الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القراض
القراض: بكسر القاف لغة أهل الحجاز، وهو مشتق من القرض، وهو القطع.
يقال: قرض الفأر الثوب إذا قطعه؛ ومنه المقراض؛ لأنه يقطع به، فسمي هذا العقد بذلك؛ لأن المالك قطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها وقطعة من الربح.
وقيل: اشتقاقه من المقارضة وهي المساواة، والموازنة.
يقال: تقارض الشاعران: إذا ساوى كل واحد منهما صاحبه فيما ينشده من الشعر، فسمي هذا العقد به لتساويهما في استحقاق الربح.
وأهل العراق يسمون هذا العقد مضاربة؛ [لأجل أن كل واحد منهما تصرف بسهم في الربح، فلما حصل لكل منهما التصرف في الربح قيل: مضاربة].
كما يقال: مقاتلة ومشاتمة.
وقيل إنه مشتق من الضرب في الأرض وهو السفر؛ لأن أهل مكة كان أحدهم يدفع للآخر مالاً على أن يخرج به إلى الشام واليمن وغيرهما من المواضع، يبتغون فضل الله تعالى بجزء من الربح، فلذلك سمي مضاربة.
ثم لزم [هذا] الاسم هذه المعاملة سواء خرج أو أقام.
ويقال للمالك من اللفظة الأولى: مقارض بكسر الراء، وللعامل مقارض
بفتحها. ومن اللفظة الثانية يقال للعامل: مضارب بكسر الراء؛ لأنه الذي يضرب بالمال، ولم يشتقوا للمالك منها اسماً.
وفي "البحر": أن بعض أصحابنا قال: [إن] المضارب اسم رب المال، وأن جماعة من العلماء قالوا به، وهو غلط.
وحقيقة القراض شرعاً: عقد يعقد على النقدين؛ ليتصرف فيه بالبيع، والشراء على أن [ما يكون] في ذلك من ربح يكون بين المالك والعامل؛ إما نصفين، أو أثلاثاً، أو نحو ذلك كما شرطا.
والأصل في مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وفي القراض ابتغاء فضل الله وطلب نماء.
ومن السنة: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "ضَارَبَ لِخَدِيجَةَ بِأَمْوَالِهَا إِلَى الشَّامِ وَأَنْفَذَتْ مَعَهُ عَبْداً [لِخِدْمَتِهِ] يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةُ".
وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما قال: كان العباس إذا دفع مالاً مضاربة اشترط على صاحبه ألا يسلك به بحراً، ولا ينزل به وادياً، ولا يشتري به ذات كبد رطبة، فإن فعل فهو ضامن، فرفع شرطه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجازه.
وقد أجمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جوازه، قال القاضي الحسين: ولا بد للإجماع من أصل ينعقد عنه، وهو عند بعضهم قياساً على المساقاة، وإن كان مختلفاً فيه.
والجامع أنهما مالان تجب الزكاة في عينهما، ولا يجوز الاستئجار عليهما، ويطلب نماؤهما بكثرة العمل فيهما؛ فجاز المعاملة عليهما ببعض ما يخرج منهما: كالكروم، والنخيل.
وقال الغزالي: مستند إجماعهم: أنهم ألفوا هذه المعاملة [في زمن] للنبي صلى الله عليه وسلم شرعاً أغنى عن النقل، وقد نقلت فيه ما روى الشافعي في اختلاف العراقيين: أن أبا حنيفة روى عن حميد بن عبد الله بن عبيد الأنصاري عن أبيه عن جده أن عمر ابن الخطاب –رضي الله عنه أعطي مال يتيم مضاربة فكان يعمل به في العراق.
وروي أن عثمان بن عفان- رضي الله عنه أعطى العلاء بن عبد الرحمن مالا مقارضة.
وروي أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر لقيا عند مصرفهما من غزوة "نهاوند" أبا موسى الأشعري بـ"البصرة" إذ كان عاملاً عليها فقال [لهما] أريد أن أصلكما وليس في يدي ما أصلكما به، وإنما معي مائة ألف درهم من مال بيت المال أدفعها لكما لتشتريا بها سلعة وتبيعانها بالمدينة، وتردان رأس المال على أمير المؤمنين، والربح لكما، فاشتريا [بها] من أمتعة العراق، فربحا عليها بالمدينة ربحاً كثيراً.
فقال لهما عمر: أو كلَّ الجيش أسلف [مثل ما] أسلفكما؟ فقالا: لا. فقال عمر- رضي الله عنه: لا أراه فعل ذلك إلا لمكانكما مني، ردَّا المال وربحه، فسكت عبد الله، وراجع عبيد الله أباه فقال: يا أمير المؤمنين أليس لو تلف المال كان من ضماننا؟ فقال: بلى، فقال: الربح لنا، وأشار إلى أن الخراج بالضمان، فسكت عمر ساعة.
ثم قال مثل قوله الأول: رُدَّا المال وربحه، فراجعه عبيد الله ثانياً.
وأعاد قوله الأول، فعند ذلك قال عبد الرحمن بن عوف: لو جعلته قراضاً على النصف يا أمير المؤمنين، فأخذ منهما النصف، أي نصف الربح وترك النصف في أيديهما.
وقد ورد هذا الخبر بألفاظ أخرى رواها مالك.
قال الماوردي: وعلى هذا الأثر اعتمد الشافعي.
ووجه التمسك به كما قال القاضي أبو الطيب قول القائل: لو جعلته قراضاً، فلولا أنه [قد] عرفه وخبره لم يقل ذلك، وعمر أجابه إليه ولم ينكره.
وقد اختلف الأصحاب في معنى جعل الربح في هذه القصة نصفين على أربعة أوجه:
أحدها: وبه قال ابن سريج أن ما جرى من أبي موسى كان قرضاً صحيحاً؛ لأن الطريق كان مخوفاً، والقرض في هذه الحالة جائز فكان جميع الربح لهما، لكن عمر- رضي الله عنه استنزلهما عن الربح خيفة أن يكون أبو موسى قصد إرفاقهما لا رعاية مصلحة بيت المال.
الثاني: وبه قال أبو إسحاق أن عمر- رضي الله عنه أجرى على ذلك في الربح حكم القراض الفاسد؛ لأنهما عملا على أن يكون الربح لهما، و [لو] لم يكن قد تقدم في المال عقد حتى حملهما عليه، ومقتضاه أن يكون الربح لبيت المال، لكن أجرةم ثلهما كانت قدر نصفه فسلمه لهما.
الثالث: أن عمر- رضي الله عنه أجرى عليهما في الربح حكم القراض الصحيح وإن لم يتقدم معهما عقد؛ لأنه لما كان من الأمور العامة فاتسع حكمه عن العقود الخاصة، فلما رأى المال لغيرهما، والعمل منهما جعل ذلك عقد قراض صحيح، وهذا ذكره ابن أبي هريرة.
الرابع: حكاه القاضي الحسين أن ما فعله أبو موسى كان قرضاً فاسداً؛ لأنه
كان سفتجة شرط عليهما الرد بالمدينة فجر منفعة وكل قرض جر منفعة [فهو] حرام، فكان ترك النصف؛ لأنهما كانا اشتريا في الذمة ونقدا فيه المال، فكان كل الربح لهما غير أنهما لما ارتفقا بمال بيت المال، أراد عمر أن يحصل لبيت المال من جهتهما رفق في مقابلته، وإن اشتريا بعين ما دفع إليهما، فعلى قول الشافعي في القديم: العقد موقوف على إجازة المالك، وعمر قد أجاز ذلك، والله أعلم.
قال- رحمه الله: من جاز تصرفه في المال، صح منه عقد القراض؛ لأنه تصرف في المال وهذا اللفظ وإن كان من جوامع الكلم؛ لأنه يشمل ما إذا كان المتصرف مالكاً أو ولياً من أب، أو جد، أو وصي، أو حاكم، أو قيم كما صرح به في "الشامل" وغيره، فهو يدخل جواز القراض من الوكيل والعبد المأذون، وهو غير جائز منهما ويدخل عامل القراض وسنذكره ونبين أن كلا من المقارض والعامل يعتبر [فيه أن يكون أهلاً لجواز التصرف] في المال؛ لأن عقد القراض به يتم، وهذا هو الأقرب إلى الفهم.
قال: ولا يصح القراض إلا على الدراهم والدنانير أما صحته عليهما [فبالإجماع، وأما عدم صحته على ما عداها] من ذوات [القيم وذوات] الأمثال؛ فلأن القراض مشروط برد رأس المال واقتسام الربح، وعقده بغيرهما يمنع من هذين الشيئين؛ لأن من العروض ما لا مثل له، فلا يمكن رده، وماله مثل قد تكون قيمته حال العقد أكثر من قيمته حال الرد، وذلك يؤدي إلى أن يفوز العامل بجزء من رأس المال بغير عمل، وإذا كان هذا [ممنوعاً في القراض] وجب منع ما يؤدي إليه.
ولا يقال: إن مثل هذا الاحتمال يجيء في الدراهم والدنانير؛ لأن سوقهما يرتفع مرة وينخفض [مرة] أخرى: لأن ذلك إن وقع فنادر لا يعتد به، ويسير لا يؤثر.
وقد وجه اختصاص هذا العقد بهما [معنى آخر] وهو أن القراض معاملة
تشتمل على إغرار؛ إذ العمل غير مضبوط، والربح غير موثوق به، وإنما جوز للحاجة، فيختص بما يسهل للتجارة عليه في جميع البلدان، وهو الدراهم والدنانير؛ لأنه يرغب فيهما كل واحد، ويؤخذ بهما كل شيء وتنفقان في كل مكان، وتروجان في كل زمان.
قال القاضي الحسين: وهذا أصح؛ لأن السبيكة من الذهب، والنقرة من التبر لا يوجد فيهما المعنى الأول غالباً، ومع هذا يمتنع القراض عليهما للمعنى الثاني.
وقيل يجوز القراض على ذوات الأمثال، حكاه في "الإبانة".
وفي البيان عن المسعودي وقيل: يجوز القراض على الفلوس إذا راجت رواج النقود حكاه المتولي، وادعى الإمام الاتفاق على المنع فيها.
وقيل: إذا مات رب المال، ومال القراض عروض فقارضه الوارث عليه، صح، وإذا كانت قيمته معلومة، ولم يتعلق به حق؛ وهذا قول أبي إسحاق، وهو ظاهر المذهب؛ فإنه قال: فإن رضي الوارث بترك المقارض على قراضه، وإلا فقد انفسخ القراض.
قال القاضي أبو الطيب: والقائل بالمنع حمل النص على ما إذا كان رأس المال ناضاً.
وقال القاضي الحسين: الخلاف مبني على الخلاف في أن الوارث [هل يبنى على حول المورث أم لا؟].
وعلى الوجهين يخرج ما إذا كان المال ناضاً وقد جهل الورثة قدره،
وقارضوا العامل عليه، صرح بها الماوردي.
وقال الإمام: ومن ذكر الوجهين في هذا المقام يلزمه أن يقول بهما إذا فسخ القراض في حال الحياة، ثم أعاده المالك والمال عروض، وقد امتنع بعض الأصحاب من جريانه في هذه الحالة، وهو ما جزم به المحاملي في "المجموع".
ولا خلاف في أن العامل لو مات ومال القارض عروض، فقارض رب المال وارثه عليها لم يصح.
قال أبو الطيب: والفرق أن عمل العامل قد هلك وتعذر بموته، وليس كذلك في موت المالك؛ لأن عمل العامل قائم بحاله.
وفرق في "الوسيط" بأن الوارث لم يشتر المال بنفسه؛ فتكون العروض كلاً عليه بخلاف موت رب المال.
قال: ولا يجوز على المغشوش منها؛ لأن غش الفضة أو الذهب لو ميز عنهما ثم قارضه عليهما لم يصح، فكذلك إذا كانا مختلطين، وبالقياس على ما لو كان الغش أكثر من الفضة أو الذهب.
وقد وافق الخصم وهو أبو حنيفة على عدم الصحة في ذلك، وهذا هو المذهب المثبوت وقد صار إلى تجويز القراض على المغشوش إذا راج: الأقلون من المتأخرين كما حكاه الإمام بعد أن قال: قال القاضي: وأبعد بعض أصحابنا فجوز القراض على المغشوش إذا جرى نقداً.
ومحله إذا كانت قيمته قريبة من مبلغ الخالص وقيمة النحاس ومؤن الطباعين؛ لأن أمثال هذه الدراهم لو فرض في جريانها ركود، لقل المقدار الذي يفرض فواته وجعل المتولي حكم القراض عليها مبنياً على جواز التعامل [بها] وقد ذكرناه.
قال: ولا يجوز إلا على مال معلوم الوزن أي: والصفة حال العقد؛ لأنه موضوع على الفسخ، ورد المال عند المفاضلة وقسمة الربح على مقتضى الشرط وهذا متعذر مع الجهل. وبما ذكرناه من التعليل يظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين رأس مال السلم حيث جاز مجهولاً على قول؛ لأنه لم يعقد ليفسخ حتى يرجع فيه برأس المال.
ويظهر أنه لو دفع للعامل عرضاً يبيعه ويكون ثمنه رأس مال لا يصح؛ لعدم
المعرفة بالقدر والصفة حال العقد مع أن في ذلك معنى آخر يقتضي البطلان لو فقد ما ذكرناه وهو التعليق، فإن القراض لا يحتمله وإن كان وكالة على وجه مخصوص، وجوزنا تعليق الوكالة لما سنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى.
فرع: لو دفع إليه كيسين في كل منهما ألف درهم معلومة الوصف على أن يكون أحدهما رأس مال والآخر وديعة؛ ففي صحة القراض وجهان في الطريقين:
أصحهما: المنع ولا يجري مقابله فيما إذا جعلهما رأس مال وشرط [له] في أحدهما نصف الربح، وفي الآخر ثلثه ولم يعينه؛ كما حكاه الماوردي.
تنبيه: كلاما لشيخ قد يفهم منع القراض على مال في الذمة [إذا قلنا: إن ما في الذمة ليس بمال] وهو ما جزم به في "التهذيب" فيما إذا قارضه على ألف في الذمة ثم عين في المجلس [من غير بيان]، وصرح به الماوردي وغيره فيما إذا كان المقارض عليه ديناً على الغير؛ سواء كان في ذمة العامل أو في ذمة غيره وأذن له في قبضه.
لكن الإمام حكى عن القاضي- فيما خالف فيه صاحب "التهذيب"- الجواز وقطع به، وكلامه في "البحر" يرشد إليه حيث قال: لو قال قارضتك على ألف درهم، وكان له على رجل ألف درهم، فقال: ادفعها إليه- صح، وهو قريب مما حكيته في قرض شيء في الذمة، ثم يعين في المجلس.
ووجه الفساد فيما إذا كان المال في ذمة غيره: عسر التجارة والتصرف فيما في الذمة؛ ولأن ما في الذمة لابد من تحصيله أولاً، وسنذكر أنه لا يجوز في القراض ضم عمل إلى التجارة؛ كذا قال الإمام.
وفيه نظر؛ لأن مثل هذا العمل مغتفر في القراض، ألا ترى أن العامل يصح بيعه بثمن في الذمة بالشرط الذي سنذكره ويتقاضى الثمن من المشتري.
ووجه الفساد فيما إذا كان في ذمة العامل ما ذكرناه أولاً، وعدم صحة قبضه من نفسه لغيره.
وفي "البحر" حكاية وجه عن القاضي الطبري عن ابن سريج: أنه يصح القراض على ما في ذمته؛ لأنه [بمنزلة] الوكيل؛ فأشب ما لو قال: اشتر لي
سلعة بألف درهم، ثم [قال] ادفع الألف الذي [لي] عليك في ثمنها.
وعلى المشهور لو وقع عقد القراض على الدين، وتصرف العامل على حكم القراض؛ نظر إن كان قيما قبضه من غيره، فتصرفه فيه واقع لرب المال، والربح والخسران عليه، وللعامل أجرة مثله فيما فعله من قبض وشراء وغيره.
وإ، كان فيما عزله مما عليه من دين بعد قول رب المال: اعزل الألف الذي لي في ذمتك وقد قارضتك عليه. فهل يكون الربح [له]، والخسران عليه أو على رب المال؟ فيه قولان خرجهما القاضي في جامعه.
وعلى الأول: وهو الأصح لا تبرأ ذمة العامل بذلك.
وعلى الثاني: تبرأ بالاتجار كذا قال الماوردي.
وفي الرافعي: أنه إذا عزل الألف وقارضه عليها، فإن اشترى بعين الألف، كان كالفضولي يشتري لغيره بعين ماله، وإن اشترى في الذمة، ونقد ما عزله، فوجهان:
أصحهما في "التهذيب": أن الشراء للمالك، وهو الذي يقتضي إيراد البندنيجي في "التعليق" ترجيحه؛ فعلى هذا: يكون للعامل أجرة مثله.
والثاني: أنه للعامل؛ لأنه إنما أذن في الشراء بمال القراض إما بعينه أو في الذمة؛ لينقده فيه، فإذا لم يملكه فلا قراض.
وهذا أظهر عند الشيخ أبي حامد؛ وهذا الترتيب إيراد القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ يوافقه.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: [أنه] إن اشترى بعين الألف؛ فالربح والخسران على العامل، وإن اشترى في الذمة، وقع العقد لرب المال، وعليه أجرة مثل العامل، والربح له، والخسران عليه، ولا يلزم العامل أن ينقد الثمن من ماله، فإن نقده جاز، وسقط الحق عنه؛ لأنه أذن له فيه.
وأبدى احتمالاً في المسألة اقتصر الإمام ومن تابعه عليه، وهو أن ذلك يخرج على أصلين:
أحدهما: إذا قال شخص لشخص: اشتر لي بثوبك هذا الفرس، فاشتراه له
[به] وسماه في العقد، فهل يقع العقد للآمر أم لا؟ فيه وجهان:[فإن وقع له، فهل يكون الثوب معوضاً من الآمر أو موهوباً له؟ فيه وجهان].
وعلى القول بعدم وقوع العقد للآمر، هل يقع لمباشره أم يبطل؟ فيه وجهان.
وإن اشترى الفرس بالثوب [له] ونواه في الشراء، فالحكم كما تقدم، إلا على قولنا: إنه لا يصح العقد للآمر فإنه في هذه الصورة يقع للمباشر وجهاً واحداً.
والأصل الثاني: ما إذا قال له: اشتر لي خبزاً بدرهم من مالك، فاشترى له خبزاً بدرهم في الذمة فإن العقد يقع للآمر، وإذا وفاه المأمور، فهل يرجع به عليه؟ فيه وجهان.
فإذا اشترى العامل بعين الألف، فهو كما لو اشترى الفرس بعين الثوب، وإذا اشترى في الذمة، ونقد الألف، فهو كما لو اشترى الخبز ونقد ثمنه، والله أعلم.
ولا خلاف [في] أن الألف لو كان في يده أو في يد غيره وديعة صح القراض عليه، ولو كان في يده غصباً؛ فكذلك على المذهب في "الشامل" وغيره.
وفيه وجه: أنه لا يصح.
قال الغزالي: ولعله غلط.
وعلى الأول هل يبرأ الغاصب بذلك؟ فيه خلاف قدمته في باب الغصب.
قال: ولا يجوز إلا على جزء معلوم من الربح [أي:] كالنصف، والثلث، [والربع] ونحوها نفياً للغرر والمرجع في قدر الجزء إلى ما يتفقان عليه حالة العقد؛ لأنه عقد على منفعة؛ فأشبه الأجرة والصداق، فلو أطلقا العقد كان قراضاً فاسداً، يصح تصرف العامل فيه، وله أجرة مثله، ربح المال أم خسر ويخالف الشركة إذا أطلقت فإنها تقع صحيحة؛ لأن الربح فيها مقسوم على الأملاك وهي معلومة.
وفي "الحاوي" حكاية وجه عن ابن سريج فيما إذا [قال]: قارضتك ولم يزد على هذا: أن القارض جائز، ويقسم الربح بينهما نصفين؛ لأن ذلك هو الغالب،
فحمل إطلاقه عليه، وغلطه فيه بأن الغالب لو كان معتبراً في مثل ذلك؛ لوجب إذا أطلق عقد البيع أن يصح بثمن المثل؛ لأنه الغالب وليس كذلك.
فرع: لو قال: قارضتك على أن لك من الربح مثل ما شرطه فلان [لعامله فلان] فإن كانا يعلمان [مبلغ ذلك] صح، وإن جهل أحدهما ذلك؛ فلا.
قال: [وإن قال]: قارضتك على أن الربح بيننا؛ جاز وكان بينهما نصفين: كما لو قال: هذه الدار بيني وبين فلان فإنها تجعل بينهما نصفين، وإذا قال: بعتكما هذه الدار؛ كانت بينهما نصفين، وهذا قول أبي العباس، واختيار الشيخ أبي حامد.
قال: وقيل: لا يجوز؛ لأنه يحتمل [أن يكون] بينهما نصفين وثلثاً وثلثين وأقل وأكثر، فلما لم يبين واحداً من ذلك؛ كان العوض مجهولاً، وهذا كما لو قال: بعتك بألف مثقال ذهب [وفضة]، فإن البيع لا يصح؛ وهذا ما صححه في "التهذيب".
قال: وإن قال: على أن لك [نصف الربح] صح؛ لأن الربح نماء المال ومقتضى ذلك أن يكون النصف جميعه لرب المال فإذا شرط للعامل منه شيء معلوم؛ بقي الباقي للمالك بالأصل.
وقيل: لا يصح؛ لأنه لم يبين ماله من المال.
قال: والأول أظهر؛ لما ذكرناه، وبه [جزم] المراوزة وكذا الماوردي وجعل مسألة الوجهين فيما إذا قال: تصرف فيه بالبيع والشراء [على أن لك نصف الربح، وقاس وجه المنع على ما لو قال: تصرف فيه بالبيع والشراء]، ولي نصف الربح فإنه يكون قراضاً فاسداً وجهاً واحداً.
ويجري الخلاف الذي حكاه الشيخ فيما لو قال: قارضتك على [أن] المال بالنصف، [أو الثلث].
فعند ابن سريج يصح.
وعند أبي إسحاق المروزي: لا، كذا حكاه البندنيجي وغيره.
قال: وإن قال: على أن لي النصف- لم يصح؛ لأنه ذكر لنفسه بعض الربح الذي هو مالك لجميعه؛ فلم يكن فيه بيان لما بقي.
وهذا قول المزني كما حكاه الفوراني، وابن سريج كما حكاه البندنيجي، وأبو إسحاق، وابن أبي هريرة كما حكاه الماوردي.
وقيل: يصح حملاً على موجب القراض واشتراكهما في الربح، فصار البيان لنصيب أحدهما دالاً على أن الباقي للآخر، وهذا كما قال تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فإن في ذلك دلالة على أن الباقي للأب، وهذا قول ابن سريج كما حكاه الماوردي والفوراني.
قال: والأول أظهر؛ لأن العامل لا يملك شيئاً إلا بالشرط ولم يوجد.
وعلى هذا الخلاف يبنى ما لو قال: قارضتك على أن لي نصف الربح، ولك ثلثه وسكت عن الباقي، فيكون على الأظهر قراضاً فاسداً؛ للجهل بحكم السدس الباقي وعلى مقابله: يصح.
ولو انعكس الحال فقال: على أن لك نصف الربح ولي ثلثه، كان على الأظهر في المسألة قبلها [قراضاً صحيحاً. وعلى مقابله] قراضاً فاسداً.
قال: [وإن شرط لأحدهما ربح شيء يختص به. لم يصح. صورة ذلك: أن يدفع إليه [ألفين في كيسين]، ويقول: لك ربح هذا أو لي ربح هذا، أو يقول: لك ربح ما يحصل في الثياب، ولي ربح ما يحصل في الدواب، أو نحو ذلك.
ووجه المنع: أنه قد لا يربح في أحدهما؛ فيؤدي إلى فوز المالك بعمل العامل مجاناً، أو العامل يفوز بنماء مال رب المال من غير أن يحصل له شيء، وذلك خلاف وضع القراض.
وهكذا الحكم فيما لو قال: قارضتك على أن لي من الربح درهمين، والباقي بيننا نصفين؛ لأنه قد لا يربح المال إلا درهمين؛ فيؤدي إلى ما ذكرناه.
ويخالفه لو قال: على أن لي أو لك الثلث والباقي بيننا، فإنه يصح؛ لأن أحدهما لا يفوز بالربح دون الآخر.
وهكذا لو قال: على أن لك نصف الربح، وما بقي فثلثه لي وثلثاه لك صح؛ إن علما نسبة ذلك وإن جهلها أحدهما فعند القاضي الحسين: لا يصح.
وعند ابن الصباغ: يصح وحكى صاحب "التقريب" الوجهين.
فرع: لو قال: خذ هذا الألف قراضاً، ولك ربح نصفه، ولي ربح نصفه؛ لم يجز خلافاً لأبي ثور وأبي سعيد كما حكاه المتولي.
ولو قال: ولك نصف ربحه، ولي النصف الباقي- صح.
والفرق أنه إذا جعل له ربح نصفها، صار منفرداً بربح أحد النصفين من غير أن يكون لرب المال فيه حق، [وعمل في النصف الآخر من غير أن يكون له فيه حق]، بخلاف ما لو قال: نصف ربحه؛ فإن هذا المعنى مفقود فيه.
وهذه طريقة ابن الصباغ والبندنيجي والماوردي، وحكاه المتولي عن ابن سريج وهو موافق لما حكاه القاضي الحسين عنه فيما لو قارضه على ألفين غير متميزين على أن يكون لرب المال ربح ألف وللعامل ربح ألف. وقال: عندي أنه يجوز؛ إذ لا تمييز بين الألفين، ولا فرق بين أن يقول: نصف الربح لك وبين أن يقول: ربح الألف من الألفين لك.
وقال الإمام: إنه متجه حسن، ولا وجه لما قاله ابن سريج إلا فساد اللفظ، فإن الذي يقتضيه موجب العقد قسمة الربح على الشيوع، فإذا قال: نصف الربح لك فهذا جار على الإشاعة، وإذا قال: ربح أحد الألفين لك، لم يوجد ذلك، والمعول في العقود على الألفاظ.
قال: وإن قال: قارضتك على أن يكون الربح كله [لي، أو كله] لك؛ فسد [العقد]. هذا الفصل ينظم مسألتين:
إحداهما: أن يقول: قارضتك على أن يكون الربح كله لي.
[والثانية: أن] يقول: قارضتك على أن [يكون] الربح كله لك.
والعقد فاسد فيهما؛ لأن وضع القراض يقتضي الاشتراك في الربح، وقد شرط الاخصتاص [به لأحدهما] فبطل؛ لكونهما شرطا ما ينافي مقتضاه.
قال ابن سريج: وأصل هذا أن كل لفظة كانت خالصة لعقد حمل إطلاقها
عليه، فإن وصل بها ما ينافي مقتضاه بطل.
قال: إلا أنه إذا تصرف [العامل] نفذ التصرف؛ لأن الإذن موجود، ولا فساد فيه، وبه يستفاد التصرف، قال: ويكون الربح كله لرب المال؛ لأنه نماء ملكه، وللعامل أجرة المثل؛ لأنه عقد يستحق المسمى في صحيحه؛ فاستحق أجرة المثل في فاسده كعقد الإجارة.
وفي المسألة الأولى وجه نسبه الماوردي إلى المزني: أنه لا يستحق أجرة المثل؛ لأنه عمل مع الرضا بأنه لا ربح له؛ فهو متطوع بعمله.
والصحيح الأول، وبه قال ابن سريج؛ لأنه عمل في قراض فاسد؛ فصار كالمنكوحة على غير مهر تستحق مع الرضا بذلك مهر المثل.
وحكى المراوزة في المسألتين خلافاً في أن [هذا] الذي جرى، عقد قراض فاسد أم هو في الأولى إبضاع وفي الثانية عقد قرض؟ وبنوا ذلك على أن الاعتبار في العقود بألفاظها أو بمعانيها؟ فإن اعتبرنا الألفاظ كان قراضاً فاسداً، وإن اعتبرنا المعنى، كان في الأولى إبضاعاً، وفي الثانية قرضاً؛ لأن ذلك معناهما.
وقالوا: إذا قلنا في الأولى: إنه قراض فاسد، فهل يستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان:
وخرجوا على هذه القاعدة ما لو قال: باضعتك على أن الربح كله لك، فعلى قول من نظر إلى اللفظ، جعل الربح كله لرب المال، وجعل للعامل أجرة المثل؛ لأنه لم يعمل مجاناً.
وعلى قول من نظر إلى المعنى، جعل ذلك قرضاً.
ولا فرق في استحقاق أجرة المثل بين أن يحصل في المال ربح أم لا، بخلاف ما لو كان عقد القراض صحيحاً؛ فإنه لا يستحق شيئاص ما لم يكن في المال ربح.
قال القاضي أبو الطيب: والفرق أنه لما استحق المسمى وإن كان أكثر من أجرة المثل عند وجود الربح وصحة القراض، جاز ألا يستحق شيئاً إذا عري عن الربح حتى إذا كان له الفضل في الزيادة، كان عليه الضرر في النقصان. وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لو كان في المال ربح فاضل عن أجرة المثل، لم يكن له، فكذلك إذا لم يكن فيه فضل استحق أجرة المثل، فتكون الزيادة لما لم تنفعه لا يضره النقصان.
وحكى الإمام عن شيخه وجهاً رواه أنه لا يستحق الأجرة إذا لم يحصل بعمله ربح، وقال: إنه لا اتجاه له.
[فرع:] قال: [وإن قال تصرف] والربح كله لي، فهو إبضاع، لا حق للعامل فيه، وإن قال: تصرف والربح كله لك فهو قرض؛ لأن لفظ تصرف محتمل التصرف على [جهة القراض وعلى جهة] غيره، وقد اقترن به ما يخلصه لأحدهما فغلب حكمه؛ كلفظ التمليك لما كان يحتمل الهبة والبيع إذا اقترن به العوض حمل على البيع لاعتباره فيه.
قال أبو العباس: وهذه القاعدة كل لفظة وضعت لعقدين فأكثر لم ينصرف إطلاقها إلى شيء، فإن عقبها ببعض ما يصلح لبعض تلك العقود؛ أخلصها له.
وفي الحاوي في الأخيرة حكاية وجه أنه يكون قراضاً فاسداً؛ فيكون [الربح جميعه] لرب المال، وللعامل أجرة المثل وهو ما اختاره القاضي الحسين.
ولا نزاع في أنه لو قال: خذه واعمل فيه على أن الربح بيننا نصفين، كان قراضاً صحيحاً. ولو قال: خذه وتصرف فيه بالبيع والشراء، فمقتضى ما ذكرناه من القاعدة عن ابن سريج [ألا ينصرف] إلى شيء من العقود.
وقد حكى في "البحر" في ذلك وجهين: أحدهما: أنه إبضاع.
والثاني: أنه قراض فاسد.
ولو دفع إليه ألفاً وقال: اشتر به لنفسك، فهل يقع العقد للمباشر أم للآمر؟
فيه وجهان. فإن قلنا بوقوعه للمباشر، فهل الألف هبة منه أو [قراض؟] فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين.
تنبيه: إبضاع بكسر الهمزة أي: [هو] بضاعة للمالك [ربحها] والعامل وكيل متبرع.
قال أهل اللغة: البضاعة: طائفة من المال يبعثها للتجارة، يقال: أبضعت الشيء واستبضعته: أي جعلته بضاعة.
واعلم أن كلام الشيخ مصرح بأن القارض ينعقد [بلفظ القراض]، وهو لا
شك فيه وفي كلامه في صدر الباب ما يدل على افتقاره إلى القبول حيث قال: صح منه عقد القراض، فإن العقود وضعها الافتقار إلى القبول، وقد صرح بذلك الرافعي و [غيره]، وأثبته الإمام بلا خلاف.
وكما ينعقد القراض بلفظه، ينعقد بلفظ المضاربة [والمعاملة] أيضاً، ويعتبر القبول فيه على الفور، كما في [عقد] البيع ونحوه ولا يفتقر مع ذلك إلى قوله:"بِعْ مَا تَشْتَرِيهِ" على الأصح، وفي "النهاية" وجه ضعيف في الافتقار إليه كما يفتقر إليه في قوله- عند دفع المال إليه مقتصراً على قوله:[اشتر به] على الأصح حتى لو لم يقل ذلك كان الربح كله لرب المال.
وينعقد أيضاً بقوله: خذ هذا الألف وتصرف فيه أو اتجر فيه على أن الربح بيننا مع القبول اتفاقاً، وكذا بدونه عند القاضي الحسين كما لو قال لمن يخاطبه:"بع عبدي" فإنه لا حاجة إلى القبول، بل يكفي قبضه والتصرف فيه، وبهذا جزم في "التهذيب" واستبعده الإمام.
وحكي عن شيخه والطبقة العظمى من نقلة المذهب: أنه لا بد من القبول، ثم قال: وكيف لا يكون كذلك وهذه معاملة اختصت [بمعين] وفيها استحقاق العوض والمعوض، فكيف تثبت من غير قبول، وبهذا خالف الجعالة؛ فإن إبهام العامل فيها جائز، والوكالة؛ فإنها إذن مجرد، وليس العوض فيها مستحقاً.
وينعقد- أيضاً- بقول رب المال أو وارثه أو من يقوم مقامه بعد فسخ عقد القراض: تركتك أو أقررتك على ما كنت عليه على أظهر الوجهين عند الإمام، ولا ينعقد بذلك عند شيخه، وهو مفرع على منع انعقاده بالكتابة.
وهل ينعقد بلا لفظ من ألفاظ العقود، مثل أن يقول رجل للآخر: طلبت من فلان ألف درهم؛ ليكون قراضاً والربح بيننا نصفيفن، فأبى؛ فدفع إليه السامع ألفاً؟ فيه طريقان في "التتمة"، والصحيح عدم الانعقاد، وقال: إن طريقة الانعقاد مخرجة على جواز بيع المعاطاة.
فرع: لو شرط أن يكون للعامل ثلث الربح والثلث لرب المال والثلث لغلامه
نظر في الغلام، فإن كان مملوكاً ولم يكن قد شرط عمله مع العامل صح، ويكون للعامل الثلث ولرب المال الثلثان؛ لأن المشروط لعبده مشروط له، كما أن الموصى به للعبد موصى به لسيده فإنه لا يملك.
وإن شرط أن يعمل معه فكذلك الحكم عند ابن سريج [وأبي إسحاق] وحذاق أصحابنا كما حكاه البندنيجي.
وبعضهم قال بعدم الصحة، ومأخذه اشتراط العمل كما سنذكره.
وإن كان الغلام أجيراً قد انتهت مدة إجارته أو كان [قد] شرط الثلث لوالد رب المال أو [لزوجته أو لأجنبي] نظر إن لم يشترط عمله [مع العامل]؛ لم يصح العقد، سواء كان الشارط العامل أو رب المال؛ لأن الربح في القراض يستحق بمال أو عمل، وهذا خارج عنهما ففسد العقد لفساد الشرط.
ولا يقال: ينبغي أن يصح ويسلم للعامل ما شرطه ولرب المال الباقي.
فإن العامل إنما يستحق بالشرط وقد شرط له الثلث ورضي به، والربح نماء المال وهو ملك ربه، فإذا لم يحصل لمن شرط له [عاد إلى ملكه؛ لأنا نقول: العامل إذا كان هو الشارط فرضاه بالثلث، كان حصول الثلث لمن شرط له] وقد يتعلق له بذلك غرض ولم يحصل، وإذا كان الشارط رب المال فهذا العقد لابد فيه من القبول، وقبول الشرط شرط من القابل فكأنه شرطه كذا أشار إليه الإمام.
وإن شرط عمل المشروط له، قال في الحاوي: لا يصح إلا أن يتصادقا على أن ما سمى [له] لرب المال ويكون ذكر ذلك على سبيل الاستعارة.
وقال البندنيجي: [يصح] قولاً واحداً، وكأنه قارض شخصين بالثلثين، وقراض الواحد لشخصين لا شك عند الأصحاب في جوازه، وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي أن كلاً منهما مقارض على النصف، فإنه قال: إذا قارض رجل رجلين بألف صح، ويكون في حكم العقدين فكأنه قارض كل واحد منهما على الانفراد بخمسمائة، ثم قال: فإن قيل: فالمضاربان قد اشتركا في العمل وهذا تجويز شركة الأبدان.
فالجواب: أن كلا منهما عامل لرب المال، وليس في ذلك أكثر من أن المال مشاع، وذلك لا يوجب شركة الأبدان، كما لو كان العامل يتصرف في مال القراض وماله فإنه يصح، ولا يكون شركة، ويعمل في المال بحق الملك وبحق القراض، فكذلك هنا يكون كل واحد منهما يتصرف في نصف المال لحق القراض.
وقال ابن الصباغ: أوضح من هذا الفرق عندي أن يقال: كل واحد منهما يعمل على نصف المال [والربح] واشتراكهما في العمل لا اعتبار به؛ لاشتراكهما في المال: ألا ترى [أن] في شركة العنان يعملان في المال، والربح بينهما على قدر المالين ولا اعتبار [باشتراكهما] في العمل وإن كان له ثلثان في الربح وكذلك هاهنا.
وهذا [منه] يدل على أنه مقارض في النصف ويعمل في الكل.
وكلام الإمام في هذه المسألة مختلف، وآخره يدل على خلاف ما دل عليه كلام ابن الصباغ: فإنه قال في أوائل الباب ما نذكره بالمعنى لا باللفظ وأطلق الأصحاب جواز مقارضة الرجل الواحد رجلين، والذي دل عليه ظاهر كلامهم فساد ذلك إن شرط ألا يستقل واحد منهما بالتصرف دون صاحبه؛ لما في ذلك من التضييق في التصرف.
وإن أثبت لكل منهما استقلالاً بالتصرف، فهذا هو الذي جوزه الأصحاب.
ثم أبدى في أواخر الباب في هذه الحالة إشكالاً، وهو أن أحدهما لا يثق بتصرف نفسه؛ لاحتمال سبق الآخر [بالتصرف.
وقد يتفرع عليه أن أحدهما إذا عمل ولم يعمل الآخر] شيئاً فيستحيل أن يستحق من لم يعمل شيئاً، ويجب أن يكون المشروط للعامل وهو مشكل؛ لأنه لم يشترط له الربح وحده، ثم يلزم منه إذا قيل بذلك أن يختلف الربح بمقدار العملين وهذا أمر لا ينضبط.
ثم قال: ونحن نقول-[من] بعد- مقارضة رجلين على أن يستقل كل واحد منهما بالتصرف في جميع المال فاسد لا شك فيه؛ لما أشرنا إليه فلتخرج
هذه الصورة عن إرادة الأصحاب للحكم بالصحة، وأما إذا قارض رجلين على ألا ينفرد واحد منهما بالتصرف فهذا يتضمن حجراً على كل واحد منهما، فقد قدمنا أن المالك لو شرط على العامل أن لا يمضي أمراً حتى يراجع رجلاً عينه أو رب المال؛ فالقراض فاسد، لكن يعارض هذا الحجر في مسألتنا التعاون والتناصر، وهذا يزيد أثره على ما ينحسم بالحجر.
وينفصل رجوع [أحد] العاملين إلى الثاني عما ذكرناه من الفساد باشتراط مراجعة ثالث أو رب المال بأن الثالث لا حظَّ له في الربح فقد يتبرم بالمراجعة وذلك يجر عسراً في التصرف بخلاف العاملين، وبأن التصرف إذا توقف على مراجعة المالك كان في حكم الهابط بالكلية، وما يسقط استقلال العامل [فإنه] ينافي وضع القراض.
ويتجه: أن يحمل ما قاله الأصحاب على كون كل واحد من [المقارضين مقارضاً] في قسط من المال، وقد ذكرنا أن الشيوع غير ضائر، وكلام الأصحاب في التفريع يشير إلى ذلك فإن مما ذكروه أنه لو قارض رجلين وجعل نصيب أحدهما من الربح أقل جاز، وهذا إنما يفرض إذا كان كل منهما مقارضاً في قسط منفرداً فيه بمعاملة المالك، ولو قدرنا صحة مقارضة رجلين على التناصر؛ فهما كالعامل الواحد في جميع المال، [فليس لرب المال] الاحتكام بتفضيل أحدهما على الثاني، فخرج من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقارضهما على أن يتصرف كل منهما في جميع المال، وهذا باطل لا شك فيه.
والثاني: أن يتعاونا على العمل في الجميع؛ فهذا محتمل والأظهر البطلان؛ لما ذكرناه آخراً.
والثالث: أن يجعل كلا منهما عاملاً في شطر المال، وهذا جائز لا يرده راد وقد قال الشافعي: تعدد المقارض يتضمن تعدد القراض. ولا محمل لكلامه
إلا ما ذكرناه آخراً، [وقد] قال بعد ذلك بورقتين:
فرع: ذكر العراقيون مسألة عن ابن سريج وهي أنه لو قارض رجل رجلين على مال وحصل في يدهما ثلاثة آلاف درهم، فقال رب المال: الربح ألف ورأس المال ألفان وصدقه أحد العاملين وقال الآخر: [بل] الربح ألفان ورأس المال ألف فإنه يأخذ من الربح خمسمائة بعد حلفه ويقسم الخمسمائة الباقية من الربح بزعم رب المال والآخر بينهما أثلاثاً؛ لرب المال ثلثاها وللمصدق ثلثها، وهو جواب حسن.
وفي تفريعه ما يدل على [أن] مقارضة الرجل [الواحد] لرجلين على صفة التناصر والتعاون جائزة وفيه ما تقدم من الإشكال، وليس عندي نقل صريح في إفسادها والذي قدمته من التقسيم والتفصيل احتمال أبديته وليس عندي أيضاً نقل في فساد القراض عند استقلال كل منهما بالعمل من غير مراجعة الثاني، وإنما قلته عن احتمال، والذي أشار إليه الغزالي في "الوسيط" صحة القراض في حالة التعاون، والله أعلم.
فرع: إذا قارض اثنان رجلاً على مال صح إذا بينا نصيب العامل من الربح وكون الباقي يكون بينهما على نسبة مالهما، ولا فرق بين أن يتساويا فيما يشترطانه للعامل كالنصف مثلاً أو يتفاضلا، مثل أن يشترط له أحدهما نصف ربح ماله، والنصف الآخر [له]، ويشترط له الآخر ثلث ربح ما له، والباقي له.
ولو كان مالهما ألفاً على السواء فشرط له أحدهما الثلث والآخر النصف، وشرطا أن يقسم الفاضل عن نصيب العامل من الربح بينهما؛ فسد؛ لما فيه من شرط ربح لمن ليس بمالك ولا عامل وهو الشارط للنصف.
قال: ولا يجوز إلا على التجارة في جنس يعم وجوده، أي: كالثياب والطعام والحيوان، ونحو ذلك. أما اعتبار التجارة؛ فلأن القراض شرع رخصة لحاجة من معه مال إلى تحصيل الأرباح فيه بالتجارة، وهو لا يحسنها مع كونه لا يمكنه تحصيل المقصود منها [إلا] بالاستئجار على أعمالها؛ لكونها غير مضبوطة فاغتفر فيه الجهالة بالعوضين كذلك كما اغتفرت في أعمال المساقاة.
وغير التجارة من الأعمال كما إذا قارضه على أن يشتري الحنطة ويطحنها
ويخبزها ويبيعها ويكون الربح بينهما، أو الغزل لينسجه أو الثياب ليقصرها أو يصبغها يمكن تحصيل المقصود منها بالاستئجار؛ فلا ضرورة ولا حاجة إلى ارتكاب جهالة يستغنى عنها.
ومن هذا القسم ما إذا قارضه على أن يشتري مركباً يعمل عليها، أو شبكة ليصطاد بها، أو أشجاراً لأجل ما يحصل منها من ثمار، أو حيواناً لأجل دره ونسله، وإذا اتفق ذلك كان ملك ما اشتراه لرب المال، وللعامل الأجرة الحاصلة من العمل على المركب وما حصل من صيد له، وعليه أجرة المركب والشبكة.
وأما اعتبار عموم الوجود فيما يحصل فيه التجارة فلأن المقصود بالقراض تحصيل الأرباح وذلك إنما يكون غالباً فيما يعم وجوده فاختص به.
قال: فإن علقه على ما لا يعم أي: كما إذا قارضه على أن يشتري العود الرطب في موضع لا يكثر فيه، أو الياقوت الأحمر أو الخيل البلق أو الغلمان الحسان الوجوه أو الصيد في موضع لا يكثر فيه.
قال: أو على ألا يشتري إلا من رجل بعينه لم يصح؛ لأن في ذلك إخلالاً بمقصود العقد، وقد لا يكون عند من عينه ما يتوهم العامل حصول الربح فيه، أو لا يبيع إلا بثمن غال، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك الرجل بيعاً يجلب إليه الأمتعة ولا ينقطع عنه في الغالب، أو لا.
وحكى القاضي أبو الطيب [عن] الماسرجسي أنه جوز فيما إذا كان الرجل بيعاً، وكما يمتنع القراض إذا شرط عليه البيع من رجل بعينه، أو شرط عليه الشراء] والبيع من حانوت بعينه، بخلاف ما لو شرط عليه أن لا يشتري ولا يبيع إلا في سوق بعينه فإنه يصح؛ فإن السوق المعينة كالنوع العام والحانوت المعين كالعرض المعين، قاله الماوردي.
فرع: لو اشترى العامل في القراض على الحنطة حنطة وطحنها من غير شرط؛ كان متعدياً وعليه ضمان ما نقص بسبب الطحن، وهل ينفسخ عقد القراض بذلك؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين.
أحدهما: لا؛ لأن الربح حصل على تلك العين التي اشتراها للقراض، فصار كما لو سافر بغير إذن وتصرف يستحق الربح [كذا هنا مثله] وهذا ما أبداه
الإمام احتمالاً مقيساً على ما إذا اشترى عبداً صغيراً فكبر وباعه، فإنا لا نعرف خلافاً في أن ربحه مقسوم بينهما وإن كان ما يفرض من فائدة فهي حاصلة من التغيير الذي لحق الرقيق.
والثاني: أن القراض ارتفع؛ لأنه أمره بالتصرف في الحنطة وهو يريد التصرف في الدقيق وليس له ذلك، ولو باع الدقيق أو الخبز؛ لم ينعقد البيع، ولكن الربح الذي حصل من الحنطة لهما، وهذا ما نسبه الإمام إلى القاضي وطوائف من المحققين وأنهم بنوا عليه ما إذا أمر رب المال العامل، فطحن الحنطة، أنه يصير بذلك فاسخاً لعقد القراض.
وجعل الرافعي الأول أظهر، وهو الذي جزم به في "التتمة"، وكذا في "التهذيب"، لكن سوى في ذلك بين ألا يكون رب المال قد أذن له في شراء الحنطة كما ذكرنا وطحنها وبين أن يكون قد أذن له في التصرف مطلقاً، فاشترى الحنطة وطحنها. وعلة القاضي في الوجه الثاني ترشد إلى أنه إذا أذن له في التصرف مطلقاً أن القراض لا ينفسخ؛ لكن الإمام حكى عنه أنه علله بأن الربح يحال على التغير الحاصل بفعله وغير التجارة لا يقابل بالربح المجهول، وهذه العلة تقتضي [تعميم] جريان الخلاف.
تنبيهان:
أحدهما: المراد بعموم الوجود حالة العقد في الموضع المعين للتجارة، ولا يعتبر عموم وجوده في سائر الأزمان والأمكنة حتى يصح القراض على الثمار الرطبة إذا كانت موجودة، وإن كانت مفقدة لدى العقد فلا يصح، فإذا صح فهل ينقطع بانقضاء زمنها أو يبقى القراض مستمراً حتى إذا جاء أوانه تصرف فيه؟ فيه وجهان كذا صرح به الماوردي.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه [إذا قال] قبل إدراك البطيخ: قارضتك على أن تتصرف في البطيخ إذا أدرك؛ ففي صحة القراض وجهان، وهذا تفريع على صحة القراض عليه ناجزاً إذا كان موجوداً وهو الصحيح، وفيه وفي الثمار الرطبة وجه حكاه ابن الصباغ عن بعض أصحابنا: أنه لا يجوز القراض عليه أخذاً من قول الشافعي: إذا شرط أن يشتري صنفاً موجوداً في [الشتاء والصيف].
فجائز، وهو ما مال إليه القفال وجزم به في "التهذيب" أخذاً من منع تأقيت القراض، حتى لو قال: قارضتك على أن تعمل في الثمار الرطبة ثم بعدها في كذا؛ صح اتفاقاً.
والذي جزم به الشيخ أبو حامد، الأول وانفصل القائلون به عن تأقيت القراض بأن المدة المعينة قد تنقضي قبل بيع ما عنده من العروض فيمتنع عليه التصرف فلذلك فسد، وهذا النوع ما دام باقياً في يد العامل لم ينته زمنه؛ فيكون القراض باقياً.
الثاني: أن كلام الشيخ يدل بمنطوقه على اشتراط تعيين جنس ما يقارض عليه وهو يخرج القراض العام- وهو ما إذا قال: قارضتك على أن تتجر فيما أردت من أصناف الأمتعة وأنواع العروض- وقد صرح الماوردي وغيره بجوازه.
وبمفهومه على أن تعيين النوع من الجنس لا يشترط وهو قضية ما حكاه في "المهذب" وغيره فيما إذا قارضه على أن يتجر في البز أن له أن يتجر في أصنافه من المنسوج من القطن والإبريسم والكتان، وما يلبس من الأصواف.
ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش؛ لأنه لا يقع عليه اسم البز وهل يجوز أن يتجر في الأكسية البركانية والثياب المخيطة كما هو في الثياب؟ فيه وجهان وقد قال الرافعي: إن الخلاف في اشتراط [تعيين] نوع يتصرف فيه مثل الخلاف المذكورة في الوكالة.
[ومقتضى هذا أن يكون التعيين شرطاً هاهنا عند الشيخ كما صح كونه شرطاً في الوكالة].
والظاهر وهو الذي أورده الإمام أنه لا يشترط؛ لأن الوكالة نيابة محضة، والحاجة تمس إليها في الأشغال الخاصة، والقراض معاملة يتعلق بها غرض كل من المتعاقدين، فمهما كان العامل أبسط يداً كان أفضى لمقصودها.
قال: [ولا يصح إلا أن يعقد في الحال، فإن علقه على شرط لم يصح]؛ لأنه عقد يلزمه العوض، فلم يصح تعليقه على شرط كالإجارة، ولأنه عقد يبطل بالجهالة في رأس المال وإبهام العوض وهو الربح؛ فلم يجز تعليقه على
شرط؛ [كالسلم. وكما لا يصح تعليقه على شرط لا يصح تعليق] التصرف على شرط.
وفيه وجه: أنه يصح كالوكالة، وهو قريب من الوجه الذي تقدم في صحة القراض على البطيخ في غير أوانه.
قال: وإن عقده إلى شهر على ألا يبيع بعده؛ لم يصح؛ لأن وضع القراض أن يعلم كل منهما ما له من الربح عند المفاضلة، وذلك لا يمكن إلا بنضوض الثمن، والثمن لا ينض إلا بالبيع، وقد لا يتسع الوقت له قبل انقضاء الشهر، وهو بعده ممتنع فكان مخالفاً لمقتضى العقد فأبطله.
قال: وإن عقده إلى شهر على ألا يشتري بعده أي وجعل له البيع؛ صح؛ لأنه لو عقد مطلقاً ملك رب المال منعه من الشراء أي وقت شاء؛ فلم يكن فيما شرطه منافاة لمقتضى العقد، وهذا ما جزم به الماوردي وأبو الطيب وابن الصباغ.
وفي "المهذب" وغيره حكاية وجه: أنه لا يصح، ونسبه الروياني في "البحر" والمحاملي في "المجموع" إلى حكاية أبي الطيب الساوي فيما علقه من الزيادات على الشرح عن أبي إسحاق، والإمام إلى رواية العراقيين عن أبي الطيب بن سلمة، وقال الرافعي: إنه لا يكاد يوجد في كتبهم، وكأنه اشتبه عليه أبو الطيب بأبي الطيب.
وقال ابن يونس: إن هذا الوجه ظاهر المذهب، ووجهه القاضي الحسين بأنه شرط ارتفاع العقد الذي قضيته [على] الإطلاق لوجود معنى مفسد، كما إذا
شرط أن تبين منه إذا أصابها في النكاح، وعلى الأول يتفرع مسألتان:
الأولى: لو قال: خذ هذا المال ما أقام العسكر اقتراضاً أو إلى قدوم الحاج، وأراد فسخه بعد ذلك دون منع البيع، فيه وجهان في الحاوي؛ وجه الفساد: جهالة المدة.
الثانية: لو قال: قارضتك شهراً، مقتصراً على هذا، فالأصح فساد القراض؛ لأن قضية انتهاء القراض امتناع التصرف بالكلية.
وفيه وجه أنه يصح؛ لأنه عقد جائز يصح مطلقاً، فصح مؤقتاً، كالعارية، ويحمل هذا المنع على منع الشراء دون البيع.
فرعان: لو قارضه على أن يشتري الحنطة، ويبيع في الحال، ويكون [الربح] بينهما نصفين- لم يجز.
قال القاضي الحسين: لأن القراض عقد يطلب نماؤه بحذاقة التصرف منه على الإطلاق، [وهو لم] يطلق التصرف، بل حصر ذلك بالفعل، فهو كما لو حصره بالزمان.
ولو قارضه على ألف على أن يتصرف في الحنطة ويمسكها زماناً حتى إذا غلا السعر [حينئذ] يبيع، ويكون الربح بينهما: لم يجز ولم ينعقد القراض؛ قاله القاضي أيضاً.
قال: وإن شرط [أن] يعمل معه رب المال لم يصح؛ لأن وضع القراض على أن يكون من رب المال، ومن العامل العمل، فالجمع بينهما على رب المال ينافي مقتضاه؛ لأن بعض الربح يكون له بعمله وماله، وهذا هو الصحيح.
وفي "الرقم × لأبي الحسن العبادي أن أبا يحيى البلخي جوز ذلك على طريق التبعية والمعاونة، وسنذكر ما يدفع هذا.
وكما لا يصح شرط عمل رب المال، لا يصح شرط مراجعته أو مراجعة
شخص بعينه ليس بعامل القراض؛ لما في ذلك من التضييق في التصرف.
وكذا لا يجوز [شرط] جعل المال في يد مالكه، أو في يد وكيله مع استقلال العامل بالرأي والتصرف.
وفي هذه الحالة وجه حكاه الماوردي: أنه يصح، وأجراه فيما إذا شرط أن يكون مع العامل مشرف يطلع على ما يفعله ولا يتوقف تصرف العامل على مراجعته.
قال: وإن شرط [أن يعمل معه] غلام لرب المال [أي] وهو معروف بشخصه أو صفته، صح على ظاهر المذهب؛ لأن غلامه [مال له] فجاز أن يجعل [غلامه] تابعاً لماله؛ ولأن القراض عقد على أصل يشترك رب المال والعامل على فائدته؛ فوجب ألا يفسد بشرط عمل العبد فيه كالمساقاة.
وقيل: لا يصح؛ لأن عمل العبد كعمل سيده، وفي "البحر" أن هذا هو الظاهر من كلام الشافعي في "الأم" وأن القاضي أبا حامد قال: إنه الصحيح وكذا الطبري وقال في "المهذب" في باب المساقاة: إنه المنصوص.
والجمهور وحذاق الأصحاب على [صحة] الأول، وفرقوا بينه وبين السيد بأن العبد يصح استئجاره واستعارته [ويصلح أن] يكون في يد المستعير ومنفعته حاصلة [له]، فيصلح أن يكون تابعاً للعامل بخلاف رب المال؛ فإنه لا وجه لجعله تبعاً في التصرف في مال لغيره.
ومحل الخلاف إذا لم يشترط مراجعة الغلام في التصرف فإن شرط ذلك فسد العقد، وكذا لو شرط أن يكون المال في يده ويجيء فيه الوجه السابق.
ولو دفع رب المال للعامل جملا يحمل عليه أنواع التجارة، أو كيساً يحمل فيه مال المضاربة- جاز على ظاهر المذهب، وبعضهم جوزه مطلقاً.
قال: وعلى العامل أن يتولى بنفسه ما جرت العادة أن يتولاه؛ أي كتقليب السلع ونشرها على من يرغب في شرائها، وإدراجها في السقط، والبيع والشراء وذرع الثياب وقبض الأثمان ونقدها، ووزن ما خف: كالذهب، والفضة،
والعنبر، والمسك، ونحوها، وحفظ المتاع على باب الحانوت وإشرافه في السفر- إذا أذن له فيه- على جميع المتاع، وتحميل الأعدال والرقاد على بعضها وكل ما جرت عادة المالك بفعله في ماله مما يحفظ به؛ لأن إطلاق العقود يحمل على ما ألف وعرف فيها، وهذا هو العرف.
ولو استأجر العامل من يتولى فعل ذلك أو بعضه جاز، كما صرح به الإمام، وكذا لو وكل أو استناب في ذلك كما قاله الإمام في أواخر كتاب الوصية.
وكلام الشيخ قد يأباه [حيث قال] بنفسه.
قال الإمام: لكن الأجرة في مال العامل؛ لأنه عمل عنه، بخلاف ما لو استأجر من ينقل الأعدال أو يحملها أو ينادي على السلع أو يحملها من الخان إلى الحانوت، فإن الأجرة تصرف من مال القراض؛ كما تصرف أجرة الحمال والخان وأجرة الحارس، وكذا ما صار معهوداً من الضرائب التي لا يقدر على منعها كما حكاه في "الحاوي"، ويخالف ما إذا عمل العامل بنفسه ما جرت العادة بالاستئجار عليه؛ فإنه لا يستحق [عليه أجرة].
فرع: لو غصب شيء من أموال القراض هل للعامل المخاصمة عليه؟ فيه وجهان:
اختيار ابن سريج منهما: نعم، واختيار الأكثرين من أصحابنا: لا.
قال الماوردي: وكلام ابن سريج أشبه بالصواب، وهو ما يقتضيه إيراد الإمام فإنه جزم بأن له مطالبة من أتلف من مال القراض شيئاً، وسنذكر من بعد عن رواية الرافعي تفصيلاً فيه.
قال: [وأن يتصرف على وجه الاحتياط فلا يبيع بدون ثمن المثل ولا بثمن مؤجل]؛ لأنه يتصرف في مال الغير بإذنه فلا يتصرف إلا على وجه النظر والاحتياط كالوكيل، فلو باع بأقل من ثمن المثل أو بمؤجل كان حكمه كالوكيل إذا باع به وقد ذكرناه.
قال: إلا أن يأذن له في ذلك كله؛ لأن المنع لحقه فزال بإذنه، ومحل ذلك: إذا لم ينهه المالك- مع إذنه له في البيع بالنساء- عن البيع بالثمن الحال كما
حكاه الماوردي، أما إذا نهاه عن البيع بالحال فالقراض باطل.
وكما لا يملك البيع بالثمن المؤجل لا يملك الشراء به؛ لأنه قد [يهلك مال] القراض قبل حلوله، ويجب عليه إذا باع [بالثمن المؤجل] أن يشهد حتى إذا لم يفعل [ذلك] ضمن، كما قيل ذلك في حق الوكيل بخلاف ما إذا باع في الحال فإن العرف لم يجر به مع أنه مأمور بعدم تسليم العين قبل قبض الثمن حتى لو سلم العين قبل [قبض ثمنها] كان ضامناً، وما يضمنه مذكور في الوكالة.
ولا يجوز للعامل أن يشتري بأكثر من رأس المال، ولا بغير جنسه حتى لو كان رأس المال ذهباً لا يجوز أن يشتري بالنقرة، بل يشتري بالذهب نقرة [ثم يشتري] بها. صرح به في الحاوي.
ولو اشترى شيئاً بعين رأس المال، أو بقدره في الذمة ثم اشترى شيئاً آخر لم يقع لمال القراض؛ لأنه إذا اشترى الأول بالعين فقد ملكه البائع، وإذا اشتراه في الذمة فقد استحق صرف رأس المال إليه.
وفي هذه الحالة يقع [الشراء] للعامل إن لم يصرح بالسفارة، وإن صرح فوجهان تقدم نظائرهما.
تنبيه: سكوت الشيخ عن منع العامل من البيع بغير نقد البلد [وإن كان صرح به في الوكيل يعرفك أن العامل لا يمنع من البيع بغير نقد البلد] ولا بالعرض وهو ما صرح به الرافعي والمتولي وصاحب "المرشد" فيما إذا باع بالعرضز
وفي "الشامل" وتعليق البندنيجي، و"البحر": الجزم بمنعه من البيع بغير نقد البلد كما في الوكيل.
قال: فإن اشترى معيباً رأى شراءه [أي]: مربحاً؛ جاز؛ لأن القصد تحصيل الربح وقد ظنه.
وفي "التتمة" و"التهذيب" حكاية وجه: أنه إذا اشتراه بقيمته لم يصح؛ لأن الرغبات في المعيب تقل.
قال: [وإن اشترى شيئاً على أنه سليم، فخرج معيباً، ثبت له الخيار]؛ لأنه فوض النظر [إليه] وهذا منه، ولا ينفذ فسخ العامل إذا كان في الإمساك حظ ومصلحة، [وينفذ إذا لم يكن فيه حظ]، سواء كان الحظ في الرد أو استوى الأمران؛ لقدرته على البيع بثمن المثل، كما صرح به الإمام، وحكى وجهاً: أنه ينفذ وإن كان الحظ في الإمساك كما ينفذ رد الوكيل في هذه الحالة على الأصح، [وقال: إنه متجه]؛ فإن حط رتبته عن الوكيل لا وجه له، وقد مال جواب القاضي إليه.
قال الرافعي: وحيث يثبت الرد للعامل، فهو للمالك أولى، لكنه يرد على البائع إن وقع العقد على العين، وإن ورد على الذمة فله صرفه عن مال القراض، [وفي انصرافه للعامل ما] سبق وفي انصراف العقد للوكيل إذا لم يقع للموكل.
قال: وإن اختلف هو ورب المال في الرد بالعيب، عمل ما فيه المصلحة؛ لأنه العدل، وفيه وجه: أن المالك إذا أجاز العقد لزم كما لو رضي الموكل بالعيب.
قال في "البحر" في كتاب الوكالة: "وهو غلط".
قال: وإن اشترى من يعتق على رب المال أو زوج رب المال بغير إذنه؛ أي: بعين مال القراض، لم يصح.
أما في الأولى: وهي ما إذا اشترى أحد الوالدين وإن علوا، أو المولودين وإن سفلوا؛ فلأن القصد بهذا العقد ابتياع مربح ولم يوجد.
وأما في الثانية: وهي ما [إذا] اشترى زوج رب المال؛ فلأن في ذلك إضراراً به بسبب انفساخ نكاحه، فلم يكن إذنه المطلق متضمناً له كما في شراء القريب والمراد بالزوج في أكثر الكتب: الرجل، ويجوز أن يكون ذلك مراد الشيخ، ويجوز أن يكون مراده الرجل [أو المرأة] كما صرح به الإمام.
ويعضده أن لفظ الزوج يصدق لغة على كل واحد منهما كما ذكرناه في باب
الغصب، وقد قال تعالى:{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90].
وهكذا الحكم في ابتياع أم ولد رب المال إذا بيعت في الرهن كما صرح به في "المرشد".
ويجيء في صحة الشراء في الصورتين القول القديم في وقف العقود كما حكاه القاضي الحسين.
وفي "المهذب" وغيره حكاية وجه في شراء الزوج أنه يصح للقراض؛ لأنه قد يكون مربحاً، وحكاه الماوردي قولاً. والقول بعدم الصحة هو المنصوص في "الإملاء".
أما إذا وقع الشراء في الذمة وقع للعامل على الجديد إن لم يصرح بالسفارة، وإن صرح فوجهان.
وإذا وقع الشراء بالإذن صح في الصورتين وانفسخ النكاح، وأما العتق فإن لم يكن في المال ربح، ولم يكن في ثمن القريب فضلة لو كان على رقه فيحصل في جملة القريب ويرتفع القراض إن كان الشراء بجميع المال، لكن هل يكون عقد ابتياعه داخلاً في عقد [القراض]؟ فيه وجهان في "الحاوي".
أصحهما: عند الماوردي والشاشي في "الحلية": لا، فعلى هذا للعامل أجرة مثله على الابتياع.
والثاني: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني: نعم، فعلى هذا لا شيء للعامل على المالك في هذه الصورة إذ لا ربح، وهذا ما جزم به الرافعي، والبندنيجي وابن الصباغ، والقاضي الحسين.
وإن كان في المال ربح [بأن كان [مال] القراض ألفاً وكسب ألفاً، ووقع شراء القريب بكل الألفين، أو لم يكن في المال ربح] وكان في ثمن القريب فضل بأن اشتراه بألف، وقيمته ألفان، ففي "تعليق" القاضي الحسين: أنه يعتق كله إن كان رب المال موسراً، ويغرم للعامل قيمة الربع إن كان قد شرط له نصف الربح وذلك خمسمائة، وإن كان معسراً عتق عنه ثلاثة أرباعه والباقي قن للعامل سواء قلنا بملك العامل حصته بالظهور [أو بالقسمة]؛ لأن إتلاف
[المال كالقسمة]، وكذا قال الإمام وقال: إن قولنا: إنه إذا كان موسراً يعتق جميعه في الحال تفريع على تعجيل السراية.
وفي "التتمة"، والرافعي: أن ذلك ينبني على أن العامل متى يملك حصته من الربح؟ فإن قلنا بالقسمة عتق جميعه وغرم المالك نصيب العامل من [الربح.
وإن قلنا] بالظهور عتق منه حصة رأس المال ونصيب المالك من الربح وسرى العتق إلى الباقي إن كان موسراً وإن كان معسراً بقي رقيقاً.
وفي "البحر": في صورة الشراء برأس المال والربح أنا إن قلنا: إن العامل لا يملك بالظهور [عتق جميع العبد]؛ لأنه على ملك رب المال، وإن قلنا: يملك بالظهور فإن علم العامل أنه قريب رب المال عتق جميعه عليه؛ لأنه اشتراه لأجله، وإذا اشترى الإنسان بماله لغيره أباه عتق عليه، كذلك هاهنا، وإن لم يعلم بأنه أبوه عتق منه بمقدار ملك رب المال منه، ونصيب العامل لا يعتق [إلا أن يكون] موسراً.
وهذا الذي ذكره [فيما] إذا لم يكن عالماً بأن المشتري أبو رب المال؛ حكاه ابن الصباغ عن القاضي في "المجرد"، ولا يخفى أن هذا تفريع على وقوع الشراء لعقد القراض كما صار إليه أبو حامد.
أما إذا قلنا بما صححه الماوردي [والشاشي] أنه لا يقع لعقد القراض وللعامل أجرة مثله، فيعتق العبد بكل حال سواء كان رب المال موسراً أو معسراً.
ولو وقع شراء القريب ببعض مال القراض:
حكى القاضي الحسين في "تعليقه" عن العراقيين أنهم قالوا: إن اشتراه بقدر رأس المال عتق عليه، وكأنه استرده، والباقي بينهما.
وإن اشتراه بأقل من رأس المال [فيرد عليه تمام رأس المال]، والباقي بينهما.
وإن اشتراه بأكثر من رأس المال؛ فما زاد يكون من حصة رب المال من الربح، فإن استوفاها، بقي الباقي للعامل، وإن بقي أكثر من نصيب العامل، سلم للعامل نصيبه وأخذ رب المال الباقي.
ثم قال: وهذا غلط؛ لأن المقبوض من المشترك أو المتلف منه يقع من الحقين؛ فلا يتعين المتلف من نصيب المتلف، وإنما حكمه حكم ما لو استرد طائفة من المال وسنذكره.
والحكم فيما إذا أعتق رب المال عبداً من مال القراض كالحكم في شراء من يعتق عليه بالإذن.
فرع: الوكيل بشراء عبد مطلق نصفه إذا اشترى من يعتق على موكله، هل يصح الشراء؟
فيه وجهان: أظهرهما: وهو الذي أورده المتولي والقاضي الحسين والجمهور: الصحة؛ لأن اللفظ شامل وقد رضي إن بقي له انتفع به، وإن عتق عليه ناله ثوابه، بخلاف القراض فإن قرينة طلب الريح أبطلت ذلك.
فعلى هذا لو كان العبد معيباً، حكى الرافعي في كتاب الوكالة أن [الموكل بالخيار] في رده؛ لأنه لا يعتق عليه قبل الرضا بالعيب.
ولو اشترى الوكيل عبداً شهد موكله بحريته أو بكونه ملك عمرو، فلم تسمع شهادته؛ ففي صحة الشراء وجهان في "تعليق" القاضي الحسين".
قال: ولا يسافر بالمال من غير إذن أي سواء كان السفر بعيداً أو قريباً، وسواء كا الطريق آمناً أو مخوفاً، وسواء لحقته فيه مؤنة أم لا؛ لأن السفر ترك للنظر، روي أنه- عليه السلام قال:"إِنَّ المُسَافِرَ وَمَالَهُ لَعَلَى قَلَتٍ .. " الحديث.
وفي تعليق الشيخ أبو حامد قول عن البويطي أنه يجوز عند أمن الطريق.
وفي الجيلي: أن الروياني قال في "الفتاوى": إذا كان الربح في السفر أكثر؛ والطريق آمن جاز؛ والمذهب الأول.
فإذا سافر، ضمن، وهل يبقى عقد القراض أو ينفسخ؟
قال في "الحاوي": إن فعل ذلك مع بقاء عين مال القراض بيده؛ فقد بطل القراض؛ لأنه صار غاصباً.
وإن فعل ذلك مع انتقال عين المال إلى العروض فلا؛ لاستقراره بالتصرف والشراء.
والذي أطلقه الإمام من أن العقد قائم، فهو محمول على ما قاله الماوردي، فإن كلامه من بعد يرشد إليه، لكن سنذكر عن الإمام في آخر الباب أن العامل إذا خلط رأس مال القراض بماله ضمن، ولا ينعزل عن التصرف مع أن ما ذكره الماوردي من كونه غاصباً موجود فيه.
وعلى كل حال: إذا سافر بمال القراض ينظر: إن كان المتاع في البلد الذي سافر إليه أكثر قيمة أو تساوت القيمتان؛ صح البيع لعموم الإذن، والمنع من السفر إنما كان للخطر فيه، والبيع لا خطر فيه.
وإذا صح البيع استحق الربح كما شرط.
وإن كان أقل قيمة مما يتغابن [الناس] بمثله فباعه لم يصح البيع.
ثم حيث يصح البيع فيكون الثمن مضموناً عليه؛ لكونه قبضه من موضع لم يتناوله الإذن.
قال: فإن سافر بالإذن فقد قيل: إن نفقته في ماله؛ لأنه استحق الربح الذي [شرط بالعمل]؛ فلا يستحق شيئاً آخر لأجله كما في الحضر، ولأنه ربما يفوز بسبب ذلك بكل الربح.
وهذا ما نص عليه في البويطي، وبه قطع أبو إسحاق [وابن أبي هريرة، وزاد أبو إسحاق]، فقال: ولا يعلم للشافعي في قديم ولا جديد أنه ينفق على نفسه، كذا حكاه [عنه] في "البحر"، وقال: إن أكثر أصحابنا على هذه الطريقة.
قال: وقيل: على قولين أحدهما: أنها في ماله؛ لما ذكرناه وهو الأصح.
والثاني: أنها في مال المضاربة وهو نصه في "المختصر" وبه قطع بعضهم؛ لأنه حبسه عن التكسب بالسفر؛ لأجل القراض، فأشبه المرأة تحبس عن التكسب بسبب الزوج.
وبهذا خالف الحضر؛ فإنه غير ممنوع من التكسب فيه.
وهذه الطريقة صار إليها أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل، واختارها الشيخ أبو حامد وجماعة؛ كما قال في "البحر"، وهي أظهر عند الرافعي.
والقائلون بالأول حملوا نصه في "المختصر" على النفقة بسبب حمل الأمتعة.
قال: وأي قدر يكون في مال المضاربة؟ قيل: الزائد على نفقة الحضر؛ [أي:] كالركوب، وزيادة مأكول وملبوس وزيادة سعر في الماء والطعام؛ كما حكاه البندنيجي، وثمن الخف والإداووة والسطيحة والسفرة والمحارة، ونحو ذلك كما حكاه الرافعي.
ووجهه: أن ذلك هو الملتزم لأجل السفر، وهذا هو الأصح في الرافعي وغيره.
وقيل الجميع أي ذلك، والطعام، والإدام، والكسوة وأجرة المنزل، كما صرح به البندنيجي والرافعي وغيرهما، تشبيهاً بما إذا سلمت الزوجة نفسها.
ولأن سفره لأجل المال؛ فأشبه أجرة الجمال.
وهذا ما يقتضي كلام الماوردي أنه المذهب؛ لأنه صدر به كلامه، ثم قال: وقد حكى ابن أبي هريرة عن بعض متقدميهم أنه لا يستحق إلا ما زاد على نفقة الحضر، وهو أشبه بالقياس؛ هذا هو المشهور في الطرق.
وقد قال المزني في "الجامع الكبير": والذي أحفظه له أنه: لا يجوز القراض إلا على نفقة مقدرة في كل يوم، وثمن ما يشتريه لنفسه في عمله.
وحكى البندنيجي وغيره عن الشيخ أبي حامد [أنه] قال: هذا لا يلتفت إليه ولعله خلاف الإجماع.
وليعلم أن النفقة محسوبة من الربح إن كان، وإلا فهي خسارة لحقت رأس المال، وأن على العامل ألا يسرف في الإنفاق، بل يأخذ بالمعروف، كما هو في "المختصر"، ولا تجب فيها أجرة حمام ولا حجام، ولا ثمن دواء ولا شهوة.
وفي "الحاوي" حكاية وجه أنها تكون مقدرة؛ كنفقة الزوجات؛ لأنها معاوضة وتقديرها لرفع الجهالة وأن الصائر إليه أخذه من رواية المزني في "الجامع الكبير".
وعلى الأول لو وقع اختلاف فيقدر ما أنفقه العامل، فالقول قوله مع يمينه إذا كان محتملاً.
وفيه وجه حكاه الماوردي: أن القول قول رب المال مع يمينه أخذاً من الوجهين في ادعاء العامل رد المال على ربه، وأن العامل مهما أقام في طريقه فوق مدة المسافرين في بلد لم يأخذ لتلك المدة نفقة كما جزم به الرافعي والمتولي، وهو في "الحاوي" مقيد بما إذا كان ذلك لعارض مرض أو شيء يختص به.
أما إذا أقام فوق مدة المسافرين لأجل مال القراض انتظاراً لبيعه وقبض ثمنه أو التماساً لحمله أو لسبب يتعلق به فنفقته فيه كنفقته في سفره لاختصاصه بالقراض.
فروع:
أحدها: إذا شرط العامل نفقة السفر في القراض، فإن قلنا: إن مطلق العقد يقتضيها؛ كان ذلك تأكيداً لها.
وإن قلنا: لا يقتضيها، فسد على أظهر الوجهين؛ كما لو شرط ذلك في الحضر.
ووجه الصحة: أنه من مصالح العقد.
وعلى هذا هل يشترط [فيه] تقديرها؟ فيه وجهان.
[الثاني:] إذا حمل [مع] مال القراض مالاً لنفسه واتجر فيه، وأوجبنا النفقة لأجل السفر، وزعت على قدر المالين.
وقال الإمام: يجوز أن ينظر إلى مقدار العمل في المالين ويوزع على أجرة مثلهما.
وفي أمالي أبي الفرج السرخسي: أنها إنما توزع إذا كان مقدار ماله يقصد السفر لأجله، فإن كان لا يقصد [السفر] له فهو كما لو لم يكن معه غير مال القراض.
الثالث: إذا عاد من سفره ومعه فضل زاد نقصه من كفايته أو آلته في السفر من
السفرة؛ والمطهرة ونحو ذلك، فهل يعاد لمال القراض أو يستقل به العامل؟ فيه وجهان حكاهما الإمام عن الشيخ أبي محمد و [أنه] قربهما من تردد الأصحاب [في] أن جند الإسلام إذا انصرفوا من دار الحرب ومعهم فضلة من طعام وجدوه فيها، هل يعاد إلى الغنيمة، أو لا؟
وفي "البحر": أن القاضي الطبري قال: ورأيت في كتاب "التهذيب" لابن القفال في رد الكسوة وجهين، كما يقول في كسوة المعتدة على الزوج إذا انقضت العدة هل ترد؟ وفيها قولان، والأظهر في مسألتنا عند الرافعي: وجوب الرد.
وقال الإمام: إنه القياس الذي لا ينقدح غيره، وما ذكر من أمر الغنائم فمعتمده أخبار دلت على توسع ولا يسوغ أن يتخذ أصلاً في أحكام المعاملات.
[الرابع:] إذا لقي رب المال العامل في البلد الذي سافر إليه بعد نضوض المال فاسترده، فهل تجب له [فيه] نفقة العود؟ فيه قولان في "أمالي" حرملة، والصحيح المنع.
وفي "البحر": أن ظاهر المذهب الوجوب، وهو قضية ما "في تعليق" البندنيجي؛ فإنه قال: إن الخلاف مبني على أنه: هل يستحق نفقة الذهاب أم لا؟ فإن قلنا: يستحق، استحق وإلا فلا.
تنبيه: ذكر الشيخ حكم النفقة عند السفر بالإذن يعرفك جوازه وهو متفق عليه لكن إذا عين له موضعاً لا يجوز أن يسافر إلى غيره.
وإن أطلق له الإذن في السفر؛ جاز أن يسافر به إلى البلدان المأمونة المسالك والأمصار التي جرت عادة أهل بلده أن يسافروا بأموالهم ومتاجرهم إليها، ولا يخرج عن العرف المعهود فيها فإن تعداه، ضمن.
وإذا وجد القيمة في البلد التي سافر إليها أقل، فهل له البيع [فيها] بالأقل؟
[قال] المتولي: إن كانت مؤنة الرد أكثر من [قدر] النقصان أو أمكن صرف الثمن إلى متاع يتوقع فيه ربحاً؛ فله البيع وإلا لم يجز؛ لأنه تخسير محقق.
فرع: العامل في القراض هل له أن يضارب في مال القراض؟ ينظر إن كان بإذن رب المال بشرط أن يكون الربح بين رب المال والثاني خاصة صح.
ويكون صورة عقد القراض مع الأول أن تقول: قارضتك على أن تعمل في هذا المال، وإن أردت أن تقارض عليه فافعل وحينئذ؛ فلا يجوز له أن يقارض إلا أميناً كافياً في التصرف.
فإن قارض غير متصف بهذه الصفة لم يصح، وكذا لو قارض متصفاً بها وشرط لنفسه جزءاً من الربح مع شرط جزء لرب المال وجزء للعامل الثاني؛ لأن الربح في القراض يستحق بمال أو عمل وقد فقدا في حق العامل الأول.
فإذا عمل الثاني كان الربح لرب المال وعليه أجرة المثل الثاني.
وإن أذن رب المال للعامل في أن يقارض غيره ليكون ذلك الغير شريكاً في العمل والربح المشروط على ما يراه حكى الإمام فيه وجهين.
أحدهما: الجواز كما لو قارض المالك شخصين في الابتداء.
وأشبههما: المنع؛ لأنا لو جوزنا ذلك لكان الثاني فرعاً للأول منصوباً من جهته، والقراض معاملة تضيق فحال القياس فيها فلا يعدل بها عن موضعها، وموضعها أن يكون أحد العاقدين مالكاً لرأس المال لا عمل من جهته، والثاني صاحب عمل لا ملك من جهته.
وإن قارض العامل الأول- وقد شرط له رب المال نصف الربح مثلاً- عاملاً ثانياً بغير إذن رب المال وشرط له نصف الربح لم يصح؛ كالوكيل.
ويجيء فيه قول وقف العقود.
فعلى الجديد إذا فعل ذلك وسلم المال إلى الثاني ضمنا، فإن كان الثاني عالماً بالحال فهما غاصبان آثمان، وإن لم يعلم فالأول غاصب والثاني ضامن ضمان الغصوب.
فإن غرم الأول لم يرجع على الثاني، وإن غرم الثاني ففي رجوعه على الأول وجهان في الطريقين.
وحكى القاضي الحسين طريقة جازمة بالرجوع.
ثم إذا تصرف الثاني في رأس المال وحصل ربح، فينظر: إن وقعت عقوده على عين مال القراض [فهي باطلة] كبيع مال الغير بغير إذنه وقد تقدم حكمه في البيع، وباب الغصب.
وإن وردت على الذمة وصرف مال القراض في الثمن ابتنى ذلك على أن الغاصب إذا فعل مثل ذلك. فهل الربح له أو للمغصوب منه؟ وفيه القولان السابقان في الغصب.
فإن قلنا بالقديم ففيما يستحقه المالك من الربح وجهان.
أحدهما: وهو ما قال الرافعي: أنه لم يره إلا في كتاب أبي الفرج السرخسي جميع الربح كما قلنا في الغصب، وللعامل الثاني عليه أجرة مثله على وجه، وعلى آخر هي على العامل الأول.
[وفي "الحاوي" نسب الرجوع بكل الربح وتغريم العامل الأول] أجرة مثل الثاني: إلى ابن سريج.
والثاني: وهو الذي أجاب به المزني والمعظم، وهو الصحيح أنه يستحق النصف؛ ولأنه دخل على الرضا بالنصف [فلم يستحق أكثر منه، وعلى هذا ففي النصف] الآخر أربعة أوجه:
أحدها: وهو ما أجاب به المزني، وقال به أبو إسحاق المروزي كما حكاه المحاملي؛ وصاحب البحر، وأبو علي بن أبي هريرة، كما حكاه الماوردي، وهو الأصح في الرافعي: أنه يكون بين العامل الأول والثاني نصفين [لأن العامل الثاني دخل مع الأول على أن ما رزقه] الله من ربح كان بينهما والذي رزقاه
النصف، وما أخذه رب المال؛ كالمستهلك فكأنه لم يحصل.
والثاني: أن الأمر كذلك ويستحق العامل الثاني على الأولن صف أجرة مثله؛ لأنه دخل في العقد على أن يأخذ نصف الربح ولم يسلم له إلا نصفه، ونصف منفعته قد ذهبت من غير عوض فاستحق عليه بدلها وهو نصف أجرة المثل ومن هذا التعليل يفهم أن هذا الوجه إنما يجري إذا كان صفة العقد كذلك كما صار إليه الجمهور، وقد أجراه بعض الأصحاب كما حكاه القاضي الحسين والإمام عن شيخه، وإن كانت الصيغة أن ما رزق الله فهو بيننا.
والثالث: أن جميع النصف للعامل الثاني؛ [لأنه العامل]، أما [العامل] الأول فليس له عمل ولا ملك.
والرابع: أن نصف الربح للعامل الأول؛ لأنه مشروط له من جهة المالك، وشرط الأول للثاني نصف الربح فاسد، ويستحق عليه أجرة مثله، وهذا ما حكاه الماوردي عن أبي إسحاق المروزي وقال: إنه غلط المزني فيما قاله، وهو الذي أبداه ابن الصباغ احتمالاً ورجحه.
وإن قلنا بالجديد؛ فقد قال المزني: الربح كله للعامل الأول، وللعامل الثاني عليه أجرة مثله، وغلطه بعضهم وقال: على هذا القول يكون الربح كله للعامل الثاني؛ لأنه المتصرف في المال فهو بمنزلة الغاصب المتصرف ومنهم من صوبه.
قال المحاملي وغيره: وهو الأصح لأن الثاني لم يشتر لنفسه بل للأول؛ فكان الربح له ويفارق الغاصب؛ لأنه اشترى لنفسه فكان الربح له، وإذا حصل الربح له وجب عليه للثاني أجرة مثله وهذا هو المشهور.
وفي "البحر" أن بعض أصحابنا قال: التفاريع المذكورة عن الشافعي على [القول] الأول ليست مفرعة على القديم، بل هذا قول جديد في وقف العقود، والشافعي يجوز في الجديد الوقف لاسيما إذا كان فيه مصلحة أموال الناس وهاهنا مصلحة لأنه ربما يدفع مالاً قراضاً فيشتري العامل وينوي نفسه، ثم يوفي ذلك من مال القراض، فيكون الربح له مع طول المدة، وذلك يؤدي إلى امتناع الناس من هذه المعاملة، فقلنا في هذا الموضع: رب المال بالخيار، إن شاء أجاز تلك
العقود واستفاد أرباحها، وإن شاء لم يجزها واقتصر على أصل ماله، وكذلك ما عقده العامل بعين المال، وقد مال ابن سريج إلى هذا القول مراعاة للمصلحة.
قال: وإن ظهر في المال ربح ففيه قولان أحدهما: أن العامل لا يملك حصته إلا بالقسمة: لأنه لو ملكها قبل القسمة لصار شريكاً لرب المال حتى لو هلك شيء من المال هلك من المالين وليس كذلك بل الربح وقاية لرأس المال.
ولأن القراض يجري مجرى الجعالة؛ لجهالة العمل فيه، ووجوب أجرة المثل عند الفساد، وكونه غير لازم، والمال من جانب والعمل من جانب والجعالة يجب البذل فيها بفراغ العمل وتسلمه، ولم يسلم العامل هاهنا شيئاً.
وهذا ما اختاره المزني والأكثرون، ومنهم المسعودي، والقاضي الحسين، والبغوي، والروياني، وجزم بصحته الرافعي في كتاب الزكاة.
وعلى هذا قال: فيكون الجميع لرب المال؛ لأنه نماء ملكه، وزكاته عليه، كما أن زكاة رأس المال عليه وهذا ما قطع به الأئمة.
وقال الإمام: قطعهم بذلك في رأس المال وما يخص المالك من الربح ظاهر، وأما قطعهم بوجوب زكاة حصة العامل من الربح، فالاحتمال فيه لائح؛ فإنه [وإن لم] يملكه العامل، فملك المالك له ضعيف؛ لتأكد حق العامل فيه، فإن رب المال لو أراد إبطال حق العامل من حصته، لم يجد إليه سبيلاً وقد ذكرنا خلاف في زكاة المجحود والمغصوب والمتعذر.
ولا خفاء في أن حول الربح إن كان المال عرضاً عند آخر حول الأصل؛ [كحول الأصل] وإن كان المال ناضاً، ففيه من الخلاف ما ذكرناه في باب زكاة التجارة.
قال: وله أن يخرجها من المال: لأنه ملكه لكن من أي شيء تحسب؟ الذي حكاه العراقيون كما صرح به المحاملي والماوردي وابن الصباغ وغيرهم: ثلاثة أوجه.
أحدها: من رأس المال لأنها وجبت في أصل المال، والربح تبع.
وهذا أظهر عند القاضي والروياني، فعلى هذا بطل من القراض قدر الزكاة المخرجة منه.
والثاني: من الربح خاصة؛ كالمؤن وأرش جناية العبد المشترى للمضاربة،
وهذا هو الأظهر عند الأكثرين، ويحكى عن نصه في "الأم" فعلى هذا لا ينفسخ القراض في شيء من المال.
والثالث: أن زكاة الأصل من الأصل؛ و [زكاة] الربح من الربح؛ لأنها وجبت فيهما فلم يختص إخراجها بأحدهما.
وهذا ما قال ابن الصباغ إنه الأقيس، وعلى هذا فينفسخ من القراض قدر زكاة راس المال وحكى المراوزة مع الوجه الثاني وجهاً آخر وهو أن ذلك يكون استرداد طائفة من المال فيكون قدر المخرج من رأس المال [والربح جميعاً على قضية التقسيط.
مثاله: رأس المال] مائة والربح خمسون يكون ثلثا المخرج من رأس المال، وثلثه من الربح، والجميع محسوب على رب المال وينفسخ القراض [على هذا] في قدر المخرج عن المائة.
والفرق بين هذا الوجه، والوجه الثالث الذي ذكرناه عن العراقيين أن المخرج [عن الربح] لا يحسب على رب المال من ربحه، وقد بنى في "التهذيب" الوجه الأول على قولنا: إن الزكاة تتعلق [بالعين، والوجه الثاني على قولنا: إن الزكاة تتعلق] بالذمة.
وحكى الإمام عن بعضهم القطع بكونها من الربح إذا فرعنا [على] أن الزكاة تتعلق به، وبإجراء الوجهين إذا قلنا: إنها تتعلق بالذمة، ثم قال: وهذا الترتيب ليس بالمرضي ولا يمتنع تخريج الخلاف على قول زكاة العين أيضاً من جهة تعلق الزكاة بالجميع.
قال: والثاني أن العامل يملك حصته منه بالظهور كرب المال؛ ولأنه عقد على عين ببعض نمائها؛ فوجب أن يملك المستحق من النماء بالظهور كالمساقاة؛ وهذا ما صححه أبو حامد وأتباعه، [وكذا القاضي أبو الطيب] وطائفة وعلى هذا قال: ويجري في حوله؛ لأنها ملكه، ومعنى ذلك أنه يعقد لما يخصه من الربح حولاً ابتداؤه من حين الظهور، وهو ظاهر نصه في "الأم"
و"المختصر" وهو الأصح؛ لأن ملكه ثبت عليه حينئذ، ووراءه ثلاثة أوجه:
أحدها: حكاه الماوردي وغيره أن ابتداء حولها من حين المحاسبة والمفاصلة؛ لأنه من حينئذ يعلم حال الربح.
والثاني: من حين تقوم المال على ربه لأخذ الزكاة.
والثالث: أن ابتداءه ابتداء حول رأس المال.
قال: إلا أنه لا يخرج الزكاة منه قبل المقاسمة؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، فحق رب المال متعلق به؛ فلم يجز له التصرف فيه من غير إذنه كما لا يملك سائر التصرفات كذلك.
ويجب على العامل أن يخرجها من غيره قبل قبض المال على وجه، لتمكنه من الاقتسام، والأصح أنه لا تلزمه قبل القسمة؛ لأنه متردد بين أن يحصل وبين ألا يحصل، فكان كمن له دين على مليء جاحد تلزمه الزكاة ولكن لا يلزمه الإخراج حتى يقبضه، وله أن يخرجها من غير مال القراض في الحال.
وما ذكره الشيخ هو ما جزم به المراوزة وحكوا عن العراقيين وجهاً: أنه لا يجوز له إخراجها من المال، وذكر الروياني أنه المنصوص، والرافعي أنه الأظهر.
ووجه ابن الصباغ بأنهما لما عقدا عقد المضاربة دخلا فيه على وجوب الزكاة عليهما؛ فلم يكن لأحدهما منع الآخر من إخراجها.
وقال الماوردي: إن هذا الوجه مبني على أن الزكاة تتعلق بالعين، وهو قريب مما ذكره الإمام فإنه قال: ويمكن تخريج الخلاف على ما ذكرنا من أن الزكاة مؤنة أو استرداد طائفة.
فإن قلنا: إنه مؤنة [فلا يمتنع] أن يخرجها من عين المال.
وإن قلنا بالثاني؛ فيمتنع عليه إخراج الزكاة دون الإذن كما يمتنع عليه التصرف في نصيب نفسه قبل القسمة.
قال الرافعي: ولك أن تقول: إنما يحسن أخذ الوجهين من هذا المأخذ إذا ثبت الخلاف في كون الزكاة مؤنة أو استرداد طائفة على الإطلاق، لكن أومأ الصيدلاني إلى تخصيص الخلاف بزكاة جميع المال إذا أخرجها رب المال تفريعاً على القول الأول، فأما ما يخرجه من المال لزكاة رأس المال ونصيبه من الربح،
فهو كاسترداد طائفة من المال فلا يتجه [فيه الخلاف]؛ لأن العامل قد التزم ما يخصه فكيف يحسب من الربح ما يخص المالك.
وقد صرح الإمام بهذا الذي أومأ إليه الصيدلاني، فكان من حقه ألا يقول بأخذ الوجهين من المأخذ المذكور، أو لا يقول بتخصيص الوجهين بالقول الأول. انتهى.
قلت: هذا السؤال وإن توجه على الإمام لاعتقاده جعل الزكاة؛ كالمؤن بالقول الأول؛ لما أبداه من اختصاص العامل بالتزام ما يخصه من الزكاة على القول الثاني، فكذلك المالك فهو لا يرد على من لم يخصه به كما حكاه الماوردي حيث قال: وعلى القول الثاني يجب على رب المال أن يخرج زكاة الأصل وحصته من الربح.
وفي محل إخراجها الوجوه الثلاثة.
وعني الوجوه التي حكيناها عنه من قبل، وكلام المحاملي موافق لكلام الماوردي في ذلك، ومن جملة الوجوه جعل الزكاة؛ كالمؤن.
وعلى هذا فيمكن أن يقال: ما يخرجه رب المال من المال عن رأس المال يكون نصفه من النصف المختص به من الربح إذا كان الربح مشروطاً له بالنصف للعامل، والنصف الآخر مختص بنصيب العامل من الربح وزكاة نصيب رب المال من الربح إذا أخرجها من المال تختص بحصته؛ لأنه لا سبيل إلى إيجاب شيء منها في نصيب العامل؛ لأنه لم يجعل وقاية لربح المالك، وبهذا يندفع إشكال هذا الوجه، والله أعلم.
وقد حكى المراوزة وراء ما ذكرناه طريقتين:
أحدهما: وتحكى عن القفال: القطع بأنه لا زكاة على العامل.
والثانية: وتحكى عن صاحب "التقريب": أن في وجوبها قولين؛ كما في المغصوب ونظائره.
فرع على القول الأول: إذا أتلف رب المال مال القراض، ضمن للعامل قدر حصته من الربح.
ولو كان مال القراض جارية لم يحل لرب المال وطؤها، وكذا لو لم يكن في المال ربح؛ لأن انتفاءه في المتقومات لا يتحقق إلا بالتنضيض، واستبعد الإمام
التحريم عند تيقن عدم الربح، ثم قال: ويمكن تخريجه على أن العامل لو طلب البيع في هذه الحالة وأباه المالك هل له ذلك؟ وفيه خلاف يأتي.
وعلى المذهب لو وطئ هل يكون فسخاً للقراض؟
فيه تردد للشيخ أبي محمد والأظهر المنع، ولا يلزمه الحد، و [حكم] المهر سنذكره.
فرع: على القول الثاني: إذا طلب رب المال أو العامل قسمة الربح قبل فسخ القراض لم يجبر الآخر عليها؛ لأنه لو وقع خسران بعده لجبر بالربح الحاصل قبله، فكان للعامل إذا امتنع أن يقول: الربح وقاية رأس المال فلا آمن حصول خسران؛ فأحتاج إلى رد ما قبضته، ولرب المال أن يقول: إذا امتنع الربح وقاية رأس مالي فلا أدفع لك شيئاً منه حتى أسلمه.
وإذا ارتفع القراض والمال ناض وتسلم رب المال رأس مال القراض حصل الاستقرار، ووجبت قسمة الربح إذا كان ناضاً.
وهل يحصل استقرار العامل على حصته من الربح بارتفاع عقد القراض ونضوض المال من غير قسمة؟ فيه وجهان:
أصحهما: نعم، وضعف الإمام مقابله وقال: إن فائدة الاستقرار أنه لو طرأ نقص على المال كان محسوباً على رب المال والعامل ولا يكون الربح وقاية لرأس المال.
ولو فسخ العقد والمال عروض وقد ظهر فيها ربح؛ فاستقرار نصيب العامل ينبني على أن العامل [هل] يجبر على البيع والنض أم لا؟ وسنذكره.
فإن قلنا: نعم فظاهر المذهب أنه لا استقرار؛ لأن العمل لم يتم فيكون الربح وقاية.
وفيه وجه ضعيف: أن ملك العامل قد استقر.
وإن قلنا: لا يجبر على البيع؛ فوجهان كما لو كان المال ناضاً.
فرعك على القولين [معاً]: إذا حصلت زيادة في مال القراض، كثمرة
الأشجار المشتراة للقراض، ونتاج البهيمة، وكسب الرقيق، وولد الجارية، ومهرها إذا وطئت بالشبهة. لمن يكون؟
أطلق الإمام ومن تابعه القول بأنها من مال القراض.
وقال المتولي إن كان في المال ربح وملكنا العامل حصته بالظهور، فالجواب كذلك، وإن لم يكن [فيه] ربح، أو لم نملكه فمن الأصحاب من عدها من مال القراض، كالزيادة المتصلة.
وقال عامتهم يفور بها المالك؛ لأنها ليست من فوائد التجارة.
فإن قلنا بالأول قال في "الوسيط": هي من الربح، وهو قضية ما في "التهذيب"، وأورد بعض أصحاب الإمام كما حكاه الرافعي؛ أنها لا تعد من الربح خاصة ولا من رأس المال خاصة بل هي شائعة، ومما ذكرناه يظهر لك ماذا يجب على رب المال إذا وطئ جارية القراض.
قال: وإن اشترى العامل أباه أي: سواء كان بإذن رب المال أو دون إذنه كما حكاه القاضي الحسين ولم يكن في المال ربح- صح الشراء؛ لأنه يمكن بيعه والتجارة فيه؛ فلم يكن على المالك فيه ضرر، ثم إن بيع قبل ظهور ربح في المال فلا كلام.
وإن بقي حتى ظهر في المال ربح، فإن قلنا: لا يملك العامل [بالظهور] شيئاً، لم يعتق.
وإن قلنا: إنه يملك حصته من الربح بالظهور، فوجهان أظهرهما عند القاضي الحسين والرافعي، وبه جزم في "الوسيط": أنه يعتق عليه؛ لتحقق ملكه، لكن هل يعتق جميعه أو بعضه؟
ينظر: إن كان نصيب العامل من الربح قدر ثمنه، عتق جميعه، وإن كان أقل، عتق منه بقدره، وقوم عليه نصيب رب المال إن كان موسراً، وإن كان معسراً استقر الرق في نصيب رب المال.
قال البندنيجي: وانفسخ القراض في ذلك القدر؛ لأنه [قدر] قد تميز نصيب
العامل به.
وحكى الإمام وجهاً عند يسار العامل أنه لا يسري العتق؛ لأنه عتق حصل في الدوام من غير اختيار من جهته؛ فأشبه الإرث، وبهذا جزم في "الوسيط".
والثاني: لا يعتق عليه؛ لأن ملكه ضعيف؛ إذ هو وقاية لرأس المال.
قال: وإن كان فيه ربح أي وفرعنا على أن العامل يملك حصته بالظهور؛ فقد قيل: لا يصح؛ لأنه لو صح لملك حصته منه، ولو ملكها لعتقت عليه، وذلك يؤدي إلى تنجيز حق العامل قبل حق رب المال، وهو ممتنع، فمنعنا ما يؤدي إليه.
وقيل: يصح ويعتق عليه كأحد الشريكين إذا اشترى من يعتق عليه.
وعلى هذا قال المحاملي: إن كان نصيبه من الربح قدر ثمن الأب عتق [جميعه] عليه.
قال الماوردي: بالثمن دون القيمة؛ ويبطل عقد القراض في الباقي.
وهكذا لو كان نصيب العامل من الربح أكثر [من ثمنه؛ لأن أخذ بعض الربح كأخذ جميعه في الفسخ.
وإن كانت حصة العامل من الربح] أقل من ثمن الأب؛ مثل إن كانت قدر نصفه، عتق منه بقدره، وسرى إلى الباقي إن كان موسراً.
وهذان الوجهان مفرعان على قولنا: إنه يعتق عليه فيما إذا اشتراه ولا ربح في المال ثم ظهر.
وقيل: يصح ولا يعتق عليه؛ لضعف ملكه، كما ذكرناه.
أما إذا قلنا: لا يملك العامل الربح إلا بالقسمة، صح الشراء وجهاً واحداً، إذ لا عتق حتى يحذر منه.
وسلك الإمام طريقاً آخر، فقال: إن كان في المال ربح، فهل يصح الشراء في قدر حصة العامل من الربح؟ فيه قولان ذكرهما صاحب "التقريب" وجعل الرافعي أظهرهما الصحة.
فإن قلنا: لا يصح في نصيبه، فهل يصح في غيره؟ فيه قولاً تفريق الصفقة.
وإن قلنا: يصح في نصيبه، فهل يعتق عليه [فيه قولان ذكرهما صاحب
"التقريب" وهما يقربان] من القولين في عتق الراهن.
هذا كله إذا وقع الشراء بعين مال القراض.
فإن وقع في الذمة، وصرح العامل بالسفارة، فحيث قلنا: يقع للقراض عند الشراء بالعين، فكذلك الحكم أيضاً في هذه الحالة. وحيث قلنا: لا [يقع] للقراض، فهل يقع للعامل أو يبطل؟ يجري فيه الخلاف المذكور في نظائره.
وإن لم يصح بالسفارة، لكن نوى القراض، فحيث نقول بصحته للقراض عند التصريح، [أنه يعتق] على العامل [فكذلك نقول هاهنا، وحيث نقول: لا يقع للقراض عند التصريح، فهاهنا يقع للعامل، وحيث قلنا: يقع القراض عند التصريح، ولا يعتق على العامل] فهاهنا هل يقع له وتقبل منه دعواه نيته ذلك أم لا؟ فيه قولان ذكرهما صاحب "التقريب".
قال: وإن اشترى سلعة بثمن في الذمة أي بقدر رأس المال وهو ألف مثلاً، وهلك المال قبل أن ينقد الثمن [أي وبعد العقد] لزم رب المال الثمن؛ لأن العقد وقع صحيحاً، والملك لرب المال فلزمه الثمن. كما لو دفع إلى وكيله ألفاً وأمره أن يشتري عبداً فاشتراه وتلف الألف بعد العقد، فإنه يلزمه أن يدفع ألفاً آخر لينقده.
وعلى هذا لو دفع إليه ألفاً فتلف وجب بدله أيضاً، وهكذا إلى أن يصل إلى البائع.
وقيل: يلزم العامل، لأن إذن المالك لم يتضمن التصرف على وجه يلزمه غير ما دفع، ولا سبيل إلى إبطال العقد؛ لكونه وقع صحيحاً؛ فانقلب إلى العامل؛ كما قيل فيمن عقد الحج عن غيره ثم أفسده الآخر؛ فإنه ينقلب إليه بعد أن كان للمستأجر؛ لأنه خلاف المأذون فيه، كذلك هاهنا.
وهذا ما صار إليه ابن سريج واختاره في "المرشد" وهو ظاهر النص في "البويطي"؛ فإنه قال: إذا دفع إليه ألفاً قراضاً، فاشترى العامل عبداً بألف، وتلف الألف قبل أن يدفعه إلى البائع؛ كان المبيع للعامل، والثمن عليه ولا شيء على رب المال.
وقال ابن سريج: ومسألة الوكيل فيها وجهان:
أحدهما: أن المبيع يلزم الوكيل.
وعلى الثاني فالفرق أن الوكيل مأذون له في شراء السلعة وقد وجد، فلزمه الثمن، وهاهنا المأذون فيه التصرف فيما دفعه إليه أولاً؛ فلا يلزمه الزيادة عليه.
والقائلون بالأول حملوا النص على ما إذا تلف الألف قبل عقد العامل؛ فإنه يلزم العامل وجهاً واحداً؛ لانفساخ القراض.
وقد بنى الماوردي [هذا] الخلاف على خلاف سيأتي فيما إذا دفع إليه ألفين فاشترى بهما عبدين وتلف أحدهما.
فالأول مبني على قولنا: إن أحد العبدين يتلف من الربح.
والثاني مبني على قولنا: إن العبد يتلف من رأس المال.
قلت: ولو بني على خلاف ذكره الأصحاب عند الكلام في العبد المأذون؛ وهو أن الألف لو لم يتلف هل يطالب رب المال بالثمن أم لا؟
وأصحهما: أنه يطالب فإن قلنا به؛ ينبغي أن يلزمه عند التلف ألف آخر؛ ليخرج عن المطالبة.
وإن قلنا: إنه لا يطالب فذاك لكوننا قصرنا إذنه على دفعه، فلا يلزمه غيره ويقع العقد للعامل.
فرع: إذا قلنا بالأول فهل ينفسخ عقد القراض؟ قال في "المهذب": نعم، وهو المذكور في "مجموع" المحاملي، وأبداه الإمام احتمالاً واختاره في "المرشد".
وفي "تعليق" البندنيجي، و"الشامل" وغيرهما: أنه لا ينفسخ. ولكن هل يكون رأس المال ألفاً أو ألفين؟ فيه وجهان:
المذكور منهما في "الحاوي": الثاني، وهو الذي جعله البندنيجي المذهب، وقال: إن الأول ليس بشيء.
وإذا قلنا: إنه ألف، فهل هو الأول أو الثاني؟ فيه وجهان في الرافعي، وذكر أن فائدتهما تظهر عند اختلاف الألفين في صفة الصحة وغيرها.
والمذكور في "الشامل" و"تعليق" القاضي الحسين: أنه الألف الثاني.
وبنى الإمام الوجهين في أن رأس المال ألف أو ألفان على خلاف سنذكره في أن رأس المال لو كان ألفين، فتلف أحدهما قبل التصرف [هل يتلف من رأس المال أم لا؟
فإن قلنا: من رأس المال كان رأس المال هاهنا ألفاً، وإلا فألفين.
قال: وإن دفع إليه ألفين فتلف أحدهما قبل التصرف] تلف من رأس المال، وانفسخت فيه المضاربة بخلاف ما لو تلف قبل القبض فيكون رأس المال ألفاً واحداً.
وهذا ما صار إليه أصحابنا، كما قال البندنيجي وابن الصباغ وصححه الجمهور.
وقال الشيخ أبو حامد كما حكاه ابن الصباغ: إنه خلاف مذهب الشافعي؛ لأن المزني نقل في "الجامع الكبير" أنه قال: إذا ذهب بعض المال قبل أن يعمل، ثم عمل وربح، وأراد أن يجعل البقية رأس مال بعد الذي تلف فلا يقبل قوله، ويوفي رأس المال من ربحه حتى إذا وفاها، اقتسما الربح على شرطهما وقد أقام المراوزة ذلك وجهاً مع الأول.
قال: وإن تلف بعد التصرف والربح تلف من الربح ولم تنفسخ فيه المضاربة؛ لأنه تصرف في رأس المال فلا يأخذ شيئاً من الربح حتى يرد ما تصرف فيه إلى المالك.
والمراد بالتصرف أن يشتري بهما شيئاً ثم يبيعه ويقبض ثمنه، وقد حكى الإمام عن شيخه وطائفة: أن التلف متى وقع جرى خلاف في أن رأس المال هل ينتقص أم لا؟ وإنما النقصان الذي ينجبر به الربح هو الخسران وانحطاط الأسواق، فأما تلف عين المال؛ فيخرج على الخلاف، وأن على الوجه الصائر إلى تنقيص رأس المال يكون التنقيص في هذه الحالة داخلاً على رأس المال والربح، ثم قال: وهذا خبط وتخليط، والصحيح الأول.
قال: وإن اشترى [بهما] عبدين فتلف أحدهما فقد قيل: يتلف من رأس المال وتنفسخ المضاربة فيه؛ لأنهما قاما مقام الألفين فتلف أحدهما كتلف بعض الألفين.
وقيل: يتلف من الربح، وهو الأصح؛ لما ذكرنا من قبل. وهذا الخلاف حكاه القاضي الحسين قولين منصوصين في "أمالي" حرملة، ولا يخفى أنه مفرع على القول بأنه إذا تلف أحد الألفين يتلف من رأس المال كما ذكره الشيخ.
وأما إذا قلنا بأن أحد الألفين إذا تلف يتلف من الربح، فهاهنا أولى.
وليعلم أن محل ما ذكرناه من القول بأن التالف يحسب من رأس المال أو يجبر بالربح مفروضاً فيما إذا حصل التلف بآفة سماوية، وألحق به السرقة والغصب إذا تعذر أخذ البدل منهما.
أما إذا كان التلف بفعل آدمي من أهل الضمان، نظر: فإن كان أجنبياً، فقد قال الإمام: إن القراض لا ينفسخ، وكذلك لو أتلف كله بل يؤخذ البدل من المتلف، ويستمر القراض، والعامل يستقل بالمطالبة.
وحكى القاضي الحسين ذلك عن القفال في [الرتبة الأولى] وقيده بما إذا كان الإتلاف بعد التصرف، أما إذا كان قبله، فإنه ينفسخ القراض؛ لأنه لم يتعلق به حق العامل بعد.
وقال: إنه ذكر في [الرتبة الثانية] أن الإتلاف إن حصل، ولم يكن في المال ربح؛ ففي انفساخ عقد القراض وجهان أحدهما: نعم. والثاني: تؤخذ القيمة من المتلف وتجعل قراضاً.
وإن كان فيه ربح فعلى الأول: العامل يطالبه بنصيبه، وليس له أن يخاصم عن رب المال.
وعلى الثاني: له أن يخاصم عن رب المال، ويأخذ جميع القيمة، ويتصرف فيها.
وهذا التفريع يدل على أن في انفساخ القراض في حالة الربح أيضاً قولين.
وإن كان المتلف رب المال فإتلافه بمنزلة استرداد المتلف، فإن أتلف البعض انفسخ القراض فيه.
قال القاضي الحسين: وكذلك إذا أتلف العامل، حكمه حكم ما لو استرد شيئاً من مال القراض ينفسخ العقد في ذلك القدر. والفرق بينهما وبين الأجنبي أن لهما الفسخ، فلذلك جعلنا ذلك فسخاً.
ووافقه الإمام على ذلك، لكنه وجهه في حق العامل بأن ما يأتي به بعد الضمان لا يقع ملكاً لرب المال، فكيف يبقى القراض؟
وفسر الرافعي قول الإمام بأن العامل وإن وجب البدل عليه، فهو لا يدخل في ملك المالك إلا بقبض منه، وحينئذ يحتاج إلى استثناء القراض، ثم قال: ولك أن تقول: ذكروا وجهين في أن مال القراض إذا غصب أو أتلف، من الخصم؟ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه للمالك إن لم يكن في المال ربح، وهما جميعاً إن كان فيه ربح.
والثاني: أن للعامل المخاصمة بكل حال؛ حفظاً للمال فيشبه أن يكون الجواب المذكور في إتلاف الأجنبي مفرعاً على أن للعامل المخاصمة.
وبتقدير أن يقال: إنه وإن لم يكن خصماً لكن إذا خاصم المالك وأخذ عاد العامل إلى التصرف فيه بحكم القراض؛ لزم مثله فيما إذا كان العامل هو المتلف، قلت: ما أبداه أولاً هو عين ما حكيته عن القاضي الحسين، وما أبداه ثانياً من إتلاف العامل ينبغي أن يكون كإتلاف الأجنبي؛ حتى لا ينفسخ القراض: هو عين ما حكاه ابن يونس، وإن كان إتلافه قبل التصرف، لكن لا يندفع بهذا السؤال عن الإمام والله أعلم.
فرع: إذا عمل العامل فخسر مائة وأخذ رب المال منه مائة، ثم عمل العامل بالباقي، فبلغ المال ألفاً، كما كان فالربح منه مائة وأحد عشر درهماً وتسع، يقسم بينهما إن انفصلا على حسب ما شرطا؛ لأنه لما استرد المائة تبعها [من] الخسران بنسبتها، كما يتبعها من الربح بالنسبة ونسبة الخسران في المائة أحد عشر درهماً وتسع درهم. وعلى هذا فقس.
قال: والقول قول العامل فيما يذكر أنه اشتراه للمضاربة أو لنفسه؛ لأنه متصرف لنفسه تارة وللقراض أخرى، وإنما يبين ذلك بالنية والقصد، فيكون الاختلاف فيه راجعاً إلى النية والقصد، وهو أعلم بنيته وقصده، ولأنهما اتفقا على وقوع العقد واختلفا في صفته فكان القول قول فاعله ولا فرق في ذلك بين أن يكون فيما ادعى شراءه لنفسه ربح أم لا، ولا بين أن يكون فيما ادعى شراءه للمضاربة خسارة أم لا.
وعن ابن سريج فيما إذا كان فيه خسارة أنه يجيء فيه قول آخر: أن القول قول رب المال بناء على ما قاله الشافعي من القولين فيما إذا ادعى الوكيل الشراء أو البيع وكذبه الموكل.
فرع: لو ادعى العامل البيع وكذبه رب المال، قيل: فيه قولان؛ كما في الوكيل. وقيل: يقبل قول العامل جزماً، وهو الأظهر في "البحر".
فرع: لو أقام رب المال بينة أن العامل اشترى بمال القراض عيناً وادعى العامل شراءها لنفسه؛ ففيه وجهان.
أحدهما: وبه قال ابن أبي هريرة أنه يحكم بأن ذلك للقراض.
والثاني: لا يحكم بها؛ لأنه يجوز أن يكون قد اشتىر لنفسه بمال القراض على وجه التعدي؛ فلا يكون للقراض؛ لبطلان البيع.
وهذا ما صححه الماوردي واختاره في "المرشد" وقال: إن العين تنزع من يده وترد إلى بائعها، ويعاد الثمن إلى مال القراض.
قال: وفيما يدعي من هلاك؛ لأنه إنما يشتري لرب المال بإذنه فهو كالوكيل والوكيل أمين وقوله: في الهلاك مقبول؛ إذا لم يسند الهلاك إلى سبب ظاهر، أما إذا أسنده؛ فلا بد من إثبات السبب كما ذكرنا في الوديعة.
فإن قيل: العامل يستحق على عمله أجراً وهو جزء من الربح، فهلا ضمن كالأجير المشترك على قول؟ قيل: الفرق بينهما أن الأجير تعجل له المنفعة وهي الأجرة فإنه يملكها بالعقد، وتأخرت المنافع للمالك؛ فكان المغلب في يده حقه؛ فضمن كالمستعير، وهاهنا المنافع تعجلت لرب المال وهي العمل، وتأخرت للعامل؛ فغلب في اليد عوض المالك، فلم يضمن كالمودع.
وحكم دعوى العامل الخسران حكم دعواه التلف، فيقبل قوله وإن كان قد ادعى الربح.
قال القاضي الحسين: وذلك إذا كان ما يقوله محتملاً؛ فإن كان غير محتمل مثل: أن يدعي خسران ألوف في ساعة واحدة فلا يقبل، وعلى ذلك جرى المتولي والروياني.
قال: ويدعي عليه من خيانة؛ لأن الأصل عدمها، ومن جملة دعوى الخيانة أن يقول رب المال: اشتريت هذا العبد بعد أن نهيتك عن شرائه ويعضد قول العامل في هذه الصورة بأن الأصل عدم النهي.
قال: وإن اختلفا في رد [رأس] المال فقد قيل: القول قوله؛ [لأنه قبض العين ومعظم منافعها لمالكها كما ذكرناه فيقبل قوله] في ردها كالمودع والوكيل بغير جعل.
وهذا ما صار إليه المراوزة، واختاره في "المرشد".