل منه؛ لأنا إنما حكمنا بإسلامه ظاهراً، واختياره عن نفسه أقوى منه، ومما يدل على أن الحكم بإسلامه ظاهراً: أنه لو ادعاه كافر، وقامت بينة على أنه ابنه، حكم بكونه كافراً، ويخالف المسألة قبلها؛ فإنه ثَمَّ مقطوع بإسلامه ظاهراً وباطناً، وكذلك يفارق المسبي؛ لأنا حكمنا بإسلامه تبعاً للسابي، مع علمنا بأن أبويه كافران، وهذا ما اختاره في "المرشد".
قال: "وخرج فيه قول آخر: أنه كالمحكوم بإسلامه بأبيه"، والجامع: الحكم بإسلامه ظاهراً، والقائل بظاهر النص هو أبو إسحاق.
ومن التعليل الذي ذكرناه يظهر لك: أن محل الخلاف إذا حكم بإسلامه تبعاً للدار وفيها كفار، أما إذا لم يكن فيه كفار أصلاً، فهو محكوم بإسلامه ظاهراً وباطناً؛ فلا يقر على كفره قولاً واحداً، كما صرح [به] الماوردي، وذكر تفصيلاً في أصل المسألة: وهو أنه إذا أبى إلا أن يكون مشركاً، سئل عن سبب شركه؟ فإن قال: لأن أبي [مشرك] وصرت إلى أتباع أبي، ترك لما اختاره لاحتماله، وأجري عليه أحكام الشرك، وإن قال: لست أعلم دين أبي: هل هو الإسلام أو غيره؟ ولكني أختار الشرك؛ ميلاً إليه ورغبة فيه- فهو محل الخلاف، والأصح: أنه لا يقبل منه، ويجعل إن أقام على ذلك مرتدّاً.
قال: "فإن بلغ، وسكت، وقتله مسلم، [فقد قيل:] لا قَوَد عليه؛ لأنه يحتمل أنه لم يصف الإسلام لاعتقاده الكفر، والقصاص يسقط بالشبهة، وهذا هو المنصوص، والمختار في "المهذب" و"المرشد". "وقيل: يجب"؛ لأنه محكوم بإسلامه؛ فوجب على قاتله القود كما قبل البلوغ. والقائل الأول فرق بأنه حينئذ محكوم بإسلامه تبعاً، وقد انقطعت التبعية بالبلوغ.
والقولان مبنيان على أنه لو اعترف بالكفر، هل يكون مرتدّاً أو كافراً أصليّاً؟ إن قلنا بالأول، وجب القصاص، وإلا فلا.
قال الرافعي: لكن الأظهر منع القصاص، وإن كان الأظهر كونه مرتدّاً تعليلاً بالشهبة. وهذا منه إشارة إلى حالة الحكم بإسلامه تبعاً لأبيه أو السابي، وهي الصورة التي حكي في "المهذب" فيها الخلاف، وإلا إذا حكمنا بإسلامه تبعاً للدار، فالأظهر أنه كافر أصلي.
وحكى الإمام عن القاضي الحسين إجراء القول بمنع القصاص مع الحكم بأنه لو أعرب بالكفر لكان مرتدّاً. وعده من هفواته.
قال: "وقيل: إن الحكم بإسلامه تبعاً لأبيه، فعليه القود، وإن حكم بإسلامه بالدار، فلا قود [عليه] "؛ لضعف هذا، وقوة ذلك، كما تقدم.
والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ حكيا الخلاف في وجوب القود بقتل من حكم بإسلامه تبعاً لأبيه أو للسابي ثم قالا: فلو كان محكوماً بإسلامه والولد، فإن قلنا في الأولى لا يجب القصاص، فها هنا أولى، وإلا فوجهان، ثم حيث لا يجب القود فالذي أطلقه الأصحاب: أنه يجب دية مسلم، وقياس ما تقدم في حال الصغر لا يخفى.
ولو مات اللقيط بعد البلوغ، وقبل إعرابه بالإسلام، ورثه قريبه المسلم.
ولو مات له قريب مسلم، فإرثه منه موقوف، كذا حكاه القاضي الحسين.
وقال الإمام: أما التوريث منه فيخرج على ما إذا مات قبل الإعراب: هل ينقض الحكم الذي جرى في الصغر أم لا؟
وأما توريثه: فإن عني بالتوقف أن يقال له: أعرب عن نفسك بالإسلام، فهو قريب، ويستفاد به الخروج من الخلاف.
والذي حكاه غيره: أنه إذا مات له قريب مسلم قبل أن يعرب عن نفسه بشيء، أو أعتق عن الكفارة- فإن قلنا: لو أعرب عن نفسه بالكفر لكان مرتدّاً، أمضينا أحكام الإسلام. وإن كنا نجعله كافراً أصليّاً: فإن أعرب بالكفر تبينا أنه لا وارث له، ولا إجزاء عن الكفارة.
وإن فات الإعراب بموت أو قتل، فوجهان:
أحدهما: إمضاء الحكم؛ كما لو مات في الصغر.
وأظهرهما في "الرافعي": يبين الانتقاض؛ لأن سبب التبعية الصغر، وقد زال، ولم يظهر في الحال حكمه في نفسه؛ فرد الأمر إلى الكفر الأصلي.
أما إذا بلغ، ومات، أو قتل قبل أن يتمكن من الإعراب فحكمه حكم ما لو كان ذلك قبل البلوغ، حكاه القاضي أبو الطيب هنا، والرافعي في كتاب الظهار.
قال: "وإن بلغ وباع واشترى، ونكح، وطلق، وجنى وجني عليه، ثم أقر بالرق" أي]: وصدقه المقر له، ولم يسبق منه إقرار بالحرية- فقد قيل فيه قولان:
أحدهما: يقبل إقراره؛ كما لو قدم رجل من بلاد الكفر لا يعرف نسبه فأقر بالرق، ولأن الإقرار أقوى من البينة، ولو قامت بينة على رقه، حكم بها، وكذلك إذا أقر. فعلى هذا: حكمه حكم الرقيق في جميع التصرفات في الماضي والمستقبل. ولو ادعى عليه رجل: أنه رقيق، فأنكره- كان له أن يحلفه.
والثاني: لا يقبل"؛ لأنه محكوم بحريته بظاهر الدار، وقد تعلقت به حقوق الله تعالى والعباد؛ فلم يقبل إقراره بما يسقطها، كما لو أقر بالحرية ثم أقر بالرق؛ فإنه لا يقبل منه. فعلى هذا: لا أثر لإقراره في التصرفات في الماضي والمستقبل. قال الإمام: اللهم إلا أن يكون اللقيط عبداً، وقد نكح؛ فإن في ضمن إقراره اعترافاً بأنها محرمة عليه؛ فلا يمكن القول بحلِّها.
ولو ادعى عليه رجل: أنه رقيقه، فأنكره- لم يكن له تحليفه؛ بناءً على الصحيح في أن اليمين مع النكول بمنزلة الإقرار، كما قاله ابن الصباغ، أما إذا جعلناها كالبينة فله التحليف؛ رجاء أن ينكل، فيحلف المدعي، ويستحق، قاله الرافعي. وهذه طريقة أبي الطيب بن سلمة.
وقيل: إذا أقر بالرق بعد الاعتراف بالحرية، يقبل، وحكى الإمام عن الصيدلاني القطع [به]؛ تشبيهاً بما إذا أنكرت الزوجة الرجعة في العدة، ثم أقرت بها؛ [حيث يقبل، وفي "تعليق" القاضي الحسين- حكاية عن القفال- فيما إذا ادعى عليه الرق فأنكره، ثم عاد، واعترف به- قبل منه؛ كما لو أنكرت الزوجة الرجعة
في العدة ثم أقرت بها]. وهذا التشبيه أقرب.
قال: "وقيل: يقبل إقراره قولاً واحداً"؛ لما ذكرناه، وهذا ما نص عليه عامة الأصحاب كما قاله ابن الصباغ.
وقال البندنيجي: إنه المذهب، وذكر القاضي الحسين أن الشافعي نص عليه في "الأم"، قال: "وفي حكمه قولان:
أحدهما: يقبل في جميع الأحكام"؛ لأنها فرع الرق؛ فتثبت بثبوته، وهذا أظهر عند الغزالي. والثاني: [يفصل] فيقبل فيما عليه ولا يقبل فيما له"؛ كما لو قال: لفلان علي ألف، ولي عنده رهن بها؛ فإنه يقبل فيما عليه دون ماله، ولأنه أقر بما يضره ويضر غيره، فقبل فيما يضره دون ما يضر غيره؛ كما إذا أقر بدين على غيره وعليه. وهذا هو الأصح عند المسعودي، والبغوي، والروياني، وبه أجاب ابن الحداد.
أما التصرفات الصادرة بعد الحكم برقه، فحكمه فيها حكم الأرقاء على هذه الطريقة قولاً واحداً.
وفي "النهاية": أن بعض الأصحاب طرد قول التفصيل بين ماي ضره، ويضر غيره في المستقبل أيضاً، لكن الصحيح الأول وعليه يفرع، فإذا صدرت منه عقود، لا يقبل قوله في [فساد [أعواضها]، فإن كان في يده مال، استوفيت منه، وإن كانت مبيعة كما إذا باع عيناً فسلمت للمشتري]، والثمن إن لم يكن قد استوفاه، استوفاه السيد، وكان يتجه أن يجب له أقل الأمرين من الثمن أو القيمة- كما سنذكر في المهر بعد الدخول- لكن الفرق أن الصداق ركن في العقد، بخلاف الثمن.
وإن كان اللقيط امرأة فتزوجت، فالنكاح في حق الزوج كالصحيح، سواء كان ممن يحل له نكاح الإماء أم لا، كما صرح به البندنيجي وابن الصباغ والمتولي.
وعن ابن كج: أنه إن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء، حكمنا بانفساخ
النكاح، والأولاد منها قبل الإقرار بالرق أحرار، ولا يغرم الزوج قيمتهم، وللزوج الخيار في فسخ النكاح كما نص عليه في "المختصر"، فإن فسخ، سقط عنه المهر إن كان قبل الدخول، وإن كان بعده، وجب عليه أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل، وهل يرجع به عليها إذا عتقت؟ فيه قولان في "تعليق" القاضي الحسين و"الحاوي"، وهما قولا الغرور.
وإن أمسكها، ففي "التهذيب" و"تعليق" القاضي الحسين و"الحاوي": أن عليه المسمى، وأنه إن طلقها قبل الدخول، فعليه نصف المسمى، وقياس ما قاله في "المهذب" والبندنيجي: أن النكاح بالنسبة إليها فاسد- أن يجب عليه أقل الأمرين إن كان بعد الدخول، وإن كان قبله، فلا شيء عليه، وعلى كل حال فلو كان الزوج قد دفع المهر إليها، فلا يغرمه ثانياً، وما يحدث من الأولاد بعد ذلك أرقاء.
قال المتولي: لأنه رضي بذلك حيث لم يفسخ.
وقال الإمام: هذا ظاهر إذا قبلنا الإقرار فيما يضر بالغير في المستقبل، أما [إذا] أجرينا قول التفصيل في المستقبل- أيضاً- فيحتمل أن يقال بحريتهم؛ صيانة لحق الزوج فإنهم من مقاصد النكاح؛ كما أَدَمْنا النكاح صيانة لحق الزوج في الوطء وسائر المقاصد، ويحتمل أن يقال برقهم، وهو ظاهر ما طلقه الأصحاب؛ لأن العلوق أمر موهوم فلا يجعل مستحقّاً بالنكاح بخلاف الوطء، وتردد أيضاً في أنا إذا أدمنا النكاح فنسلمها تسليم الحرائر أو تسليم الإماء؟ والظاهر الأول.
ولو طلق، نظر: إن كان الطلاق رجعيّاً فوجهان.
الذي ذكره الأكثرون: أنها تعتدُّ بثلاثة أقراء، وله الرجعة فيها.
والثاني: أن عليها الاعتداد بقُرْأين؛ لأن هذا حكم ثبت في المستقبل بعد ثبوت الرق. ولو كان اعترافها في أثناء العدة، أكملت عدة حرة. وهذا أصح عند أبي الفرج الزاز، وحكاه عن ابن سريج.
ولو كان الطلاق بائناً، فأصح الوجهين: أن الحكم كما في الطلاق الرجعي؛
لأن العدة [فيهما] لا تختلف. والثاني: أنها تعتد عدة الإماء مطلقاً.
وإذا فسخ الزوج نكاحها، فهو شبيه بالطلاق البائن، وإن مات عنها، فعدتها: شهران وخمس ليال؛ لأن عدة الوفاء تجب لحق الله- تعالى- ولا حق له فيها، وهذا إذا كان قبل الدخول [بها]؛ فإن جرى الدخول، فعليها الاستبراء.
قال الإمام: والقول في أنه بقرء أو قرأين على الذي سبق. وقد ذكرته أنا في كتاب العدد.
ولو كان اللقيط عبداً، وقد تزوج، حكمنا بانفساخ النكاح من الآن، فإن كان قبل الدخول، وجب لها نصف المهر، وإن كان بعده، وجب لها كله، ولو كان قد قتل عبداً عمداً، وجب عليه القصاص على القولين معاً، وكذا تجب القيمة في رقبته إن كان خطأ على القولين معاً؛ لأن وجوب القصاص وتعلق القيمة بالرقبة يضره ولا يضر غيره.
وفي "التهذيب": أنه إن كان في يده مال، أخذ الأرش منه.
قال الرافعي: وهو خلاف قياس القولين؛ لأن أرش الخطأ لا يتعلق بما في يد الجاني حرّاً كان أو عبداً.
وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنا إن قلنا: يقبل إقراره فيما لا يضر غيره، فإن الدية تكون في بيت المال.
ورجح ابن الصباغ الأولى، وقال: إن كانت قيمته أقل من أرش الجناية، فينبغي أن يجب الفاضل في بيت المال، ولا يسقط حقه منه بإقرار الجاني بالرق.
وحكى الماوردي قولاً: أن الفاضل عن قدر قيمته يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ تفريعاً على ما عليه التفريع.
ولو جنى عليه حر عمداً، لم يجب عليه القصاص، وإن قطع يد حر خطأ، وجب له عليه أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية إن قلنا: إن جراح العبد مقدرة.
وفي "النهاية" حكاية وجه: أنه إذا كان نصف الدية أقل، وجب نصف القيمة، أما إذا أقر بالرق، ولم يسبق منه تصرف يناقض ما أقر به، قبل إقراره.
وعن رواية صاحب "التقريب" قول: أنه لا يقبل؛ لأنه محكوم بحريته بالدار؛ فلا يغير بإقراره؛ كمن حكم بإسلامه بالدار، ثم بلغ ووصف الكفر، ولو كذبه المقر له، سقط إقراره، فلو عاد، وصدقه، لم يسلم إليه.
ولو أقر اللقيط بالرق لغيره، فالمذهب المنصوص: أنه لا يقبل، ويحكم بحريته، وبه جزم الفوراني؛ لأنه لما أقر للأول، كان تقديره: أنه لا يملكني أحد سواه، فإذا كذبه، خرج عن أن يكون مملوكاً لأحد؛ فصار ما لو أقر على نفسه بالحرية ثم أقر بالرق، وقد قيل: يقبل، وينسب إلى تخريج ابن سريج- كما حكاه البندنيجي- والله أعلم.