المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الجعالة الجعالة: بكسر الميم عن الجوهري، وبفتح الجيم عن الأزهري، - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١١

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب الجعالة الجعالة: بكسر الميم عن الجوهري، وبفتح الجيم عن الأزهري،

‌باب الجعالة

الجعالة: بكسر الميم عن الجوهري، وبفتح الجيم عن الأزهري، والجعل بضم الجيم: ما يجعل للإنسان على عمل يحصله.

والأصل في مشروعيتها من الكتاب قوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72]، وكان حمل البعير عندهم معلوماً كالوسق، وشرع من قبلنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه كان شرعاً.

ومن السنة: ما روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري: أن رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها، فنزلوا بحي من العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم. قال: فلدغ سيد ذلك الحي؛ فسعوا له بكل شيء لا ينفعه [شيء]، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم؛ لعل أن يكون عند بعضهم شيء ينفع صاحبكم! فقال بعضهم: إن سيدنا لدغ فهل عند أحد منكم؟ يعني: رقية، فقال رجل من القوم: إني لأرقي، ولكن استضفناكم فأبيتم أن تضيفونا، ما أنا براقٍ حتى تجعلوا لي جعلاً، فجعلوا له قطيعاً من الشاء، فأتاه فقرأ عليه بأم الكتاب، وتفل حتى برأ كما أنشط من عقال؛ فأوفاهم جعله الذي صالحوه عليه، فقال: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستأمره؛ فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا رُقْيَةُ؟! " أَحْسَنْتُمْ، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ" وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه.

ولأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك في رد ضالة وآبق؛ فجاز كالمضاربة.

ص: 320

قال: وهو أن يجعل، أي: المطلق التصرف، لمن عمل له عملاً، أي: يجوز بذل الأجرة في مقابلته على الجملة عوضاً، فيقول: من بنى لي حائطاً، أو: رد لي آبقاً- فله كذا؛ فإذا عمل [له] ذلك، أي: من سمع ذلك منه أو من غيره – كما ذكره القاضي الحسين- استحق الجعل؛ لما ذكرناه مع قوله- عليه السلام: "الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ". ثم إن كان الجعل في الذمة فقد استقر، وإن كان معيناً وجب تسليمه؛ فلو تلف قبل إقباضه نظر:

إن تلف قبل المطالبة كان فيما يرجع به قولان:

أحدهما: قيمته.

والثاني: أجرة المثل.

وهما مبنيان على أنه مضمون ضمان يدٍ، أو ضمان عقد؛ كالقولين في الصداق.

قال الإمام عند الكلام في مسألة العلج: ووجه المشابهة: أن المنفعة في الجعالة فائتة بعد تسليم العمل على وجه يستحيل تداركها؛ كما أن البضع بعد الوطء في حكم الفائت.

وإن كان بعد الطلب، وامتنع من إقباضه متعدياً: فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، فقد قال القاضي الحسين: تلفه بعد الامتناع بمثابة إتلاف الجاعل نفسه؛ فيكون بمثابة ما لو أتلف البائع المبيع قبل القبض، وفيه قولان. أما إذا عمل من لم يسمع قول المالك ومن يقوم مقامه فهو كما لو عمل قبل الإذن، وأبدى الشيخ أبو محمد تردداً فيما إذا رده من لم يسمع؛ طمعاً في حصول أجرة.

تنبيهات:

أحدها: تمثيل الشيخ ببناء الحائط يدل على أن الجعالة تجوز حيث تجوز الإجارة، كما إذا قال: من رد عبدي الآبق من البصرة، أو: خاط لي هذا الثوب، ونحو ذلك. وتمثيله برد الآبق يدلع لى جوازها فيما لم تجز الإجارة فيه، للجهالة [فيه]. وعلى المثال الأول ينطبق ما حكاه المزني عن الشافعي في "المنثور" أنه قال:[لو قال]: أول من يحج عني فله دينار، فحج عنه إنسان استحق الدينار،

ص: 321

ولكن المزني قال بعد ذلك: وكان ينبغي أن يستحق أجرة المثل؛ لأنه إجارة فلا يصح بغير تعيين. وهذا منه يدل على اعتقاده [اختصاص] الجعالة بالمجهول الذي لا يتقدر بحيث تجوز الإجارة عليه؛ كما في المضاربة، والأكثرون على ما حكاه الشيخ، ونسبوا المزني إلى الغلط.

وقد أبدى الغزالي في هذا الباب مذهب المزني احتمالاً، وحكاه الإمام عن بعض الأصحاب فقال: إنه الأصح. وإليه أشار في "الوسيط" في كتاب الحج، بقوله بعد حكاية ما نقله المزني عن الشافعي: وأشار بعض الأصحاب إلى تزييفه. فعلى هذا: لو عمل العامل ما وقع العقد عليه من بناء وخياطة وحج ونحو ذلك، استحق أجرة المثل؛ لوجود الإذن، وفيه وجه: أنه يفسد؛ لأنه ليس موجهاً نحو معين؛ [كما لو قال: وكلت كل من أراد بيع داري؛ فإنه لا يصح التوكيل].

الثاني: قول الشيخ: وهو أن يجعل لمن عمل له عملاً .. إلى آخره، فيه:[كما] لو قال: من رد عبد فلان الآبق فله [علي] كذا، فرده إنسان- لا يستحق عليه المسمى. وقد يستدل له بأن العمل لم يقع له؛ فلم يصح كالإجارة، ويؤيده: أنه لا يجوز لأحد بهذا القول وضع يده على الآبق؛ فكيف يستحق الأجرة؟ ولم أر هذا منقولاً، بل المجزوم به في "الرافعي" و"الحاوي": أنه يستحق عليه؛ لالتزامه، وليس كما [إذا] التزم [الثمن] في بيع غيره، والثواب على هبة غيره؛ لأنه عوض تمليك فلا يتصور رجوعه به على غير من حصل له الملك، والجعل ليس عوض تمليك، وهذا نازع إلى أن العوض في يد الجاعل مضمون ضمان يد، وقد ذكرنا على قول أنه مضمون ضمان عقد؛ فيتأيد به ما يفهم من كلام الشيخ، ويقوم مقام قول المالك: من رد عبدي فله كذا؛ قول غيره بإذنه: قال فلان: من رد عبدي فله كذا؛ إذا كان القائل ممن يعتمد على قوله، ويستحق على الإذن الجعل دون القائل. ولو قال ذلك بغير إذن فلا جعل على واحد منهما، وكذا لو قال من لا يعتمد على قوله. ويقوم مقام، قوله: من رد عبدي فله كذا، قوله: إن رده إنسان، أو: إن رددت فلك كذا، أو: رده ولك كذا.

ص: 322

الثالث: قول الشيخ: فإذا عمل له ذلك استحق [عليه] الجعل، يعرفك أن القبول باللفظ لا يعتبر وهو كذلك فيما صوره الشيخ اتفاقاً، وكذا [فيما] لو كان الخطاب مع معين بأن قال: إن رددت عبدي فلك كذا؛ على المذب، ويكفي الإتيان بالعمل. وقال الإمام في هذه الحالة: لا يمتنع أن يخرج على الخلاف في اشتراط القبول في الوكالة، ولا يمتنع مع ما ذكرناه الفرق: من جهة أن الوكالة لا تحتمل إبهام الوكيل المستعمل، والجعالة تحتمله؛ فإنه لو قال: أذنت لكل من أراد في بيع عبدي هذا، لم يصح التوكيل، ولو قال: من رد عبدي، صح، وذكر مجلي ما أبداه الإمام وجهاً في اعتبار القبول، وحكاه الإمام في باب المسابقة عن الأصحاب.

فرع: لو قال: من رد عبدي الآبق من البصرة في الشهر فله كذا، قال القاضي في "المجرد": فلا يجوز؛ لأنه يكثر بذلك الغرر وعلى ذلك جرى المتولي.

قال: ويجوز [أن يعقد] على عمل مجهول، أي: لا يمكن ضبطه كرد الآبق والضال ونحوه؛ للآية والخبر، ولأن الجهالة إذا احتملت في القراض؛ توصلاً إلى تحصيل الأرباح من غير اضطرار، فلأن تحتمل في الجعالة أولى؛ ولذلك تغتفر جهالة العامل وتعدده؛ لأن المعين والواحد قد لا يتمكن من تحصيل المقصود، ومن يتمكن منه قد لا يكون حاضراً، وإن كان حاضراً فقد لا يعرفه المالك، فإذا أطلق الاشتراط وشاع ذلك [بلغ] من يتمكن منه، [وأدى] إلى تحصيل الغرض؛ فاقتضت مصلحة العقد احتماله. وكذا تجوز جهالة المردود بأن يقول: من رد أحد عبدي الآبقين فله كذا، وإذا رد أحدهما استحق، وإن كان أقل قيمة، كما صرح به القاضي [الحسين].

أما العمل المجهول الذي يسهل ضبطه فلا بد فيه من الضبط، فإذا قال: من يبني لي حائطاً، فلا بد من ذكر البناء، وطول الحائط، وسمكه وارتفاعه، وما ينبى به. وكذا إذا قال: من خاط لي ثوباً، فلا بد من وصفه ووصف الخياطة. قال: ولا يجوز إلا بعوض معلوم؛ لأن هذا العقد جوز للحاجة، ولا حاجة إلى احتمال

ص: 323

الجهالة في العوض، وأيضاً: فإنه لا يكاد يرغب أحد في العمل إذا لم يعلم بالجعل؛ فلا يحصل مقصود العقد.

قال ابن الصباغ: ولأنه يكون لازماً بوجود العمل فوجب كونه معلوماً، بخلاف العمل؛ فإنه لا يكون لازماً، فإن شرط جعلاً مجهولاً بأن قال: من رد آبقي فله ثوب أو دابة، أو: إن رددت فعليَّ أن أرضيك وأن أعطيك شيئاً، فرده- استحق أجرة المثل، وكذا لو جعل الجعل خمراً أو خنزيراً، ولو جعل الجعل سلب العبد أو ثيابه، قال المتولي: إن كان ذلك معلوماً أو وصفه بما يفيد العلم؛ فللراد المشروط، وإلا فله أجرة المثل.

قلت: وما أطلقه في حالة الوصف جواب على أن استقصاء الأوصاف على وجه يفيد الإحاطة بجميع المقاصد يقوم مقام الرؤية، وفيه خلاف في الجديد: فإن منعناه كان كالأجرة الغائبة، ولو جعل الجعل نصف العبد أو ربعه، فالجواب في "التتمة": الصحة، وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي: المنع، قال الرافعي: وهو قريب من استئجار المرضعة بجزء من الرضيع بعد الفطام.

قلت: ليس كذلك، فإن الأجرة إذا كانت معينة ملكت بالعقد، وإذا جعلت جزءاً من الرضيع بعد الفطام اقتضى عدم الملك في الحال، أو حصوله مؤجلاً والأول مخالف لوضع العقد، وكذا الثاني؛ فإن الأعيان المعينة لا تقبل التأجيل، وهاهنا الملك إنما يحصل بعد تمام العمل؛ فلا مخالفة لمقتضى العقد، ولا عمل يقع في مشترك؛ فلا وجه إلا الصحة إذا كان موضع العبد معروفاً، والعبد مرئياً، وإن لم يكن موضعه معروفاً، فيظهر أن يكون موضع الخلاف، وتكون مادته: أن الاعتبار في هذا العقد بحاله أو بحالة الرد، كما ذكرناه فيما لو تغير النقد.

ولو جعل الجعل ثوباً مغصوباً فقد أبدى الإمام فيه احتمالين:

أحدهما: تخريجه على القولين فيما إذا جعل المغصوب صداقاً، حتى يرجع في قول إلى قيمة ما يقابل الجعل وهو أجرة المثل وفي قول: إلى قيمة المسمى.

والثاني: القطع بأجرة المثل؛ لأن العوض ركن في هذه المعاملة، بخلاف الصداق.

قال: ويجوز لهما الفسخ قبل العمل؛ لأنها شبيهة بالوصية من حيث إنها

ص: 324

تعليق استحقاق بشرط، والرجوع عن الوصية جائز؛ فكذلك هاهنا: ووجهه الإمام بأن انتهاءها غير معلوم، وما كان كذلك فثبوته على اللزوم بعيد كالقراض، بخلاف المساقاة والإجارة؛ فإن المقصود منهما مضبوط. وهذا ظاهر فيما إذا كان العمل مجهولاً، أما إذا كان معلوماً كبناء حائط، وخياطة ثوب، فلا.

فرع: إذا رجع الجاعل مع علم المجعول له، ثم عمل- لا يستحق شيئاً. ولو رجع ولم يعلم به العامل إلا بعد العمل، فسيأتي حكمه.

قال: وأما بعد الشروع في العمل فيجوز للعامل الرجوع فيه. أي: ولا يستحق لما عمل شيئاً؛ لأنه أسقط حظ نفسه ولا فرق [في ذلك] بين أن يكون قد قطع بعض المسافة أو عمل بعض العمل ووقع مسلماً؛ كما إذا شرط الجعل في مقابلة تعليم القرآن لصغير حر، فعلمه بعضه أو غير مسلم. نعم، لو شرط الجعل في مقابلة التعليم كما ذكرنا، فمات الصبي قبل تمام التعليم- استحق أجرة المثل، وكذا لو جعل على خياطة ثوب، فخاط بعضه، ثم تلف في يد المالك، أو في مقابلة بناء حائط، فبنى بعضه، ثم تعذر إتمامه كما قاله القاضي أبو الطيب ولو تلف [الثوب] قبل أن يصل إلى المالك، لم يستحق شيئاً كما صرح به ابن الصباغ. وكذا قال الإمام في كتاب الخلع فيما إذا جعل له جعلاً في مقابلة رد ثلاثة أعبد، فرد واحداً: إنه يستحق حصته.

ولم يتعرض لقدرته على رد الباقي، ولا لعجزه عنه.

وظاهر كلامه يقتضي الاستحقاق، وإن لم يتعذر فإنه جعل ذلك أصلاً لاستحقاق الزوج الحصة فيما إذا قالت: طلقني ثلاثاً على ألف. فطلق واحدة. ولو كان شرط استحقاقه الحصة العجز عن رد الباقين، لم يجز جعل ذلك أصلاً لمسألة الطلاق.

ولا خلاف في أنه إذا هرب العبد في أثناء الطريق، أو بعد حضوره إلى باب دار مالكه، وقبل تسليمه إلى السيد أو من يقوم مقامه: أنه لا يستحق شيئاً من الجعل؛ لأنه لم يحصل شيئاً من المقصود.

ص: 325

فإن قيل: لو استأجر للحج عنه، فمات الأجير بعد ما فعل بعض الحج، استحق بقدر ما عمل على رأي، وإن لم يحصل شيئاً من المقصود.

فالجواب عنه- كما ذكره الأصحاب- من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن القصد بالحج الثواب، وقد حصل للمستأجر بما فعله الأجير ثواب، وهاهنا شرطه الرد، وما رد.

الثاني- وبه أجاب الشيخ أبو حامد-: أن الحج عقد لازم، بخلاف الجعالة.

والثالث- قاله ابن الصباغ-: أن العمل في الحج يقع مسلماً؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا جزءاً بجزء؛ فلهذا وجب بعض الأجرة كما لو استأجره لخياطة ثوب، فخاطه في ملكه.

وفي مسألتنا التسليم برد الآبق، فإذا لم يرده لم يستحق شيئاً، كما لو استأجره لقصارة ثوب، فقصر بعضه وتلف قبل تسليمه.

وضعف الأول: بأن القصد بالحج إسقاط الفرض ولم يحصل منه شيء، والثاني: بأنه منتقض بالإجارة على خياطة ثوب؛ فإنه إذا خاط بعضه وتلف قبل التسليم، لا يستحق شيئاً من الأجرة مع أن العقد لازم.

قلت: وما قاله منتقض- أيضاً- بما حكاه من أن الجعل لو كان في مقابلة تعليم صغير حر شيئاً من القرآن، فعلمه بعضه، ثم فسخ العقد- لا يستحق شيئاً من الجعل مع أن علمه وقع مسلماً.

فرع: إذا مات العامل المعين في رد الآبق في بعض الطريق، فإن رده وارثه إلى يد مالكه استحق من الجعل المعين بقسط عمل مورثه؛ لأن عمله لم يفت، ولا يستحق الوارث غيره، وإن لم يرده الوارث فالصحيح: أنه لا شيء بسبب عمل الميت.

وقال بعض أصحابنا: يستحق الوارث من الجعل المسمى بقدر ما عمله الميت؛ لأن تتمة العمل لم تفت باختياره، بخلاف الحي إذا ترك. قال الماوردي: وهذا ليس بصحيح؛ فإن العبد لو مات لم يستحق العامل شيئاً.

قال: ولا يجوز لصاحب العمل إلا بعد أن يضمن للعامل أجرة ما عمل. وهكذا لفظ القاضي الحسين وكثيرين؛ لأنه استهلك منفعته بشرط العوض فلزمه أجرته؛ كما لو فسخ المضاربة بعد الشروع في العمل. ولفظ القاضي أبي الطيب في "تعليقه" وكذلك البندنيجي: لم يجز إلا أن يدفع إليه أجرة المثل في مقابلة ما

ص: 326

عمله. وكأنهما أرادا بالدفع ما قاله الأولون؛ كما في قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، فإن المراد بالعطاء الإلزام لا نفس الدفع. وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه [آخر]:

أنه لا يستحق شيئاً؛ لأن عقد الجعالة جائز، وإنما يلزم الجعل فيه بعد الفراغ. وفي "الوسيط" في كتاب السبق والرمي وجه: أنه لا ينفذ فسخه إذا كان ما يخص عمل العامل من المسمى يزيد على أجرة المثل، ووجه: أن الجاعل لو أضاف إلى ما شرط الجعل في مقابلته عملاً آخر- لا يجاب إليه، وفي وجه: يجاب ويثبت للعامل الخيار؛ فإن فسخ استحق [أجرة] المثل، بخلاف ما لو فسخ بلا سبب، ولا فرق على المذهب بين أن يكون ما صدر من العامل قطع بعض المسافة في الطلب، أو عمل بعض العمل في الحائط والثوب، كما صرح به ابن الصباغ وغيره.

قال الرافعي: وكما تنفسخ الجعالة بالفسخ تنفسخ بالموت، ولا شيء للعامل بما يعمل بعد موت المالك، ولو قطع بعض المسافة، ثم مات المالك، فرده إلى وارثه- استحق من المسمى بقدر ما عمل في حياته. كذا ذكره أبو الفرج السرخسي، وهو موافق لما حكيناه من قبل عن "الحاوي"، لكن فيه في هذه المسألة: أنه يستحق تمام المسمى.

فرع: لو فسخ المالك العقد في غيبة العامل بعد الشروع في العمل، ولم يعلم المجعول له به، ثم تمم العمل.

قال المتولي: ذلك ينبني على القولين في عزل الوكيل قبل العلم.

وقال الإمام: لا يبعد تخريجه على ذلك، والظاهر: أن الجعالة تنفسخ في

ص: 327

مسألتنا؛ فإن مقتضاها الجواز وقبول الجهالة، وفي "الحاوي" أنه إذا قال: من جاء بعبدي فله دينار، ثم رجع – فعليه إعلان الرجوع كما أعلن البذل، فإن أسره ولم يعلنه، كان الناس فيه على حكم الإذن: فمن جاء به فله الدينار، وإن أعلنه فلا شيء لمن جاء به بعد الإعلان؛ سواء علم برجوعه أو لم يعلم إذا كان قد شرع في المجيء بعد الرجوع؛ لأن إعلان كل الناس برجوعه متعذر؛ فلم يلزمه في الرجوع أكثر من الإعلان والإشاعة. ولو كان الجائي به شرع في حمله؛ فله الدينار ما لم يعلم بالرجوع، فأما إذا قال: يا زيد، إن جئتني بعبدي فلك دينار، ثم رجع السيد- فعليه إعلام زيد برجوعه ما لم يشرع في حمله؛ فإن لم يعلم فهو على حقه، سواء أعلن بالرجوع أم لا؛ لأن إعلام زيد بالرجوع غير متعذر، فلو شرع زيد في حمله، ثم أعلمه بالرجوع استحق زيد بقدر ما عمل.

قال: وإن اشترك جماعة في العمل اشتركوا في الجعل؛ لاشتراكهم في سبب الاستحقاق، ويقسم الجعل بينهم بالسوية وإن امتازوا في الأجرة؛ لأن العمل في أصله مجهول فلا يمكن رعاية مقداره في القسط. قال الإمام: وليس يبعد عن قاعدة المذهب التوزيع على أقدار أجور أمثالهم؛ فإن الأجرة إنما تدفع إليهم عند إتمام العمل، وإذا تم فقد انضبط ما صدر من كل منهم.

فرع: لو قال لواحد: إن رددت عبدي فلك دينار، فرده غيره معه- نظر: إن قصد مساعدة العامل، استحق العامل تمام الدينار، وإلا فالذي يستحقه النصف. ولو رده غيره لم يستحق إلا إذا كان عبده، كما ذكره القاضي [الحسين]. وقال الرافعي: إذا رده غيره بإذنه يتجه أن يتخرج على أن الوكيل هل يوكل. ولو قال لواحد: إن رددت عبدي فلك دينار، ولآخر: إن رددته فلك ديناران، ولآخر: إن

ص: 328

رددته فلك ثلاثة دنانير، فردوه- استحق كل منهم ثلث ما شرطه له لو رده بجملته، هكذا نص عليه الشافعي، قال المسعودي: وهذا إن عمل كل واحد منهم لنفسه، أما إذا قال أحدهم: أعنت صاحبي وعملت لهما، فلا شيء له، ولكل [واحد] منهما نصف ما شرط له. ولو قال اثنان: عملنا لصاحبنا، فلا شيء لهما، وله جميع ما شرط له.

قال: ومن عمل لغيره شيئاً من ذلك من غير شرط لم يستحق عليه الأجرة؛ أي: سواء كان ممن جرت عادته بفعل ذلك بأجرة أم لا؛ لأنه بذل المنفعة من غير عوض فلم يستحقه. وهذا إذا عمله بغير الإذن، أو لم يسمع الإذن. وهل يصير ضامناً للعبد الآبق بوضع يده عليه؟ قال الإمام: فيه الوجهان المذكوران في أخذ المال من الغاصب على قصد الرد إلى المالك، والصحيح منهما- على ما حكاه الرافعي عن كتاب [الفوراني في كتاب] اللقطة: الضمان.

أما إذا أذن له في العمل ولم يذكر له جعلاً، فهو على الخلاف الآتي في مسألة الغسال، صرح به الماوردي [وغيره].

قال: وإن قال العامل: شرطت لي عوضاً، فالقول قول المعمول له؛ لأن الأصل عدم الشرط وبراءة الذمة. وكذا لو اختلفا في أن الجعل مشروط في رد هذا العبد أو غيره، أو [أن العامل عاد] بنفسه أو برد العامل- كان القول قول المالك، ولو اختلفا: هل سمع الراد النداء أم لا؟ فالقول قول الراد؛ قال الماوردي: لأن علمه بالشيء يرجع فيه إليه دون غيره.

قال: وإن اختلفا في قدره تحالفا؛ لأنهما اختلفا في قدر العوض المستحق فتحالفا؛ كما لو اختلفا في الأجرة في الإجارة، وتجب أجرة المثل.

قال: وإن أمر غسالاً بغسل ثوب ولم يسم له شيئاً، فغسله- لم يستحق الأجرة؛ لأن أقصى درجات المنفاع أن تكون كالأعيان. ولو تقدم إلى خباز فقال: أطعمني من هذا الخبز، فأطعمه- لم يجب عليه ثمنه؛ فالأجرة من طريق الأولى، ولأنه لو قال: أسكني دارك شهراً، فأسكنه- لم يستحق عليه أجرة؛ فكذلك إذا

ص: 329

قال: اغسل ثوبي، فغسله. وهذا ما نسبه الأكثرون إلى ابن سريج، وقال الإمام: إنه المنصوص، وعليه عامة الأصحاب.

وقيل: يستحق، أي: أجرة المثل لأن رب الثوب صار مستهلكاً لعمله في ملكه؛ فصار كالغاصب، وهذا قول المزني على ما حكاه الماوردي، وقال القاضي أبو الطيب: إنه نقله عن "الجامع الكبير"، والإمام حكاه عن بعض الأصحاب، وقال إن المزني اختاره. ووراء ذلك وجهان:

أحدهما- وبه قال أبو إسحاق المروزي-: إن كان رب الثوب سأل الغسال مبتدئاً، فقال: اغسل ثوبي هذا- فله الأجرة.

وإن كان الغسال طلبه مبتدئاً من ربه، فقال: أعطني ثوبك لأغسله- فلا أجرة [له].

والثاني- وبه قال ابن سريج كما حكاه الماوردي، والشيخ في "المهذب"، وصاحب "التهذيب"-: إن كان الغسال معروفاً بأنه يغسل بأجرة فله الأجرة، وإلا فلا [أجرة له]. وهذا ما أجاب به الغزالي في باب العارية، ونسبه إلى المزني، وكذلك الروياني.

قال الماوردي: والأول مذهب الشافعي، وما عداه فاسد بباذل الطعام ودافع الدار؛ حيث لم يقع الفرق بين أن يكون سائلاً أو مسئولاً، أو معروفاً بالمعاوضة أو غير معروف.

وقد أبدى الإمام في كتاب العارية لنفسه وجهاً خامساً، وهو أن يقال: إذا لم يكن معروفاً، ينظر فيه: فإن كان مثله لا يطلب على مثل هذا عوضاً فلا عوض، وإلا فيجب. وإن هذا يناظر اختلاف المذهب في الهبة المطلقة واقتضائها الثواب كما سيأتي. أما إذا سمى له شيئاً: فإن كان معلوماً استحقه، وإن كان مجهولاً استحق أجرة المثل وجهاً واحداً. وهكذا إذا قال: اغسله وأنا أرضيك، كما قاله القاضي الحسين.

قال الماوردي وغيره: والوجوه الأربعة تجري في القصار والخياط والحلاق [والدلاك] في الحمام ونحوهم.

ص: 330

ولو نزل سفينة ملاح من غير إذنه، فحمله فيها إلى بلد- فله أجرة المثل؛ لأن الراكب صار مستهلكاً لمنفعة موضعه من السفينة على مالكها؛ فضمن الأجرة. وهكذا لو دخل حماماً بغير إذن فعليه الأجرة. وإن أخذ من ساق ماءً بغير طلب فعليه ثمنه. ولو نزل السفينة بالإذن، ودخل الحمام بالإذن، وأخذ الماء [بطلب] – فعلى الخلاف، قاله الماوردي. وفي الجزم باستحقاق الأجرة عند نزول السفينة نظر. وكان يتجه أن يقال: إن سير الراكب السفينة فالحكم [كما] ذكر، وإن سيرها ربها فتكون كما لو وضع المتاع على دابة فسيرها مالكها؛ فإنه لا أجرة على صاحب المتاع، [ولا ضمان] كما صرح به القاضي الحسين والرافعي في باب الإجارة.

وقد جزم الإمام في خول الحمام بإيجاب قيمة الماء، وأنه قد يتجه إثبات المثل؛ فإنه من ذوات الأمثال، وأن أجرة منفعة الحمام واجبة؛ لأنه أتلفها، والمتلف عليه قيمة ما أتلف، وإن جرى الإتلاف بمشهد من المالك. وإن كان كذلك، فما الظن والعرف جار بإلزام الأجرة؟ ومهما غلبت العادة ظهر وجوب اتباعها، ثم إن لم نوجب الأجرة للخياط والقصار، فالثوب أمانة في يده، وإلا فأجير مشترك. وإذا أوجبنا في الحمام شيئاً فذلك في مقابلة ماذا؟ فيه وجهان:

أحدهما: في مقابلة الماء، والحمامي متطوع بحفظ الثياب ومعير للسطل.

وأظهرهما: أنه أجرة الحمام والسطل والإزار وحفظ الثياب، وأما الماء فإنه غير مشضبوط حتى يقابل بعوض، وعلى هذا: فالسطل أمانة، والحمامي أجير مشترك في الثياب.

وعبارة صاحب "التهذيب" على الوجه الثاني: أن المأخوذ ثمن الماء وأجرة الحمام والسطل. وعلى هذا يحصل فيه ثلاثة أوجه.

ولنختم الباب بفروع تتعلق به:

ما يحصل في يد الراد يكون أمانة في يده إلى أن يرده، ثم لو رفع اليلد عن الدابة وخلاها في مضيعة فهو مقصر فيضمن، ونفقة العبد وعلف الدابة في مدة

ص: 331

الرد يجوز أن يكون على ما ذكر في مكري الجمال إذا هرب مالكها وخلاها عنده، ويجوز أن يقال: ذاك أمر أفضت إليه الضرورة، وهاهنا أثبت اليد عليه باختياره؛ فله كلف مؤنته. وقد يؤيد هذا بالعادة، كذا ذكر ذلك الرافعي، وقال: إنه لم يقف عليه منقولاً. ولفظ الماوردي: أنه إذا أنفق الجائي بالعبد من طعامه وشرابه كان متطوعاً.

إذا قال: من رد عبدي فله عشرة، ثم قال: من رد عبدي فله خمسة، أو بالعكس- فالاعتبار بالنداء الأخير، صرح به الماوردي وغيره. وقال في "الوسيط": إذا لم يسمع العامل [النداء] الثاني، احتمل أن يقال: يرجع إلى أجرة المثل. وهذا إذا كان الثاني قبل الشروع في العمل، أما إذا كان بعد الشروع، فالظاهر تأثيره في الرجوع إلى أجرة المثل؛ لأن النداء الأخير فسخ الأول، والفسخ في أثناء العمل يقتضي الرجوع إلى أجرة المثل.

إذا قال: بع هذا، أو: اعمل كذا ولك عشرة دراهم- قال الرافعي: ففي بعض التصانيف [أنه] إن كان العمل مضبوطاً مقدراً، فهو إجارة، وإن احتاج إلى ترددات غير مضبوطة.

قلت: وهذا غير ما ذكره الإمام في آخر باب الإجارة إذا قال لغيره: إن أخبرتني بخروج فلان من البلد فلك كذا، [فأخبره] – قال القفال في "فتاويه": إن كان له غرض في خروجه استحق، وإلا فلا. وهذا يقتضي أن يكون صادقاً، قال الرافعي: وينبغي أن ينظر في أنه هل يناله تعب أم لا؟

إذا قال: إن رددت عبدي من البصرة فلك دينار، فأصابه بواسط فرده- كان له نصف دينار؛ لأنه وفى نصف العمل. ولو قال: من رده إلي فله كذا، وكان في يد شخص حالة النداء، فرده- استحق إن كان في رده كلفة ومؤنة كالعبد الآبق، وإن لم يكن كالدراهم والدنانير فلا يستحق. ولو جاء به من لم يسمع النداء، ثم سمعه قبل أن يدفعه إلى سيده، ثم دفعه- استحق.

قال الماوردي: لأن السامع للنداء لو أجابه من أقرب المواضع استحق؛ فكذا هذا.

ص: 332

قلت: وينبغي أن يفصل- كما قيل من قبل- بين أن يكون في رده بعد سماع النداء كلفة أم لا: فإن كانت وجب له الجعل، وإلا فلا.

ولو قال: من دلني على مالي فله كذا، فدله عليه من هو في يده- لم يستحق؛ لأن ذلك واجب عليه بالشرع فلا يأخذ في مقابلته جعلاً، بخلاف الرد، وبخلاف ما لو كان في يد غيره فدله عليه؛ لأن الغالب: أنه تلحقه مشقة في البحث عنه، والله أعلم.

ص: 333