المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب إحياء الموات وتملك المباحات - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١١

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب إحياء الموات وتملك المباحات

‌باب إحياء الموات وتملك المباحات

الموات، والموتان- بفتح الميم والواو- والميت، والميتة: الأرض الميتة التي لم تعمر قط، ويطلق الميت والميتة على الأرض التي لم تمطر ولم يصبها ماء. والموتان جمع "موات".

قال الأزهري وغيره: كل شيء من مباح الأرض لا روح فيه يقال له: موتان الأرض، وما فيه روح: حيوان.

والموتان- بضم الميم وإسكان الواو: الموت الذريع الذي يقع في الناس والبهائم، حكاه القاضي الحسين في "تعليقه" وأبو الطيب، وقيده الجوهري بالذي يقع في الماشية.

وبفتح الميم وإسكان الواو: عمى القلب، يقال: رجل موتان القلب، [وامرأة موتانة القلب]: إذا لم يفهما، حكاه الجوهري والزبيدي في "مختصر العين".

وعن الخطابي: أن هذه لغة في "موتان الأرض".

والأصل في هذا الباب: ما روى النسائي عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحْيَا أرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقُّ"، وخرجه - أيضاً-

ص: 374

الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.

ص: 375

وروى أبو داود عن عروة بن الزبير مثله.

قال القاضي أبو الطيب: وربما ذكر "العرق" مضافاً إلى "الظالم"[وليس كذلك]، وإنما "العرق" منون القاف، و"الظالم" صفة له، و"العرق" قال الشافعي: هو كل ما وضع في الأرض للنبات.

قال في البحر: والعروق أربعة: عرقان ظاهران، [وهما البناء والغراس]، وعرقان باطنان، وهما البئر والنهر.

وروى أبو داود عن عروة- أيضاً- قال: "أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْأَرْضَ أَرْضُ اللهِ وَالْعِبَادَ عِبَادُ اللهِ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتاً فَهُوَ أَحَقَّ بِهَا. جَاءَنَا بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ".

ولأن ما لم يجر عليه ملك نوعان: أرض وحيوان، فلما ملك الحيوان إذا ظهر عليه بالاصطياد، ملك موات الأرض إذا ظهر عليه بالإحياء.

قال الإمام: وقد أجمع المسلمون على جواز ذلك في الجملة، وإن اختلفوا في التفاصيل.

قال: "من جاز أن يملك الأموال" أي: من مكلف وغيره "جاز أن يملك الموات بالإحياء"؛ لأنه يملك بفعل فجاز من كل من يملك المال كالاصطياد، ولا فرق في ذلك بين [أن] يأذن الإمام فيه أو لا؛ اكتفاء بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والأسباب المملكة للمال ثمانية: الميراث، والمعاوضات، والهبات، والوصايا، والوقف، والصدقات، والغنيمة، والإحياء. والملك به مستحب عند علماءنا كما

ص: 376

قاله الشيخ في "المهذب" وغيره؛ لقوله- عليه السلام: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيِّتَةً [فَلَهُ] أَجْرُ، وَمَا أَكَلَتِ الْعَوَافِي فَهُوَ لَهُ صَدَقَةُ".

والعوافي: الوحش والطير والسباع، مأخوذ من قولهم: عفوت فلاناً أعفوه: إذا أتيته تطلب معروفه، وكل طالب رزقاً من إنسان [وغيره] فهو عافية، وجمعه: عوافي.

واحترز الشيخ بقوله: "من جاز أن يملك الأموال" عن العبد؛ فإنه ليس بأهل لملك الأموال على الجديد، فإذا أحيا شيئاً كان ملكاً لسيده وإن لم يأذن فيه، كما إذا احتطبه واصطاده.

قال: "ولا يجوز للكافر"[أي]: الذمي "أن يتملك بالإحياء في دار الإسلام"؛ لما روى الشافعي عن سفيان عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "

عَادِيُّ الأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي" يريد: ديار عاد وثمود ومن تقدم من الأمم، والياء في "عادي" مشددة. وروي:"مَوَتَانُ الأَرْضِ للهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي"، فواجه المسلمين بخطابه، وأضاف ملك الموات إليهم؛ فدل على اختصاص الحكم بهم، ويدل عليه أنه جاء في رواية حكاها البغوي في

ص: 377

"التهذيب" والإمام: "ثم هي لكم مني أيها المسلمون".

ولأن من لم يقر في دار الإسلام إلا بجزية لا يملك بالإحياء، كالمعاهد، ولأنه نوع تمليك ينافيه كفر الحربي؛ فوجب أن ينافيه كفر الذمي؛ كالإرث من مسلم.

وما تمسك به أبو حنيفة في جواز إحياء الذمي من عموم قوله- عليه السلام: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ .. "، والقياس على الاحتطاب- فمدفوع؛ لأن الخبر وارد في بيان ما يقع به الملك.

وقوله: فـ"هِيَ لَكُمْ مِنَّي" وارد في بيان من يقع له الملك؛ فصار المفسر في كل واحد منهما فيما قصد له قاضياً على صاحبه؛ فصار الخبر في التقدير: من أحيا أرضاً ميتة من المسلمين فهي له.

والقياس منتقض بالغنيمة، ثم لو سلم من النقض فالفرق: أن الحطب والحشيش يستخلف فلا يتضرر المسلمون بأخذه، بخلاف الموات، وهذا هو المذهب.

وقيل: إذا أحيا بإذن الإمام ملك، و [به] قال الأستاذ أبو طاهر: ثم على الأول: إذا أحيا وكان له عين مال كان له نقله، فإن بقي أثر العمارة: فإن أحيا محي بإذن الإمام ملكه، وإن لم يأذن فوجهان.

فإن رتك العمارة متبرعاً تولى الإمام أخذها وصرفها إلى مصالح المسلمين، ولا يجوز لأحد تملكها.

قال: "ويملك في دار الشرك"؛ لأنه من حقوق دارهم، ولا [ضرر] على المسلمين فيه؛ فملكوه بالإحياء كما تملكوا الصيد بالاصطياد، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المسلمون قد فتحوا ذلك أم لا إذا لم يكونوا قد ذبوا عن الموات، كما صرح به الإمام؛ لأنه ليس من بلاد الإسلام حتى يمتنع إحياؤه عليهم، أما إذا كانوا قد ذبوا عنه بالقتال فسنذكره.

قال: "وكل موات لم يجر عليه أثر ملك ولم يتعلق بمصلحة عامر" أي: لحريم الملك ونحوه، كما سنذكره- "جاز تملكه بالإحياء"؛ لما ذكرناه.

قال الإمام: ولا يشترط في ذلك العلم والدرك الحقيقي، بل يكفي ألا يرى

ص: 378

على ذلك أثر عمارة، ولا يراه من حقوق موضع عليه أثر عمارة، ولا يعلم أنه كان عامراً بسبب من الأسباب.

قال: "وما جرى عليه أثر ملك" أي: وكان خرابة بعد الإسلام "ولا يعرف له مالك: فإن كان في دار الإسلام لم يملك بالإحياء"؛ لما روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْمَرَ أَرْضاً مَيِّتَةً لَيْسَتْ لأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"، فشرط ألا تكون لأحد، وهذه إما لوارث أو لبيت المال، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"، وهذا مال امرئ مسلم في الظاهر؛ فعلى هذا يجوز للإمام أن يحفظه إلى أن يظهر صاحبه إذا رأى فيه مصلحة، وإن رآها في البيع فعل وحفظ ثمنه، وله أن يستقرضه على بيت المال، صرح به الإمام.

وهل يجوز أن يقطعه لمن يعمره؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي عن ابن كج، ورجح الروياني وجه الجواز، وحكى البندنيجي وغيره وجهاً آخر: أنه يملك بالإحياء.

وصور القاضي أبو الطيب محله بما إذا خربت قرية المسلمين وتعطلت؛ تمسكاً بقوله – عليه السلام: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ"؛ فإن هذا أحق بالتسمية؛ لأنه كان حياً بالعمارة وقد مات بالخراب.

والقائلون بالأول قالوا: ما لم يحي أصلاً أحق به؛ لأنه ميتة في كل حال.

قال: وإن كان في دار الشرك فقد قيل: يملك؛ لأن الظاهر أنها لمن لا حرمة له فأشبهت الركاز، وهذا ما صححه الرافعي والبغوي، وبه قال صاحب "الإفصاح" وابن أبي هريرة.

وقال في "البحر": إنه أشبه بمذهب الشافعي. فعلى هذا يجوز نقل ترابه، ومن بادر إلى أخذه ملكه، "وقيل: لا يملك"؛ لجواز أن يكون لمن لم تبلغه الدعوة وقد ورثه مسلم- كما قال أبو الطيب- أو الكافر لا يحل ماله، وهذا ما صار إليه أبو إسحاق، وهو المذهب عند الشيخ أبي حامد ومن تابعه، وعلى هذا: لا يجوز نقل ترابه إلا بإذن الإمام، قاله في "التهذيب".

وقد حكى بعضهم هذا الخلاف قولين، وجعله الماوردي وجهين؛ كالوجهين

ص: 379

في الركاز الذي جهل حاله، وهذا يدل على أن الخلاف عند الشك في أنها لمسلم أو لكافر.

وإذا جمعت ما قيل في دار الإسلام ودار الكفر واختصرت قلت: في المسألة ثلاثة أوجه، كما حكاها في "المهذب"، ثالثها: لا يملك في دار الإسلام، ويملك في دار الشرك.

وحكى القاضي الحسين فيما إذا جرى على ذلك ملك جاهلي، ثم اندرس وخفي المالك، وقاس الجواز على الركاز، والمنع على ملك مسلم، وفرق بين الركاز وبينه: بأنه معرض للضياع فلو منع الواجد من تملكه لتولى عليه غيره، والأراضي مما تبقى بنفسها ولا تضيع. وعلى ذلك جرى الإمام [وأثبت الخلاف] قولين منصوصين للشافعي، وصور المسألة فيما إذا لم يدر كيف استولى المسلمون عليها، أما إذا علمنا كيفية الاستيلاء: فإن كان عنوة سلك بالأرض مسلك المغانم، ثم حصة الغانمين ملحقة بملك المسلم الذي لا يدرى، وإن كان من غير إيجاف [خيل] ولا ركاب فهي فيء.

وفي البحر حكاية عن الخراسانيين قولان في مسألة الكتاب:

أحدهما: لا تملك بالإحياء.

والثاني: لا تملك، بل ينتفع بها ما أراد، ويكون أولى من غيره.

وقيل: قولان:

أحدهما: يملك.

والثاني: يترك في بيت المال، ذكره القفال، وقال مرة أخرى: فيه وجهان:

أحدهما: هو كالموات الذي لم يملك قط.

والثاني: أنه [فيء].

أما إذا عرف مالكه فلا يجوز تملكه بالإحياء إلا أن يكون كافراً، وقد أعرض عنه قبل القدرة عليه، ولو كان خراب ذلك قبل الإسلام ملكه من أحياه من المسلمين قولاً واحداً، كما قاله الماوردي والإمام عن الشيخ أبي علي، ثم ادعى الإمام أن معظم الأصحاب على مخالفة ذلك والمصير إلى طرد القولين مهما رأينا أنه عمارة جاهلية، وحكى الإمام الرافعي عن ابن سريج وغيره: أنه وقع

ص: 380

الخلاف في المسألة: وينزل الجواز على حالة اندراس أثر العمارة وتقادم عهدها، والمنع على حالة بقاء أثر العمارة أو كان معموراً في جاهلية قريبة

فرعان:

إذا خرج الكفار من عامر ديارهم وقاتلونا في الموات، فالحكم في موضع القتال وما وراءه واحد، وهو: أنه لا يجوز للمسلم إحياؤه في حال القتال، فإذا ظهر المسلمون على المواضع التي وقع فيها القتال من الموات وما وراءها مع العامر، فهل يجوز تملك ذلك الموات بالإحياء؟ فيه وجهان في الطريقين:

المذهب منهما في "تعليق" أبي الطيب: الجواز.

وأصحهما – عند بعضهم، وبه جزم الماوردي أيضاً في كتاب السير، ونسبه القاضي أبو الطيب ثم إلى [الشيخ] أبي إسحاق: لا، ولأي معنى؟ فيه وجهان:

أحدهما: إقامة لذلك مقام المعمور؛ فيكون غنيمة، وهذا ما نسبه الماوردي إلى القاضي أبي حامد وأبي الفياض.

والأصح- وبه جزم الإمام والبندنيجي-: إقامة المنع مقام التحجر، وسيأتي خلاف في جواز بيع المتحجر: فإن جوزناه كان ذلك غنيمة أيضاً، وإن قلنا: لا- وهو الأصح- فالغانمون أحق بإحياء أربعة أخماسه، وأهل الخمس أحق بإحياء خمسه، فإن أعرق الغانمون عن إحيائه فأهل الخمس أحق به، وكذا لو أعرض بعض الغانمين فالباقون أحق، وإن تركه الغانمون وأهل الخمس جميعاً ملكه من أحياه من المسلمين.

ولو فتحت البلدة صلحاً على أن تكون لنا، ويسكنوها بالجزية- فالمعمور منها فيء، والموات إن كانوا يذبون عنه هل يكون متحجراً لأهل الفيء؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم، وعلى هذا فهو فيء في الحال، أو يخمسه الإمام لهم؟ فيه وجهان؛ أصحهما الثاني.

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب في كتاب السير: إن أحيا ذلك على الوجهين في الحالة الأولى، فالمذهب فيهما: أنه يجوز لجميع المسلمين إحياؤه، وقال أبو إسحاق وابن أبي هريرة: لا يحييها إلا الغانمون. وإن صالحناهم على أن

ص: 381

تكون البلدة لهم؛ فالمعمور لهم والموات يختصون بإحيائه؛ فلا يجوز للمسلمين إحياؤه.

قال القاضي أبو الطيب: ويخالف دار الحرب؛ حيث قلنا: إذا أحيا المسلم شيئاً منها ملكه؛ لأن دار الحرب تملك بالقهر والغلبة؛ فملك مواتها بالإحياء، وليس كذلك هذه الدار التي حصلت لهم بالصلح؛ لأن المسلمين لم يملكوها [بالقهر] والغلبة؛ فلم يملكوا مواتها بالإحياء.

وعن القاضي أبي حامد وصاحب "التقريب": أنه إنما يجب علينا الامتناع عن مواتها إذا شرطناه في الصلح.

الثاني: البيع التي للنصارى في دار الإسلام لا تملك عليهم إلا أن يتفانوا؛ فيكون كما لو مات ذمي ولا وارث له؛ فإن ماله يكون فيئاً للمسلمين، قاله في "التهذيب".

قال: "والإحياء أن يهيئ الأرض لما يريد"؛ لأن الشرع ورد به مطلقاً، وليس له حد في اللغة ولا ضابط له في الشرع يرجع إليه؛ فاعتبر فيه العرف كالإحراز، وهو كما قال: فإن كانت داراً فبأن يبني ويسقف، أي: بما جرت عادة أهل ذلك الموضع به من حجر أو خشب أو جريد، ولا يشترط سقف جميعها، بل موضعاً منها.

وعن رواية صاحب "التقريب": أنه لا حاجة إلى السقف. وقد سكت الشيخ عن نصب الباب وكذلك الماوردي، وحكى غيرهما في اشتراطه وجهين، ورجح الروياني وجه الاشتراط.

ولا يشترط السكن فيها بحال، صرح به المتولي وغيره.

وقال المحاملي: الإيواء إليها شرط.

تنبيه: يسقف: ياؤه مفتوحة وسينه ساكنة وقافه مضمومة، قال أهل اللغة: يقال سقفه يسقفه سقفاً، كقتله يقتله قتلاً.

فرع: قال المتولي: أهل البادية ومن يسكن الصحارى جرت عادتهما إذا أرادوا النزول في موضع نظفوا الأرض عن الحجارة والشوك، وسووا ظاهر الأرض؛ ليتأتى ضرب الفسطاط والخيم، وبنوا أبنية مثل المعلف للدواب وما لا بد لهم

ص: 382

منه- فإذا فعلوا ذلك: فإن قصدوا تملك البقعة ملكوها، ولا يزول ملكهم بالارتحال عنها، وإن لم يقصدوا التملك فهم أولى بالموضع ما لم يرحلوا، فإذا ارتحلوا كان لغيرهم أن ينتفع به، كما سنذكره في مقاعد الأسواق.

قال: "وإن كان حظيرة" أي: لأجل الدواب أو تجفيف الثمار أو لحفظ الحطب والحشيش "فبأن يحوط عليها" أي: بما جرت به العادة من آجر وجبس، أو آجر وطين، أو حجر وطين، أو لبن وطين "وينصب عليها الباب".

وقيل: لا يشترط نصب الباب؛ لأنه يراد للحفظ، وأما الانتفاع فيحصل بدونه، وهذا ما دل عليه كلام الماوردي؛ حيث لم يتعرض إلى ذكر [نصب] الباب، وقدر الإحاطة بقصب أو خشب أو شوك أو حجارة غير مبنية؛ لأن الملك لا يقف عليه في العادة، وإنما يفعل ذلك المحتازون.

وفي "البحر": أن بعض أصحابنا بخراسان قال: إذا أحاط به بقصب أو خشب يكون إحياء.

وعندي: أن هذا يختلف باختلاف البلاد: ففي طبرستان هذا إحياء؛ لأنه جرى به عرفهم، وهذا ما صرح به الماوردي، وألحق بطبرستان جيلان.

ولو حوط بالبناء في طرف، واقتصر في الباقي على نصب الأحجار- حكى الإمام عن القاضي: أنه يكفي، وعن شيخه: أنه لا يكفي في ملك الجميع، ويكفي في ملك موضع البناء، ولا يشترط التسقيف هنا بحال.

قال: وإن كان مزرعة فبأن يصلح ترابها؛ أي: بالحرث ونحوه. والحرث، قال الماوردي: يجمع الإثارة، وكسح ما استعلى، وتطويل ما انخفض.

قال: ويسوق الماء إليها على حسب ما يليق بها: فإن كانت تشرب من بئر حفر لها بئراً، وإن كانت تشرب من المطر أو من ماء مباح من عين أو نهر- طرق إليها طريقاً بحيث لا يبقى إلا إجراء الماء فيه.

قال: "ويزرع في ظاهر المذهب" أي: المنصوص في "المختصر" في هذا الموضع؛ لأن الدار والزريبة لا تصير محياة إلا إن حصل عين مال المحيي؛ فكذلك المزرعة.

ص: 383

وقيل: يملك وإن لم يزرع؛ لأنه انتفاع فلم يكن شرطاً في الملك؛ كسكنى الدار، وهذا [ما] مال [إليه] الأكثرون، ونسبه الماوردي إلى نص في "الأم"، واختيار أبي إسحاق وصححه.

ورأيت في "الرافعي" أن الماوردي غلط من قال بخلافه، ولم أره في "الحاوي" في هذا الموضع، [وهو في "الأحكام"].

قال الرافعي: والأشبه تفصيل ذكره القاضي ابن كج، وتلخيصه:[أن البقعة] إن كانت بحيث يكفي لزرعها ماء السماء فلا حاجة إلى سقي ولا ترتيب ماء. وحكى عن أبي علي الطبري وجهاً: أنه لا بد منه وضعفه. وإن كانت تحتاج لها ماء يساق إليها لزم تهيئته من عين أو نهر أو غيرهما، فإذا هيأه بأن حفر له طريقاً ولم يبق إلا إجراء الماء كفى، ولم يشترط الإجراء ولا سقي الأرض، فإن لم يحفر بعد فوجهان.

وأرض الجبال التي لا يمكن سوق الماء إليها ولا يصيبها إلا ماء السماء، قال صاحب "التقريب": إلا أنه لا مدخل للإحياء فيها، وبه قال القفال، وبنى عليه أنا إذا وجدنا شيئاً من تلك الأراضي في يد إنسان لم يحكم بأنه ملكه، ولا يجوز بيعه وإجارته.

ومن الأصحاب من قال: يملك بالحراثة وجمع التراب على الأطراف، وهو ما اختاره القاضي الحسين، ولا خلاف أنه لا يشترط الحصاد، ويشترط أن يجمع تراباً يحيط بالأرض، وهو الذي يسميه أهل العراق- كما قال الماوردي- مساناة؛ لتتميز عن غيرها، ويقوم مقام ذلك الحجر والقصب والشوك.

وعند الشيخ أبي حامد: لا يشترط ذلك بعد سوق الماء إليها، وهو ظاهر كلام الشيخ، ولو كانت الأرض بطائح كان عوض سوق الماء إليها حبس الماء عنها.

فرع: إذا قصد إحياء بستان أو كرم فلا بد من التحويط بما جرت به العادة من قصب أو بناء أو شوك، وإن لم تجر عادة به- كما بالبصرة وقزوين- فلا يشترط، وحينئذ يكتفي بجمع التراب حواليه؛ كالمزرعة، كذا قاله ابن كج، والقول في سوق الماء إليه على ما ذكره في المزرعة، وغرس الأشجار عند من اعتبر

ص: 384

الزراعة لا بد منه، وعند من لم يعتبرها هل يعتبر الغرس؟ فيه وجهان، أو قولان:

أحدهما: لا، وهو الذي حكاه الماوردي عن نصه في "الأم"، واختيار أبي إسحاق وصححه في الزرع.

والأكثرون- كما قال الرافعي- على اعتباره، ومنهم القاضي الحسين، وهو الذي نسبه الماوردي إلى نصه هنا.

والفرق من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن اسم المزرعة يقع على البقعة قبل الزرع، بخلاف البستان.

والثاني: أن الزرع يسبقه تقليب الأرض وحرثها؛ فجاز أن يقام مقامه، والغرس لا يسبقه شيء يقوم مقامه.

والثالث: أن الغرس يدوم؛ فألحق بأبنية الدار، والزرع بخلافه.

ثم على هذا: هل يشترط تعليق الأرض بالغراس، أم يكفي في حصول الملك الغراس في البعض؟ حكى الإمام عن شيخه خلافاً، ثم قال: والوجه عندنا القطع بأن التعليق ليس بشرط.

قال: وإن كان بئراً أو عيناً فبأن يحفرها حتى يصل إلى الماء؛ لأنها لا تصير بئراً أو عيناً بدون ذلك، فإن الماء هو المنفعة المقصودة، وهذا إذا لم تكن الأرض رخوة؛ فإن كانت فلا بد من طيها؛ لأنه المتعارف.

وقال الرافعي: وفي "النهاية": أنه لا حاجة إليه.

فرع: إحياء القناة يتم بخروج الماء وجريانه، وإحياء النهر يتم بحفره وانتهاء فوهة النهر الذي يحفره إلى القديم، مع جرى الماء فيه عند صاحب "التهذيب" وغيره.

وفي "التتمة": أن الملك لا يتوقف على إجراء ماء فيه؛ لأنه استيفاء منفعة كالسكون في الدار.

قال: "ويملك المحيي وما فيه من المعادن"؛ أي: التي تظهر بعد الإصابة، باطنة كانت أو ظاهرة- كما صرح به الماوردي- لأنها من أجزاء الأرض كترابها، ولا فرق في الباطن بين أن يعلم أنها فيه حالة الإحياء أو لا. وحكى أبو الفرج السرخسي طريقة أخرى حاكية قولين في ملك المعدن الباطن إذا علم به فاتخذ عليه داراً؛ كالقولين [الآتيين] في أنه هل يملك المعدن بالإحياء، فإذا

ص: 385

قلنا: إنه يملكه، قال الإمام: فظاهر المذهب أنه لا يملك البقعة المحياة أيضاً؛ لأن المعدن لا يتخذ داراً ولا مزرعة فالقصد فاسد، ومنهم من قال: يملكها بالإحياء.

قال: والشجر والكلأ وما ينبت فيه؛ لأنه تابع.

والكلأ: مقصور مهموز، وهو يطلق على الرطب واليابس، بخلاف الحشيش؛ فإنه لا يطلق إلا على اليابس.

وذهب الصيمري وجمهور البصريين إلى أن الكلأ النابت في الأملاك لا يملك.

قال الماوردي: والأصح عندي اعتبار العرف فيما أرصدت له تلك الأرض، فإن كانت مرصدة لنبت ذلك، وهو المقصود من نباتها: كالآجام المرصدة لمنابت القصب، والغياض المرصدة لمنابت الشجر، والمراعي المرصدة لمنابت الكلأ- فهو ملك لرب الأرض، وإن كانت مرصدة لغير ذلك من زرع وغروس؛ فنبات الكلأ والحشيش فيها ضرر بها؛ فلا يستقر ملكه عليه.

وعلى الأوجه الثلاثة لا يلزمه تمكين المواشي من رعيه ولا تمكين أهلها من جزه.

قال: "وينبع" أي: من ماء وغيره؛ لأنه مما ملكه فأشبه شعر الغنم.

وينبع: مضموم الباء ثانية الحروف، وتفتح وتكسر، ويقال: نبع ينبع نبعاً نبوعاً ونبعاناً.

قال: ويملك معه ما يحتاج إليه من حريمه ومرافقه؛ لأن هذا هو العرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده مع تضايق أملاكهم، "وقيل: لا يملك ذلك"، بل يستحق الانتفاع به؛ لأن ذلك يحصل بالإحياء، ولم يوجد فيها إحياء، وهذا ما عزاه ابن الصباغ إلى الشيخ أبي حامد، وقد يستدل له بما روي أنه- عليه السلام قال:"لَا حِمَى إِلَّا فِي ثَلَاثَةٍ: [ثُلَّةُ] الْبِئْرِ، وَطَوْلُ الْفَرَسِ، وَحَلَقَةُ الْقَوْمِ" وثلة البئر: ملقى طينها، وطول الفرس: ما انتهى إليه الفرس بحبله الذي قد ربط به، وحلقة القوم: عبر به عن النهي عن الجلوس وسط الحلقة.

ص: 386

والصحيح- وبه قال القاضي أبو الطيب-: الأول؛ كما يملك عرصة الدار ببناء الدار، وإن لم يوجد في نفس العرصة إحياء. فعلى هذا: لو أراد المحيي بيع الحريم دون المعمور هل يجوز؟ جواب الشيخ أبي عاصم العبادي: منعه؛ كما لو باع شرب الأرض وحده.

واعلم أن الحريم: هو المواضع القريبة التي يحتاج إليها لتمام الانتفاع، سميت بذلك؛ لأنه يحرم على غير مالكها التعرض لها بنوع عدوان، وكذلك يختلف باختلاف المحيي:

فحريم القرى: ما حولها من مجتمع النادي وملعب الصبيان ومرتكض الخيل إن كان سكان القرية خيالة- كما قاله الإمام- ومناخ الإبل ومطرح الرماد والسماد وسائر ما يعد من مرافقها.

وأما مرعى البهائم فقد قال الإمام: إن بعد من القرية لم يكن حريماً لها، وإن قرب ولم يستقل مرعى، [ولكن] كانت البهائم ترعى فيه عند الخوف من الإبعاد- فعن الشيخ ابي علي ذكر خلاف فيه، والظاهر عندي: أنه ليس من حريمها، والذي جزم به البغوي: أن مرعى البهائم من حقوق القرية مطلقاً، والمحتطب كالمرعى.

وحريم الدار [في الموات]: مطرح التراب والرماد والكناسات والثلخ، والممر في الصوب الذي فتح الباب إليه، وليس المراد منه استحقاق الممر في قبالة الباب، [بل يجوز [لغيره] إحياء ما في قبالة الباب] إذا بقي له ممر، وإن احتاج إلى انعطاف وازورار وعند جماعة من الأصحاب منهم القاضي ابن كج: فناء الدار من حريمها، وكذلك الشيخ أبو حامد وقال: إنه إذا حفر إنسان في فنائها وأصل حيطانها منع منه.

وقال ابن الصباغ: عندي أن حيطان الدار لا فناء لها ولا حريم، ولو أراد محي أن يبني بجنبها لم يلزمه أن يبعد عن فنائها.

نعم، يمنع مما يضر بالحيطان كحفر بئر في أصل الحائط.

ص: 387

وفي كلام الماوردي إشارة إلى خلاف فيه، كما سنذكره عند الكلام في مقاعد الأسواق.

وحريم المزرعة: طرقها ومغيض مائها ومسيله وبيدر زرعها، وما يستغنى به من مرافقها.

وحريم البئر: بقدر ما يقف عليه المستقي إن كان للشرب، وبقدره مع الدولاب وترداد البهيمة إن كان الاستقاء بها، ومصب الماء، والموضع الذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزرع من حوض أو نحوه، والموضع الذي يطرح فيه ما يخرج منه وإن كان الاستقاء بالناضح، فحريم البئر قدر عمقها من كل جانب، وإن كان ألف ذراع- كما حكاه البندنيجي- وحمل الأصحاب قوله صلى الله عليه وسلم:"حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعاً" على [آبار] الحجاز؛ فإنها تكون عميقة تحتاج في الموضع التي يمر فيها الثور إلى ذلك المقدار.

وحريم النهر: ملقى الطين وما خرج منه من التقن- بكسر التاء ثالثة الحروف وتسكين القاف- وهو رسابة الماء- بفتح الراء وسين غير معجمة وباء ثانية الحروف- ويقال: إن ذلك يجتمع في الربيع.

وأما القناة فآبارها لا يستقى منها حتى يعتبر به الحريم؛ فحريمها: القدر الذي لو حفر فيه لنقص ماؤها وجف من انهيار وانكباس، ويختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها.

وفي "الوجيز" وجه: أن حريمها حريم البئر التي يستقى منها، ولا يمنع من الحفر بعد ما جاوزه، وإن نقص، وهذا بناء على ما حكى عن الشيخ أبي حامد:[أن] من حفر بئراً في موات كان لغيره أن يحفر فيما وراء حريمها، وإن نقص ماء الأولى بسبب ذلك، وهو قول الشافعي- كما حكاه الماوردي- فيما إذا نضب ماء البئر الأولى، أو كانت البئر الثانية بئر بالوعة فتغير بسببها ماء الأولى.

وحكى وجه آخر- وبه أجاب القاضي أبو الطيب في "تعليقه" وابن الصباغ، وجعله الرافعي الأظهر تبعاً للغزالي: أنه يمنع من الحفر حيث ينقص ماء

ص: 388

الأولى، كما ليس لغيره أن يتصرف [قريباً من بنائه بما يضر به، وهذا موافق لما حكاه الماوردي آخر هذا الباب: من أن جماعة لو حفروا عيناً، فأراد رجل أن يتصرف فيما يمد هذه العين من أرض أو جبل تصرفاً يقطع ماءها، منع منه، إلا أن يكون مالكاً لما يتصرف] فيه من الأرض؛ فلا يمنع منه، وطرد القاضي جوابه فيما إذا أحيا أرضاً ليغرس فيها وغرس؛ فليس لغيره أن يغرس بجواره بحيث تلتف أغصان الغراسين، وبحيث تلتقي عروقهما.

قال القاضي وابن الصباغ: ويخالف ما إذا حفر بئراً في ملكه فنقص ماء الأولى، حيث يجوز؛ لأن الحفر في الموات ابتداء تملك؛ فلا يمكن منه إذا تضرر به الغير، وهنا كل منهما متصرف في الملك.

قال الرافعي: وعلى هذا الوجه يكون ذلك الموضع داخلاً في حريم البئر أيضاً.

ثم ما حكمنا بكونه حريماً فذاك إذا انتهى الموات إليه، فإن كان الموضع مملوكاً قبل انتهاء الحريم فالحريم إلى حيث انتهى الموات، ولو كان المحيي بين آدر متلاصقة؛ فلا حريم له.

فائدة: لكل واحد من الملاك أن يتصرف في ملكه على العادة، ولا ضمان عليه إن أفضى ذلك إلى تلف، نعم: لو تعدى ضمن.

ولو أراد أن يتخذ بجوار [جدار] جاره زبلاً منع.

ولو أراد أن يجعل داره حماماً، أو إصطبلاً، أو طاحونة، أو مدبغة- على خلاف العادة – [وكانت بين الدور، أو حانوته الذي في وصف العطارين حانوت حداد أو قصار على خلاف العادة]، أو دق في داره شيئاً دقاً عنيفاً تتزعزع منه حيطان الجار، أو حبس الماء في ملكه بحيث تنتشر نداوته إلى حيطان الجار- فهل يمنع من ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه في طرق المراوزة، ثالثها- وهو الأظهر-:[أن ما] كان مضراً بالساكن لا يمنع منه، وهو ما جزم به القاضي أبو الطيب والبندنيجي، وإن كان مضراً بالدار يمنع منه.

فإن قلنا: لا يمنع مطلقاً، فإذا ضرب القصار الميجنة، فتزلزل الجدار حتى

ص: 389

انكسر ما كان معلقاً عليه- قال العراقيون: عليه الضمان إن سقط في حال الضرب [وإن سقط لا في حال الضرب] فلا ضمان.

قال القاضي الحسين في آخر كتاب الصلح: وعندي أنه لا ضمان في الحالين.

وحكم أسفل الجدار حكم أعلاه؛ حتى لا يجوز أن يعمل بجواره حشاً يضر به على الأصح.

قال البندنيجي: وكان الشيخ يحكي عن أصحابنا: أنه لا يمنع موافقته على هذا، فرجع عنه إلى المنع، وجزم الإمام بأن الجار له حفر بئر في ملكه، وإن أدى إلى اختلال دار الجار، وأنه لا ضمان على الحافر، واختيار القاضي الروياني أن الحاكم يجتهد فيها، ويمنع إذا ظهر له التعنت وقصد الفساد.

قال: وكذلك القول فيإطالة البناء ومنع الشمس والقمر. ولو حفر في داره بئر بالوعة، وفسد فيها ماء بئر الجار- فهو مكروه، [و] لكنه لا يمنع منه، ولا ضمان عليه بسببه، خلافاً للقفال.

قال: "وقيل: لا يملك الماء، أي: بحال كما حكاه القاضي الحسين عن أبي إسحاق، وسواء بيع [في] بئر حفرها في موات أو في ملكه، كما صرح به القاضي أبو الطيب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُونَ شِرْكُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَأِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ" خرجه أبو داود. وروي:"شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ".

ولأن الماء في البئر لو كان مملوكاً لم يستبح بالإجارة؛ لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة، وقد أجري هذا الوجه- كما حكاه الشيخ في "المهذب" والبندنيجي- فيما ينبع في ملكه من النفط والقير والمومياء والملح ونحوه.

قال: "والمذهب الأول"، وهو المنصوص عليه في الأقضية من القديم و"وحرملة"؛ لأنه نماء ملكه فهو كثمرة الشجرة، ولأن هذا الماء معدن ظهر في

ص: 390

أرضه؛ فهو كمعدن الذهب والفضة إذا ظهر [في أرضه].

وأما الحديث فقد قال عبد الحق: إن بعض رجاله مجهول. وقال البخاري في بعضهم: إنه [منكر] الحديث. وضعفه أبو زرعة.

والتمسك بمسألة الإجارة قد يمنع بأن اللبن في الرضاع قد تناوله عقد الإجارة وإن كان عيناً.

التفريع:

إن قلنا بالمذهب، فلو أخذه أحد لم يملكه، وإذا باع ماء البئر بجملته لم يصح؛ لاختلاط المبيع بغيره، وإذا باع أرطالاً منه صح، وإن كان يختلط بغيره، قال القاضي الحسين: كما لو باع آصعاً من صبرة، ثم خلط عليها شيئاً آخر.

وعن القفال: أنه لا يصح، وهو موافق لأصله في منع بيع صاع من صبرة مجهولة الصيعان.

ثم القول بالصحة محله: إذا لم يكن ماء البئر محتاجاً إليه للماشية- كما صرح به الماوردي- فإن كان محتاجاً إليه للماشية، وأوجبنا بذل فضل الماء- حرم البيع، وإن قلنا بقول أبي إسحاق فمن أخذ منه شيئاً ملكه.

قال: "ولا يجب عليه بذل شيء من ذلك" أي: من [نيل] المعادن والشجر والكلأ وما ينبت وينبع في الأرض المحياة قبل حيازته في الأواني؛ لأنه نماء ملكه فلا يجب عليه بذله؛ كثمرة أشجاره، وصوف مواشيه.

قال: "إلا- الماء؛ فإنه يجب عليه بذل فضله للبهائم دون الزرع" أي: سواء قلنا: إنه ملكه أم لا- كما صرح به مجلي- لما روى الشافعي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عنأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ فَضْلَ الْكَلَإِ مَنَعَهُ اللهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

قال القاضي أبو الطيب: وفيه أدلة من وجوه:

ص: 391

أحدها: أنه توعد على المنع؛ فدل على أن البذل واجب.

والثاني: أنه دل على أن الفاضل هو الذي يجب بذله.

والثالث: أنه دل على أنه يجب البذل بلا عوض.

والرابع: أنه دل على أنه إنما يجب [عليه] ذلك للماشية دون غيرها، وحكمته حرمتها في نفسها؛ بدليل وجوب سقيها، بخلاف الزرع.

والفرق بين وجوب فاضل الماء وبين عدم وجوب فاضل الكلأ من وجوه:

أحدها: أن الماء إذا أخذ استخلف في الحال.

والثاني: أن الكلأ يتمول في العادة.

والثالث: أن رعي الماشية يطول، فلم يلزمه تمكينها من دخول ملكه لأجله، والماء بخلاف ذلك.

وقد حكى مجلي والمتولي عن بعض أصحابنا: أنه أوجب بذل الفضل للزرع إذا احتاج إليه، وقد يستدل له بما رواه البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثَلَاثَةُ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ .. " وعد منها: "رَجُلُ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ".

وروى القاضي أبو الطيب وغيره عن أبي عبيد بن حربوية من أصحابنا: أنه لا يجب البذل للبهائم؛ بل يستحب لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"، وهذا ما اختاره الإمام، وحكاه عن القاضي، والجمهور على الأول، وقالوا: ما ذكره من الحديث عام، وما ذكرناه خاص؛ فكان أولى.

وعلى هذا: لو أراد من حفر بئراً طمها منع؛ لما تعلق بفضل مائها من حقوق السابلة. وهكذا لو حفر نهراً أو استنبط عيناً، صرح به الماوردي، ولو انطمت البئر لم يلزمه تنظيفها.

ص: 392

نعم، لو بذل ذلك لأرباب الماشية [لزمه التمكين.

ثم المراد بالفضل: أن يكون فاضلاً عن حاجة نفسه وماشيته] وزرعه وشجره.

والمراد بالبذل: التمكين منه.

أما الاستقاء وإعارة الحبل والدلو فلا يجب، ومن هذا يظهر أنه إذا حاز الماء في أوانيه لا يجب عليه بذله وجهاً واحداً؛ كما صرح به القاضي أبو الطيب وغيره.

وعن أبي الحسين أن من أصحابنا من أوجبه.

واعلم أن [ظاهر] كلام الشيخ يقتضي أمرين:

أحدهما: أنه لا فرق في البذل للبهائم بين أن تكون ترعى الكلأ التي بجوار الماء ولا يمكن رعيه إلا بسقي الماء، أو لا يكون ثم كلأ، أو يكون ماؤه في الطريق، أو قاطنه. وهو في حال وجود الكلأ وعدم ماء مباح غير ذلك الماء وكلأ غير ذلك الكلأ، متفق عليه، وكذا في حال مرور الماشية، كما حكاه المتولي والقاضي أبو الطيب والروياني والرافعي.

[و] في حال الإقامة وجهان في "التتم"، [و] حكاهما في "الحاوي" عند عدم الكلأ، وحكاهما في "البحر" في حال وجوده واستغناء الماشية عنه لكونها معلوفة، والأصح: أنه لا يجب البذل.

والثاني: أنه لا يجب البذل للآدمي، وقد حكى القاضي ابن كج الخلاف المذكور في وجوبه للماشية، وجوبه للراعي؛ لأنها لا تستقل بنفسها، والمنع منه يتضمن المنع منها.

وحكى الماوردي الوجهين في وجوبه مع القول بوجوبه للماشية.

وحكى الإمام فيه وجهين إذا فرعنا على أن الماء مملوك، وأن الذي ذهب إليه

ص: 393

القاضي وطبقة المحققين: [أن] للملاك المنع، وطرد الخلاف في أخذ [قريب] وشرب دواب معدودة لا يظهر لشربها أثر.

فرع: إذا أوجبنا البذل هل يجوز أخذ العوض عنه؟ فيه وجهان في "التتمة":

أحدهما: نعم؛ كما يطعم المضطر بالعوض.

وأصحهما- وبه جزم الماوردي وأبو الطيب-: لا؛ لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ".

وهذا كله إذا كان قد حفر بئراً في ملكه، أو في موات ليتملكه، كما صرح به القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، والماوردي، والشيخ أبو محمد وغيرهم، خلا الإمام والفوراني؛ فإنهما جزما بعدم وجوب البذل إذا حفر البئر بقصد التملك، وقلنا إن الماء يملك. وحمل الإمام الحديث على ما إذا حفر البئر في موات وقصد الارتفاق بها دون التملك- كما سنذكره- وقال فيما إذا أشرفت الماشية على الهلاك في هذه الحالة: سقاها فضل مائة بالقيمة.

وعند الجمهور: إذا حفر البئر في موات للمارة فماؤها مشترك بينهم، والحافر كأحدهم، ويجوز الاستقاء منها للشرب وسقى الزرع، فإن ضاق عليهما فالشرب أولى. وإن حفرها في الموات لقصد الارتفاق دون التملك فالحافر أولى بمائها إلى أن يرتحل، لكن ليس له منع ما فضل عن حاجته كما ذكرنا عن سقى الحيوان، وله المنع من سقى الزرع، وللإمام احتمال فيه؛ من حيث إنه لم يملكه، والاختصاص إنما يكون بقدر الحاجة، وبهذا أجاب في "التتمة".

ولو لحقت الماشية، فاستحدث حافر البئر مزرعة- قال الإمام: فالذي يظهر هاهنا أنه لا يصرف الماء إلى تلك المزرعة؛ إذ لو جوزنا منع الفضل بهذه الجهة لاستمكن حافر البئر من طرد الماشية بالزيادة في المزارع.

وإذا ارتحل المرتفق صارت البئر كالمحفورة للمارة، فإن عاد فهو كغيره، ولو حفر في موات، ولم يقصد التملك ولا غيره ففيه وجهان في "النهاية":

ص: 394

وأظهرهما في "الرافعي"، وهو الذي ذهب إليه المحققون، ومنهم القاضي الحسين: أنه كالبئر المحفورة للمارة.

والثاني: أنها كالمحفورة للارتفاق.

وظاهر هذا: أنه لا يحصل للحافر ملك فيها على الوجهين معاً، وقد حكى الإمام- أيضاً- من قبل أن من حفر بئراً في مفازة أو مواضع العشب، فهذا مما يقع تارة لقصد التملك، وتارة [لا] لقصد [التملك]، فإذا خلا عن القصد فهل يحصل به الملك؟ فيه وجهان؛ كمن أغلق بابه على طائر، ولم يقصد اصطياده.

وإذا جمعت بين ما حكاه في الموضعين حصل في المسألة ثلاثة أوجه، ولا خلاف أن القصد إلى الإحياء لا يعتبر فيما لا يفعله في العادة إلا المتملك: كبناء الدور، والمساكن، واتخاذ البساتين حتى يحكم له بحصول الملك، وإن لم يوجد منه قصد التملك.

فصل:

"وإن تحجر شيئاً من الموات بأن شرع في إحيائه" أي: بالحفر وجمع التراب ونحوه وبناء بعض المقصود، كما قاله القاضي أبو الطيب.

قال: ولم يتمم فهو أحق به؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ".

ولأن الإحياء إذا أفاد الملك وجب أن يفيد الشروع فيه الأحقية؛

ص: 395

كالاستيام مع الشراء، وأيضاً قلنا: من يقصد الإحياء بالشروع في العمارة. وهذه الأحقية [أحقية] اختصاص لا ملك؛ لأن سبب الملك الإحياء، ولم يوجد.

وعن أبي الحسين بن القطان: أن بعض أصحابنا جعله مفيداً للملك، وإليه أشار صاحب "التهذيب" بقوله: والصحيح من المذهب: أنه لا يملك بالتحجر والإقطاع ما لم يحيها.

وقال الإمام: كنت أود أن يقول: كل ما يحصل الملك في نفعه إذا وجه إليه القصد، فإنه يحصل الملك وإن فرض القصد في [جهة أخرى]، والذي أراه في ذلك الاستشهاد بالحائط؛ فالمحوط يملك المنفعة إذا انضم إليه قصد اتخاذ الحظيرة، فليكف مجرد التحويط في كل [غرض يفرض]. وقد وجدت هذا لصاحب "التقريب"، ولكنه لم يصرح بالقاعدة التي رمز بها؛ بل قال: لو رمت في حق من يبتغي مسكناً يكفي التحويط فيه لكان محتملاً. وقد يستشهد لذلك بما روى أبو داود عن الحسن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ أَحَاطَ حَائِطاً عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ".

واعلم أنه يقوم مقام الشروع في الإحياء بما ذكرناه: غرز خشبات أو قصبات أو خط خطوط دالة على قصده، وبهذا فسر الإمام والمتولي التحجر.

والتحجر أصله: من الحجر، وهو المنع؛ كأنه لما علم حولها بحجر أو

ص: 396

غيره منع غيره من التصرف فيه، كما يمنع الحجر عن التصرف.

فرع: لا ينبغي للمتحجر أن يزيد على قدر كفايته فيضيق على الناس، ولا أن يتحجر ما لا يمكنه القيام بعمارته، فإن فعل قال في "التتمة": لا يمنع الغير من إحياء ما زاد على قدر كفايته، وما يعجز عن القيام بعمارته.

وقال غيره: [لا يصح]؛ لأن ذلك [القدر] غير متعين.

قال: فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به؛ لأنه آثره به صاحب الحق؛ فأشبه ما لو آثره بجلد ميتة، "وإن مات قام وارثه مقامه فيه" أي: بفتح الميم؛ لأنه حق يملك له فانتقل إلى وارثه كحق الشفعة.

قال: "وإن باع لم يصح بيعه"؛ لأنه لم يملكه، وحق التملك لا يباع.

دليله: أن الشفيع لا يبيع الشقص قبل الأخذ، وهذا قول الجمهور.

وقيل: "يصح"، ويعتمد العقد على الاختصاص؛ كبيع علو البيت للبناء والسكن دون سفله، وهذا محكي عن أبي إسحاق وطائفة- كما قال الماوردي- واختيار القفال- كما قال في "البحر- وتمسك قائله بقول الشافعي في "المختصر": كما يجوز بيع الموات من بلاد المسلمين إذا أجازه رجل.

وفي "الحاوي": أن الشافعي أشار إليه في كتاب السير، والقاضي أبو الطيب وغيره قالوا: إن ذلك معدود من غلطات أبي إسحاق، والشافعي عبر بالإجازة عن الإحياء؛ فعلى هذا: الثمن لازم للمشتري أحيا أو لم يحى.

ولو أحياها غير المشتري متغلباً صارت ملكاً للمتغلب المحيي، وفي سقوط الثمن عن المشتري وجهان حكاهما الماوردي عن رواية أبي علي بن أبي هريرة.

أحدهما- وهو مختاره-: أن الثمن لا يسقط؛ لأنه من قبل نفسه أتى. وعلى هذا: لو أحياها غير المشتري، ملكها، ولا يلزم المشتري شيء، وإن أحياها المشتري بعد أن حكم بفسخ البيع ملكها ولا شيء عليه، وإن كان قبل الحكم بالفسخ فوجهان:

ص: 397

أحدهما: أنها ملك للمشتري.

والثاني: أنها ملك للبائع المتحجر؛ لأن المشتري قصد أن يتملكها بالثمن دون الإحياء، فإذا لم يلزمه الثمن- لفساد البيع- لم يحصل له الملك.

والخلاف المذكور في جواز بيع المتحجر مذكور في بيع الغانم سهمه من الغنيمة قبل القسمة، كما صرح به صاحب "البحر" عن القاضي [الطبري]، وسنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى.

قال: "وإن لم يحي، فطالت المدة- قيل له: إما أن تحييه، وإما أن تخليه لغيرك"؛ لأن ترك العمارة فيه ضرر بدار الإسلام فمنع منه، ولأن فيه نوع حمى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَا حِمَى إِلَاّ للهِ وَلِرَسُولِهِ". ولا يبطل حقه بمجرد طول غيبته حتى يقال له فلا يعمر بعد القول- عند الشيخ أبي حامد- والقائل له هو الإمام أو نائبه، وليس لطول المدة الواقعة بعد التحجر حد معين، وإنما المرجع فيه إلى العادة، كذا قاله الرافعي.

قال: "فإن استمهل" أي: لأجل عذر أبداه من إعداد الآلة وجمع رجال، أو قدوم مال قريب الغيبة، أو لا لعذر- كما قال في "البحر"- أمهل مدة قريبة؛ رفقاً به، ودفعاً لضرر غيره، والمرجع في تقديرها إلى رأي السلطان، ولا يتقدر بثلاثة أيام على أصح الوجهين.

قال في "البحر": ومن حده بثلاثة أيام أراد: الأخذ في الإحياء والابتداء به، وأما إتمام العمل فقد لا يمكن إلا في أيام كثيرة.

وفي "الذخائر": أن الشيخ أبا حامد قدر المدة القريبة من عشرة أيام إلى شهرين، والبعيدة: ما زاد على الشهرين.

قال: "وإن لم يحى" أي: في المدة المقدرة له بعد الاستمهال "جاز لغيره أن يحييه" أي: سواء [أذن] في ذلك الإمام أم لا؛ لأنه لم يبق له حق بعد انقضاء المدة فاندرج المحيي في عموم قوله- عليه السلام: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً لَيْسَ

ص: 398

فِيهَا حَقُّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ"، لكن إذا كان: قد أسس الأس، وبنى بعض الحيطان- لا يتسلط الغير على البناء على ذلك، ولا على أن يملكه مجاناً، وله قلع ذلك.

قال الإمام: وأرى أن ذلك مشروط بإلزام ضمان النقض الذي يحدثه القلع؛ فإن الذي بنى كان له أن يبني، وكل من بنى بناء مباحاً ثم سلط الشرع على نقضه فعلى الناقض أرش ما ينقضه القلع. وما ذكره من الترتيب هو طريق أبي حامد والقاضي الحسين والمتولي، وطريقة الغزالي وإمامه: أن التحجر [يبطل] بطول الزمان وتركه العمارة في غير مدة التهيؤ لها، وإن لم يرفع الأمر إلى السلطان ولم يخاطبه بشيء، وسواء كان التأخير عن عذر مثل أن يغيب أو يحبس، أو لا عن عذر.

[و] وجه ذلك بأن التحجر ذريعة إلى العمارة، وهي لا تؤخر عن التحجر إلا بقدر تهيئة أسبابها، وكذلك لا يعتبر التحجر ممن لا يتمكن من تهيئة الأسباب: كفقير يتحجر منتظراً لقدرة عليها، ولا من متمكن يتحجر ليعمر في السنة القابلة؛ فإذا أخر، وطالت المدة، عاد الموات كما كان، وهذا قد حكاه الشيخ أبو حامد عن أبي إسحاق.

ثم لو ابتدر إنسان، وأحيا قبل أن تطول المدة المسلطة على إبطال حق المتحجر- فهل يملك به؟ فيه وجهان في الطريقين:

مختار أبي إسحاق المروزي، والشيخ أبي حامد- كما حكاه في "البحر" منهما: أنه يملك مع كونه مسيئاً، وهو الذي صححه الرافعي والقاضي الحسين؛ لعموم قوله- عليه السلام:"من أحيا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ"، ولأن الأول أثر فيها أثراً لم يملكها به، والثاني أثر [فيها] أثراً يملك الأرض به؛ فكان أولى.

ومقابله: حكاه القاضي ابن كج عن النص.

قال الإمام: وقد بنى أئمتنا هذا الخلاف على خلاف سيأتي في أن الظبية

ص: 399

والطائر إذا عششا في ملك رجل، فباض وأفرخ، وأخذ غيره الفرخ أو البيض- هل يملكه، أو لا.

على قولنا: إن صاحب الدار لا يملك الفرخ بذلك كما هو الصحيح؟ وقد رأى الإمام في "باب الصيد والذبائح" أن امتناع ملك المحيى هاهنا أولى من امتناع ملك آخذ الفرخ؛ لأن المتحجر قصد أن يتملك فكان حقه آكد، والذي حصل الصيد في ملكه [لم يقصد] تملكه ولا النسب إليه؛ فكان أخذ الصيد بالملك أقرب. ثم قال هاهنا: ومما يتصل بذلك: أن المتحجر إذا أخذ في العمارة، وكان يمهد الأساس، وبنى بعض الجدران- فقد ذكرنا أن هذا القدر لا يثبت له الملك، ولو ابتدر مبتدر إلى إحياء هذه البقعة فيجب القطع بأنه لا يملكها، والاختلاف السابق في الابتدار إلى عمارة البقعة المتحجرة، وسببه: أن العمارة أولى وإن كان المتحجر أسبق، ورأى بعض الأصحاب تقديم السبب الأقوى على السبب الأسبق؛ فإن التحجر ليس من العمارة، وهاهنا قد ابتدر المتحجر إلى العمارة؛ فله حق السبق والتمسك بالسبب الأقوى. وعكس الماوردي ذلك فقال: إن أكمل المتغلب إحياءها قبل أن يشرع المتحجر في عمارتها وقبل استكمالها، فأكمل المتغلب الإحياء وتمم العمارة- ففيه الوجهان، ويكون المتغلب متطوعاً بالنفقة على قولنا: إنها ملك للمتحجر.

فرع: استحقاق الوقوف بعرفة هل ينزل منزلة التحجر حتى يمتنع إحياؤه؟ فيه وجهان:

أحدهما: المنع، وبه أجاب المتولي.

وقال الرافعي: إنه أشبه بالمذهب؛ تشبيهاً لذلك بالمواضع التي تتعلق بها حقوق المسلمين عموماً أو خصوصاً: كالمساجد، والطرق، والرباطات.

والثاني-[و] هو الذي ذهب إليه القياسون-: جواز الإحياء حيث لا تضييق. وعلى هذا: هل يبقى حق الوقوف؟ فيه وجهان. وإذا بقي فمحله إذا ضاق الموقف، أو مع اتساعه وضيقه؟ فيه وجهان.

قال: "وإن أقطع الإمام مواتاً صار المقطع كالمتحجر" أي: في اختصاصه

ص: 400

بذلك في حياته، وانتقاله إلى وارثه، وسقوط حقه عند عدم العمارة بالشرط المتقدم، وجواز بيعه على أحد الوجهين، كما صرح به القاضي الحسين.

ودليل جواز الإقطاع: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الدور بالمدينة.

وروي عن عمرو بن حريث قال: خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم داراً بالمدينة بقوس، وقال:"أَزِيدُكَ [أَزِيدُكَ]؟ " خرجه أبو داود. وكذا خرج عن وائل بن حجر: أنه- عليه السلام أقطعه أرضاً بحضرموت. وقال الترمذي: حديث حسن [صحيح].

ودليل الاختصاص ظهور فائدة الإقطاع.

ووجه بطلان حقه عند الإطالة: مساواته المتحجر في إثبات الاستحقاق.

وحكى المراوزة وجهاً: أن من تعدى بعد الإقطاع وأحيا لا يملك، وإن قلنا: إنه يملك إذا أحيا [ما] تحجر.

ولا يجوز للإمام أن يقطع إلا ما يقدر المقطع على إحيائه.

تنبيه: قال أهل اللغة: استقطعت الإمام قطيعة، أي: سألته إياها. وأقطعني، أي: أذن لي فيها وأعطانيها. وسميت: قطيعة؛ لأنه اقتطعها من جملة الأرضين.

قال: "وما بين العامر من الشوارع والرحاب ومقاعد الأسواق لا يجب تملكها بالإحياء"؛ لأن إحياء الموات [جوز]؛ رفقاً بالمسلمين، وإحياء ذلك إضرار بهم.

ص: 401

والشوارع: جمع شارع، وهو الطريق [الكبيرة]. يقال: شرع الطريق.

والرحاب: [جمع رحبة، وهو المكان المتسع].

قال: "ولا يجوز فيها البناء" أي: لقصد الارتفاق كما يفعل في الآبار؛ لما في ذلك من التضييق على المارة، وتضرر من يعثر [به] في الليل.

قال: "ولا البيع ولا الشراء" أي: لا تباع ولا يشتري من الأئمة؛ لكونها غير مملوكة.

قال: "ومن سبق إلى شيء منها جاز [له] أن يرتفق بالقعود فيه" أي: للبيع والشراء والاستراحة "ما لم يضر بالمارة"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "مِنِّي مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ"، ولاتفاق أهل الأمصار على ذلك.

وليس لغير السابق أن يضايق السابق في موضعه، ولا أن يجلس بقربه في موضع يضيق عليه الكيل والوزن والأخذ والعطاء، وموضع متاعه وموقف المعاملين أو تمنعهم من رؤيته والتوصل إليه، وله أن يظلل بما لا يضر بالمارة من بارية أو ثوب؛ لأن الحاجة تدعو إليه.

وهذا ما ذكره الجمهور ووافقهم الماوردي على ذلك في الشوارع والطرقات، وقال فيما يختص الارتفاق فيه بأفنية المنازل والأملاك- كمقاعد الباعة والسوقة في أفنية الدور وحريمها-: إنه ينظر فإن أضر ذلك بأرباب الدور لم يجز [إلا بإذن مالك الدار، وإن كان لا يضر بالدار ولا بمالكها فهل يجوز بذلك دون إذن

ص: 402

مالكها، أو لا يجوز] إلا بإذنه؟ فيه قولان، وعلى قول الافتقار إلى إذنه لا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، كما لا يجوز أن يأخذ عليه بانفراده ثمناً؛ لأنه تبع الملك وليس يملك، وعلى هذا: فلو كان مالك الدار مولى عليه، لم يجز لوليه الإذن.

وحكم فناء المسجد حكم فناء الدار: إن أضر بأهله، لم يجز الجلوس فيه، وإن لم يكن فيه إضرار، فهل يلزم استئذان الإمام؟ فيه وجهان.

[تنبيه: قوله: "ما لم يضر" هو بضم الياء وكسر الضاد، ويقال: ضره يضره- بفتح الياء وضم الضاد- وأضر به وأضره، يضره- بضم الياء وكسر الضاد- لغتان].

قال: فإن قام؛ ونقل عنه قماشه، كان لغيره أن يقعد فيه؛ لزوال يد الأول عنه، ولو لم ينقل قماشه، لم يكن لغيره أن يقعد فيه.

قال القاضي أبو الطيب: كما لو قام من المسجد، وترك في موضعه منديله أو سجادته.

تنبيه: القماش معروف، وهو [من] قمشت الشيء، وقمشته- بالتشديد- أيضاً أي: جمعته من هنا وهنا.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون قيامه لأجل الليل أو لا، وهو ما حكاه أبو الطيب والماوردي، وكذلك المتولي، ونقله عن الشافعي، ونسبه الرافعي إلى الإصطخري وقال: إن الأشبه بالمذهب- ما ذكره الإمام- أنه إن مضى زمان تنقطع فيه ألفة من عامله، بطل حقه، وإن كان دونه، لم يبطل؛ لأن الغرض تعيين الموضع لكي يعرف فيعامل- وأنه لا فرق بين أن تكون المفارقة لعذر كسفر أو مرض، أو لغير عذر. وعلى هذا: فلا يبطل حقه بالرجوع إلى بيته بالليل، وليس لغيره مزاحمته في اليوم الثاني- وأن الأسواق التيت قام في كل أسبوع أو كل شهر إذا اتخذ فيها مقعداً كان أحق به في النوبة الثانية، وهذا إذا لم يكن من الجوالة، أما الجوال الذي يقعد في كل يوم في موضع، فإنه إذا قام؛ بطل

ص: 403

حقه. والمذكور في "الوسيط" و"الإبانة": أنه متى قام لأجل الليل، لم يبطل حقه، وكذا إذا غاب يوماً أو يومين لمرض أو شغل، وإذا طالت غيبته بطل حقه، وظاهر كلام الشيخ- أيضاً- أنه لا فرق في السابق بين أن يكون مسلماً أو ذمياً، وقد حكى القاضي ابن كج في ثبوت هذا في حق الذمي وجهين.

فرع: لو أراد غيره أن يجلس في مدة غيبته القصيرة للمعاملة إلى أن يعود فهل يمكن منه؟ فيه وجهان، أظهرهما: الجواز؛ كي لا تتعطل منفعة الموضع في الحال.

قال: فإن طال مقامه وهناك غيره أي: محتاجاً إليه، أو سبق اثنان إليه- "أقرع بينهما"؛ توخيا للتسوية، وهذا هو الأصح.

وقيل: يقدم الإمام أحدهما؛ لأن له نظراً واجتهاداً يدفع به المنازعة.

وحكى الماوردي: أن أصل هذا الخلاف اختلاف الأصحاب في أن نظر الإمام في المقاعد مقصور على كفهم عن التعدى ومنعهم من الإضرار، أو نظره نظر مجتهد فيما يراه صلاحاً من إجلاس ومنع وتقديم كما يجتهد في أموال بيت المال؟ فالأول مبنى على الأول، والثاني على الثاني.

وقيل: للإمام أن يقيم من طال مقامه وإن لم يكن هناك غيره؛ كي لا يصير ذريعة إلى تملكه وادعائه، حكاه في "المهذب" وغيره.

تنبيه: ميم مقامه مضمومة، والمعنى: إقامته. والمقام- بالفتح-: موضع الإقامة.

قال: وإن أقطع الإمام شيئاً من ذلك، صار المقطع أحق بالارتفاق به؛ لأن إقطاع الإمام في الموات قائم مقام السبق والتحجر فكان هنا مثله، وهذا ما نص عليه الشافعي، وعليه الأكثرون.

وقيل: لا مدخل لإقطاع الإمام في هذا الارتفاق؛ لأنها منتفع بها على صفتها من غير عمل فأشبهت المعادن الظاهرة، وهذا ما جعله الغزالي أظهر، ويقال: إنه اختيار القفال، وجعل الماوردي أصل [هذا] الخلاف [الخلاف]

ص: 404

الذي تقدم في كيفية نظر الإمام فيها.

واعلم أن ظاهر كلام من جوز الإقطاع- من الشيخ والقاضي أبي الطيب وابن الصباغ- ومن منعه، يقتضي أن الإقطاع خاص بالارتفاق لا في جواز التملك، وقد حكى الرافعي في كتاب الجنايات عند الكلام في حفر الآبار عن العراقيين والروياني والمتولي: أنهم جوزوا للإمام أن يخصص قطعة من الشارع ببعض الناس، وله أن يحفر فيها بئراً لنفسه- إذا كان غير مضر- بإذن الإمام. وحكى عن الأكثرين في إحياء الموات: أنهم جوزوا للمقطع أن يبني في الشوارع ويتملك، والذي حكاه هاهنا أن العبادي في "الرقم" وابن طاهر [في] "شرح مختصر الجويني" رويا وجهاً: أن للإمام أن يتملك من الشوارع ما يفضل عن حاجة الطروق.

قال: فإن قام ونقل عنه قماشه لم يكن لغيره أن يقعد فيه لتأكيد حال الإقطاع، ويخالف غير المقطع؛ لأن استحقاقه كان بقعوده، وبقيامه زال، وهنا الاستحقاق بالإقطاع والإقطاع باق، وهذا ما صار إليه الجمهور، كما حكاه [القاضي] أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي والروياني.

وقيل: إن حكمه حكم من لم يقطع إذا لم يكن جوالاً- وقد تقدم- حتى حكى القاضي الحسين في إزعاجه عند طول مقامه الوجه السابق.

فروع:

من جلس في المسجد ليقرأ عليه القرآن أو يتعلم منه الفقه أو ليستفتى، قال الغزالي، والشيخ أبو عاصم العبادي: الحكم فيه كما في مقاعد الأسواق.

قال الرافعي: وحكى الماوردي أنه مهما قام بطل حقه، وكان السابق إليه أحق به.

قلت: وكذا قال به في مقاعد الأسواق، وكان اللفظ [الأول] مغنياً عنه. وفي حال الإقامة يمنع من استطراق حلقة الفقهاء والقراء في الجامع توقيراً، ولا يفتقر في الترتيب في المسجد للتدريس والفتوى إلى إذن الإمام إذا كان من مساجد

ص: 405

المحال، ويعتبر إذنه في الجوامع وكبار المساجد إذا كانت عادة البلدة فيه الاستئذان، وهذا كما ذكر في الترتيب للإمامة.

ومن جلس في المسجد للصلاة لا يختص به في غير [ذلك] الصلاة إذا قام، بخلاف مقاعد الأسواق على رأي؛ لأن الصلاة في بقاع المسجد لا تختلف، والمقاعد تختلف باختلاف غرض المعاملين بها، وأما في تلك الصلاة التي حضرها فهو أحق بها لموضع فيها، وليس لغيره أن يزعجه، فإن فارقه إجابة لمن دعاه، أو لرعاف، أو قضاء حاجة، أو تجديد وضوء، فوجهان ذكرهام ابن كج وغيره:

وأصحهما: أنها لا تبطل، ولا فرق على الوجهين بين أن يترك رداءه فيه أم لا.

والذي جزم به القاضي أبو الطيب: أنه إن ترك منديله أو سجادته لا يبطل، وإلا بطل، ولو فارقه من غير عذر حادث فقد بطل حقه.

والرباطات المسبلة في الطرق وعلى أطراف البلاد، إذا سبق إلى موضع منها سابق صار أحق به وليس لغيره إزعاجه سواء دخل بإذن الإمام أو بدون إذنه، إلا أن يكون الواقف قد جعل له ناظراً وشرط إذنه في الدخول، وإذا دخل لا يبطل حقه بالخروج كشراء طعام أو قضاء حاجة ونحوهما، وإن نقل [عنه] قماشه؛ لأنه قد لا يأمن عليه.

ولو سبق اثنان على موضع وضاق، فالحكم كما ذكرنا في مقاعد الأسواق.

وإذا أقام المسافر في الرباط أكثر من مدة المسافرين- وهي ثلاثة أيام- أزعج، إلا أن يشترط الواقف زيادة عليها، أو يعرض عذر من مطر أو غيره يمنعه من الخروج.

والحكم في المدارس والخانقات إذا نزلها من هو من أهلها، كالحكم في الرباطات إلا في الإزعاج، وإذا سكن بها بيتاً مدة، ثم غاب أياماً قليلة فهو أحق إذا عاد، وإن طالت غيبته بطل حقه.

ولا يزعج الفقيه قبل استتمام غرضه، إلا أن يترك العلم والتحصيل فيزعج،

ص: 406

وفي الخانقاه لا يمكن هذا الضبط؛ ففي الإزعاج إذا طال المكث- ولا شرط من جهة الواقف، وكذا من طال عكوفه في المسجد- وجهان كما ذكرنا في الشوارع، والأظهر- وبه قال أبو إسحاق-: أنه لا يزعج.

قال: ومن حفر معدناً باطناً أي: في موات بقصد التملك وهو الذي يتوصل إلى نيله أي: إلى ما يخرج منه فإن كان وضعه الغطاء.

قال: بالعمل كمعدن الذهب والفضة والحديد وغيرها أي: كالفيروج والياقوت والرصاص والنحاس، فوصل إلى نيله، ملك نيله؛ لاستيلائه عليه.

وعن الشيخ أبي محمد تردد في [عد] حجر الحديد ونحوه من المعادن الباطنلة، [أم الظاهرة]؛ [لأن ما فيها من الجواهر باد على الحجر والظاهر الأول؛ لأن الحديد لا يستخرج إلا بمعاناة وليس البادي على الحجر عين الحديد، وإنما هو مخيلته.

قال: "وفي المعدن" أي: البقعة التي تحتها الذهب والفضة قولان: أحدهما: يملكه إلى القرار؛ لأنه لا يتوصل إلى منفعته إلا بعمل فيه التزام مؤنة؛ وكان كغيره من أراضي الموات؛ فعلى هذا: إحياؤه هو العمل الذي يتوصل به إلى نيله، وإذا مات ورث [عنه]، ولا يجوز لغيره أن يعمل فيه وإن طالت غيبته عنه.

ويملك مع المعدن عند الوصول إلى النيل ما حواليه بما يليق بجريمه وهو قدر ما يقف فيه الأعوان والدواب على حسب الحاجة- كما ذكرنا في البئر- حتى قال البندنيجي: إنه يملك طول الحفر من كل جانب إن كان الثور يمشي فيه كما يفعل الناضح. ومن جاوز الحريم، وحفر، لم يمنع وإن وصل إلى عرق الأول، كما صرح به البندنيجي وغيره؛ موجهاً ذلك بأنه لا يملك إلا ما قابل قدر ملكه.

والثاني: أنه لا يملكه؛ لأنا لموات لا يملك إلا بعمارة، وحفر المعدن تخريب، ولأن الموات إذا ملك لا يحتاج في تحصيل المقصود منه إلى مثل ذلك

ص: 407

العمل، وهاهنا إذا عمل مرة أخرى احتاج إلى عمل مثله لإخراج النيل.

قال أبو إسحاق: وهذا أشهر القولين، وهو الذي صححه الشيخ في "المهذب"، وكذلك المسعودي والروياني، وعلى هذا قال: فإذا انصرف كان غيره أحق به؛ كما في مقاعد الأسواق. فإن طال مقامه وهناك غيره، أو سبق اثنان إليه أقرع بينهما، وقيل: يقدم الإمام أحدهما، وتوجيههما ما سبق في المقاعد. والوجه السابق في أنه يزعج- وإن لم يكن ثم غيره- مطرد هنا، ومنهم من قطع هاهنا بعدمه؛ لأنه لا يحصل النيل إلا بتعب ومشقة.

وقيل: يقسم بينهما [كما] في المعدن الظاهر، حكاه في "البحر"، ومنهم من لم يجزه هنا؛ لأنه يحتاج إلى إنفاق، وليس على الإمام أن ينفق عليه؛ لينال غيره، أما إذا لم يقصد التملك بل قصد الحفر؛ لينال ويتصرف فلا يملك قولاً واحداً، قاله البندنيجي.

قال: "وإن أقطع الإمام شيئاً من ذلك [جاز]، فإن قلنا: إنه يملك المعدن بالعمل، صح الإقطاع، وصار المقطع أحق [به] من غيره" كالموات، وعلى هذا: إذا لم يحفر كان حكمه حكم المتحجر إذا لم يعمر، صرح به في "البحر".

قال: "وإن قلنا: إنه لا يملك، ففي الإقطاع قولان:

أحدهما: لا يصح؛ لأنه معدن لا يملك بالإحياء فلا يصح إقطاعه؛ كالمعدن الظاهر.

والثاني: يصح فيما يقدر على العمل فيه"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قوس. خرجه أبو داود.

ص: 408

وفي رواية: "جَلْسَها وَغَوْرَها، وَلَمْ يُعْطِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ".

وقوله: جلسيها وغوريها" فيه تأويلان.

أحدهما: أنه أراد: رباها ووهادها، قال الأصمعي: كل مرتفع جلس، والغوري ما انخفض من الأرض.

الثاني: وبه قال أبو عبيد وابن قتيبة: أن الغوري: ما كان من بلاد تهامة، والجلسي: ما كان من بلاد نجد، ولأنه لا يتوصل إليه إلا بالرجال والمؤن والعمل الكثير، وليس كذلك [في] الظاهرة؛ لأنه يستوى في الأخذ منها القوي والضعيف، وهذا ما حكاه القاضي الحسين؛ تفريعاً على عدم الملك بالإحياء، وصححه الرافعي.

فرعان: على القول بأنه ملك المعدن بالإحياء:

أحدهما: إذا باع المعدن هل يصح؟ الذي جزم به القاضي الحسين والفوراني: أنه لا يصح؛ لأن المقصود منه النيل، وهو متفرق في طبقات الأرض مجهول القدر والصفة؛ فصار كما لو جمع قدراً من تراب المعدن وفيه النيل وباعه، وجعل القاضي أبو الطيب منع البيع بالاتفاق دليلاً على أنه لا يملك المعدن بالإحياء، وحكى الإمام وجهاً آخر في جوازه؛ لأن مورد البيع فيه المعدن، والنيل فائدته، ورفعه.

الثاني: إذا قال لغيره: اعمل واستخرج النيل، ففعل- ففي استحقاقه الأجرة الخلاف في الغسال.

ولو قال: استأجرتك فما تستخرجه فهو لك أجرة، قال الإمام: فالظاهر استحقاق الأجرة، وهو الذي جزم به الفوراني في "الإبانة"، وحكى الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجعالة، ولو قال: اعمل لنفسك، ففعل- فالنيل للمالك، وهل يستحق الأجرة؟

الذي ذهب إليه الجمهور: عدم الاستحقاق، وهو الذي صححه القاضي الحسين.

ص: 409

وذهب ابن سريج إلى الاستحقاق، وقرب الأئمة هذا الخلاف من الخلاف في استحقاق الأجير في الحج الأجرة عند صرفه [إحرامه] إلى نفسه، بعد انعقاد إحرامه عن المستأجر؛ ظاناً أنه ينصرف.

قال الإمام: وعندي: أن الصورة التي ذكرناها بعيدة عن استحقاق الأجرة؛ إذ لا استعمال فيها، وإنما جرى الإذن إطلاقاً ورفعاً، وليس كمسألة الحج؛ فإن المستأجر استعمله أولاً، ثم انصرف إليه العمل آخراً؛ فلا يبعد أن يلغو القصد الفاسد من الأجير، وليت شعري [ما] يقول ابن سريج إذا عمل ولم يستفد شيئاً؟ فإن جرى على قياسه في إثبات الأجرة كان في نهاية البعد إذا لم يصحل نيل هو شوقه ومتعلق طمعه، وعلى كل حال فهل يكون ما يخرج من المعدن في يد العامل مضموناً أو أمانة؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين.

ولو قال: اعمل فما تستخرجه، فهو بيننا، لم يصح؛ لأن العوض ينبغي أن يكون معلوماً.

قال في "الشامل": وليس كما لو شرط جزءاً من الربح أو الثمرة في القراض والمساقاة للعامل؛ لأنه جعل عوض العمل هنا جزءاً من الأصل فهو كما لو شرط للعامل جزءاً من رأس المال، وعلى هذا: فلا شك أنه يستحق نصف الأجرة، وهل يستحق النصف الآخر؟ فيه الخلاف السابق، حكاه الإمام.

ولو قال: اعمل وما استخرجته فلك منه عشرة دراهم، لم يصح؛ لأنه ربما لا يحصل هذا القدر.

تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الكلام مفروض فيما إذا كان النيل متحقق الوجود، لكن لا يصل إليه إلا بالعلم، والسكوت عما عداه، وقد حكى الماوردي عن الأصحاب في أن ما يعلم ظهور نيله يقيناً هل يجري عليه حكم الموات في جواز إقطاعه وتأبيد ملكه بالإحياء، أم يجري عليه حكم المعادن الظاهرة؟ ونسب الأول إلى ابن أبي هريرة وصححه.

قال: ومن سبق إلى معدن ظاهر، [وهو الذي] يتوصل إلى ما فيه

ص: 410

بغير عمل: كالقار، والنفط، والمومياء، والياقوت، والبلور [والبرام] والملح، والكحل، والجص، والمدر.

وفي بعض شروح "المفتاح" عد الملح الجبلي من المعادن الباطنة، وفي "التهذيب" عد الكحل والجص منها، وهما محمولان على [ما إذا أحوج إظهارهما إلى حفر- كما قال الرافعي- وحينئذ فكلام الشيخ يخرجهما، ويدخل] ما إذا أظهر السيل قطعة ذهب أو أتى بها، كما صرح به الرافعي والبندنيجي في كونها من المعادن الظاهرة.

[قال]: أو إلى شيء من المباحات كالصيد والسمك، وما يؤخذ من البحر من اللؤلؤ والصدف، وما ينبت في الموات من الكلأ والحطب، وما يبنع من المياه في الموات، وما يسقط من الثلوج، وما يرميه الناس رغبة عنه، أو ينتشر من الزروع والثمار وتركوه رغبة، عنه فأخذ شيئاً منه- ملكه" أي مسلماً كان الآخذ أو كافراً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا [لَمْ] يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ"، مع قوله صلى الله عليه وسلم: لما رأى تمرة ملقاة: "لَوْلَا أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا" كما خرجه البخاري، وهكذا الحكم فيما إذا لم يأخذ لكنه سبق، ثم جاء غيره: فالأول مقدم، وبأي قدر يستحق التقديم؟ عبارة أكثرهم: أنه يقدم بقدر حاجته التي يقتضيها العرف لأمثاله، فإن أراد الزيادة على ذلك فوجهان:

أحدهما: لا يزعج، ويأخذ بحق السبق ما شاء؛ للحديث.

وأظهرهما: أنه يزعج؛ فإن العكوف عليه كالتحجر والتحويط المانع للغير.

وجزم الماوردي بإزعاجه إذا كان بقاؤه يمنع غيره، وحكى الخلاف فيما إذا

ص: 411

كان لا يمنع غيره.

ولا خلاف في المعدن الظاهر أنه لا يختص به المتحجر، ولا يملكه أحد بالإحياء والعمارة وإن أراد بها النيل، حتى لو حوط على بعض هذه المعادن بناء واتخذ عليه داراً أو بستاناً لم يملك البقعة؛ لفساد قصده فإن المعدن لا يتخذ لذلك، وأشار في "الوسيط" إلى خلاف فيه، وكأنه أخذه من خلاف حكيناه عن الإمام في نظير المسألة في المعدن الباطن.

تنبيه: النفط – بكسر النون وفتحها-: دهن معروف.

المومياء- بضم الميم الأولى، وكسر الثانية ممدود-: معدن من معادن البادية.

البرام- بكسر الباء-: جمع: برمة، وبضمها: حجر يتخذ منه القدر.

المدر- بفتح الميم والدال-: الطين الشديد الصلب.

اللؤلؤ معروف، وفيه أربع لغات قرئ بهن في السبع: لؤلؤ بهمزتين، و"لولو" بغير همز، وبهمزة أوله دون ثانية، وعكسه: قال جمهور أهل اللغة: اللؤلؤ: الكبار، والمرجان: الصغار. وقيل: عكسه.

الصدف: غشاء الدر، واحدته: صدفة.

قال: وإن سبق اثنان إلى ذلك وضاق عنهما: فإن كانا يأخذان للتجارة قسم بينهما؛ لعدم المزية، وكيفية القسمة: أن يهايأ بينهما فيه، فإن تشاحا في السبق أقرع.

قال: وإن كانا يأخذان القليل للاستعمال، فقد قيل: يقرع بينهما؛ لانتفاء المرجح، مع أن للقرعة مدخلاً عند تساوي الحقوق، وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب وغيره. [وقيل: يقسم الإمام بينهما؛ حذاراً عن تأخير الحق]. وقيل: "يقدم" الإمام "أحدهما" أي: بالاجتهاد، وظهور الأحقية كما يفعل في أموال بيت المال.

وهذا الذي ذكره الشيخ [بجملته] نسبه البندنيجي إلى أبي إسحاق المروزي، وقد حكى الرافعي هذه الأوجه فيما إذا كانا يأخذان للتجارة، وقال: إنه الأشهر،

ص: 412

وإنه يشبه- على قياس ما قاله العراقيون- أن يقال: إن كان أحدهما تاجراً والآخر محتاجاً يقدم المحتاج.

قال: فإن أقطع الإمام شيئاً من ذلك لم يصح إقطاعه؛ لما روت بهيسة عن أبيها أنه قال: "يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: "الْمَاءُ"، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: "الْمِلْحُ"، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: "أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرُ لَكَ".

ولما روى ثابت عن سعيد عن أبيه عن جده الأبيض بن حمال المازني أنه استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملح مارب، فأقطعه، فقال الأقرع بن حابس التميمي: يا رسول الله، إني قد وردت الملح [في الجاهلية]، وهو بأرض ليس فيها ملح، ومن ورده أخذه، وهو مثل الماء [العد بأرض]، فاستقال الأبيض من قطيعته الملح، فقال الأبيض: قد أقلتك منه على أن تجعله مني صدقة، فقال- عليه السلام:"هُوَ مِنْكَ صَدَقَةُ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ مِنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ"، خرجه أبو داود.

والمارب- غير مهموز-: موضع.

والعد- بكسر العين-: مجمع الماء، قاله الخليل.

وقال الأزهري: الماء العد: الكثير الذي لا ينقطع كماء البئر، وماء العين.

قال أبو الطيب: ولأن المسلمين أجمعوا على أنه لا يجوز أن يقطع السلطان مشارع الماء فيجعله أحق بها من غيره؛ فكذلك لا يجوز أن يقطعه شيئاً من المعادن الظاهرة؛ لأنه بمنزلة الماء من حيث إنها بارزة ظاهرة لا يحتاج في

ص: 413

تحصيلها واستخراجها إلى مؤنة وعمل.

قال: "فإن كان من ذلك ما يلزم عليه مؤنة- بأن يكون بقرب الساحل موضع إذا حصل فيه حصل منه الملح- جاز أن يملك بالإحياء، وجاز للإمام إقطاعه"؛ لأنه ليس في الحال معدناً، وإنما هو موات؛ فيصير بالإحياء معدناً؛ فجاز أن يملك بالإحياء، وجاز إقطاعه كغيره من الموات.

والساحل: معروف، وجمعه: سواحل، وهو: فاعل، بمعنى: مفعول؛ لأن الماء سحله، أي: قشره.

قال: وإن حمى الإمام أرضاً لترعى فيها إبل الصدقة أي: الزكاة ونعم الجزية، وخيل المقاتلة، والأموال الحشرية، ومال من يضعف عن الإبعاد في طلب النجعة، ولم يضر ذلك بالناس، أي: لكونه قليلاً من كثير يكفي المسلمين، جاز في أصح القولين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين والمجاهدين ترعى فيه، كما خرجه أبو داود والبخاري؛ فكان للأئمة ذلك تأسياً به، كما في سائر المصالح.

ص: 414

"والنقيع"- بالنون والقاف-: بلد معروف بقرب المدينة قدر ميل في ستة أميال، وهو موضع مستنقع الماء، وينبت فيه الكلأ، كذا ذكره أصحابنا، وفي حواشي الشيخ زكي الدين: أنه [على] عشرين فرسخاً من المدينة.

وقيل: على عشرين ميلاً، ومساحته ميل في بريد.

وحكي عن الخطابي: أن من الناس من يقوله بالباء [وهو تضعيف].

وقال أبو عبيد: الثاني هو بالباء، مثل: بقيع الغرقد، وقد روى أن أبا بكر حمى بالربذة لإبل الصدقة، واستعمل عليها مولاه أبا أسامة، وولى عليه قرطب بن مالك، وقد روى أن عمر حمى من السرف بقدر ما حمى أبو بكر من الربذة، وولى عليه مولاه هنياً، وقال: يا هني، ضُمَّ جناحك للناس. أي: تواضع لهم. وقيل: اتق

ص: 415

الله واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريرمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان و [نعم] ابن عوف؛ فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة والغنيمة يأتيني بعياله، فيقول: يا أمير المؤمنين [يا أمير المؤمنين]، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ والكلأ أهون علي من الدينار والدرهم.

وأراد: إن هلكت ماشيتهم احتجت إلى الإنفاق عليهم من الدينار والدرهم في بيت المال والكلأ دونهما.

والسرف: بفتح السين وكسر الراء المهملتين، وبعضهم قيده بفتح الشين المعجمة وفتح الراء المهملة، قال الشيخ زكي الدين: وهو الصواب.

والهنى: بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء من غير همز، ويروى مهموزاً.

الصريمة- بصاد مهملة مضمومة، وراء مهملة مفتوحة، وياء آخر الحروف-: تصغير صرمة- بكسر الصاد- وهي القطيع من الإبل خاصة، وهو ما جاوز الذود إلى ثلاثين، والذود من الإبل: ما بين الخمسة إلى العشرة، كذا حكاه في "رفع التمويه".

وفي "الذخائر": أن الصريمة تطلق على الخيل خاصة، وهي ما بين الذود إلى الثلاثين [من الخيل]، وأن الذود من الإبل: ما بين خمسة إلى عشرين، وقيل: ما بين ثلاثة إلى عشرة.

وحكى في "البحر" وكذا البندنيجي أن الصريمة من الإبل والخيل: ما بين الذود إلى الثلاثين.

والغنيمة- بضم الغين-: تصغير الغنم، وهي ما بين الأربعين إلى المائة من الشاء، وأما الغنم ما تفرد لها راع على حدة، وهي ما بين المائتين إلى أربعمائة.

ولأن في ذلك مصلحة لكل مسلم في دينه ونفسه أو من يلزمه أمره من

ص: 416

مستحقي المسلمين؛ فكان ما حمى من خاصتهم أعظم منفعة لعامتهم وأهل دينهم، وقوة على من خالف من عدوهم، فعلى هذا: لو أحياه أحد بغير إذن الإمام فهل يملكه؟ فيه قولان، وقيل: وجهان:

أحدهما: لا؛ كما لا يملك ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ما صححه في "البحر".

ووجه الجواز: أن التمليك بالإحياء ثابت بالنص، والحمى إنما يثبت بالاجتهاد، والمنصوص عليه أولى من المجتهد فيه.

ولو أحياه بإذن الإمام ملكه، كذا قاله القاضي أبو الطيب.

قال: "ولا يجوز في الآخر"؛ لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ"، ولأنه لا يجوز أن يحمى لنفسه؛ [فلا يجوز أن يحمى مطلقاً لغيره من الرعية، وعكسه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يجوز له أن يحمي لنفسه] وإن لم يفعله؛ فكان له أن يحمي لغيره.

والمنتصرون للأول منهم من يروي الحديث: " لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ"، ومنهم من يرويه بغير هذه الزيادة، ويقول: معناه: لا حمى إلا أن يقصد به وجه الله تعالى كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حماه لفقراء المسلمين وفي مصالحهم، ورد على مخالفة فعلى الجاهلية؛ فإن العزيز منهم [كان إذا] انتجع بلداً مخصباً أوفى كلب على جبل أو على نشز من الأرض- أي: أشرف به- ثم استعوى الكلب، ووقف له من كل ناحية من يسمع منها صوته؛ فحيث انتهى صوته بالعواء حماه من كل ناحية لنفسه، ويرعى مع العامة فيما سواه ويمنع، هذا من غيره. فورد الخبر؛ نهياً لهم عن هذا.

وأجابوا عن القياس على آحاد المسلمين: بأنه ليس لواحد منهم النظر في مصالح المسلمين؛ ولهذا لم يكن له أن يحمي، وليس كذلك الأئمة.

تنبيه: الحمى: الممنوع، يقال: حميته أحميه، أي: منعته ودفعت عنه.

ص: 417

قال الجوهري: يقال: أحميته: جعلته حمى، وسمع الكسائي في تثنيته: حموان، والوجه: حميان.

قال ابن فارس: قال أبو زيد: حمينا مكان كذان وهو حمى: لا يقرب؛ فإذا امتنع منه وحذر قيل: أحمينا.

النعم: الإبل، والبقر، والغنم، وهو اسم جنس، وجمعه أنعام.

والأموال الحشرية-[بفتح الحاء وإسكان الشين-: أي المحشورة، وهي المجموعة للمسلمين ومصالحهم. يقال: حشرته أحشره وأحشِره]؛ فأنا حاشر، وهو محشور.

النجعة- بضم النون-: الانتجاع، وهو: الذهاب للانتفاع بالكلأ وغيره.

قال: فإن زالت الحاجة جاز أن يعاد إلى ما كان أي: ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره؛ لأن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها، والمعتد له الإمام؛ لأنه متعلق بالاجتهاد.

قال الإمام: ولا نقول: كما زالت العلة انقطع حكم الحمى.

وقيل: ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز تغييره بحال؛ لأن ما حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نص فلا يجوز نقضه بالاجتهاد، وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب، وجزم به البندنيجي، وحكاه الماوردي عن جمهور الأصحاب، ونسب الأول إلى الشيخ أبي حامد، وطريقة الفوراني في "إبانته": أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينقض، وحمى غيره هل ينقض من بعده؟ فيه قولان:

قال الإمام: ولعل الأصح الجواز؛ فإن حمى الإمام اجتهاد منه في طلب المصلحة للمسلمين، وإذا رأى من بعده رد الحمى نظراً لم يعترض عليه.

ووجه المنع: بأنه في حكم المحرز للجهة المعينة؛ فلا سبيل إلى نقضه؛ كما لو جعل بقعة مسجداً أو مقبرة فلا يجوز تغييره، وإن اقتضت المصلحة التغيير، وهذا الخلاف جار- كما حكاه القاضي الحسين- في أن الحامي هل له نقض حمى نفسه أم لا؟

وقال الرافعي: إن في بعض الشروح: أنه يجوز للحامي أن ينقض حمى

ص: 418

نفسه، ولا يجوز لمن بعده من الأئمة نقض [ما] حماه.

فروع:

إذا حمى آحاد الناس مواتاً، ومنع الناس منه زماناً، ورعاه، ثم ظهر الإمام عليه رفع يده عنه ولم يغرمه؛ لأنه ليس لمالك، ولا يعزره؛ لأنه أخذ مستحقه، وينهاه عن مثل تعديه.

ولو حمى والي الإقليم موضعاً لمصالح المسلمين رأى فيه مصلحة، فليس له ذلك إلا بإذن الإمام، كذا قاله الماوردي، وألحق الفوراني الولاة بالأئمة، وحكى فيهم القولين، ورجح الرافعي هذه الطريقة.

ووالي الصدقات إذا اجتمعت معه مواشي الصدقة، وقل المرعى لها، أو خاف عليها أن تتلف، لم يحم الموات لها، فإن منع الإمام من الحمى كان والي الصدقات أولى، وإن جوز الإمام ففي جوازه لوالي الصدقات عندما ذكرناه وجهان:

أصحهما في "الحاوي": المنع، وعلى مقابله يتقيد الحمى بزمان الضرورة ولا يستديم، بخلاف حمى الإمام.

ص: 419