الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الإجارة
الإجارة بكسر الهمزة.
وقيل: بضمها: مصدر أجر يؤجر إجارة، وهي مشتقة من الأجر، والأجر: ثواب العمل وعوضه.
يقال في الدعاء: آجرك الله؛ أي: أثابك، وكأن الأجر عوض عمله، [كما أن الثواب عوض عمله].
وهي في الشريعة: عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبدل والإباحة بعوض معلوم.
ويقال: استأجرت دار فلان وآجرني داره ومملوكه يؤجرهما إيجاراً فهو مؤجر وذاك مؤجر، وأجرت داري أو مملوكي غير ممدود وآجرت ممدود والأول أكثر.
قال الأخفش: ومن العرب من يقول: أجرت غلامي أجراً فهو مأجور وأجرته إيجاراً فهو مؤجر، وآجرته على فاعلته فهو مؤاجر.
والأصل في مشروعيتها قبل إجماع الصحابة، والتابعين من الكتاب قوله
تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقوله تعالى:{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} الآية [الكهف: 77]، وقوله تعالى:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَاجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَاجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26، 27].
وهذا وإن ورد في شرع من قبلنا؛ فقد ورد في شرعنا ما يقرره فكان حجة.
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: "رَجُلُ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلُ بَاعَ حُراً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلُ اسْتَاجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ".
وروي عن أبي هريرة- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ".
وروى أنه- عليه السلام لما ولد إبراهيم استأجر له ظئراً يقال لها: أم سيف؛ امرأة رجل بالمدينة، يقال له: أبو يوسف، وغير ذلك من الأخبار والآثار.
ومن جهة المعنى: أن الحاجة إلى الإجارة داعية، والضرورة إليها ماسة؛ فإنه ليس لكل أحد ظهر يركبه ولا دار يسكنها، ولا يقدر كل أحد على أن يعمل جميع ما يحتاج إليه من الأعمال بنفسه، وإن قدر فلا يحسن به؛ فجوزت لذلك، كما جوز بيع الأعيان.
قال: الإجارة بيع؛ لأنها تمليك من كل المتواجرين لصاحبه، لصاحبه، فإن المستأجر يملك المنفعة في مقابلة الأجرة والآجر يملك الأجرة في مقابلة المنفعة فكان كبيع العين بالعين.
ونظم ذلك قياساً: أنه تمليك معلوم بمال معلوم فكان كبيع العين بالعين. واختصاصه باسم الإجارة لم يخرجه عن أن يكون بيعاً؛ ألا ترى أن الصرف والسلم والصلح بيع، وإن اختص باسم.
إذا تقرر ذلك فما المعقود عليه؟ الذي ذهب إليه الأكثرون: المنفع وتوجه العقد إلى العين لتعيين المنفعة لا لأنه ورد العقد عليها.
وقال أبو إسحاق: إنما يتناول العقد [العين] دن المنفعة ليستوفي من العين- مقصوده من المنفعة؛ لأن المنافع غير موجودة حين العقد فلم يجز أن يتوجه العقد إليها. وخطأه الماوردي، وكلام القاضي الحسين يقتضي ترجيحه، فإنه قال: الأصح أنها عقد على العين لاستيفاء المنفعة منها وهذا حقيقة ما ذهب إليه أبو إسحاق.
وقال الإمام: إن القاضي أشار بذلك إلى أن العاقد يقول: أجرتك هذه الدار، فيضيف لفظه إلى عينها؛ والمقصود استيفاء المنفعة منها، ومن هنا أخذ الرافعي أن هذا الاختلاف ليس خلافاً محققا؛ لأن من قال: المعقود عليه العين [لا] يعني به أن العين تملك بالإجارة كما تملك بالبيع؛ ألا ترى أنه قال: المعقود عليه العين لاستيفاء المنفعة، ومن قال المعقود عليه المنفعة لا يقطع الحق عن العين بالكلية؛ بل له أن يسلم العين وإمساكها مدة العقد لينتفع بها.
وقد حكى في البحر وجهاً في أن حلى الذهب لا يجوز إجارته بالذهب، وحلي الفضة لا يجوز إجارته بالفضة، ولا يظهر له وجه إلا التخريج على مذهب أبي إسحاق، وإذا كان كذلك فقد صار خلافاً محققاً، ونشأ منه الاختلاف في هذا الفرع، ثم على الصحيح هل تحدث المنفعة على ملك المستأجر أو ملك الآجر ثم تنتقل إلى المستأجر؟
المشهور الأول.
وفي الحاوي حكاية خلاف في ذلك حكاه عند الكلام في أن الآجر هل يجوز له أن يستأجر العين المستأجرة من المستأجر؟ وقال: إن الشافعي أشار إلى ذلك في كتاب الرهن، قال: تصح ممن يصح منه البيع؛ أي ولا تصح من غيره؛ لأنه قد ثبت أنها بيع وهذا حكم البيع.
قال: وتصح بلفظ الإجارة؛ لأنه الموضوع لها، ولا فرق في ذلك بين أن يضيف الإجارة إلى العين بأن يقول: أجرتك هذه الدار شهراً من الآن بكذا، كما اتفق الأصحاب عليه أو يضيفها إلى المنفعة بأن يقول: أجرتك منفعة هذه الدار كما صرح به ابن الصباغ، وصاحب المرشد، والقاضي الحسين في ضمن فرع أوله: إذا كان جمل بين رجلين مشتركا.
وعلى هذا: يكون ذكر المنفعة ضرباً من التأكيد كما لو قال: بعتك عين هذه الدار أو رقبتها فإنه يصح وقد صدر في التهذيب [كلامه بهذا الوجه ثم قال: وقيل: لا يصح، وهو ما حكاه القاضي الحسين في أول هذا الكتاب وكذا الإمام ومن تابعه].
ووجههه القاضي: بأن لفظ الإجارة إذا أضيف إلى شيء يقتضي منفعة ذلك الشيء فإذا أضيف إلى المنفعة اقتضى منفعة المنفعة وليس للمنفعة منفعة، وحكم إضافة لفظ الكراء بالمد إلى الدار أو إلى المنفعة حكم إضافة لفظ الإجارة إلى ذلك، وقد صرح بالصحة فيما إذا أضيف إلى المنفعة القاضي أبو الطيب حيث تكلم في الصور المصححة لمقصود المزارعة في كتاب المزارعة.
قال: وبلفظ البيع؛ لأنه قد ثبت أنها بيع والبيع ينعقد بلفظه، وهذا ما حكي عن ابن سريج، والمعتبر عنده: أن نضيف العقد إلى المنفعة فيقول: بعتك منافع هذه الدار شهراً من الآن بكذا فلو أضافه إلى العين فقال: بعتك الدار شهراً بكذا كان بيعاً فاسداً لتأقيته.
وحكى الشيخ في المهذب وغيره وجهاً آخر: أنه لا يصح عقد الإجارة بلفظ البيع، وادعى القاضي الحسين، وصاحب التهذيب: أنه الأصح، والإمام، والغزالي، والرافعي أنه الأظهر؛ لأن البيع مخصوص بالأعيان عرفاً.
ويحكى عن أبي العباس الروياني حكاية طريقة أخرى قاطعة به.
وحكى الإمام اتفاق الأصحاب على أنها تنعقد بلفظ التمليك لعدم اختصاصه بعقد.
وحكى في التهذيب طرد الخلاف في لفظ البيع فيه، وقد تقدم في باب المساقاة حكاية وجه في انعقاد الإجارة بلفظ المساقاة.
قال: وتصح على كل منفعة مباحة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فثبت جوازها على الإرضاع بهذه الآية مع كثرة الغرر فيه؛ لأن اللبن قد يقل ويكثر، وكذلك شرب الرضيع، فجوازها في غيره من طريق الأولى على أنه قد وردت أخبار وآثار في جوازها على غيره، وقد قال الشافعي: لو لم يكن في الإجارة إلا هذه الآية لكانت كافية في الدلالة عليها؛ ولأن المنافع كالأعيان، فإذا جاز عقد البيع على الأعيان جاز عقد الإجارة على المنافع.
واعلم أن الشروط المعتبرة في المنفعة سبعة:
أحدها: أن تكون مباحة، وليس المراد بها ما يعتبره الأصوليون فإن الاستئجار للحج وتفرقة الزكاة وغسل الميت وحمله ودفنه [وتعليم القرآن المفروض منه عيناً: وهو الفاتحة، وكفاية: وهو ما عدا الفاتحة كما صرح به الإمام فيكتاب الصداق] جائز [بالاتفاق إذا لم يتعين ذلك على المستأجر]، وكذا إذا تعين عليه بأن لم يكن ثمة غيره على أصح الوجهين، بل المراد [ألا] تكون محرمة.
الثاني: أن تكون مقدوراً على تسليمها.
الثالث: أن تكون معلومة القدر والصفة إما برؤية العين المؤجرة أو بالوصف إن حصل به الغرض.
الرابع: أن يكون الشروع في استيفائها بالعقد، وهذا ما ذكره الشيخ مصرحاً به.
الخامس: أن تكون متقومة، واحترز به عن المنفعة التافهة؛ كما إذا استأجر تفاحة للشم، فإنه لا يجوز كما لا يجوز بيع حبة من الحنطة وإن كان تفاحاً جاز كما قاله الرافعي فإنه لا يتقاعد عن استئجار الرياحين والمسك للشم، وقد نصوا على جوازه.
السادس: ألا يتضمن العقد عليها استهلاك عين قصداً واحترز به عن استئجار الأشجار لثمارها والشاة للبنها والبركة لحيتانها، ونحو ذلك، وقد استثنى استئجار المرضعة للرضاع كما سنذكره على وجه، وكذا الدار التي فيها بئر فإنه يستوفي ماءها تبعاً لا قصداً، وجعل الرافعي المجوز للاستئجار على الرضاع الضرورة
وألحق به في الحكم استئجار البئر ليستقي ماءها وغيره منع فيها كما سنذكره.
ولو استأجر بركة ليحبس فيها الماء حتى يجتمع فيها السمك جاز.
وفيه وجه: أنه لا يجوز.
السابع: أن تكون واقعة لمن خرج عوضها عن ملكه واحترز به عن مسائل.
منها: استئجار المسلم للجهاد لا يجوز؛ لأن الخطاب به متعلق بالمسلمين على العموم فيكون الأجير فيه قائماً بما خوطب به، ويستحيل أن يقع فعله عن غيره ويجوز للإمام استئجار الذمي عليه على الأصح؛ لأن المنفعة تعود للمسلمين دونه.
ومنها: الاستئجار للأذان، وفي صحته ثلاثة أوجه:
أحدها: وبه قال الشيخ أبو حامد، ويقال: إن ابن المنذر نقله عن الشافعي أنه لا يجوز لا للإمام ولا لغيره.
والثاني: أنه يجوز لهما وهو الأظهر في الرافعي.
وفي النهاية في كتاب الصداق.
والثالث: يجوز للإمام ولا يجوز لغيره.
وإذا قلنا بالجواز تبعت الإقامة.
وما الذي يقابل الأجرة؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: رعاية الوقت.
والثاني: رفع الصوت.
والثالث: [في] الإتيان بالحيلتين.
والرابع: وهو الأصح جميع الأذان بجميع صفاته، وكل هذا مذكور في باب الأذان، وقد ألحق القاضي الحسين في فتاويه الاستئجار لقراءة القرآن الكريم على رأس القبر مدة بالأذان وتعليم القرآن وجزم [فيه] بالصحة.
ومنها: الاستئجار لإمامة الصلوات المفروضة لا يجوز، وكذا في صلاة النفل والتراويح على أصح الوجهين، لأن الإمام يصلي لنفسه ومهما صلى اقتدى به من يريد، وإن لم ينو الإمامة على الأصح خلافاً لوجه حكاه العبادي في الزيادات أن من شرط صحة الاقتداء نية الإمامة، ومن جوز الاستئجار على ذلك ألحقه بالأذان لتأدي الشعار.
ومنها: الاستئجار للتدريس والإقراء من غير أن يعين أشخاصاً للقراءة والاشتغال بالعلم لا يصح دون ما إذا عين أشخاصاً، أو مسائل محصورة، أو سوراً، أو آيات بعينها فإنه يصح.
وعن الشيخ أبي بكر الطوسي تردد جواب في الاستئجار لإعادة الدرس وأبدى الإمام احتمالاً في جواز الاستئجار على التصدر للقراءة.
قال: وفي استئجار الكلب للصيد، والفحل للضراب والدراهم والدنانير- أي للزينة- وجهان: أظهرهما أنه لا يجوز أما في الكلب؛ فلأنه يحرم اقتناؤه إلا للصيد والحراسة وما أبيح للحاجة لا يصح أخذ العوض عنه؛ كالميتة؛ لأنه لا قيمة لعينة فكذلك المنفعة.
وأما في الفحل؛ فلما روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ".
[وروى الشافعي في المختصر أنه صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ].
وروى مسلم عن جابر قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ [بَيْعِ] ضِرَابِ الْفَحْلِ".
وعسب الفحل: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل كما قاله الجوهري وأبو عبيد.
ويؤيده رواية الشافعي.
[وقيل: عسب الفحل: ماؤه، فعلى هذا يكون حديث أبي سعيد اقتضى النهي عن بيع ماء الفحل].
وقيل: عسب الفحل: ضرابه، قاله الجوهري أيضاً، فيكون المضمر البيع وتؤيده رواية جابر؛ ولأن فعل الضراب غير مقدور للمالك؛ لأنه يتعلق باختيار الحيوان.
وأما في الدراهم والدنانير؛ فلأن منفعة التزين من النقدين لا تقصد إلا نادراً، والأغالب سواها، وهو التصرف فيها فصار حكم الأغلب هو المغلب، وإذا كان كذلك فكأن لا منفعة مع أن ما قصده فيه غررو فلا يعان عليه؛ ولأن هذه المنفعة لا تضمن بالغصب فلم يصح عقد الإجارة عليها كوطء الأمة.
والوجه الثاني: الجواز؛ لأن هذه منافع تستباح بالإعارة فاستحقت بالإجارة كغيرها من المنافع، وهذا ما اختاره في مسألة الكلب صاحب المرشد والبحر، وكذلك الإمام في باب بيبع الكلاب، وقال: لا يتجه عندنا تخريج الخلاف فيه على أن المعقود عليه العين أو المنفعة، فإن هذا يبطل بإجارة الجرو.
وقال الجيلي: إنه مبني عليه، وخرجه الماوردي على الخلاف في أن منافع الكلب مملوكة أو مستباحة، واختار ابن أبي هريرة صحة استئجار الفحل للضراب.
قال الرافعي في البيوع: ويجوز أن يعطي صاحب الأنثى صاحب الفحل شيئاً على سبيل الهدية أي على الوجهين:
واختار القاضي الطبري صحة إجارة الدراهم والدنانير كما حكاه عنه في البحر، وحكم إجارة الكلب للحراسة وجلد الميتة [كما حكاه القاضيالحسين حكم إجرة الكلب للصيد وحكم إجارة الأغنام لوجه من وجوه الانتفاع].
كما حكاه مجلي عن الشامل أو الطعام ليعاير به مكيالاً. كما قاله الماوردي، أو لتزيين الحوانيت- كما أبداه الإمام تخريجاً- حكم إجارة النقدين، والذي جزم به القاضي الحسين عدم الصحة في إجارة الطام للزينة، وعلى ذلك جرى في الوسيط وألحق الماوردي وغيره بصور الخلاف إجارة الأشجار للاستظلال بها أو لتجفيف الثياب عليها، أو لربط المواشي أو السفن إذا كانت هذه المنافع غير مقصودة منها في العرف وجزم بالجواز فيما إذا صار ذلك مقصوداً من منافعها، وأطلق البندنيجي القول بجواز إجارتها لنشر الثياب عليها وربط الدواب فيها، وهذا ما حكى الرافعي أن بعضهم صححه وإن جرى الخلاف؛ لأنها منافع مهمة، وأجرى في التهذيب الخلاف في استئجار الببغاء للاستئناس بصوتها، وبالجواز أجاب المتولي فطرده في كل ما يستأنس [بصوته][أو بلونه]
كالطاووس، وكذا أجاب به البندنيجي فيما إذا كان على الحائط صور مباحة فاستأجره للنظر إليها وألحقه باستئجار المصحف، أو الدفاتر، أو الحائط الذي عليه [شيء] مكتوب ليقرأه.
فائدة: كثيراً ما يسأل عن محل الخلاف في استئجار الأشجار للاستظلال، ويقال: إن كان الموضع الذي يستظل فيه مباحاً [أو منفعته مملوكة للمستأجر فالاستظلال حاصل له بغير أجرة فلا يصح الاستئجار له؛ لأن بذل المال يكون سفهاً، ويشهد له أن العمراني في الزوائد حكى عن القاضي أبي الطيب أنه قال: لو استأجر بستاناً لينظر إليه لم يصح لما ذكرناه وإن كان مملوكاً] لصاحب الأشجار فالإجارة واقعة على الجميع فينبغي أن يصح جزماً.
وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن المراد الصورة الأولى، وتكون فائدة الاستئجار الأمن من إزالة ذلك.
الثاني: أن يصور المسألة بما إذا كان ظل الأشجار لا يصل إلى الموضع الذي يراد الاستظلال فيه إلا بإمالتها فيستأجرها ليميلها لأجل الاستظلال.
قال: ولا يصح على منفعة محرمة؛ كالغناء والزمر وحمل الخمر .. أي: لا لأجل الإراقة؛ لأن ذلك محرم فلم يجز أخذ العوض عليه؛ كالميتة، والدم.
ودليل تحريم حمل الخمر: الخبر المشهور، وفي معنى ذلك استئجار المرأة عبداً أجنبياً، والرجل حرة للخدمة وفي استئجار الأمة وجهان في العدة وكذا في استئجار الكافر للمسلم للخدمة إذا وقع العقد على عينه، والابن والده للخدمة [فيه] وجهان، ومن المتفق على منع الاستئجار له؛ لكونه محرماً- بناية البيع، والكنائس للتعبد، وتعليم السحر، والفحش، والتوراة، والإنجيل، وتعليم القرآن
لكافر لا يرجى إسلامه دون ما إذا كان مرجو الإسلام، وكذا كتابة كافر القرآن كما صرح به الماوردي؛ لأنه ممنوع من مس المصحف، وكذا الحائض لكنس المسجد، وقطع عضو سليم من آدمي أو غيره أو سن صحيح أو الختان في وقت الحر الشديد والبرد الشديد، أو في صغير لا يحتمل ألمه كما صرح به القاضي الحسين، وأبدى في الوسيط احتمالاً في جواز استئجار الحائض لكنس المسجد وإن كانت تعصى به كما تصح الصلاة في الأرض المغصوبة.
وحكى في الإبانة قبيل باب الصيد والذبائح: أن مسلماً لو أجر نفسه لذمي ليبني له كنيسة قال الشافعي: كرهته فمنهم من قال هي كراهة تحريم فإذا عمل لا يستحق أجرة.
ومنهم من قال: بل كراهة تنزيه، ويصح العقد ويستحق الأجرة؛ لأن الكنيسة ما هي إلا بناء قلعة يسكنها كما يسكن الدار، أما الاستئجار على حمل الخمر للإراقة فجائز، كالاستئجار على كنس الخلاء وحمل الجيفة إلى المزبلة، وكذا الاستئجار لقطع يد متآكلة إذا قلنا بجواز القطع إذا صعب الألم وقال أهل الخبرة: إنه نافع.
وعن الشيخ أبي محمد: أنه لا يجوز القطع في هذه الحالة أيضاً؛ لأن القطع إنما ينفع إذا وقعت الحديدة على محل صحيح، فعلى هذا يمنع الاستئجار.
وقد قيل بمنع الاستئجار عليه مطلقاً، وهو مطرد في الاستئجار على قلع السن الذي كثر ألمه، وقد صار إلى [تصحيحه] فيهما القاضي الحسين وقال: إنما ينعقد جعالة؛ لأن الوجع يهيج ثم يسكن فلا يتحقق إمكان الوفاء بهذا العمل.
ورأى الإمام تخصيصه بالقلع؛ لأن احتمال فتور الوجع في الزمان الذي يفرض فيه القلع غير بعيد، أما زوال الآكلة في زمان القطع فإنه غير محتمل، وأجرى الخلاف في الاستئجار للفصد والحجامة وبزغ الدابة؛ لأن هذه إيلامات إنما تباح للحاجة وقد تزول الحاجة.
تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأن الغناء حرام وكذلك ابن الصباغ حيث قال في باب بيع البراءة: أن استئجار الجارية للغناء لا يصح فإن حرام، وكلام القاضي أبي الطيب في باب بيع المصراة يقتضي خلافه فإنه قال: وأما قول مالك: إن الغناء حرام فلا نسلم [ذلك] وإنما قال الشافعي: إنه لهو ولعب وسخف وليس من أخلاق الدين.
قلت: وليس ذلك بخلاف في المسألة، بل كلام الشيخ محمول على ما إذا تبعه شيء من آلة الملاهي المحرمة؛ كالمزمار ونحوه وما قاله القاضي محمول على ما إذا لم يصحبه شيء من آلة الملاهي المحرمة وقد صرح بهذا الحكم في الحالتين الماوردي والشاشي في الحلية كل منهما في كتاب السلم.
آخر: الغناء: بكسر الغين والمد ولا تكتب إلا بالألف وفي رفع التمويه أنه يستعمل مقصوراً وأنه مشتق من الغنة: وهي: خروج الصوت من الأنف، وأما الغنى بالمال فمقصور يكتب بالياء.
قال: ويصح الإجارة على منفعة عين معينة كاستئجار الدار للسكنى، والمرأة للرضاع والرجل للحج والبيع والشراء، والدابة للركوب، ويصح على منفعة في الذمة كالاستئجار لتحصيل الحج وتحصيل حمولة إلى مكان كما يصح البيع على معين وموصوف في الذمة.
وقد استدل الأصحاب لصحة الاستئجار على الحج بأنه عمل تدخله النيابة فجاز العقد عليه كتفرقة الزكاة؛ ولأنه عمل معلوم يصح أخذ الرزق عليه فجاز أخذ الأجرة عليه؛ كبناء المساجد.
واعلم أن الإجارة للرضاع مطلقاً تتضمن استقاء اللبن، ووضع الصبي في
الحجر، وتلقيمه الثدي، وعصر الثدي عند الحاجة إليه، لكن هل الأصل فعلها واللبن تابع، أو اللبن هو المقصود والفعل يتبعه؟ فيه وجهان في الرافعي، وأصحهما الأول.
والذي حكاه القاضي أبو الطيب [والمحاملي: أن الأصحاب اختلفوا:
فمنهم من قال: العقد واقع على اللبن، والحضانة والخدمة تابعة.
ومنهم من قال: العقد واقع على الحضانة والخدمة، واللبن تابع له.
وقال المحاملي: وهو الصحيح.
وقال في البحر: إنه المذهب.
ووجه القاضي أبو الطيب] بأن العين لا تملك بالإجارة؛ ولهذا لا يجوز إجارة البئر لاستقاء الماء منها، ويجوز على طريق التبع كما إذا استأجر داراً؛ ليستعمل ماء البئر.
وهذه العبارة تفهم خلاف ما يفهمه لفظ الرافعي، فإن لفظ الخدمة والحضانة لا يصدق عرفاً وشرعاً على وضع الصبي في الحجر وتلقيمه الثدي فقط، بل يصدق ذلك كما صرح به القاضي الحسين وصاحب البحر على حفظ الصبي، وتعهده، وغسل ثيابه ورأسه وخروقه، وتطهيره من النجاسات، وتدهينه، وتكحيله، وإضجاعه في المهد، وربطه، وتحريكه في المهد لينام. وإذا كان كذلك؛ لزم مما ذكره المحاملي وأبو الطيب أن عقد الإجارة على الرضاع يتناول ذلك كله، لكن أصلاً وتبعاً، كما يتناول في تفسير الرافعي اللبن ووضع الرضيع في الحجر.
وقد حكى الماوردي: أنه إذا استأجر للرضاع وأطلق، هل عليها مع الرضاع حضانته وخدمته أم لا؟
فيه وجهان ينبنيان على أن المقصود اللبن أو الخدمة والرضاع، فإن قلنا: إن المقصود اللب،، لم يلزمها الحضانة والخدمة وإن قلنا: اللبن تابع لزمها الحضانة والخدمة، ومقتضى هذا البناء: أن يكون الصحيح اللزوم؛ إذ الصحيح كما ذكرنا أن العقد واقع على الحضانة والخدمة.
وقد حكى الرافعي أن الأصح خلافه، وحكى الخلاف فيما إذا استأجر للحضانة، هل يستتبعها الرضاع؟
والذي جزم به القاضي الحسين عدم استتباع الحضانة للرضاع.
وهذا كله إذا لم يصرح بهما، ولا ينفى أحدهما، فلو صرح بهما؛ بأن استأجر على الحضانة والرضاع، تعين الإتيان بهما؛ لكن المقصود [بالعقد]: اللبن، أو الحضانة والخدمة، أو هما [الجميع مقصود بالعقد].
فيه ثلاثة أوجه حكاها القاضي الحسين، وإن فائدتهما تظهر فيما إذا فقد أحدهما، هل [ينفسخ العقد أو يثبت الخيار؟ ثم قال: والوجهان في أن مطلق الإجارة على الإرضاع هل] يستتبع الحضانة؟ يمكن بناؤهما على هذا الأصل:
إن جعلنا اللبن تابعاً لم يستتبعها، وإلا استتبعها.
ولو صرح بالاستئجار على الرضاع، ونفى الحضانة، فقد حكى الرافعي عن الأكثرين: أن أصح الوجهين الصحة؛ كما لو استأجر للحضانة، ونفى الرضاع، وأن الإمام قال: محل الخلاف فيما إذا ورد العقد على صرف اللبن إلى الصبي، وقطع عنه وضعه في الحجر، أما الحضانة بالتفسر الذي ذكرناه، فلا خلاف في جواز قطعها عن الرضاع.
قلت: وكلام القاضي الحسين مصرح بالخلاف فيها، ثم إن صح ما قاله الإمام، لزم أن يكون الأصح في هذه الحالة البطلان، إن قلنا بأن الأصح عند إطلاق العقد: أن اللبن تابع، كما حكاه من قبل، وقد حكي عن الأكثرين: أن الأصح [الصحة]. ولتعلم أيضاً أن محل جواز الاستئجار على البيع والشراء إذا لم يكن الاستئجار على بيع من معين ولا على شراء شيء معين، وكان مما يلحق المستأجر فيه كلفة؛ كما إذا استأجره على بيع ثوب أو عبد أو نحوهما، أو شراء ذلك، أما لو استأجره على بيع من معين أو شراء شيء معين لم يصح؛ لأنه استئجار على شيء غير مقدور على تحصيله. أو شراء شيء معين لم يصح؛ لأنه استئجار على شيء غير مقدور على تحصيله. حكاه الرافعي في أواخر هذا الباب.
وحكى في البحر: أنه لو استأجره ليشتري له ثوباً بعينه جاز، ولو استأجره على كلمة البيع، أو كلمة تروج بها السلعة ولا تعب منها كالاستئجار على بيع [ما استقرت قيمته في البلد، كالخبز، واللحم ونحوهما لم تصح؛ لأنها منفعة] غير مقصودة غالباً.
قال الرافعي: ولم يجعلوا ذلك من صور الوجهين.
تنبيه: الحمولة، بضم الحاء، هي الأحمال، وبفتحها هي الإبل التي تحمل
[عليها] الأحمال، والفرش صغارها قال الله تعالى:{وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: 142]، ولا يحتاج في العقد على الحمولة إلى معرفة الحمولة إلا أن يكون المحمول زجاجاً ونحوه، أو يكون في الطريق مطر أو طين فيحتاج إلى وصف الحمولة في كل حال.
قال: فإن كان على منفعة عين لم يجز إلا على عين [يمكن استيفاء المنفعة منها .. ؛ لأن المنفعة هنا كالعين في البيع، وصحة البيع تتعين له عيناً مقدوراً عليها فكذا الإجارة، ومن هذه القاعدة يؤخذ منه الاستئجار] في مسائل بعضها مذكور في الكتاب، وبعضها مصرح به في غيره فمنها استئجار منكوحة الغير للرضاع وغيره لا يجوز بغير إذنه؛ لأن أوقاتها مستغرقة لحق الزوج؛ فلا تقدر على توفية ما التزمته ويصح بإذنه، ومنهم من صححه بغير إذنه أيضاً، وهو المختار في المرشد؛ لأن محل الاستئجار غير محل النكاح ولا حق له في كسبها وخدمتها وعلى هذا، فللزوج فسخه كي لا يحيل حقه، نعم لو أجرت نفسها ولاحق لها ثم نكحت في المدة لم يكن له فسخها كما لو وقع ذلك بإذنه، فلو كان جاهلاً بالحال ففي الحاوي في كتاب النفقات: أن له الخيار لفات الاستمتاع عليه بالنهار ولا يسقط خياره برضا المستأجر بالاستمتاع.
وحيث لا يثبت الخيار فللزوج أن يستمتع بها في أوقات فراغها ولو كانت الإجارة للرضاع فهل لولي الطفل منع الزوج من وطئها؟ فيه وجهان:
وجه المنع خشية حبلها فينقطع اللبن، أو يقل فيضر بالطفل.
ووجه الجواز: وهو الذي أجاب به العراقيون- أن الحمل موهوم فلا يمنع به المستحق.
وفي التهذيب: أن الإصابة إن كانت تضر باللبن منع. وإذا منع الزوج فلا نفقة لها عليه.
ولو أجر السيد الأمة المزوجة جاز، ولم يكن للزوج منعها من المستأجر؛ لأن يده يد السيد وحكم استئجار الزوج زوجته للرضاع وخدمة البيت مثل: الكنس، والطبخ، والغسل ونحوها مذكور في كتاب النفقات من هذا الكتاب، وربما بعض ما ذكرناه هنا مذكور فيه أيضاً.
قال: وإن استأجر أرضاً للزراعة لم يجز حتى يكون لها ماء يؤمن انقطاعه، كماء النهر والمد بالبصرة والثلج والمطر في الجبل؛ ليثق بحصول المعقود عليه.
قال: وإن كان بمصر لم يجز حتى يروي الأرض بالزيادة .. أي: إذا لم يكن لها شرب إلا من ماء النيل؛ لأن نيل مصر خوان لا يوثق بحصوله، بخلاف ما يروى من الأراضي بمد البصرة، فإنها يجوز إجارتها للزرع قبل ريها بالمد باتفاق الأصحاب كما حكاه الإمام؛ لأنه أثبت من كل ما عد، وكذا إجارة الجبل للزراعة قبل أوان المطر ووقوع الثلج الذي يكفي الأرض نداوته؛ لأن ذلك معلوم الوقوع والقليل منه يكفي كالكثير.
ثم الظاهر أن ما أطلقه الشيخ في أرض مصر محمول على ما إذا كانت لا تروى بما يزيد من الماء في الغالب، كخمسة عشر ذراعاً فما دونها، أو كانت تروى من ذلك لكنه لا يتهيأ الاشتغال بعمارة الأرض بالزرع قبل حصول الماء عليها، كما صرح به ابن الصباغ والمتولي وأبو الطيب، أما إذا كانت الزراعة ممكنة قبل حدوث الزيادة وكانت الأرض تروى من الزيادة المعتادة التي لا تنقطع إلا نادراً فالعقد صحيح كما صرحوا به أيضاً.
وعن القفال: ما يقتضي المنع في هذه الحالة أيضاً، فإنه صار إلى أن الأرض التي يكفيها المطر المعتاد والنداوة التي تصيبها من الثلج المعتاد في الجبل لا يجوز إجارتها للزراعة قبل حدوث ذلك متمسكاً بظاهر قول الشافعي في المختصر: وإن تكار الأرض التي لا ماء لها وإنما تسقى بنطف من السماء أو بسيل إن [جاء- فلا] يصحز
ووجهه بأن السقي معجوز عنه في الحال والماء المتوقع لا يعرف حصوله، وبتقدير حصوله لا يعرف أنه هل يحصل في الوقت الذي يمكن الزراعة فيه أم لا؟ وهذا غرر ومقتضى هذا التعليل: أن يقول بطرد مذهبه في مسألتنا.
[وقد] وافقه الماوردي فيما صار إليه فإنه شرط أن يكون الماء موجوداً حالة الاستئجار إلا في مد البصرة، والجمهور على الأول، وبه قال القاضي الحسين موجهاً ذلك: بأن توهم الانقطاع عند الحاجة لو منع صحة العقد لامتنع
فيما إذا كان لها شرب من نهر أو عين أو بئر؛ لأنه ما من ماء إلا ويتوهم انقطاعه وأما النص فمحمول على ما إذا لم يكن في ذلك عرف جار وإنما يتفق ذلك نادراً، وقد اتفقوا على المنع في هذه الحالة.
ويؤيد ذلك أن النطف- بإسكان الطاء- القليل الذي يقطر، ومنه سمى المنى نطفة، لأنها تقطر.
وقد أغرب في البحر حيث قال: حكى في أرض البصرة وجهاً: أنه لا تجوز إجارتها إلا على شرط أنه لا ماء لها.
فإن قيل: ظاهر كلام الشيخ يقتضي جواز الإجارة عند ري الأرض بمصر، وإن لم ينحصر الماء عنها، كما هو ظاهر نص الشافعي، وذلك يمنع من الزرع، فينبغي ألا يصح قبل انحساره؛ لعدم إمكان اتصال الشروع في الاستيفاء بالعقد.
قلت: لأجل هذا منع بعض أصحابنا العراقيين فيما إذا كان الاستئجار لزراعة ما لا يمكن زرعه [مع] قيام الماء، كما حكاه الإمام، وحمل النص كما حكاه الشيخ أبو حامد على ما إذا كان المستأجر له زراعة الأرز؛ فإنها تمكن مع الماء.
والصحيح عند القاضي الحسين وبه جزم القاضي أبو الطيب: أنه لا فرق بين الأرز وغيره، والنص جار على عمومه؛ لأن الماء إذا كان على الأرض فهو من مصلحتها؛ لأنه يخرق العروق التي فيها فكان بمنزلة العمارة.
وأيضاً فإن الأرض التي لها شرب يصح إكراؤها للزراعة في غير يوم شربها على انتظاره؛ فينعقد العقد على استحقاق المنفعة، ثم يستوفيها على حسب العادة، فكذلك هاهنا [كذا قاله القاضي الحسين].
فإن قيل: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق بعد حصول الري في جواز الإجارة بين الأرض التي يعلم انحسار الماء عنها وقت الحاجة بأن يكون لها مقطع ينصب إليه الماء أو لا.
والجواز ظاهر في الحالة الأولى دون الثانية؛ فإنه [لا تتحقق] القدرة على الانتفاع عند الحاجة؛ فينبغي أن يمنع في هذه الحالة.
قلت: قد صار إلى هذا بعض المتقدمين، كما حكاه ابن أبي هريرة وجهاً،
إلحاقاً لذلك بحالة العلم بعدم انحساره، وهو موافق مذهب القفال فيما إذا كان الماء معدوماً في الحال وغلب وجوده عند الحاجة، وظاهر النص هاهنا وبه قال أبو إسحاق، وجزم الإمام: الجواز؛ اعتماداً على ما استقر من العرف فيها، ولا يخفى أن محل الجواز عند رؤية الأرض إما قبل الري أو بعده؛ لكون الماء [صافياً، أما إذا لم يرها لكون الماء] كدراً خرج على القولين في بيع الغائب، وكلام القاضي الحسين يقتضي الجواز على الجديد، فإنه قال: الماء وإن كان كدراً فهو من مصلحة الأرض، وامتناع الرؤية بما هو من مصلحة الشيء لا يكون مانعاً من الصحة، كحشو الجبة لما كان مستقراً بما فيه مصلحة لم يمتنع العقد عليه، وهو ما جعله الرافعي الأصح، وإن ثبت الخلاف وضعفه الإمام، وجزم القاضي ابو الطيب والماوردي بخلافه.
واعلم أن الأرض التي لها شرب معلوم إذا أوجرت للزراعة، وصرح بإدخال الشرب فيها، صح ويتبعها الشرب، وإن نفى الشرب عنها صح أيضاص؛ لتيسر سقيها من ماء آخر، وإن أطلق دخل الشرب في الإجارة إذا اطردت العادة بإجارة الأرض بشربها، بخلاف ما إذا باعها لا يدخل [حق] الشرب فيه؛ لأن المنفعة في الإجارة لا تحصل دونه، ولو اضطربت العادة في تبعية الشرب فثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه لا يجعل الشرب تابعاً.
والثاني: يتبع؛ لأن الإجارة مفتقرة إليه.
والثالث: أن العقد يبطل من أصله؛ لأن تعارض المعنيين موجب جهالة المعقود عليه.
فرع: لو استأجر أرضاً مطلقاً نظر، إن قال: أكريتك هذه الأرض البيضاء ولا ماء لها لتنتفع بها كيف شئت خلا البناء والغراس- جاز، كما نص عليه الشافعي – وله أن يزرع فيها بماء يسوقه إلى الأرض، أو بماء يحصل من المطر نادراً أو ثلج و [إن] لم يقل عند الإجارة إنها لا ماء لها، فإن كانت الأرض رخوة؛ بحيث يمكن حفر بئر فيها، أو شق نهر إليها- لم يصح العقد؛ لأن الغالب في مثلها الزراعة؛ فكان كذكرها.
وإن كانت صلبة بحيث لا يمكن ذلك ففي صحة الإجارة وجهان:
أحدهما: وبه قال أبو إسحاق، وهو ظاهر النص الصحة؛ لأن استحالة ذلك ينزل منزلة شرطه.
تنبيه: "المد" بفتح الميم وتشديد الدال، وأصله: السيل.
"والبصرة" بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات حكاهن الأزهري، والمشهور بالفتح.
ويقال لها: البصيرة بضم الباء وفتح الصاد على التصغير.
ويقال لها: تدمر، والمؤتفكة، وقبة الإسلام، وخزانة العز بناها عتبة بن غزوان فيزمن عمر سنة سبع عشرة، وسكنها الناس [سنة] ثمان عشرة، ولم يعرف صنم قط في أرضها، وهي داخلة في حد سواد العراق، وليس لها حكمه؛ لأنها حدثت بعد فتحه ووقفه.
قال: ولا يجوز إلا على [منفعة] عين معروفة لاختلاف المنفعة باختلافها، فلو قال: أجرتك عبدي أو داري أو دابة لتركبها إلى موضع كذا لم يصح؛ لما ذكرناه ثم العرف تارة يكون بالرؤية مثل أن يقول: أجرتك هذا شهراً أو لتحمل عليه كذا من هنا إلى موضع كذا ونحو ذلك، ولا يحتاج مع ذلك إلى ذكر شيء آخر وتارة يكون بالوصف فيحتاج أن يذكر ما يختلف الغرض به كما ذكرنا في السلم، وفي هذه الحالة يكون المعقود عليه منفعة في الذمة متصفة بالصفات المذكورة إذا وقع معها العقد على العين لكان إجارة غائب وسنذكره.
قال: فإن لم يعرف إلا بالرؤية كالعقار لم يجز حتى يرى لتعيينه طريقاً لنفي الغرور، وعلى هذا يحتاج إلى تحديده بالجهات كما يفعل في البيع صرح به أبو الطيب ويحتاج أن ينظر من العين كل ما يختلف الغرض به، والحمام ينظر إلى بيوتها، والبئر التي يستقى [منها] ماؤها وموضع الوقود ومبسط القماش يسخن فيه الماء.
قال في الشامل: ويكفي فيها مشاهدة داخلها من الحمام أو ظاهرها من الأتون.
قال الرافعي: والقياس أن يعتبر مشاهدة الوجهين عند الإمكان كما يعتبر مشاهدة وجهي الثوب، وهذا كله تفري على منع بيع الغائب.
أما إذا قلنا بجوازه جاز هنا أيضاً، ووجه كون العقار لا يمكن معرفته إلا بالرؤية: أن المعرفة بالوصف كما ذكرنا منتفية؛ إذ لا يتصور ثبوت عقار في الذمة؛ لأن موضعه مقصود يختلف الغرض به، فلو ذكر لانحصر المعقود عليه فيه، وذلك مخالف وضع ما في الذمة، وإذا لم يمكن التعريف بالوصف تعين له الرؤية إذ لا ثالث لهما، وقد ألحق البندنيجي بالعقار ما لم يكن حيواناً كالثياب، والخشب، والأواني، والفرش.
قال: ولا يجوز إلا على منفعة معلومة القدر .. كما لا يصح البيع إلا على معلوم القدر، لكن العلم في البيع يكتفي فيه بالحدس، ولا يحتاج إلى ذكر شيء يتقدر به المبيع، وهنا الحدس والتخمين لا سبيل إليه فتعين ما سنذكره.
قال: فإن كان مما لا يتقدر إلا بالعمل أي: وإن ورد العقد فيه على الذمة كالحج والركوب [من مكان] إلى مكان قدر به لتعينه طريقاً للمعرفة، فلو قال: استأجرت منك هذا البعير لأركبه مسافة شهر إلى مكة لم يجز؛ لأن ما يقدر العمل فيه لم يجز اشتراط المدة فيه.
وقال بعض أصحابنا: يجوز لما فيه من زيادة التأكيد.
وقال أبو الفياض: إن كان [العمل] ممكناً في مدة الإجارة جاز وإلا فلا يجوز.
قال في البحر: والأول أصح.
قال البندنيجي: ومما لا يتقدر إلا بالعمل دون المدة- المنفعة الموصوفة في الذمة.
وفي الحاوي: أن المضمون في الذمة يجوز تقدير الركوب [فيه] بالمدة والمسافة كالمعين ولو استأجر للركوب شهراً صح لكن بشرطين:
أحدهما: أن يذكر الناحية التي يركب إليهاز
والثاني: المكان الذي يسلمها فيه؛ لأنه قد يركبها شهراً مسافراً إلى بلد مسافته شهراً ويكون تسلمه [في ذلك البلد وقد يركبها ذاهباً وعائداً مدة شهر فيكون تسليمها] في بلده، وإذا كان ذلك مختلفاً مع إطلاق الشهر لم يكن بد من
موضع التسليم فإذا أغفل شيئاً من ذلك بطل العقد قاله الماوردي.
قال: وإن كان مما لا يتقدر إلا بالزمان كالسكنى والرضاع والتطيين قدر به [لتعينه] طريقاً للمعرفة فإن الرضاع يعسر ضبطه بالفعل وكذا تطيين السطوح وتجصيص الحيطان؛ لأنه يكون في موضع دقيق، وفي موضع كثيف ويلتحق بهذا القسم رعي الدواب، وكذا إدارة الدولاب كما ذكره الماوردي؛ لأنه لو قدر بالعمل كسقي عشرة أجربة مثلاً فقد يروى بقليل الماء وقد لا يروى بكثيره [وقد لا يروى بعشرة] فلا يصير بتقدير العمل معلوماً.
قال: وإن كان مما يتقدر بأحدهما كالخياطة والبناء قدر بأحدهما أي: مثل أن يقول: استأجرتك [لتخيط لي هذا الثوب أو] لتخيط لي يوماً أو: استأجرتك لتبني [لي] في هذا الحائط أو لتبني لي يوماً ويعين ابتداءه في الصورتين وتوجيه ذلك: أن به يحصل الضبط.
فلو قدر بهما بأن قال: استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب في يوم أوله الآن لم يصح؛ لأنه إن فرع منه في بعض اليوم فطالبه بالعمل في بقيته أخل بشرط العمل فإن ترك أخل بشرط المدة، وقيل: يصح، ولكن ما الذي يستحق به الأجرة؟
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: العمل فإن تم في بعض المدة لم يعمل في باقيها وإن انقضت قبل تمامه وجب إكماله.
والثاني: وهو ما حكاه في التهذيب وصححه الرافعي: أسرعهما انقضاء.
والثالث: عن القفال إن انقضى اليوم أولاً لم يلزمه خياطة الباقي، وإن تم العمل أولاً فللمستأجر أن يأتي بمثل هذا القميص ليخيط فيه بقية اليوم.
ولو قال في هذه الإجارة: على إنك إن فرغت قبل تمام اليوم لم تخط غيره بطل؛ لأن زمان العمل يصير مجهولاً، وفي البحر حكاية عن البويطي: أن الأجل المضروب مع العمل إن كان مما يمكن العمل فيه كان ذكره أفضل.
وقال: إنه صحيح عندي، وهذا وجه رابع، ويلتحق بهذا القسم صور:
منها الاستئجار على حراثة الأرض: لجواز التقدير فيه بالزمان بأن يقول: استأجرتك لتحرث لي هذه الأرض كذا يوماً من الآن.
ويجوز بالعمل بأن يقول: لحراثة هذه [الأرض] ويجب بيان ما يحرث به وبيان ناحية الأرض التي يحرثها إن لم تكن مشاهدة.
ومنها: الاستئجار لدراس الزرع من البر والشعير وغيرهما تقدر المنفعة فيه بالفعل بأن يقول: استأجرتك على دراس هذا بعد رؤيته، وبالزمان بأن يقول: استأجرتك على دراس هذا الزرع شهراً من الآن ويحتاج في هذه الحالة إلى بيان ما يداس به من البهائم مع ذكر العدد ولا يجوز التقدير بالباقات والحزم؛ لاختلاف ذلك بالصغر والكبر.
ومنها: الاستئجار على تعليم القرآن يجوز أن تقدر المنفعة فيه بالعمل بأن يقول: استأجرتك على تعليم سورة كذا أو آيات معينة.
وأن [يقدر بالمدة بأن] يقول: استأجرتك على تعليم القرآن شهراً أو يوماً كما حكاه الإمام والغزالي.
قال الرافعي: وفي إيراد غيرهما ما يفهم عدم الاكتفاء بذكر المدة.
فرع: قال القاضي أبو الطيب إذا استأجره ليحصل له خياطة خمسة أيام لم تصح؛ لأن العمل يختلف بخفة صنعة العامل وثقلها، ومثل هذا إذا استأجر منه بهيمة في الذمة ليركبها خمسة أيام لم يجز للعلة التي ذكرناها.
وفي ابن يونس: أنه يصح استئجار دابة موصوفة في الذمة.
فرع: لو قال: استأجرتك هذا اليوم بعينه لتبيع لي كذا وكذا شيئاً بعينه.
قال ابن القطان في "التهذيب": يحتمل أن يجوز؛ لأن الأغلب إمكانه فإن تعذر البيع فيه كان له الأجرة المسماة؛ لأنه شغله عن منافع نفسه، ويحتمل أن يقال: لا أجرة له؛ لأن العمل لم يحصل.
وقال القاضي الطبري: هذا يصح- على ما نص عليه في البويطي- أن العمل إن كان معلوماً جاز تقديره بمدة، وكان أفضل من السكوت قاله في البحر.
قال: ويجوز أن يعقد إلى مدة تبقى فيها العين في أصح القولي ولا يجوز
أكثر من سنة في الآخر وقيل: فيه قول ثالث: إلى ثلاثين سنة، قد بينا توجيه ذلك في باب المساقاة.
وحكى الرافعي عن بعضهم: أنه جوز الإجارة إلى مدة لا تبقى فيها العين في الغالب اعتماداً على أن الأصل الدوام والاستمرار، وهو ما جعله في البسيط الأظهر، وجعل المتفق على المنع فيه إجارة مدة يعلم أن العين لا تبقى إليها.
ثم إذا وقع العقد على مثل ذلك، قال في البحر: بطل فيما لا يسوغ العقد عليه، وفي الباقي قول تفريق الصفقة، واعلم أنه يتفرع على القول الصحيح فرعان:
أحدهما: أن المرجع في المدة التي تبقى فيها العين إلى أهل الخبرة.
وفي التهذيب: أن العبد يؤجر ثلاثين سنة والدابة عشر سنين، والثوب [سنة وسنتين] والأرض مائة سنة وأكثر.
وحكى الرافعي أن في كتاب ابن كج: أن العبد يؤجر إلى مائة وعشرين سنة من عمره.
وفي رفع التمويه: أن الشيخ أبا حامد قال: [إن] العبد يؤجر ستين سنة والدابة من خمش عشرة سنة إلى عشرين [سنة]، والدار من مائة [سنة] إلى مائة وخمسين [سنة]، والأرض خمسمائة سنة، وأكثر ما يصح أن يبعي بثمن مؤجل إلى هذا القدر.
وفي الحاوي أن أكثر مدة يصح استئجار الأرض فيها للزراعة ما لا يزيد على بقاء الشيء المؤجر فيها.
وأقل مدة يصح استئجار الأرض [فيها] للزراعة: مدة الزراعة.
وأقل مدة يصح استئجار الدار للسلكنى فيها يوم واحد وأقل من ذلك تافه لم يجر به عرف فلم يصح به عقد.
الثاني: إذا أجر سنتين مثلاً هل يجب بيان كل قسط كل سنة من الأجرة؟
فيه قولان:
أحدهما: لا كما لا يحاج إلى ذلك في الشهور إذا أجر سنة واحدة، وكما لو كانت الأجرة في مقابلة عمل في أعيان فإنه لا يجب فيها التقسيط وفاقاً في المذهب كما قاله مجلي وهذا ما صححه الروياني وقال: إن الفتوى عليه.
وحكى الرافعي عن ابن كج طريقة قاطعة به.
والثاني: نعم، وهو ما نص عليه في كتاب المزارعة كما حكاه المحاملي واختاره تبعاً للشيخ أبي حامد، ووجهه: تردد ذلك بين السلامة والعطب، وأجور السنين تختلف غالباً فيتعذر معرفة القسط بخلاف الشهور، فإنها [تتماثل غالباً]، وقد بنى الماوردي القولين على القولين فيما إذا أسلم في جنس إلى أجلين ففي قول يجوز أخذاً بظاهر السلامة.
وفي قول لا لما عساه يقع [من الجهالة] في الأجرة.
وقال في البسيط: إنه مبني على أن الأجرة جزافاً هل تجوز أم لا؟
قال: وإن قال: أجرتك كل شهر بدرهم بطل؛ لأنه عقد على الشهور وهي غير معلومة.
وقيل: يصح في الشهر الأول؛ لأنه معلوم وأجرته معلومة فوجب أن يصح كما لو أفرده، وهذا ما نص عليه في الإملاء وبه قال الإصطخري وكذا ابن سريج [على ما حكاه القاضي الحسين والإمام الغزالي، وأنكر الرافعي أن يكون ابن سريج] قال به في هذه الحالة، وإنما قال به فيما إذا قال: أجرتك كل شهر من هذه السنة بدرهم.
والمذهب الأول في الصورتين؛ لأن المعلوم إذا أضيف للمجهول صار الجميع مجهولاً، ويخالف ما إذا قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم فإنه يصح؛ لأن جملة الصبرة معلومة بالمشاهدة، والأشهر هنا غير معلومة الجملة، فنظير المسألة أن يقول: أجرتك هذه السنة كل شهر بدرهم، وهذا فيما إذا كان الاستئجار على غير الأذان، أما لو كان على الأذان فإن وقع من مال بيت المال جاز أن يقول: أستأجرتك لتؤذن في هذا المسجد في أوقات الصلاة كل شهر بكذا أو إن وقع لا بمال بيت المال ففي اشتراط [بيان] المدة وجهان:
قال: ولا يجوز إلا على منفعة معلومة الصفة كما لا يجوز البيع إلا في معوض معلوم الصفة لاختلاف الأغراض بها،.
قال: فإن كان معلوماً بالعرف كالسكنى واللبس حمل العقد عليه، أي: على العرف؛ للاستغناء به عن الذكر كما استغني به في البيع بالثمن المطلق في موضع فيه نقد متعارف [عن ذكره] ثم كلام الشيخ يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يستأجر الدار للسكنى والثوب للبس ولا يبين السكنى ولا اللبس، [والثاني: أن يستأجر داراً وثوباً، ويطلق فيحمل الإطلاق على السكنى واللبس] لاقتضاء العرف أن الدور لا تستأجر إلا للسكنى والثياب إلا للبس، وكلاهما مصرح به في المهذب.
وفي الرافعي- حكاية عن بعض شارحي المفتاح: أنه لا يكفي الإطلاق في تعيين السكنى بل لا بد [من] أني ذكر السكن.
وحكى في موضع آخر عن شارحي المفتاح: أنه لا بد من ذكر عدد السكان من الرجال والنساء والصبيان. ثم لا يمتنع من دخول زائر وضيف وإن بات فيها ليالي.
فرع: الاستئجار للخدمة، [شهراً] مثلاً، هل يكفي فيه الإطلاق أم لابد من تفصيل أنواعها؟
الذي حكاه في البحر والرافعي [عن الشافعي: الثاني.
وقيل: إن الإطلاق يكفي وهو الظاهر في الرافعي]، والمذكور في الشامل في كتاب الكتابة ويلزم الأخير ما جرت به العادة من غسل الثوب والخياطة، والخبز، وتعليف الدواب، وحمل الماء للشرب، والطهارة، وخدمة الزوجة، وحلب المواشي، وأضاف بعضهم إلى ذلك العجن وإيقاد النار في التنور وفرش الدار.
وقيل: علف الدواب، وحلبها وخدمة الزوجة لا يدخل إلا بالشرط.
قال في البحر: وهو اختيار شيوخ نيسابور، ونسب الرافعي ذلك إلى سهل الصعلوكي.
وقال: ينبغي أن يكون الحكم كذلك في خياطة الثوب، وحمل الماء إلى الدار [ويجوز] أن يختلف الحكم فيه بالعادة، وعلى كل حال فليس للمستأجر إخراج الأجير عن تلك البلدة إلا أن يشترط له مسافة معلومة من كل جانب من فرسخ إلى خمسة عشر كذا قال القاضي الحسين.
وقال: إن عليه المكث عنده من أول النهار إلى العشاء وقد نسب الرافعي ذلك إلى بعض من شرح المفتاح.
قال: وإن لم يكن معلوماً بالعرف؛ أي كالاستئجار على حمل مائة رطل مثلاً من موضع كذا إلى موضع كذا، والاستئجار على بناء حائط طوله كذا وسمكه كذا وارتفاعه كذا.
قال: وصفة كحمل الحديد، والقطن، والبناء بالجص والآجر، والطين، واللبن؛ ليعرف فإن الأغراض تختلف بذلك.
وفي تعليق القاضي الحسين: الجزم بأنه إذا قال: أكريت منك هذه الدابة لأحمل عليها مائة منا جاز، وكأن المكرى رضي بأعظم الأمتعة ضرراً بالدابة، وهو ما حكاه الإمام وادعى إجماع الأصحاب عليه وعزاه في "الرقم" إلى حذاق المراوزة.
وحكى في التهذيب فيما إذا قال: أكريتك هذه الدابة لتحمل عليها مائة من مما تشاء وجهين، وكذلك هما في البحر وصحح الروياني وفي الرافعي وجه الجواز، ثم قال: وهذا في التقدير بالوزن، أما إذا قدر بالكيل، فالمفهوم ما أورده السرخسي: أنه لا يغني عن ذكر الجنس، ولو وقع العقد على حمل شيء قد شوهد صح. وإن لم يعلم كيله ووزنه كما لو شاهد الصبرة المبيعة.
وفي الحاوي حكاية قول آخر: إن الإجارة لا تصح حتى تكون الحمولة معلومة القدر، وأنه مخرج من أن دفع الدراهم جزافاً في السلم هل يجوز أم لا؟ لأن عقد الإجارة والسلم جميعاً غير منبرم بخلاف البيع.
واعلم أن من هذا النوع صوراً لا غنى عن ذكرها:
منها: الاستئجار للحج والعمرة لا يكفي إطلاقه بل لابد من بيان أنه إفراد، أو تمتع أو قران، ولا يحتاج في الاستئجار للحج وحده إلى بيان أفعاله إن كانا
[يعلمانها وإن] لم يعلمها أحدهما وجب البيان، وهل يحتاج إلى تعيين الميقات الذي يحرم منه؟ فيه طريقان:
أظهرهما وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق: إن المسألة على قولين:
أحدهما: وهو ظاهر نصه في المختصر: أنه يشترط لاختلاف المواقيت قرباً وبعداً.
والثاني [لا]: وهو ظاهر نصه في الإملاء وغيره، ويتعين ميقات تلك البلدة على العادة الغالبة، وبه أجاب المحاملي في المقنع، وذكر ابن عبدان أنه الصحيح.
والطريق الثاني: تنزيل النصين على حالين، والقائلون به اختلفوا فمنهم من حمل النص الأول على ما إذا كان للبلد طريقان مختلفا الميقات أو كانت تفضي طريق إلى ميقاتين؛ كالعقيق، وذات عرق، وحمل الثاني على ما إذا كان لها طريق واحد إلى ميقات واحد ومنهم من حمل الأول على مع إذا كان المستأجر حياً والثاني على ما إذا كان الاستئجار لميت، والفرق: أن الحي له غرض واختيار والميت لا اختيار له، والقصد براءة ذمته، وتحكى هذه الطريقة عن ابن خيران ثم إذا اشترطنا تعيين الميقات فأهمل فسدت الإجارة ووقع الحج عن المستأجر لوجود الإذن وللأجير أجرة المثل.
ومنها: الاستئجار لتعليم القرآن إذا لم يقيد بمدة فيحتاج فيه إلى بيان السور والآيات؛ لتفاوتها في الحفظ والتعليم سهولة وصعوبة.
وفيه وجه: أنه لا يجب تعيين السور، وإ ذا عين عشر آيات كفى.
وفي المهذب: وجه أنه لا بد من تعيين السورة لكن يكفي إطلاق العشر منها.
فحصل في اشتراط تعيين الآيات ثلاثة أوجه.
الثالث: الفرق بين أن يعين السورة فيتسامح بإطلاق الآيات بها أو لا يعين فيمتنع، وفي اشتراط تعيين الرواية التي يقرأ بها وجهان:
أصحهما: أنه لا يشترط؛ لأن الأمر فيها قريب.
وفي الحلية: الأظهر مقابله.
قال الإمام: وكنت أود ألا يصح الاستئجار لتعليم [القرآن] حتى يختبر حفظ الصبي؛ كما لا يصح إجارة الدابة حتى يعرف حال الراكب، لكن ظاهر كلام الأصحاب: أنه لا يشترط.
ومنها: استئجار الأرض إذا كانت تصلح لمنافع كإيواء الدواب فيها، وخزن الأمتعة، والزراعة، والبناء، والغرس فلا بد فيها من بيان أحد الأنواع أو كلها؛ ذلك مختلفة اختلافاً تختلف الأغراض به.
قال الرافعي: وقد نقلنا في مسألة الأرض التي لا ماء لها تصريح الأصحاب بجواز الإجارة مطلقاً فيشبه أن تكون إجارتها مطلقاً على وجهين كإعارتها، والظاهر المنع فيهما.
ويقوم مقام تعيين الأنواع كلها قوله: أجرتك لتنتفع كيف شئت، كما صرح به الإمام، ويكون له أن يصنع ما شاء لرضاه.
وفي التهذيب وجه: أنه لا يصح كما لو قال: بعتك من هؤلاء العبيد من شئت، وإذا عين الزراعة، ولم يذكر ما يزرع أو البناء، ولم يذكر ما يبني وأطلق؛ [ففيه وجهان] كالوجهين المذكورين فيما إذا أعار الأرض للزراعة ولم يبين المزروع، وأظهرهما عند الأكثرين كما حكاه الماوردي، وأبو الطيب هنا، وبه أجاب العراقيون في مسألة العارية-: الصحة وله أن يزرع ما يشاء.
قال الرافعي، ويجوز أن ينزل على أقل الدرجات، ونقل ابن كج وجه المنع عن النص في الجامع الكبير، وبه قال ابن سريج، وحكى الأول عن تخريج ابن القطان حكاية الشيء الغريب.
ولو قال: أجرتك لتزرع ما شئت صحت الإجارة وزرع ما شاء، نص عليه. وعن رواية ابن القطان وجه أنها فاسدة.
ولو قال: أجرتك لتزرع أو تغرس لم يصح.
ولو قال: إن شئت فازرع، وإن شئت فاغرس، فأصح الوجهين عند الغزالي، وبه جزم الماوردي الصحة ويتخير المستأجر ولو قال: أكريتكها فازرعها
واغرسها أو لتزرعها وتغرسها ولم يبين القدر فوجهان:
أحدهما: وبه قال أبو الطيب بن سلمة، وابن أبي هريرة وهو ظاهر كلام الشافعي كما قاله في المهذب وغيره- أنه يصح وينزل على النصف، وله أن يزرع الكل لجواز العدول من الغرس إلى الزرع، ولا يجوز العكس، وأقربهما: أنه لا يصح، وهو ظاهر نصه في الأم كما قاله في البحر، وبه قال: المزني، وابن سريج، وأبو إسحاق لأنه لم يبين كم يزرع وكم يغرس، بل لو قال: ازرع النصف واغرس النصف، فعن القفال كما حكاه في التهذيب وغيره: أنه لا يصح لأنه لم يبين المغروس والمزروع فصار؛ كما لو قال: بعتك أحد هذين بألف والآخر بخمسمائة.
وإذا عين في الإجارة البناء وجب بيان موضعه، وطوله، وعرضه، وفي بيان قدر ارتفاعه وقدره وجهان:
أظهرهما: أنه لا حاجة إليه بخلاف ما لو استاجر سقفاً للبناء [عليه] فإنه يجب بيان الارتفاع والقدر جزماً لاختلاف الغرض.
قال: [وإن كان مما لا] يعرف بالوصف لكثرة التفاوت، كالمحمل ولاراكب والصبي في الرضاع لم يجز حتى يرى .. لتعين الرؤية طريقاً للعلم في ذلك؛ لأن العرف يختلف بسعة المحمل وضيقه، وبثقل الراكب وخفته بالضخامة والنحافة وكثرة الحركات والسكنات، وبزهادة الولد ورغبته، وصحته وسقمه والوصف لا يفي بذلك، ولا يحتاج مع الرؤية إلى شيء آخر، وقياس ما ذكرته عن الماوردي في القول المخرج في مسالة الحمولة أن العلم بالقدر معتبر أن يجيء مثله في مسألة المحمل، ووراء ما ذكره [الشيخ] في المسألة الأولى وجهان:
أحدهما: عن أبي إسحاق كما حكاه الجمهور: أن المحمل إن كان بغدادياً خفيفاً كفى فيه الوصف؛ لتفاوت محاملها، وإن كان خراسانياً ثقيلاً فلا بد من مشاهدته، وقد اختار هذا القفال كما حكاه في البحر.
وحكى القاضي الحسين عن أبي إسحاق أنه إن كان في البلد محامل خفاف، وهي معروفة الصنعة؛ كالبغدادية، صح الإطلاق فيه ولا تجب الرؤية والوصف؛ لأنها لا تتفاوت.
والثاني: وبه قال ابن أبي هريرة، وهو الأشبه عند الرافعي والمذكور في الوسيط: إنه يكفي فيه الوصف وذكر الوزن؛ لإفادتهما التخمين، كالمشاهدة، فعلى هذا لو ذكر الوزن [دون الصفة أو الصفة دون الوزن] فوجهان:
أظهرهما: عدم الاكتفاء؛ لبقاء الجهل مع سهولة إزالته، والذي رجحه الماوردي من الخلاف في الأصل ما حكاه الشيخ وبه جزم أبو الطيب، وفي المسألة الثانية وجه: أن الوصف يكفي عند الببة، والوصف يكون بذكر الوزن كما حكاه في التهذيب، ونسبه في البحر إلى القفال وحكاه الإمام مع وجه آخر: أنه لا يشترط وزنه ويكفي ذكر صفته من الضخامة والنحافة، وهو ما ذكره الغزالي وفي المسألة الثالثة: وجه اقتصر الماوردي على ذكره: أنه لا بد مع الرؤية من معرفة سن الرضيع مشاهدة أو خبراً؛ لاختلاف شربه باختلاف سنه، ويحتاج مع ذلك كله إلى بيان موضع الرضاع من بيت المرضعة، أو بيت الرضيع، لاختلاف الأجرة بذلك صرح به الشيخ في المهذب وغيره، وكلام الماوردي دال على عدم اعتباره حيث قال: وليس على المرضعة أن تأتي إلى الطفل [فترضعه بل على ولي الطفل] إذا أراد إرضاعه أن يحمله إليها ليرتضع، فلو كان التعيين شرطاً لاستغنى عن هذا الكلام والروياني لما رأى ذلك في الحاوي نقله بعد حكايته أن التعيين شرط فكان كلامه ملبساً.
تنبيه: المحمل بفتح الميم الأولى وكسر الثانية كالمجلس كذا ضبطه الجوهري.
وقال غيره: بكسر الأولى وفتح الثانية وهو مركب يركب عليه على البعير.
واعلم أن ما ذكرناه في المحمل مفروض فيما إذا كانت المحامل تتفاوت تفاوتاً متفاحشاً، أما إذا كانت على قدر وتقطيع لا يتفاحش فيه التفاوت كفى الإطلاق، وحمل على معهودهم كذا قاله [الرافعي] وكلام القاضي الحسين يدل على خلافه فإنه قال بعد حكاية ما نقله عن أبي إسحاق كما حكيته من قبل: والنص أنه لا بد من الرؤية والوصف مع الوزن وهو المذهب؛ لأنها وإن خفت ولم يتفاحش التفاوت؛ فلا بد من نوع يتفاوت لا محالة وحكم العمارية فيما ذكرناه حكم المحمل.
ومحل الخلاف في الاكتفاء بالوصف فيما ذكرناه إذا لم يحصل به علم، أما إذا حصل كما إذا استقصى الأوصاف ففي البحر: أنه يقوم مقام المعاينة؛ لأن القصد من [الرؤية أن يصير معلوماً] وقد حصل العلم.
وأما السروج والإكاف والزاملة فلا شك في أن الرؤية فيها كافية.
وفي التهذيب: أن الزاملة تمتحن باليد ليعرف خفتها وثقلها بخلاف الراكب لا يمتحن مع المشاهدة.
قال الرافعي: وينبغي أن يكون المحمل والعمارية في ذلك كالزاملة كما قال القاضي الحسين: الثياب التي تجمع ويشد بعضها إلى بعض على الدابة ليركب فوقها من غير محمل، وأضاف في البحر إلى [ذلك في تفسيرها: أن يكون مع المتاع الزاد والماء، وعند الغيبة يكفي فيي] ذلك الوصف، ويحتاج معه إلى الوزن على المشهور.
وفي النهاية: أن أحداً من الأصحاب لم يتعرض لاشتراط الوزن في السرج والإكاف [لأنه لا يكثر فيها التفاوت، وفي الوسيط: أنه لا يحتاج إلى وصف السرج والإكاف لتساويهما]، وكل ذلك إذا وقع التعرض لذلك في الإجارة، وكان ذلك من مال الراكب.
أما لو استأجر للركوب من غير أن يشترط ما يركب عليه كان على المؤجر أن يركبه على ما جرت به العادة مما يليق بالدابة من سرج، أو إكاف، أو زاملة، ولا يشترط وصفه، وكذا إذا عين الراكب نوعاً يركب عليه ويكون من مال الآجر لا يحتاج إلى وصفه كما صرح [به] الماوردي.
فرعان:
أحدهما: ما يفرش في المحمل ليجلس عليه، لا بد من معرفته ويكفي فيها الوصف، ومن أصحابنا من قال: يحتاج إلى مشاهدته حكاه في البحر، والغطاء الذي يستظل به ويتوقى به المطر قد يكون وقد لا يكون فيحتاج إلى شرطه، وإذا شرط فجواب الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ: أنه يكفي الإطلاق؛ لأن التفاوت فيه قريب ويغطيه بجلد أو كساء أو لبد.
قال في البحر: وليس ذلك بشيء.
وفي الحاوي، وشرح ابن كج، والتتمة: أنه يتعين رؤيته أو وصفه كالوطء، وهو ظاهر النص، والذي صححه الروياني واعتبر الماوردي مع ذلك ذكر ارتفاعه وانخفاضه؛ لاختلاف ذلك على البعير والراكب، ولو كان في ذلك عرف مطرد لكفى الإطلاق كما سبق ذلك في المحمل وغيره.
وظرف المحمل: كالغطاء.
الثاني: التعاليق إذا شرطت كالقدر والسطيحة والقربة والسفرة ونحوها هل يحتاج إلى معرفتها بالرؤية أو الوصف مع الوزن أم لا؟ فيه طريقان:
أحدهما: وهو ظاهر النص: أنه يحتاج إليه؛ لاختلاف الناس فيهاز
والثاني: وهو الأظهر: أن في المسألة قولين:
أصحهما: الاحتياج، والثاني: لا، وينزل على العادة وهذا ما قاله الغزالي في كتاب المسابقة أنه الأصح [وسلك الماوردي طريقاً آخر فقال: إن كانت معاليق الناس بتلك البلدة مختلفة فلا بد من معرفتها، وإن كانت متقاربة فقولان، أما إذا لم يشرط التعاليق فلا يستحق حملها؛ لأن الناس فيها مختلفون وقد لا يكون للراكب تعاليق.
وفيه وجه: أنها لو شرطت] ومحل الخلاف في اعتبار الوصف إذا لم يكن فيها شيء من الزاد والماء، أما إذا كان فيها شيء فلا بد من ضبطه كما سنذكره.
قال: وما عقد على مدة لا يجوز فيه شرط الخيار؛ لأنه عقد لازم على منفعة فلم يصح اشتراط الخيار فيه، كالنكاح؛ ولأن اشتراط الثلاث يتضمن إتلاف بعض المعقود عليه مع بقاء العقد في جميعه فلم يصح، كما لو شرط في ابتياع العبدين أنه إذا تلف أحدهما في يد البائع لم يبطل البيع.
قال: وفي خيار المجلس وجهان:
وجه المنع: أنه يفوت بعض المدة فأشبه خيار الشرط، ولأن الإجارة عقد غرر؛ لكونها عقداً على معدوم والخيار غرر فلا يضم غرر إلى غرر، وهذا ما صار إليه أبو إسحاق، وابن خيران، وصححه الإمام والبغوي، وصاحب المرشد، والأكثرون.
ووجه الجواز القياس على البيع؛ لكونها عقد معاوضة، وهذا ما صار إليه الإصطخري وصاحب التلخيص.
وقال الرافعي: إن صاحب المهذب وشيخه الكرخي رجحاه.
والفرق بينه وبين خيار الشرط: أن المجلس في غالب الأمر لا يمتد والفائت من المنفعة قدر يسير [لا يبالى به] وإن طال فعلى ندور النادر لا يغير وضع الشيء، وقد حكى [الإمام] أن الإمام وبعض أصحاب القفال ذكروا الخلاف في ثبوت خيار الشرط أيضاً، وبه ينتظم في المسألة ثلاثة أوجه:
أحدها: يثبتان وهو ما حكاه القاضي الحسين في هذا الباب عن ابن خيران.
والثاني: لا يثبتان.
والثالث: يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط، ويتفرع على القول بثبوت الخيار فرعان:
أحدهما: ابتداء مدة الإجارة [هل تكون] من حين العقد أو من حين اللزوم؟ فيه خلاف حكاه الإمام ورجح الأول فإن المدة لو حسبت من وقت اللزوم لتأخرت المنفعة عن العقد فشابه إجارة الزمن المستقبل، وقال: إن للقائل بمقابله أن يقول: إنما يمتنع تأخير حكم الإجارة عن العقد إذا لزم، فعلى هذا تتعطل المنافع على المكرى، وليس له الانتفاع بالعين في المدة ولا إيجارها.
ولو قال به قائل كان مقارناً بخرق الإجماع، والقياس يقتضي جواز إجارة الدار المكراة في مدة الإجارة على هذا، وأراه بعيداً كذا قاله الإمام، وعلى الأول: إن كانت المنافع في يد الآجر تلفت مضمونة عليه وإن تلفت في يد المستأجر، ففيه وجهان: ينبنيان على أن المبيع إذا تلف في يد المشتري في زمن الخيار يكون من ضمان من؟ فيه قولان:
أصحهما: من ضمان المشتري.
فعلى هذا تكون المنفعة محسوبة على المستأجر وعليه تمام الأجرة.
والثاني: يكون من ضمان البائع، فعلى هذا يحسب على الآجر وينحط من الأجرة ما يقابل تلك المدة.
الثاني: إذا أجر الآجر العين قبل لزوم العقد من آخر صح على المذهب وانفسخ العقد الأول.
وفيه وجه: أن الأول ينفسخ، ولا يصح الثاني؛ كيلا يكون اللفظ الواحد فسخاً وعقداً، وذلك متناف، كذا قاله الماوردي، ويتجه أن يجيء الوجه الثالث الذي حكيناه في نظير المسألة من البيع.
قال: وما عقد على عمل معين أي كخياطة ثوب وبناء حائط والإركاب إلى مكان كذا يثبت فيه الخياران لأن [منفعة] العين المعينة كالعين المتعينة [في البيع ثم بيع العين يثبت فيه الخياران فكذلك هنا]، ولأن المحذور الذي ذكرناه في إجارة المدة من فوات بعض المعقود عليه منتف هاهنا.
وقيل: لا يثبتان كما لا يثبتان في النكاح، ولأن الإجارة عقد غرر فيصان من غرر آخر.
وقيل: يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط؛ [لأنه عقد على منتظر فثبت فيه خيار المجلس] دون خيار الشرط كالسلم، وهذا ما اختاره في المرشد ثم هذان القسمان فيما إذا كانت الإجارة واردة على العين، أما إذا كانت واردة على منفعة في الذمة، ففي تعليق القاضي الحسين: أنا إن قلنا بحذائها حذو السلم، فحكمها حكم المسلم فيه، فثبت خيار المجلس دون خيار الشرط وإلا فمرتب على إجارة العين فإن قلنا: يثبت ثم خيار الشرط فهنا أولى، وإن قلنا: لا يثبت ثم فهاهنا وجهان؛ لأن إثبات الخيار هناك يتضمن تفويت جزء من المعقود عليه مجاناً بخلاف ما إذا كانت الإجارة على ما في الذمة، وهذا يقتضي الجزم بثبوت خيار المجلس والتردد في ثبوت خيار الشرط، وفي المهذب حكاية وجهين:
أحدهما: لا يثبت فيه خيار أصلاً، لكونها عقد غرر.
والثاني: يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط؛ لأن الإجارة [في الذمة؛ كالسلم، وهذا ما اختاره في المرشد، وهذا من الشيخ] يقتضي الجزم بعدم ثبوت خيار الشرط والتردد في ثبوت خيار المجلس.
وفي الوسيط: الجزم بثبوت الخيارين فيها؛ نظراً إلى كونه لا يحذر فوات
منفعته والإجارة بيع تحقيقاً، والأحسن ما قاله القاضي وإلا أشكل الفرق بينه وبين السلم حيث يثبت فيه خيار المجلس جزماً وحصل التردد في ثبوته هنا، وينتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أوجه كما صرح بها في البيان والمحاملي في المجموع، وعلى هذا إذا جمعت الطرق كان في ثبوت الخيار في عقد الإجارة كيف فرض ثلاثة أوجه:
قال:
…
ولا تجوز إلا معجلاً ويتصل الشروع أي إمكان الشروع في الاستيفاء بالعقد [أي إذا ورد العقد على العين سواء قدرت المنفعة فيه بالعمل] أو بالمدة؛ لأن إجارة العين كبيع العين، وبيع العين لا يجوز إلا على ما يمكن الشروع في قبضه فكذلك في الإجارة ولأن عقود المنافع إذا تعينت بزمانها بطلت بتأجيل إقباضها كالزوجة إذا شرط [تأجيل] تسليمها.
قال: فإن أطلق وقال: أجرتك [هذا] شهراً أي ولم يعين أن ابتداءه من حين العقد؛ لم يصح لجواز أن يريد أن ابتداءه بعد يوم في مثالنا؛ لكونه منكراً فيخل الاتصال المذكور.
وقد حكى القاضي الحسين وجهاً عن القفال وصححه: أن العقد يصح، ويحمل على الشهر الأول، وعلى ذلك جرى الإمام ومن تابعه؛ لأنها مدة مضروبة في عقد فوجب أن تتعقب [العقد] إذا أطلقت؛ كمدة الإيلاء، والحلف على ترك الكلام شهراً.
والصحيح الأول، وبه جزم العراقيون، وأبطل القاضي أبو الطيب علة خلافه بأن هذا شهر منكر فلم يحمل على الأول؛ كما لو قال: أجرتك شهراً من شهور هذه السنة، وقد ادعى الإمام أنه لا خلاف في هذه الصورة في عدم الصحة، وكذا القاضي الحسين، وهو محمول على ما إذا بقي من السنة أكثر من شهر، أما إذا لم يبق فيها إلا شهر، فقد صرح المتولي والبغوي بالصحة فيه، ولو قال: أجرتك الشهر أو نصف الشهر حمل على ما بقي من ذلك الشهر في الصورة الأولى وعلى نصفه في الثانية، وهذا الحكم: فيما لو قال: السنة. صرح به القاضي
الحسين، أما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة فيجوز تأجيلها قطعاً؛ كالمسلم فيه وسنذكرها.
تنبيه: [قول الشيخ: ويتصل الشروع في الاستيفاء بالعقد. ظاهره يقتضي أن يتمكن] المستأجر من استيفاء المنفعة عقيب العقد ويلزم على ذلك مخالفة الأصحاب في بعض المسائل ومخالفة بعضهم في بعض فيتعين أن يصرف عن ظاهره ويحمل على التمكن من الشروع في استيفاء المعقود عليه إذا أمكن والتمكن من الشروع فيما يوصل إلى الاستيفاء إن لم يمكن وذل كيتضح برسم مسائل:
منها: استئجار عين الشخص للحج قبل أشهره يجوز؛ إذا كان لا يتأتى الإتيان به من بلد العقد إلا بالسير قبله وكان في وقت خروج الناس من تلك البلد إليه، ولا مانع قائم بالأجير من مرض أو بالطريق من خوف أو تراكب الثلوج والأنداء التي لا يعلم وقت زوالها، فلو علم فالأصح عند الغزالي أنه غير مانع، وكذا الاستئجار على الحج في أشهره ليحرم الأجير من الميقات، جائز عند خروج الناس إليه، وفي كل من الحالتين المذكورتين لم يتصل الشروع في نفس المستأجر عليه؛ لأنه غير [معقود عليه] بل فيما يوصل إليه، ويدل على ذلك ما سنذكره من أن الأجير إذا مات بعد قطع المسافة وقبل الإحرام لا يستحق شيئاً من الأجرة، وقد استدرك الرافعي على الغزالي وإمامه حيث قالا: ثم مهما صحت الإجارة وجب على الأجير الخروج مع أول رفقة، ولا يجوز التأخير إلا بعذر انتظار الرفقة ولا عذر بعد وجودها، بأن ذلك يقتضي جواز تقديم الإجارة على خروج الناس، وأن له انتظار خروجهم، ولا يلزمه المبادرة وحده، والذي ذكره جمهور الأصحاب على طبقاتهم ينازع فيه ويقتضي اشتراط وقوع العقد في زمان خروج الناس من ذلك البلد حتى قال صاحب التهذيب: لا يصح استئجار العين إلا في وقت خروج القافلة من تلك البلد بحيث يشتغل عقيب العقد بالخروج أو أسبابه من شراء الزاد ونحوه وإن كان قبله لم يصح؛ لأن الإجارة للزمن المستقبل لا تجوز وفرع على ذلك أنه لو كان الاستئجار بمكة لم يجز إلا في أشهر الحج، لتمكنه من الاشتغال بالعمل عقيب العقد.
ومنها استئجار الدار المشحونة بالأمتعة: يجوز على الأصح وإن لم يتصل
الشروع في استيفاء المنفعة؛ لأن الشروع في التفريغ في الحال ممكن وهو موصل إلى المقصود.
وعن الشيخ أبي محمد: منع إجارتها بخلاف بيعها.
وحكى الرافعي في أواخر الباب: أنه رأى للأئمة فيما جمع من فتاوى القفال في صحة إجارتها جوابين:
أحدهما: أنه إن أمكن التفريغ في مدة ليس لمثلها أجرة صح العقد وإلا فلا؛ لأنها إجارة [مدة] مستقبلة، وفي هذا التعليل نظر.
والثاني: أنه إن كان يذهب في التفريغ مدة الإجارة لم يصح، وإن كان يبقى منها شيء صح ولزم قسطه من الأجرة إذا وجد فيه التسليم وأنهم خرجوا على الجوابين: ما لو استأجر داراً ببلد آخر فإنه لا يتأتى التسليم إلا بقطع المسافة بين البلدين.
ومنها: إذا استأجر شخصاً ليتعلم منه شيئاً من القرآن والأجير لا يعرف ذلك [ولكن] يتأتى منه أن يتعلم ويعلم ففي صحة الإجارة وجهان حكاهما الإمام في باب الجعل والجعالة من كتاب الصداق عن العراقيين، ثم قال ومحلهما: إذا كان يحسن مقداراً يشتغل بتعليمه في الحال، أو كانت الإجارة مع تعلقها بالعين واردة على مدة تتسع للتعلم وللتعليم أما إذا لم تكن مدة وكان لا يحسن شيئاً ألبتة فالوجه القطع بفساد الإجارة لتحقق العجز عن المستحق في الحال وعلى ذلك جرى في الوسيط هنا.
فروع:
لو أجر دابة إلى موضع ليركبها المكري زماناً ثم المكتري زماناً- لم يجز؛ لتأخر حق المكتري في بعض الطريق، وتعلق الإجارة بالزمن المستقبل، وإن أجرها منه ليركب المكتري بعض الطريق وينزل ويمشي في البعض، أو أجرها من اثنين ليركب هذا زماناً، وهذا مثله؛ ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أن الإجارة فاسدة في الصورة الأولى، صحيحة في الثانية؛ لأنه إذا أكرى من اثنين اتصل زمان الإجارة بعضه ببعض، وإذا أكرى من واحد يفرق
وتكون إجارة في الزمن المستقبل، وهذا ما صححه الماوردي.
والثاني: المنع في الصورتين؛ لأنها إجارة إلى آجال متفرقة وأزمنة متقطعة.
والثالث: وبه قال المزني في الجامع الكبير تخريجاً.
ووافقه صاحب التلخيص، واختاره القاضي الطبري والروياني: أنه يجوز في الصورتين مضمونة في الذمة، ولا يجوز على دابة معينة، والفرق: أنها إذا كانت في الذمة فإن أجرها من واحد؛ فقد ملكه نصف المنافع على الإشاعة فيقاسم المالك، وإن أجرها من اثنين ملكهما الكل فيقتسمان.
وأما إجارة العين فإنها تتعلق بأزمنة منقطعة فتكون إجارة للزمان المستقبل.
والرابع- وهو أصحها وجعله أبو الطيب في تعليقه المذهب- جواز الإجارة في الصورتين على الذمة والعين ويثبت الاستحقاق في الحال، ثم يقتسم المكرى والمكتري أو المتكاريان والتأخر الواقع من ضرورة القسمة والتسليم فلا يضر، وعلى هذا إن كان في الطريق عادة مضبوطة إما بالزمان [بأن] يركب يوماً وينزل يوماً، أو المسافة بأن يركب فرسخاً ويمشي فرسخاً حمل العقد عليها، وإن لم تكن عادة مضبوطة فلا بد من البيان في الابتداء، وليس لأحدهما أن يطلب الركوب ثلاثاً والنزول ثلاثاً؛ لما في دوام المشي من التعب، ودوام الركوب من الإضرار بالدابة، ولو اختلفا فيمن يبدأ بالركوب فالمحكم القرعة، وهذه المسألة مشهورة بكراء العقب وهو جمع عقبة، والعقبة: النوبة إذا أكرى الدابة من اثنين ولم يتعرض للتعاقب.
وقال القفال يجوز، ويتهايأ فيركبها هذا يوماً وهذا يوماً.
قال في البحر بعد حكايته ذلك: وهذا عندي إذا أمكن أن يركبها معاً، فإن لم يمكن فلا يجوز كراهما للركوب معاً.
وقال المتولي: إن احتملت الدابة ركوب الشخصين اجتمعا على الركوب، [وإلا رجع] إلى المهايأة.
لو قال: أجرتك نصف الدابة إلى موضع كذا، أو أجرتك الدابة لتركبها نصف الطريق صح ويقتسمان إما بالزمان أو المسافة، وفي إجارة نصف الدابة وجه: أنها غير جائزة للتقطع.
قال: .... ولا تجوز الإجارة إلا على أجرة معلومة الجنس [والقدر] والصفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَاجَرَ أَجِيراً فَلْيُعْلِمْهُ أَجْراً"؛ ولأنها بمنزلة الثمن في البيع ومعرفة الثمن في البيع شرط فكذلك الأجرة، وهذا إذا كانت الأجرة في الذمة، أما لو كانت على العين فالمعتبر شرائط المبيع وإلا لا يكون عمله واقعاً فيما جعله له؛ كما إذا استأجر الطحان ليطحن الحنطة بقفيز منها مطحوناً؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان وهو مفسر بما ذكرناه، وألحق الأصحاب به ما إذا استأجر الطحان على الطحن بجزء شائع من الدقيق أو النخالة، أو السلاخ ليسلخ الشاة المذبوحة بجلدها وأظهروا للنهي معنى لأجله عدوا الحكم إلى ما ذكرناه، وهو أن الأجرة غير حاصلة في الحال على الهيئة المشروطة، وإنما تحصل بعمل الأجير من بعد فهي إذاً غير مقدور عليها في الحال.
وفي بعض المسائل ما يقتضي الفساد، ولو خلت عن المعنى المذكور، وهو في مسألة الاستئجار بجزء من الدقيق أو النخالة: جهالة الدقيق في الحال، وكذا النخالة؛ لاشتمال القمح عليهما وفي مسألة السلاخ الجهل بصفاته؛ لأنه لا يعرف حاله في الرقة والثخانة وسائر الصفات قبل السلخ، وكذلك يمتنع جعله أجرة مطلقاً، وإن كان الاستئجار على عمل غير السلخ وقد ألحق الأصحاب على ما حكاه الغزالي وإمامه بمسألة قفيز الطحان أيضاً ما إذا استأجر مرضعة على الرضاع بجزء من المرتضع الرقيق في الحال وقاطف الثمار بجزء منها على رؤوس الأشجار موجهين ذلك بأن عمل الأجير لم يقع في خالص ملك المستاجر، ثم قال الغزالي: وزاد الأصحاب فقالوا: المرتضع المشترك بين امرأة
مرضعة ورجل لا يجوز للرجل استئجارها على الرضاع؛ لأن عملها لا يصادف خالص ملك المستاجر، وهذا فيه احتمال؛ إذ قطعوا في كتاب المساقاة: بأن أحد الشريكين لو ساقى صاحبه وشرط له جزاء جاز وهو على عمل مشترك، ولكن قيل: ما يخص المستأجر يستحق به الأجرة، وهو محتمل- هاهنا – أيضاً.
قلت: وجه الزيادة في هذه المسألة على ما ذكره في الصورة السابقة: أن الفساد قد يعلل فيها: بأن الاستئجار لما وقع في حال كون جميع العين ملكاً للمستأجر انتهض ذلك دليلاً على أن المراد بالاستئجار العمل في كل العين، وإذا كان كذلك اقتضى العقد تمليك الأجير جزءاً من العين في مقابلة عمله فيه وفي باقيها، وإجباره على العمل في ملكه والأول مخالف لوضع الإجارة، والثاني مخالف لوضع الملك.
وفي مسألة استئجار الشريك على الإرضاع لا بجزء من الرضيع، العقد واقع على العمل في حصته؛ لكون الظاهر أن الإنسان لا يستأجر إلا على العمل في ملكه [فيصير كما لو صرح بذلك، ولو صرح بذلك لانتفى ما ذكرناه من كونه يأخذ الأجرة على عمله في ملكه] وكونه مجبراً على العمل في ملكه قصداً فإلحاقه بالصورة السابقة زيادة وهو بصورة المساقاة أشبه، وقد أشار الإمام إلى أن المنع جاء من جهة أن الاستئجار على إيقاع العمل في الملك المشتر لا يجوز ما لم يجتمع عليه الملاك، فلو جاز لأحدهم لزم منه التصرف في ملك غيره بغير إذنه إلى انقضاء الإجارة أو عدم القدرة على تحصيل المنفعة. وكل منهما محذور وإذا كان كذلك فهذا المعنى موجود فيما إذا كان الأجير هو الشريك؛ لأنه لا يلزمه العمل في ملكه، وما ذكره لا يقتضي المنع في استئجار الشريك؛ لأنه بعينه موجود في مسألة المساقاة، وقد جزم فيها بالصحة وموجود فيما لو كان بين رجلين حمل مشترك فاستأجر أحدهما صاحبه على حمله إلى البيت، فإنه يصح بالأجرة المسماة كما لو قال: استأجرتك لحمل نصيبي بكذا وفيما إذا كان بين شخصين طاحون فاستأجر أحدهما صاحبه على أن يعمل فيه كذا يوما بأجرة معلومة فإنه يصح، ويجعل كما لو استأجره ليحمل نصيبه أو على
نصف منفعة بدنه، لأنه لو استأجر من حر نصف منفعته جاز، كذا حكاه القاضي الحسين الحكم والتوجيه في الصورتين، وموجود أيضاً فيما لو استأجر أحد الشريكين في الحنطة صاحبه ليطحنها أو في الدابة ليتعهدها بدراهم، وقد جزم في التهذيب فيهما بالصحة، فكان إلحاق مسألة الرضيع بهذه المسائل أولى والله أعلم.
قال: فإن استأجر بالطعمة والكسوة لم يصح، كما لو جعل ذلك عوضا في النكاح والبيع، وهذا الحكم فيما لو اكترى الدابة بعلفها، أو الأرض بخراجها وكلفتها أو الدار بعمارتها، وكذا لو استأجر الدار بدراهم معلومة وشرط على المستأجر صرفها في العمارة؛ لأن الأجرة الصرف والدراهم، والعمل فيا لصرف مجهول، نعم لو قدر شيئاً من الطعام ووصفه بصفات السلم صح جعله أجرة، وإن قسطه في كل يوم شيئاً خرج على السلم في جنس إلى أجلين صرح به القاض الحسين، ثم إذا أذن له في صرف ذلك إلى العبد المستأجر جاز.
وهكذا نقول فيما إذا استأجر داراً بقدر من الدراهم ثم أذن له في صرفها في العمارة بدون شرط صح ولم يخرج الأصحاب ذلك فيما وقفت عليه على اتحاد القابض والمقبض وكأنهم نزلوا القابض من المستأجر منزلة النائب عن الأجير وإن لم يكن معنياً واغتفروا مثل هذا التوكيل لوقوعه ضمناً، وإن كان لا يصح لو وقع قصداً كما صرح به القفال فيما إذا قال وكلت كل من أراد بيع مالي ببيعه [بل ادعى ابن الصباغ في كتاب الخلع فيما إذا خالع زوجته وأذن لها في إنفاق ذلك على ولده كان له، وأنه لا يختلف أصحابنا في ذلك]، لكن قياس هذا أن يقال: إذا كان له في ذمة شخص مال فأذن له في غسلامه في كذا أن يصح، وهو ما حكاه صاحب الإشراف عن ابن سريج، ثم قال: والمذهب خلافه وقضية هذا أن يجيء مثله هاهنا.
وعلى الأول: لو اختلف الآجر والمستأجر في قدر المصروف وكان ما ذكره المستأجر محتملاً؛ فمن القول قوله؟ فيه قولان في الإبانة، والذي أجاب به ابن الصباغ أن القول قول المستأجر، وسيأتي فيما إذا أذن الحاكم للمستأجر عند هرب الجمال في الإنفاق وجدناه ثم اختلف الجمال والمستأجر في قدر المنفق، فمن القول قوله؟ فيه ثلاثة أوجه يتجه مثل جريان مثلها هاهنا، ولو أنفق المستأجر
عند اشتراط الإنفاق في أصل العقد بشرط الرجوع رجع عليه، وإن فسد العقد [لإذنه، فإن اختلفا] في قدر المنفق ذكر القاضي في تعليقه أن القول قول المنفق؛ لأنه ائتمنه على ذلك.
قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لم يأتمنه وإنما شرط عليه أن تكون النفقة عليه، وذلك لا يقتضي الأمانة.
تنبيه: الطعمة بضم الطاء: الإطعام.
والكسوة: بكسر الكاف وضمها جميعاً، كسي، وكسوته [ثوباً] فاكتسى وهو كاس، وهم كساة ونسوة كاسيات.
قال:
…
وإن عقد على مال جزاف؛ أي: والعقد على منفعة عين معينة جاز؛ لأن المنافع في حكم الأعيان المقبوضة بدليل جواز التصرف فيها؛ فجاز أن يكون ما يقابلها جزافاً؛ كالثمن في البيع، وهذا هو المذهب.
وقيل فيه قولان؛ كرأس مال السلم، والجامع: أنهما عقدان على منتظر يخشى انفساخ العقد فيه بتعذره.
والقائل الأول: فرق بأن السلم معقود إلى أجل فهو غرر فلا ينضاف غرر إلى غرر، والإجارة معقودة على منفعة حالة وإنما تستوفي شيئاً فشيئاً فشابه الطعام إذا اشتراه وقبضه [كيلاً] قليلاً قليلاً، والأجل املذكور فيها ليس بأجل في الحقيقة وإنما يضرب لتقدير المنفعة فإن الأجل: ما يحل الحق عند انقضائه، وهذه المدة تعني الحق عند انقضائها، أما إذا كانت الإجارة على منفعة في الذمة؛ قال ابن يونس: فهي كالسلم بلا خلاف، وهذا إن قاله وقد عقد بلفظ السلم فهو ظاهر، وإن قاله وقد عقد بلفظ الإجارة ونحوها ولم يسلك به مسلك السلم فلا اتجاه له.
قال: وإن أجر منفعة بمنفعة جاز؛ لأنهما منفعتان يجوز أن يعقد على كل منهما فجاز العقد على إحداهما بالأخرى عند اتفاق الجنس؛ كما لو كانتا مختلفتي الجنس، ومن منع الصحة عند اتفاق الجنس- وهو أبو حنيفة- اتبع في ذلك أصله، وفي تحريم الربا في كل جنس واحد، وقد بينا في باب الربا: أنه لا يجري إلا في المطعوم والنقدين.
قال: وتجب الأجرة بنفس العقد؛ لأنه عقد لو شرط فيه تعجيل العوض أو تأجيله تبع في ذلك بالاتفاق، فإذا أطلق وجب أن يحمل على التعجيل؛ كالثمن في البيع وأيضاً: فإن المستأجر قد ملك المنفعة وصح تصرفه فيها فوجب أن يملك الآجر مقابلها وهو الأجرة عملاً بتساوي المتعاقدين.
قال: إلا أن يشرط فيها الأجل فتجب في محله [كالثمن]، وهذا إذا كانت الإجارة واردة على العين أما إذا وردت على الذمة فسيأتي.
واعلم إنا وإن أوجبنا الأجرة بنفس العقد فلا يوجب تسليمها ما لم تسلم العين المؤجرة إلى المستأجر، كذا صرح به الماوردي، وكان يتجه أن يكون فيه الخلاف المذكور في البيع إذا كانت الإجارة على عمل، وقلنا: إن الصنعة كالعين، وإن قلنا: إنها أثر فتكون كالنكاح؛ لأن المنفعة تفوت بالتسليم كما تفوت منافع البضع بالوطء، خصوصاً إذا كانت المنفعة حراسة أو رعياً أو نحوهما، وقد صرح المتولي بإلحاق الآجر والمستأجر عند التنازع بالبائع والمشتري، وإذا تسلم الآجر الأجرة فهل ملكها ملكاً مستقراً أو ملكها ملكاً مراعى؟ فيه قولان صرح بهما الماوردي وغيره.
ومعنى الملك المستقر كما حكاه الإمام في كتاب الزكاة: أن الإجارة لو انفسخت في أثناء المدة انتقص ملك الآجر عما يخص الذي انفسخ العقد فيه [من حينه.
ومعنى الملك المراعى: أنها إذا انفسخت في أثناء المدة تبينا أنه لم يملك ما يقابل ما انفسخ العقد فيه].
فرع: إذا وقع العقد بأجرة مؤجلة والنقد على صفة ثم صار عند الحلول على غيرها، فالواجب النقد الموجود حالة العقد بخلاف ما لو كان النقد حال [عقد] الجعالة على صفة ثم تغير حال تمام العمل فإن المعتبر فيه النقد الموجود حال الفراغ على وجه؛ لأن به استحق الأجرة والصحيح أنه كالإجارة.
قال: وإن كان العقد على مدة أي مثل [إن استأجر شيئاً شهراً من حين العقد فتسلم العين ومضت المدة، أو على عمل معين، أي: مثل] إن استأجر عبداً
ليخيط له ثوباً أو يبنى له حائطاً ونحو ذلك، [أو استاجر دابة ليركبها إلى موضع كذا، أو يحمل عليها شيئاً إلى موضع كذا ونحو ذلك].
فسلم العين ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء استقرت الأجرة أي سواء استوفى المنفعة أو لا، وسواء كان عدم الاستيفاء لعذر قام به أو بالطريق أو لا لعذر؛ لأن المعقود عليه تلف تحت يد متملكه فاستقر عليه بدله؛ كالمبيع إذا تلف تحت يد المشتري.
وفي الحاوي: أن هذا فيما إذا كان العذر المانع من استيفاء المنفعة قائماً بالمستأجر كالمرض ونحوه أما إذا كان قائماً بالعين المستأجرة؛ كمرض الدابة فلا أجرة على المستأجر لكن إن كانت الإجارة على مدة فقد انفسخت وإن كانت إلى مسافة معلومة فهي بحالها.
وألحق العذر القائم بالطريق من خوف أو حذر بالعذر القائم بالعين المستأجرة لكون المنع في الحالتين من غير المستأجر فصار ممنوعاً من استيفاء حقه، والأصحاب استشعروا ذلك وأجابوا عنه: بأن المستأجر متمكن من استيفاء المنفعة في طريق آخر إلى مثل الموضع المعين؛ إذ لا يتعين السير إلى الموضع الذي عينه عندنا فصار كما لو لم يكن في الطريق خوف.
وليس للمستأجر عند تعذر [استيفاء] المنفعة عليه لا بسبب من جهة المؤجر فسخ الإجارة ولا أن ييلزم المكرى استرداد الدابة في الصورة الأخيرة من صور الكتاب إلى أن يقدر على استيفاء المنفعة، وقد ألحق بالتسليم فيما ذكرناه عرض الآجر العين المستأجرة على المستأجر وامتناعه من تسلمها إلى انقضاء المدة والزمان صرح به في المهذب وغيره فحينئذ [تستقر الأجرة] فيما إذا كانت الإجارة على منفعة عين معينة بأحد ثلاثة أشياء: كما صرح به في الذخائر- استيفاء المنافع، والتمكين من الاستيفاء بأن يسلم إليه العين وتمضي المدة وهي في يده، وأن تعرض عليه العين ويتمكن من قبضها فيتركها اختياراً حتى تمضي المدة.
قلت: والجزم بالاستقرار في الصورة الأخيرة فيه نظر؛ لأن الأصحاب شبهوا
منفعة العين المعينة بالمبيع المعين، وقد تقدم حكاية وجه فيما إذا وضع البائع [العين المبيعة] في بيت المشتري أو حجره، أو بين يديه بغير إذنه ورضاه أنه لا يكون إقباضاً ما لم ينقله فيشبه أن يجيء مثله هاهنا.
قال: ويجب رد العين أي: بعد مضي المدة والزمان؛ لأن ذلك قضية الملك، وهذا جواب على أن المستأجر يجب عليه [رد العين] بعد المدة كما سيأتي.
فرع: إذا وقع العقد على منفعة حر فسلم نفسه ولم يستعمله المستأجر حتى مضت المدة أو مضت مدة يمكن فيها العمل المستأجر عليه، فهل تستقر الأجرة؟ قال الرافعي: الذي ذهب إليه الأكثرون الاستقرار، والذي ذهب إليه القفال عدمه؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد فلا تحصل منافعه في ضمان المستاجر إلا عند وجودها، وهذا ما قاله الشيخ أبو علي عند الكلام فيما إذا تلف الثوب الذي وقعت الإجارة على خياطته، وإيراد القاضي أبي الطيب، والماوردي وغيرهما موافق لما حكاه عن الأكثرين فإنهم قالوا فيما إذا استأجره على قلع ضرس وجيع ثم امتنع المستأجر من تمكين الأجير من القلع مع بقاء الألم حتى مضت مدة يمكن قلعه فيها: إنه لا يجبر على ذلك وتجب الأجرة عليه ويستقر.
كذا حكوه عند الكلام في أن المستأجر ليس له فسخ الإجارة بعذره.
وحكى ابن الصباغ: أن القاضي أبا الطيب قال في المجرد: وعندي أنها لا تستقر حتى إن هذا السن لو انقلع انفسخت الإجارة ووجب رد الأجرة كما قلنا في النكاح: إذا مكنت الزوجة من نفسها ولم يطأها الزوج، ويفارق هذا إذا حبس الدابة مدة المسافة أنه تستقر عليه الأجرة؛ لأن المنافع تلفت تحت يده بخلاف مسألتنا.
وهذا التعليل يؤيد ما أوردته عن الأصحاب في الجزم باستقرار الأجرة بالعوض.
قال:
…
وإن كانت الإجارة فاسدة استقرت أجرة المثل
…
أي سواء انتفع بالعين [بعد تسليمها أم لا]؛ لأن الإجارة كالبيع، والمنفعة كالعين، ثم البيع الفاسد كالصحيح في الضمان بالقبض فكذلك الإجارة.
قال: وما يحتاج إليه في التمكين من الانفاع كمفتاح الدار، وزمام الجمل والحزام والقتب، فهو على المكري؛ أي عند إطلاق العقد؛ لأن التمكين من الانتفاع واجب على الآجر، وهو متوقف على ذلك؛ [فوجب عليه] وفي معنى القتب الإكاف والبرذعة والثفر وبرة البعير: وهي التي تكون في أنفه من خشب أو غيره، واللجام، والسرج إذا كان المستأجر فرساً للركوب صرح به القاضي أبو الطيب وغيره.
وحكى أبو الحسن العبادي في الرقم: أن مكري الدابة لا يلزمه تسليمها إلا عارية، والآلات كلها على الراكب؛ كما لو شرط ذلك عليه.
وفي التهذيب: أن ما ذكرناه يجب على المؤجر؛ إذا كانت الإجارة واردة على الذمة، أما إذا كانت واردة على عين الدابة والبرة، والخطام، ولجام الفرس، وكل ما يحتاج إليه للتمكين يجب عليه أيضاً، والسرج والإكاف على المستأجر، وكذا الوعاء إذا كان الكراء لحمل متاع.
فلو سلم إليه الدابة عارية، فركبها أو حمل عليها بلا إكاف ولا سرج ضمن؛ لأنه يرق ظهر الدابة إلا أن تكون المسافة قريبة.
وذهب ابن كج إلى أن السرج لا يجب إلا إذا كانت العادة جارية بالركوب عليه، وجعله الرافعي وجهاً ثالثاً، وهذا يدل على الخلاف في إيجابه وإن لم تجر العادة بالركوب عليه.
ولو كانت الدار مما يقفل عليها قفل حديد، فلا يجب على المؤجر.
والفرق بينه وبين المفتاح: أن المفتاح منفعة تابعة للضبة وهي من الثوابت، بخلاف القفل؛ فإنه منقول غير تابع.
تنبيه: جمع المفتاح مفاتيح ومفاتح، كالأماني، والأماني، [و] الزمام بكسر الزاي: أصله الخيط الذي يشد في [البرة] بضم الباء وتخفيف الراء، وقد يسمى المقود بكسر الميم وهو الرسن، [وهو مراد المصنف] الحزام بكسر الحاء جمعه حزم، والفعل حزمت الدابة أحزمها حزماً.
القتب: بفتح القاف والتاء جمعه أقتاب، قال: و [ما يحتاج إليه لكمال الانتفاع: كالدلو والحبل، أي عند كراء شخص للاستقاء والمحمل والغطاء؛ أي عند
الكراء للركوب بهما كما تقدم- فهو على المستأجر؛ لأنه لا يتوقف الاستيفاء عليه بل كماله.
ومن هاهنا يؤخذ أنه لا يجب على الآجر ما يشد به أحد المحملين إلى الآخر من طريق الأولى، وفي المهذب حكاية وجه: أنه يجب عليه وهو بعيد مع القطع في نفس المحمل وسائر توابعه المذكورة أنها على المكتري.
قال الرافعي: والأقوم ما في تعليق الشيخ أبي حامد وغيره، وهو رد الوجهين إلى أن شد أحد المحملين إلى الآخر على من يجب؟ فعلى وجه: يجب على الآجر؛ كما يجب عليه الشيل والحمل؛ [لأنه يراد للتمكين من الركوب].
وفي الثاني: على المكتري؛ لأنه إصلاح ملكه [فهو كتأليف المحمل].
واعلم أن محل وجوب الحبل والدلو على المستأجر إذا كانت الإجارة واردة على العين، أما إذا كانت واردة على الذمة، فهي كالوعاء في الاستئجار على نقل الغلة في الذمة، فتكون على المكتري. وعن القاضي الحسين أن الرجل إن كان معروفاً بالاستيفاء بآلة نفسه؛ لزمه الإتيان بها.
قال الرافعي: وهذا يجب طرده في الوعاء.
تنبيه: الدلو قال ابن السكيت: الغالب عليها التأنيث، وقد يذكر، وتصغيرها: دلية، وجمع القلة أدل وفي الكثرة دلاء ودلى بضم الدال وكسر اللام وتشديد الياء، وأدليت الدلو أرسلتها في البئر، ودلوتها نزعتها منه، وأيضاً أرسلتها.
والغطاء- بكسر الغين والمد-: جمعه أغطية، وهو ما يغطي الشيء، يقالك غطيته بتشديد الطاء تغطية، وحكى الجوهري أيضاً: غطيته غطيا بالتخفيف، ومنه قولهم: غطا الليل يغطو ويغطي أي أظلم.
قال: وفي كسح البئر أي بئر الحش وتنقية البالوعة أي إذا امتلئ ذلك في أثناء المدة بعد تسليمه فارغاً، وجهان:
وجه إيجابه على المكري: أنه من مقتضى التمكين من الاستيفاء؛ فوجب كما يجب تسليم ذلك في الابتداء فارغاً حتى إذا لم يفعله، ثبت للمستأجر الخيار؛
وهذا ما اختاره الروياني، ولم يحك الماوردي عن الأصحاب سواه.
ووجه ثبوته على المستأجر: أنه تسلم ذلك فارغاً، وإنما حصل الامتء بفعله؛ فكان عليه، كتنظيف الدار عن الكناسة والأتون عن الرماد، وهذا ما صححه الرافعي، واختاره الماوردي لنفسه، وبه أجاب القاضي أبو الطيب، والبندنيجي وابن الصباغ، والمتولي.
فعلى هذا: إذا لم يفعله المستأجر لا يثبت له خيار.
وفيه وجه: أنه يثبت له.
وفي الحاوي: أنه يجبر على ذلك.
وهذا كله في خلال المدة، أما إذا انتهت المدة، فهل يجب على المستأجر تنظيف ما تسلمه فارغاً؛ ليسلمه كما تسلمه أم لا؟
قال الأصحاب: إن كان الموجود القمامات المجتمعة في زمن إجارته، وجب عليه إزالتها؛ وكذا الرماد عند الإمام.
وفي التهذيب: أنه لا يجب؛ لأن طرح الرماد من ضرورة استيفاء المنفعة.
وأما كسح البئر وتنقية البالوعة، فلا خلاف في عدم وجوب ذلك.
ومستنقع الحمام- وهو الذي يجتمع فيه الماء الوسخ- حكهم حكم البالوعة عند بعضهم في الدوام والانتهاء.
وحكى في البحر: أن القاضي في الجامع حكى عن بعض أصحابنا: أن كسحه على المكري أبدا، وهو المذهب؛ لأن التمكين من الانتفاع لا يكون إلا به ولا يشبه الحش في الدار؛ لأن معظم الانتفاع لا يكون به بخلاف الحمام.
ثم القمامات التي وقع [فيها] الكلام القشور وما يسقط من الطعام ونحوه، أما التراب الذي حصل من هبوب الرياح، فلا يجب على المستأجر؛ لأنه حصل بغير فعله.
قال الرافعي: لكن قد قيل: إن الثلج إذا وقع في العرصة وجف ولم يمنع الانتفاع كان ملحقاً بكنس الدار وكذا إن كثف على الظاهر، ومنه من ألحقه بتنقية البالوعة، وإن كان قد حصل لا بفعله، [فيجب أن يكون التراب أيضاً كالنكاسات في أثناء الإجارة وإن حصل لا بفعله].
تنبيه: الكسح: الكنس.
والبئر مؤنثة مهموزة وتخفف بتركه، وجمع القلة: أبؤر؛ كأفلس وأبار بإسكان الباء وبعدها همزة، ومن العرب من يقلب الهمزة فيقول: آبار بمد أوله وفتح الباء [والكثرة بئار] بكسر الباء وبعدها همزة.
البالوعة، والبلوعة: ثقب في وسط الدار تنصرف فيه الأوساخ.
قال: وعلى المكري الإشالة والحط، أي إشالة الحمل وحطه، وإركاب الشيخ، أي بأن يمسك بيده، أو يضع له ركبته؛ ليركب عليها على العادة، وإبراك الجمل للمرأة؛ لاقتضاء العرف، وفي معنى المرأة: الرجل الضعيف؛ بسبب مرض أو نحافة، وكذا من جاوز الحد في السمن؛ كما صرح به الماوردي.
والاعتبار في القوة والضعف بحالة الركوب، لا بحالة الإجارة؛ صرح به أبو الطيب وغيره.
ولو كان المستأجر بغلاً أو حماراً؛ وجب عليه تقريبه من المرأة ومن في معناها؛ ليسهل الركوب.
ويجب عليه بعد الإركاب سوق الدابة وتعهدها، وإعانة الراكب في النزول على العادة.
وعليه إنزال الراكب؛ لقضاء الحاجة، والطهارة وصلاة الفرض؛ إذا طلب المستأجر ذلك ولو في أول وقت الصلاة، وإذا نزل انتظره، ولا يلزم المستأجر المبالغة في التخفيف ولا الاقصر، ولا الجمع، وليس له الإبطاء والتطويل، فإن كانت التطويل طبعاً فيه وعادة؛ كان عيباً فيه، وللجمال الخيار في فسخ الإجارة، والصبر عليه، وهكذا لو كان عسر الركوب إلا أن يستبدل الراكب بنفسه غيره صرح به الماوردي، ولا يجب إنزال المستأجر لصلاة النفل والأكل والشرب؛ ليأتيها على الراحلة.
واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في وجوب ما ذكرناه على المكرين بين أن تكون الإجارة واردة على العين أو على الذمة، وهو ما صرح به الماوردي.
وقال الرافعي: إن محله إذا وردت على الذمة، أما إذا وردت على عين الدابة، فالذي يجب على الآجر التخلية بينها وبين المستأجر، وليس عليه أن يعينه في
الركوب ولا في الحمل وإن هذا ما يوجد للأكثرين في نوعي الإجارة، وإن الإمام حكى وراءه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يفترق في إجارة الذمة بين أن يقع العقد على التبليغ مثل أن يقول: ألزمت ذمتك تبليغي إلى موضع كذا على الدابة صفتها كذا فتقع الدابة تبعاً فتلزم الإعانة، وبين أنه تقع على الدابة بأن يقول: ألزمت ذمتك منفعة دابة صفتها كذا؛ لأركبها إلى موضع كذا فلا يجب.
والثاني: أنه يجب الإعانة على الركوب في إجارة العين أيضاً.
والثالث: أنها تجب في الحمل سواء كانت الإجارة في الذمة أو على العين لاطراد العادة بالإعانة على الحط والحمل وإن اختلفت في الركوب، وهذا ما اختاره في الوسيط ووضع الحط وحمله؛ كالحمل.
فرع: أجرة الدليل والسائق والقائد ينظر فيه، فإن اكترى بهيمة بعينها فليس على الآجر غيرها وإن اكترى منه الركوب أو الحمولة في الذمة كان ذلك على الآجر قاله في البحر.
تنبيه: الإشالة: الرفع يقول: أشلته، بضم الهمزة، إشالة [بكسرها] كأقمته أقيمه إقامة، وانشال هو، قال الجوهري: ويقال شُلْتُه أَشُوله شَوْلاً أي: رفعته.
إبراك الجمل، قال أهل اللغة: يقال: برك البعير يبرك- بضم الراء- أي: استناخ، وأبركته أنا فبرك.
قال ابن فارس: هو مشتق من البرك بفتح الباء وإسكان الراء وهو الصدر؛ لأنه يقع صدره على الأرض.
وأصل هذه الكلمة من الثبوت قال: وللمكتري أن يستوفي المنفعة بالمعروف؛ لأن إطلاق العقد يقتضي المتعارف؛ فألحق بالمشروط؛ وهذا اللفظ من جوامع الكلم؛ لأنه ينظم مسائل كثيرة صرح بها الأصحاب.
فمنها: أن من استأجر ثوباً للبس كان له أن يلبسه بالنهار وفي الليل إلى وقت النوم، وليس له أن ينام فيه ليلاً، وكذا في وقت القيلولة على وجه، وبه جزم في الوجيز.
والصحيح: وهو الذي أورده الأكثرون- الجواز، ومحله في القميص الأسفل، أما الأعلى، فيلزمه نزعه في سائر [أوقات] الخلوة؛ لأنه إنما يلبس
عادة في وقت الخروج إلى الطريق ودخول الناس عليه.
ولا يجوز له الاتزار بالقميص المستأجر للبس؛ لأنه أضر من اللبس، وهو غير متعارف في لبس القميص، وفي الارتداء به وجهان حكاهما شيوخ الطريقين.
وأظهرهما: الجواز؛ لأن ضرر الارتداء دون ضرر اللبس ومن هذا يظهر: أنه لو صرح بالاستئجار للارتداء، لا يجوز له الاتزار به؛ كما صرح به في التتمة.
ويجوز له أن يتعمم به؛ لأنه أخف ضرراً.
ومنها: إذا استأجر داراً للسكنى كان له أن ينقل الأمتعة إليها، وهل له أن يضع فيها ما يسرع إليه الفأر وينقب بسببه الحيطان؟ فيه وجهان:
أصحهما: الجواز؛ لأنه معتاد ولا يجوز له أن يضع التراب والرماد في أصل حيطانها ولا ربط الدواب فيها، ولا أن يسكنها حداداً ولا قصاراً؛ لإضرار ذلك بجدرانها.
قال في البحر: فإن قيل: أليس قلتم: إذا استأجر أرضاً للزراعة، يجوز له أن يزرع أضر زرع، فهلا قلتم في السكنى مثله؟
قيل: الفرق: أن السكنى لا تتضمن الإضرار بالدار، فإذا أسكنها ما يضر بها لم يجز، والزرع متضمن الإضرار بالأرض، فإذا أطلق، فقد رضي بأكثر الضرر. وهذا جواب عما أورده الرافعي سؤالاً على جواز إطلاق الإجارة للسكنى.
ومنها: من استأجر راحلة للركوب، كان له النوم عليها في الوقت المعتاد بالنوم فيه، وليس له ذلك في غير وقته؛ لأن النائم يثقل.
وله استنهاض الدابة بالضرب، وكبح اللجام، وركض الرجل على العادة؛ روى جابر قال:"سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَرَى مِنِّي بَعِيراً، وَحَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَسُوقُهُ وَأَنَا رَاكِبُهُ، وَإِنَّهُ لَيَضْرِبُهُ بِالْعَصَا".
ومنها: للمستأجر للركوب وضع الرجل والجلوس على الدابة على الوسط المعتاد، وليس لأحد المتآجرين أن يضع الرجل مكبوباً ولا مستلقياً والمكبوب: أن يجعل مقدم الجمل أو الزاملة أوسع من المؤخر، وهذا أنفع للدابة وأضر للراكب، والمستلقى عكسه كما قاله أبو إسحاق، وقيلك المكبوب: أن يضيق المقدم والمؤخر، والمستلقي: أن يوسعهما جميعاً، وهو قول أبي علي الطبري.
وقيل: المكبوب تقديم المحمل إلى مقدم البعير، وهو أوطى للركوب، والمستلقيك تأخير المحمل إلى مؤخرة البعير، وهو أسهل على البعير، وهذا قول ابن أبي هريرة.
ومنها: إذا كان في الطريق مراحل معلومة، جرت العادة بقطعها في كل يوم مرحلة، فليس للمستأجر أن يزيد عليها عند إطلاق العقد، وكذا ليس للأجير تكليفه ذلك.
وهكذا الحكم في النزول في البلد أو في ظاهرها.
وفي السير في الليل والنهار يتبع فيه العادة، فإن لم تكن ثم عادة في المراحل، ولا في السير في وقت مخصوص، ولم يقع في ذلك شرط في حال العقد، فسد.
وإن وقع شرط بأن يسير في كل يوم قدراً معلوماً، جاز.
قال أبو إسحاق: وقد جرت العادة في قطع البادية إلى مكة في أيام الحج بما لا تطيقه الحمولة؛ فلا يجوز الإطلاق في ذلك؛ لأن الإطلاق لا يمكن حمله عليه؛ لما فيه من حمل الحمولة على ما لا تطيق.
ومنها: إذا كانت العادة به جارية بأن ينزل الراكب ويمشي في الرواح، فإن شرط مع ذلك النزول، اتبع الشرط.
قال الإمام: ويعترض في شرط النزول إشكال لقطع المسافة ويقع في إكراء
العقب لكن الأصحاب احتملوه بناء على التساهل، وإن شرط بألا ينزل اتبع الشرط، وإن أطلق العقد، فإن كان الراكب امرأة أو مريضاً فلا يجب النزول، [وإن كان رجلاً قوياً فوجهان؛ لتعارض اللفظ والعادة، وكذل كحكم النزول] على العقاب الصعبة، والأقيس في تعليق القاضي الحسين: أن له الركوب.
قال: وإن اكترى أرضاً، ليزرع الحنطة؛ زرع مثلها؛ لأن المعقود عليه منفعة الأرض، والزرع طريق في الاستيفاء، فلا يتعين؛ كما إذا كان له حق على غيره، فإنه مخير بين أن يستوفيه بنفسه أو بغيره؛ ومن طريق الأولى، يجوز له أن يزرع ما دونها؛ كالشعير والقرظ.
ولا يجوز أن يزرع ما فوقها، كالأرز، والذرة؛ لما في ذلك من الإضرار بالآجر؛ فإن الأرز يحتاج إلى السقي الدائم؛ فيذهب قوة الأرض، والذرة تنشر عروقها في الأرض؛ فتستوفي قوتها.
وعن البويطي: أنه لا يجوز العدول إلى غير الزرع المعين، فمن الأصحاب من قال: أنه قول للشافعي رواه، ومنهم من قال: إنه رآه، والمذهب الأول، فعلى هذا لو قال: أكريتك لتزرع الحنطة ولا تزرع غيرها، ففي المسألة ثلاثة أوجه حكاه ابن أبي هريرة:
أحدها: أن العقد فاسد، وهو ما ذكره ابن كج، وذكر الروياني أنه المذهب.
والثاني: أن العقد صحيح والشرط فاسد، وهذا ما اختاره الإمام، ولم يحك أبو الطيب غير هذين الوجهين.
والثالث: صحة العقد والشرط؛ لأن المستأجر ملك المنفعة من جهة المؤجر فملك بحسب التمليك، وهذه الأوجه شبيهة بالأوجه المذكورة فيما إذا نوى بوضوئه استباحة صلاة بعينها ونفى غيرها، ومحل ما ذكرناه: إذا لم يعين الحنطة للمستأجر على زراعتها، أما لو عينها بأن قال: أجرتك لتزرع هذه الحنطة، فإن قال: ولا تزرع غيرها، ففي التهذيب: الجزم بالفساد، وإن لم يتعرض للنفي، فعن ابن القطان حكاية وجهين:
أحدهما: أن العقد فاسد؛ لأن تلك الحنطة قد تتلف فتتعذر الزراعة.
والثاني: وهو اختيار القاضي ابن كج: أنه كتعيين الجنس، وهو ما حكاه
الماوردي مستشهداً به على داود في أصل المسألة.
فرع: لو زرع [الذرة أو الأرز، والإجارة واقعة على زراعة القمح؛ فللآجر إجباره على القلع؛ لتعديه، وهل يكون ضامناص لرقبة الأرض حتى يضمن قيمتها إذا غصبت أو تلفت بسيل [مثلاً؟] فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد أنه يضمنها.
والثاني: وهو الأصح في الحاوي لا؛ لأن تعديه في المنفعة، لا في الرقبة، ثم إذا قلع الزرع، نظر: فإن أمكن زراعة الحنطة زرعها، وإلا لم تزرع، وعليه [الإجارة] لجميع المدة؛ لأنه المفوت للعقد على نفسه.
ثم إن لم تمض مدة لمثلها أجرة فذاك، وإن مضت فما المستحق؟ الحكم فيه كما لو لم يتفق القلع حتى مضت المدة، وحصلت الذرة، وحاصل ما قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو ما نص عليه في المختصر، وبه قطع أبو علي الطبري، والقاضي أبو حامد، وكذا ابن سريج؛ كما حكاه ابن كج والماوردي: أن المالك بالخيار بين أن يأخذ المسمى في مقابله زرع القمح وأجرة المثل فيما زاد على ذلك، وبين أن يأخذ أجرة المثل [في زراعة] الذرة؛ لأنه أخذ شبها من أصلين: من الغصب؛ لأنه ابتدأ بالزرع وهو غير مأذون له فيه، ومن استئجار البهيمة إلى موضع فيجاوزه، فلما أخذ شبهاً منهما خير بينهما.
والثاني: وهو اختيار المزني والقاضي الحسين أن الواجب المسمى وأجرة المثل للزائد، كما سنذكره فيما إذا اكترى دابة إلى موضع، فجاوزه؛ وهذان القولان لم يحك ابن القطان سواهما.
والثالث: أن الواجب أجرة المثل، وهو الذي صححه الروياني، وهو مع الذي قبله أثبتهما المزني وأبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة، وحملا تخيير [الشافعي عليهما]، وهي الطريقة التي جعلها الرافعي أظهر، وحكاها الشيخ أبو حامد ومن تابعه، والقاضي الحسين عن ابن سريج أيضاً.
وقد بنى الشيخ أبو محمد في السلسلة قول الرجوع بأجرة المثل: على أن
البائع إذا أتلف المبيع قبل القبض ينفسخ العقد، ويقدر كأن العقد لم يكن، وقول التخيير: على أن البيع لا ينفسخ، ويثبت للمشتري الخيار.
قال الرافعي: وهذا البناء ليس بواضح؛ لأن المكري هو الذي يقع في رتبة البائع، ولم يوجد منه إتلاف، وإنما المكتري هو الذي فوت المنفعة على نفسه فكان بإتلاف المشتري أشبه.
وهذا الخلاف بعينه يجري فيما إذا استأجر داراً، فأسكنها الحدادين والقصارين، أو دابة ليحمل عليها قطناً فحمل حديداً، أو ليقطع بها مسافة إلى ناحية فقطع بها مسافة أخرى أطول من تلك، كما حكاه القاضي أبو الطيب وفيه نظر، وفيما إذا اكترى غرفة ليضع فيها مائة من من الحنطة فأبدلها الحديد، وفي كل صورة لا يتميز فيها المستحق عما زاد.
ولو استأجر للزراعة فغرس أو بنى، فالواجب أجرة المثل ومنهم من طرد الخلاف فيه.
قال: وإن استأجر دابة ليركبها أركبها مثله أي: في الطول والقصر والضخامة والنحافة كما يجوز أن يؤجرها من غيره، وعن المزني أنه لا يجوز وبنى عليه ما تقدم ومن طريق الأولى: جواز إركابه دونه، ولا يجوز أن يركبها [من] هو فوقه؛ وهذا الحكم لا يختص بمسألة الدابة، بل هو جار في كل مستوفى؛ حتى إذا اكترى ثوباً للبس يجوز أن يلبسه من هو مثله؛ وإذا استأجر دابة لحمل القطن كان له حمل الصوف والوبر والتبن وبالعكس، ولو استأجر لحمل الحديد كان له حمل الرصاص والنحاس، ولو استأجر لحمل القمح؛ كان له حمل قدره من الشعير؛ إن كان التقدير بالكيل؛ لأنه دون حقه. وإن كان التقدير بالوزن، فلا؛ لأن الشعير ينتفش، فهو كالقطن مع الحديد لا يجوز أن يوضع أحدهما مكان الآخر.
ولو استأجر دابة، ليركبها بإكاف، كان له أن يركبها بالسرج؛ [لأنه أخف، ولو عكس لم يجز؛ قاله القاضي الحسين.
ولو اكتراها لحمل متاع، فأبد السرج] بالإكاف، قال القفال: يجوز إذا لم يكن أثقل من السرج، ولو عكس لم يجز، قال الروياني: وفيه نظر عندي.
ولو استأجر للحمل، فأراد أن يركب من لا يزيد وزنه على وزن المحمول، فقد أطلق الماوردي القول بالمنع.
وقال في التتمة: يرجع إلى أهل الصنعة؛ فإن قالوا: لا يتفاوت الضرران جاز، وإلا فلا.
ولو استأجر للركوب؛ فأراد أن يحمل، قال القاضي الحسين: له ذلك، إذا كان مثل ضرر الركوب أو دونه.
وقال الرافعي: الأظهر المنع في الطرفين، وهو قضية ما في التهذيب.
وكما يجوز أن يركب مثله يجوز له إذا اكترى إلى بلد أن يركب إلى مثل تلك المسافة من ناحية أخرى إذا كان مثلها في السهولة والحزونة والأمن.
وفي الرافعي حكاية عن "شرح المفتاح" منع ذلك؛ لأنه قد يكون للمكري غرض في ذلك الموضع، وهو ما جزم به القاضي الحسين في ضمن فرع أوله: إذا اكترى دابة [ليركب فرسخين- لم يجز حتى يبين الجهة].
قال: وإن أكل بعض الزاد [أي] الذي قدره ووصفه حالة العقد كما هو المعتبر فيه.
[قال:] وقيمته تختلف في المنازل جاز أن يبدله؛ لأن له فيه غرضاً [صحيحاً]، قال: وإن لم تختلف ففيه قولان:
أحدهما: يبدله كما يبدل ما سرق منه أو تلف بغير الأكل أو أكل الجميع وكالحمل بدل الماء الذي شربه وهذا ما اختاره المزني، وهو الأصح في تعليق القاضي الحسين.
والثاني: لا يبدله اعتباراً بالعرف المعهود فيه، وهو أن الزاد إذا فني بالأكل لا يبدل، وهذا الخلاف نازع إلى تعارض العرف واللفظ؛ فإن العقد تناول حمل كذا من موضع كذا إلى موضع كذا وهو شبيه بالخلاف المذكور في المشي في وقت الرواح.
وفي [البحر] أنه قيل: [إن] الوجهين في النزول في وقت الرواح مأخوذان من هذين القولين، وهذه الطريقة هي الصحيحة.
وفي المهذب، والحاوي: ما يفهم إجراء الخلاف في الإبدال مطلقاً؛ فإنه قال: إذا أكل بعض الزاد فهل له إبداله؟ فيه قولان.
وقال أبو إسحاق: إن كانت أسعار الزاد في المنازل متساوية في الرخص والغلاء وكان انقطاعه مأموناص لم يكن له الإبدال، وإن كان ينتقل إلى منازل يغلو فيها أثمان الزاد؛ فيبدل ولا يختلف القول فيه؛ لأن العرف [جار] فيه.
قال: [وإن اكترى دابة إلى مكان، فجاوزه، لزمه المسمى في المكان؛ لأنه استوفى المنفعة المقابلة له]؛ فاستقر عليه، كما لو اشترى طعاماً فقبضه وزيادة على وجه التعدي.
قال: وأجرة المثل لما زاد؛ لأنه تعدى بها فكان كالغاصب، ويخالف ما إذا اكترى لزراعة القمح فزرع الذرة حيث تجب أجرة مثل الجميع على قول؛ لأن ثم فعل المستحق لا يتميز عن الذي تعدى به؛ فلم يمكن إفراده بحكم، بخلاف ما نحن فيه.
وأيضاً: فإن ابتداء فعله ثم عدوان؛ فوجب أجرة المثل، والتعدي هنا إنما وجب بعد قطع المسافة؛ فكانت أجرة المثل واجبة إذ ذاك ولا خلاف أنه لا يضمن الدابة قبل المجاوزة، وأما بعدها، فيضمنها إن لم يكن صاحبها معها، وإن كان وتلفت في حال العلف والاستراحة فلا ضمان، وإن تلفت في حال الحمل فينظر: إن كان بسبب وقوع في بئر أو غيره ضمن جميع القيمة، وإن لم يحدث سبب ظاهر فكذلك على وجه في الرافعي في آخر الباب، والأصح: أنه لا يضمن الكل لكن هل يضمن النصف أو القسط؟ فيه خلاف سيأتي، وهذا إذا لم يشمل الكراء العود إلى الموضع الذي اكترى منه، أما إذا شمله كما إذا اكترى من مكة إلى مر الظهرن وليرجع إلى مكة فجاوزها إلى عسفان نظر فإن كان قد شرط عليه تسليمها بمكة فالحكم كما تقدم، صرح به الماوردي وفي صحة العقد مع هذا الشرط شيء سيظهر لك من بعد، وإن لم يشترط فإن كان الطريق بين مر
وعسفان، كالطريق بين مر ومكة في السهولة والأمن والقدر ولم يقم [بمر] أكثر من المدة التي قدراها عند العقد [أو ما جرت] العادة به عند الإطلاق لم يضمن بالخروج من مر، فإذا مضى القدر الذي [لو] رجع إلى مكة [فيه] لوصل إليها، انقضى زمان استحقاقه ووجب عليه تسليم الدابة إلى المالك أو وكيله إن وجده ثم، وإلا فإلى الحاكم كما سنذكره، فإن تعدى ذلك ضمن.
فروع:
إذا اكترى دابة إلى بلد فبلغ عمارتها فللمكتري استرداد الدابة ولا يلزمه تبليغه داره كذا أطلقه بعضهم.
وقال الماوردي مثل ذلك فيما إذا كان البلد واسعاً أما إذا كان صغيراً تتقارب أقطاره جاز أن يركب إلى منزله.
قلت: ويتجه أن يتخرج على القولين فيما إذا استاجر حمالاً يحمل وقراً إلى داره، وهي ضيقة الباب هل عليه إدخاله الدار [أم لا؟].
ووجه الثبوت: النظر إلى العرف، ثم على الأول: إذا لم يكن صاحب الدار
معها عليه أن يسلمها إلى وكيله إن كان له وكيل هناك، وإلا فإلى الحاكم فإن لم يكن [هناك] حاكم فإلى أمين فإن لم يجد أميناً ردها أو استصحبها إلى حيث يذهب كالمودع يسافر بالوديعة للضرورة.
إذا اكترى دابة إلى مكة لم يكن له الحج عليها، وإن اكتراها ليحج عليها ركبها إلى منى [ثم إلى عرفات ثم إلى المزدلفة ثم إلى منى ثم إلى مكة للطواف، وهل يركبها من مكة إلى منى] لأجل الرمي؟ فيه وجهان:
قال: وإن حمل عليها أكثر مما شرط أي: مما لا يقع التفاوت به بين الكيلين فتلفت وهي في يده أي: بسبب ذلك ضمان قيمتها؛ لأنه صار غاصباً، وأبدى القاضي ابن كج احتمالاً في أنه لا يضمن الكل.
قال: وإن كان صاحبها معها ضمن نصف القيمة في أحد القولين؛ لأن تلفها بمضمون وغيره فقسمت القيمة عليهما نصفين؛ كما لو جرحه واحد جراحة وآخر جراحات، وهذا ما صححه الشيخ أبو محمد في السلسلة. والقسط في الآخر مؤاخذة له بقدر الجناية، [وهذا ما رجحه الإمام وغيره، وحكى القاضي الحسين عن بعضهم القطع به.
فعلى هذا: إذا استأجر على حمل أربعين رطلاً فحمل عليها خمسين؛ ضمن خمس قيمتها، ويخالف الجراحة؛ لأن هنا التوزيع متيسر، بخلاف الجراحات، فإن مكانتها لا تنضبط، ولا معنى لرعاية مجرد العدد. وأصل هذا الخلاف: ما إذا أمر الإمام الجلاد أن يضرب الشارب ثمانين فضربه إحدى وثمانين، فمات [المجلود] كم يضمن [الجلاد] وفيه الخلاف المشهور، وفي شرح المختصر حكاية قول ثالث: أنه يضمن جميع القيمة؛ كما لو انفرد باليد وبعضهم حكاه وجهاً.
أما إذا كانت الزيادة مما يقع التسامح بها كالمكوك والمكوكين، فلا ضمان عليه بسببه ولا أجرة؛ قاله البندنيجي وغيره.
ولو تلفت الدابة بسبب غير الحمل، فإن تلفت في يده ضمنها، وإلا فلا
ضمان؛ لأنا حيث ضمناه في المسألة قبلها، ضمناه بالجناية، ولا جناية.
وعلى كل حال فما الواجب عليه من الأجرة؟
حاصل ما قيل فيه أربعة أقوال: ثلاثة منها ذكرناها فيما إذا استأجر [لزراعة القمح] فزرع الذرة.
ورابعها: أنه يخير المالك بين أخذ المسمى وما نقص من الدابة بسبب الزيادة، وبين أن يأخذ أجرة المثل والمشهور أن عليه أجرة المثل لما زاد.
فرعان:
أحدهما: إذا لم يحمل المستأجر على الدابة شيئاً بنفسه، ولكن سلم ذلك إلى الآجر حتى حمله على البهيمة نظر: إن كان الآجر جاهلاً بالحال بأن لبس عليه وقال: إنه القدر المستأجر عليه، وهو كاذب، ففيه طريقان: أحدهما: أن الحكم كما لو حمله المستأجر بنفسه.
والثاني: وهو ما حكاه القاضي الحسين أن المسألة على قولين في تعارض المباشرة والغرور، فإن اعتبرنا الغرور فهو كما لو حمله المستأجر أيضاً وهذا هو الظاهر، وبه أجاب الغزالي، وإن اعتبرنا المباشرة فلا ضمان ولا أجرة للزائد، وإن كان المكري عالماً بالزيادة نظر: إن لم يقل المكتري شيئاً ولكن حمله المكري فلا ضمان ولا أجرة، ولا فرق بين أن يضعه على الأرض فيحمله المكري على البهيمة أو بين أن يضعه على ظهر الدابة وهي واقفة فيسيرها المكري. وإن قال المستأجر للآجر: احمل هذه الزيادة فأجابه، قال في التتمة: فهو مستعير للدابة في الزيادة فلا أجرة، ويجب الضمان، وفي كلام الأئمة ما ينازع فيه.
الثاني: إذا كال المكري وحمل على البهيمة؛ فلا أجرة له لما زاد؛ سواء كان غالطاً أو عامداً وسواء كان المكتري جاهلاً بالزيادة أو عالماً فسكت، ولا يجب عليه ضمان البهيمة.
وللمستأجر مطالبة المكري بردها إلى الموضع المنقول منه، وليس للمكري ردها بدون رضى المستأجر، ولو لم يعلم المكتري حتى عاد إلى البلد المنقول منه، فله أن يطالب المكري بردها.
وأصح الوجهين، أو القولين: أن له المطالبة ببدلها في الحال؛ كما لو أبق العبد المغصوب من يد الغاصب، كذا حكاه الرافعي والبندنيجي.
وحكى الماوردي الخلاف على غير هذا النحو فقال: لو دعا المالك إلى المطالبة برد العين ودعا الجمال إلى رد مثلها في الحال؛ ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق، وابن أبي هريرة: أن القول قول رب المال، وله أن يأخذ الجمال بالرد؛ كالغاصب.
والثاني: أن القول قول الجمال؛ لأن الزيادة لما اتصلت فارقت حكم الغصب وصارت كالمستأجر عليها، وهذا إذا كان المحمول مما له مثل، أما إذا كان لا مثل له كالدقيق والسويق؛ لزم الجمال رد الزيادة بعينها على الوجهين معاً.
قال: وللمكتري أن يكري ما اكتراه بعد قبض العين: أي من الآجر وغيره؛ لقوة حاله بقبض المعقود عليه، ولا يجوز أن يكري قبل القبض من غير المكري في أصح الوجهين؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض، والإجارة بيع؛ ولأنه ملك المنافع بعقد معاوضة؛ فلم يكن له أن يعقد عليها عقد معاوضة قبل القبض كالمبيع وهذا ما صححه الإمام هنا أيضاً، وادعى عند الكلام في التصرفات في المبيع قبل القبض نفي خلافه.
والوجه الثاني: أنه يجوز؛ لأن المعقود عليه المنافع، والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين فلم يؤثر فيها القبض، وهذا قول ابن سريج.
وأجاب القاضي أبو الطيب عما ذكره [أبو العباس] بأن قبض المكتري يتعلق به الضمان؛ بدليل أن المدة إذا انقضت في يد الآجر، كانت من ضمانه، ولم تستقر له الأجرة، وإذا انقضت المدة والعين في يد المستأجر استقرت عليه الأجرة، ولزمه ضمان المنافع؛ فثبت بهذا أن القبض ينقل الضمان؛ فصار بمنزلة قبض الأعيان.
وقد بنى الماوردي الوجهين على الخلاف السابق في أن مورد عقد الإجارة ماذا؟ فإن قلنا: موردها العين؛ لم يصح، وإلا صحت.
وهذا البناء يقتضي أن يكون الصحيح الصحة؛ فإن الأصح عنده وعند غيره: أن مورد الإجارة المنفعة.
قال: ويجوز من المكري أي: قبل القبض في أصح الوجهين؛ لأن المعقود [عليه] في قبضه [وهذا قول ابن سريج.
والوجه الثاني: لا يصح كما لا يصح بيع المبيع من بائعه قبل قبضه على الأصح]، وهذا ما صححه في "البيان".
وقال أبو الطيب: إنه المذهب المشهور.
وفي تعليق للبندنيجي أنا إذا جوزنا الإجارة من الأجنبي فمنه أولى، وإلا فوجهان، كما قلنا إن بيع المبيع قبل القبض من الأجنبي لا يصح، وفي صحته من البائع وجهان، وعند الاختصار يكون في صحة الإجارة قبل القبض من الأجنبي والآجر ثلاثة أوجه:
ثالثها: يصح من الآجر دون الأجنبي، وهكذا فعل في المهذب.
ولا فرق فيما إذا أجرها من الآجر أو من غيره بين أن يكون بقدر الأجرة الأولى أو أكثر منها أو أنقص، و [قد ذكرت في البيع: أنه إذا باع المبيع من البائع قبل القبض بقدر الثمن الأول: أنا إن جوزناه بغير جنس الأول وقدره، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان؛ لأن ذلك في معنى الإقالة. ويظهر جريان مثل هذا هنا.
واعلم أن كلام الشيخ يقتضي أن استئجار الآجر ما أجره من مكتريه بعد القبض جائز، وإنما الخلاف فيما قبل القبض وهو ما أورده القاضي أبو الطيب والجمهور.
وقد حكى الماوردي وطائفة من المراوزة في صحة ذلك بعد القبض وجهين – أيضاً- لكن الماوردي بناهما على اختلاف بين أصحابنا في أن المنافع تحدث على ملك الآجر أو على ملك المستأجر؟ فإن قلنا بالأول صح، وإلا فلا.
وغيره بنى ذلك على خلاف سيأتي في أن المستأجر إذا ابتاع العين المستأجرة، هل تنفسخ الإجارة أم لا؟ فإن قلنا بانفساخها لأجل أن ملك الرقبة وملك المنفعة بالإجارة لا يمكن امتنع الاستئجار هنا؛ لأن الملك إذا قطع الدوام فمنعه الابتداء أولى.
وإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة لم يمتنع الاستئجار هنا؛ لأنه قد عقل أن يجتمع الملك في الرقبة والملك في المنفعة بالإجارة.
ومنهم من علل وجه المنع بأنه: لو صح لأدى إلى أن يكون الشيء مضموناً له
وعليه؛ لأن الضمان لم ينتقل بالقبض عنه إلى المستأجر، وذلك لا يجوز.
وقد نسب بعضهم وجه المنع إلى ابن سريج، ووجه الجواز إلى ابن الحداد، وعد ذلك من مناقضاته؛ لأنه حاكم بانفساخ الإجارة إذا اشترى المستأجر ما استأجره؛ لامتناع اجتماع الملك والإجارة.
وذكر عن الشيخ أبي علي أنه قال: فإن قال من يضره الاستئجار السابق لم يمنع صحة الملك اللاحق كذلك الملك السابق، وجب ألا يمنع صحة الاستئجار اللاحق لكن تنفسخ الإجارة إذا [اجتمع الأمران] كما انفسخت هناك.
فالجواب: أن ما ينفسخ إذا كان سابقاً وجب ألا يصح [إذا كان طارئاً على الملك].
قلت: وقد يظهر في دفع ما قدر ابتداؤه انتصاراً لابن الحداد أمراً آخر، وهو أن ابن الحداد لا يقول مع القول بصحة الإجارة بانفساخها ولو قال به لكان ملازماً للانعقاد، وحينئذ فلا يكون للقول بصحتها؛ معنى لأنها إذا انفسخت عادت المنفعة إلى الذي أجره وهو المستأجر، وكل ما لا يترتب عليه ما هو المطلوب منه فهو باطل.
فرع: إذا أجر الحر نفسه، ومكن المستأجر من منافعه، فهل يجوز له أن يؤجره، بناء على منع الإجارة قبل التسليم؟ فيه وجهان، أصلهما: أن الحر إذا سلم نفسه إلى المستأجر، فلم يستعمله، هل يستحق الأجرة بمضي المدة أم لا؟
فإن قلنا: تستقر الأجرة، فقد جعلناه قابضاً للمنافع؛ فيعقد عليها.
وإن قلنا: لا تستقر؛ فلم نجعله قابضاً للمنافع؛ فلا يعقد عليها.
والذي صار إليه الأكثرون: أن له الإيجار ولو كانت الإجارة على عمل في الذمة، ففي جواز نقلها للغير كلام نذكره في أواخر الباب.
قال: وإن تلفت العين المستأجرة، أي: مثل إن كانت أرضاً فغرقها السيل أو حيواناً فمات أو ثوباً فاحترق بعد القبض في أثناء المدة.
قال: انفسخت الإجارة فيما بقي، لفوات المعقود عليه- وهو المنفعة- قبل
قبضها؛ لأنها إنما تحدث شيئاً فشيئاً، وما سبق من القبض، فأثره في جواز التصرف [وجواز التصرف] لا ينافي الفسخ؛ كما يجوز للبائع التصرف في الثمن قبل القبض [ويملك الفسخ بسبب الإفلاس به.
وذهب أبو ثور إلى أن العقد لا ينفسخ؛ لأنه تلف بعد القبض] المستحق بالعقد؛ فأشبه تلف المبيع بعد القبض، حكى عنه ذلك القاضي أبو الطيب وغيره، وحكى عنه القاضي الحسين أن المنفعة تدخل في ضمان المستاجر بنفس العقد كما أن مذهبه دخول المبيع في ضمان المشتري بمجرد العقد.
قال: دون ما مضى أي: إذا كان لمثله أجرة؛ لاستقراره بالقبض وهذا ما دل عليه أكثر الأصحاب، وهو الأصح في البحر وغيره.
قال: وقيل فيما مضى قولان:
وجه الامتناع ما ذكرناه.
ووجه مقابله: أن العقد واحد، فلا سبيل إلى فسخه في شيء دون شيء، وقد انفسخ في شيء، فوجب أن ينفسخ في الباقي]، وهذا الخلاف أصله ما إذا باع عبدين فتلف أحدهما قبل القبض فإن العقد ينفسخ فيه وهل ينفسخ في الباقي؟ على طريقين، أما إذا لم يكن لما مضى أجرة، انفسخ في جميع المدة.
ولا فرق في جريان الخلاف بين أن يكون التلف بآفة سماوية، أو بإتلاف المستأجر.
وعن ابن أبي هريرة: أنها إذا تلفت بفعل المستأجر، استقرت عليه الأجرة؛ كما يستقر الثمن على المشتري بإتلافه المبيع.
والمذهب الأول؛ لأن البيع ورد على العين؛ فجعل إتلافها قبضاً، والإجارة وردت على المنافع، ومنافع الزمان المستقبل معدومة لا يتصور ورود الإتلاف عليها.
التفريع:
إن قلنا: ينفسخ العقد فيما مضى، فالواجب على المستأجر أجرة المثل، وله استرداد ما دفعه، فإن كان من نوع أجرة المثل، جاءت فيه أقوال التقاص.
وإن قلنا: لا ينفسخ، فهل يثبت للمستأجر الخيار؟
قال في البحر: إن كانت الأجرة عرضاً، فنعم؛ لتضرره بالتبعيض.
وإن كانت نقداً، فلا؛ إذ [لا تبعيض].
ومنهم من خرجه على وجهين.
والماوردي وغيره حكوا الوجهين مطلقاً، وصحح الإمام والبغوي منهما المنع؛ لأن المنافع قد صارت مستوفاة مستهلكة.
والذي أجاب به ابن الصباغ والبندنيجي وآخرون- الثبوت، وإيراد القاضي الحسين يقتضي ترجيحه في موضع، وجزم به عند الكلام في حصول السيل على الأرض في بعض المدة؛ لأن جميع المعقود عليه لم يسلم له.
فعلى هذا: إن فسخ، فالحكم كما تقدم.
وإن أجاز، أو قلنا: لا خيار له.
قال الرافعي: وجب قسط ما مضى من المسمى والتوزيع يكون على قيمة منفعة المدتين، لا على قدر المدتين، فإذا كانت الإجارة على سنة، و [قد] مضت أربعة أشهر في يد المستأجر، وأجرة مثلها مائة، وأجرة باقي السنة خمسون استقر عليه ثلثا الأجرة.
والاعتبار في حالة التقويم بحالة العقد دون ما يطرأ من بعد، كما صرح به القاضي الحسين وغيره.
وفي الحاوي والبحر حكاية قول مخرج: أنه إذا أجاز، فليجز بكل الأجرة، أو يفسخ، كما قيل في البيع.
واعلم أنه يلتحق بتلف العين المستأجرة في انفساخ الإجارة طرآن الحيض على من استؤجرت عينها لكنس المسجد في أثناء المدة أو ابتدائها، دون ما إذا ألزمت ذمتها كنسه؛ لإمكان تفويضها الكنس إلى غيرها، وأن تكنس بعد الاغتسال.
وكان بعض مشايخنا يقول: ينبغي في الصورة الأولى أن يخرج الانفساخ على الخلاف الآتي فيما إذا تلف الثوب المستأجر على خياطته حتى يقال: على وجه لا ينفسخ، وتكنس قذر المسجد.
قلت: وقد يجاب عن ذلك بأن كلام الأصحاب محمول على ما إذا وقع الاستئجار بالريع المرصد لذلك أو هو الغالب وإذا كان كذلك فكنس غيره غير
ممكن فلذلك جزم فيه بالانفساخ، ثم على تقدير أن تكون الإجارة قد وقعت من آحاد الناس بماله فيشبه أن يكون القول بصحتها كالقول في الاستئجار على الآذان، فإن صح فقد ملك المسلمون تلك المنفعة، وفي استعمال المرأة في كنس [غير] المسجد تفويت لتلك المنفعة على مستحقها وذلك لا يجوز.
قال: فإن وجد به عيباً أو حدث فيه عيب؛ أي: والعقد على عينه ثبت له خيار الفسخ؛ لتضرره بالبقاء، كذا أطلقه الجمهور.
قال الرافعي: والوجه ما قاله المتولي، وهو أنه إن أراد أن يفسخ في جميع المدة، فهو كما لو اشترى عبدين، فتلف أحدهما، ثم وجد بالقائم عيباً، وأراد الفسخ فيهما.
وإن أراد الفسخ فيما بقي من المدة، فهو كما لو أراد الفسخ في العبد القائم وحده، وحكمهما مذكور في البيع.
ومهما امتنع الفسخ، فله الأرش.
ثم هذا الخيار، هل هو على الفور أو على التراخي؟
قال في الحاوي: إنه على التراخي؛ لأنه يتجدد بمرور الأوقات لحدوث النقص فيها، فلو أجاز [العقد] ثم أراد أن يفسخ، قال الرافعي في أواخر الباب: ينظر: إن كان ذلك العيب لا يرجى زواله- كما إذا انقطع الماء، ولم يتوقع عوده- فليس له الفسخ؛ لأنه عيب واحد وقد رضي به.
وإن كان بحيث يرجى زواله، فله الفسخ ما لم يزل؛ لأنه يقدر [كل ساعة] زواله فيتجدد الضرر، وهذا كما قلنا في زوجة المولى إذا تركت المطالبة بعد انقضاء مدة الإيلاء، وكما لو استأجر عبداً، فأبق قبل القبض، وأجاز، ثم أراد الفسخ فإن له ذلك ما لم يعد، فلو زال العيب قبل علم المستأجر بزواله؛ كما إذا تشعثت الدار، فلم [يختر المستأجر] الفسخ حتى عمرها المؤجر ففي بقاء الخيار وجهان في البحر.
قال:
…
فإن فسخ لزمه أجرة ما مضى أي إذا كان لمثله أجرة؛ لأنه مضمون بالعقد، أما إذا لم يكن لمثله أجرة فلا شيء عليه واسترجع الأجرة إن كان قد
دفعها، ثم المرجوع به إذا كان لمثل ما مضى أجرة ماذا؟ قال الأصحاب: ذلك ينبني على أن الفسخ في هذه الحالة يرفع العقد من حينه أو أصله، وفيه الطريقان السابقان، فإن رفعه من أصله كان اللازم أجرة المثل، وإن رفعه من حينه فاللازم ما يقابل المدة من المسمى على النعت الذي تقدم وعلى هذا ينبغي ملاحظة ما قاله المتولي، ولو أجاز المستأجر العقد استحق عليه جميع المسمى.
وفي ابن يونس: أنه قيل: تقوم المنفعة سليمة من العيب [وتقوم وبها] ذلك العيب، ثم تقسم الأجرة على القيمتين، فيجب عليه من الأجرة بقدر ما يخصها من العيب وتسقط الزيادة على ذلك، وهذا لم [أره لغيره] فيما وقفت عليه على هذا النحو بل المذكور في المهذب: أنه إذا اكترى داراً فتشعثت فبادر المكري إلى إصلاحها لم يكن للمستأجر ردها فإن لم يبادر ثبت له الفسخ؛ لأنه يلحقه ضرر بنقصان المنفعة وإن رضي بسكناها ولم يطالب بالإصلاح فهل يلزمه جميع الأجرة فيه وجهان:
وجه عدم اللزوم: أنه لم يستوف جميع ما استحق من المنفعة فلم تلزمه جميع الأجرة كما لو اكترى داراً سنة فسكنها بعض سنة ثم غصبت، فإن كان الشيخ عني بالتشعث ما يفهم في العرف من تكسير البلاط وزوال بعض البياض وانكسار جزع ونحو ذلك، فكلام ابن يونس موافق لكن يشكل على ذلك الفرق بين ذلك وبين [ما إذا اطلع] المشتري على عيب بالمبيع وأجاز فإنه لا يرجع بالأرش، وإن كان الشيخ قد عنى بالتشعث زوال سقف الدار [ونحوه فالخلاف الذي ذكره يشبه أن يكون مبنياً على أن إحراق سقف الدار] هل ينزل بمنزلة تلف أحد العبدين أو منزلة اليد من العبد؟ وفيه خلاف مذكور فيما تقدم، فمن قال: يخير بالقسط بناه على أنه كأحد العبدين، ومن قال: يخير بجميع المسمى بناه على أنه كاليد من العبد، وعلى هذا فالحكم في البيع والإجارة واحد ولا يكون كلام ابن يونس منطبقاً على هذا، واعلم أن العيب الذي يثبت الخيار في الإجارة، هو ما يؤثر في المنفعة تأثيراً يظهر به [تفاوت الأجرة، لا ما يظهر به] تفاوت قيمة الرقبة، فإن مورد العقد المنفعة، وذلك مثل: مرض العبد، وضعف
بصره، والجذام، والبرص في المستأجر للخدمة دون المستأجر لرعي المواشي والبناء، وكون لبن المرضعة لا يستمرئ الطفل [به] لعلة في اللبن؛ كما صرح به الماوردي، وكون الطفل لا يقبل لبن المرضعة، على أحد الوجهين في تعليق القاضي الحسين.
وحكى الرافعي في هذه الصورة وجهين:
أحدهما: ينفسخ.
والثاني: يبدل الصبي بغيره.
وكذا كون الأجير كافراً والمستأجر عليه بناء مسجد أو نحر أضاحي، ووقع العقد على عينه وإن وقع على ذمته، قيل له: إن استَنَبْتَ مسلماً؛ فلا خيار للمستأجر، وإن أردت أن تفعل بنفسك، كان للمستأجر الخيار؛ قاله الماوردي.
ومرض الدابة وعرجها بحيث تتأخر عن القافلة عيب، وكذا [لو كان] البعير المستأجر للركوب صعب الظهر أو خشن السير.
و [كذا] انهدام حائط في الدار، وانكسار جذع فيها- عيب؛ ولكن لو بادر الآجر إلى الإصلاح؛ فلا خيار.
وتغير ماء البئر في الدار المستأجرة بحيث يمنع الشرب- إن كانت العادة بالشرب من الآبار- عيب. وكذا إن لم تكن العادة جارية بالشرب منها ومنع تغيره الطهارة.
ولو قال ماء البئر، فإن كان مععهوداً في وقته، فلا خيار. وإن كان غير معهود في ذلك الوقت فإن كان مع نقصانه كافياً لما يحتاج إليه المستأجر من شرب أو طهارة- فلا خيار، وإن قصر عن ذلك، فله الخيار، وتغير ماء الرحا لا يثبت الخيار وكذا نقصه في الوقت المعتاد ويثبت إذا نقص في غير وقته وعدم دخول الناس الحمام؛ لفتنة حادثة أو خراب الناحية- عيب؛ صرح به في البحر.
وفي الحاوي: أن خراب ما حول الدار المستأجرة، وبطلان السوق الذي فيه الحانوت المستأجر- لا يثبت الخيار؛ لأنه عيب حدث في غير المعقود عليه ولا فرق في ثبوت الخيار بالعيب على المذهب بين أن يكون قد حصل بآفة سماوية أو بفعل المستأجر.
وقال الإمام: قد يختلج في الصدر خلاف، وذلك إذا حصل بفعل المستأجر؛ لتضمن الرضا بالعيب.
قال: فإن كانت داراً فانهدمت أو أرضاً فانقطع ماؤها، ففيه قولان:
أحدهما: تنفسخ، لأن المقصود السكنى والزراعة وقد فات ذلك فأشبه موت العبد المستأجر، فعلى هذا يكون الحكم في الانفساخ وغيره كما تقدم.
والثاني: يثبت له الخيار لأن بعض المعقود عليه موجود والانتفاع به على الجملة ممكن [فأشبه العيب وهذه الطريقة هي المشهورة.
وقيل: في الانهدام تنفسخ؛ لأنها لا تبقى داراً وفي انقطاع الماء لا تنفسخ؛ لأن مسمى الأرض باقٍ [والزرع ممكن] بالأمطار، وسوق ماء آخر إليها، وهذا ظاهر النص في الصورتين، وهو الأصح حيث يثبت الخلاف.
ثم إذا قلنا بثبوت الخيار، فينظر: فإن كان الانهدام أو الانقطاع طرأ قبل مضي مدة لمثلها أجرة، كان بالخيار بين أن يخير بكل الأجرة أو يفسخ.
وقيل: إن اختار الإجارة، كانت بالحصة؛ وفي هذا نظر.
وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة؛ فله الخيار في المستقبل، وهل له الخيار في الماضي؟ فيه وجهان في الحاوي.
فإن أثبتنا له الخيار في الماضي والمستقبل، فاختار الإجازة في الماضي والفسخ في المستقبل لزمه حصة الماضي من المسمى.
قال الماوردي: وقد خرج قول آخر: أنه إن أقام على الماضي بكل الأجرة وإلا فينفسخ.
ومحل ثبوت الخيار في الأرض إذا امتنعت الزراعة، أما لو قال الآجر: أنا أسوق إليها الماء من موضع آخر، وساقه سقط الخيار؛ كما لو بادر إلى إصلاح الجدار.
قال: وإن غصبت العين حتى انقضت المدة فهو كالمبيع إذا تلف قبل القبض وقد بيناه في البيع، استغنى الشيخ- رضي الله عنه بما ذكره في البيع عن الإعادة هنا فلا بدل من تجدد العهد به فنقول: إذا غصب العين المستأجرة أجنبي
حتى انقضت المدة فهل تنفسخ الإجارة؟ فيه طريقان:
أحدهما: حكاية قولين فيه كما هي طريقة الشيخ في البيع فالصحيح منهما: الانفساخ كما حكاه الماوردي، وهو نظير ما حكيناه في البيع عن أبي الطيب والمتولي، وقد حكى الرافعي أنه هاهنا منصوص عليه للشافعي وبه أجاب أكثر الأصحاب.
والقول الثاني: لا تنفسخ بل يثبت للمستأجر الخيار، وقد حكينا عن القاضي الحسين والإمام وغيرهما أنهم صححوه في نظير المسألة من البيع، وكان مقتضى التشبيه أن يكون هو الصحيح عندهم هنا أيضاً كما صار إليه الروياني لكنهم رجحوا الأول هاهنا.
وقال الإمام في باب الوصية: إنه المذهب الصحيح.
وفرق القاضي الحسين في آخر باب التحالف بأن المعقود عليه في باب البيع المال وما وجب على الجاني مال والمال قابل للعقد ابتداء؛ فلهذا تعدى العقد من العين إلى بدلها بخلاف الإجارة فإن المعقود عليه المنفعة، وما وجب على المتلف للمنفعة مال والمال لا يقبل عقد الإجارة ابتداء؛ فلهذا لم يتعد العقد من المعقود عليه إلى بدله؛ لأنه غير قابل لجنس العقد الذي ورد على أصله، وبهذا الفرق فرق المتولي أيضاًز
والطريق الثاني: لا تنفسخ قولاً واحداً كما حكاه [الروياني] وهو نظير الطريق الذي حكاها صاحب العدة عن أبي العباس في نظير المسألة في البيع.
وإن كان الغاصب الآجر بعد أن سلمها أو منعها ابتداء ولم يسلمها حيث وجب عليه التسليم ففيه طريقان:
أحدهما: القطع بانفساخ الإجارة.
والثاني: طرد القولين اللذين في غصب الأجنبي، صرح بهما الماوردي والمتولي، وإن كان الغاصب المستأجر استقرت عليه الأجرة كما تستقر عليه إذا أتلف المبيع.
وصورة غصبه: أن يأخذ العين من الآجر من غير إذنه قبل إقباضه الأجرة الحالة.
تنبيه: في قول الشيخ: حتى انقضت المدة، ما يفهمك أن الخلاف المذكور في الانفساخ لا يطرد فيما إذا كان العقد على عمل معين؛ مثل: أن يستأجر بعيراً ليركبه إلى موضع كذا فيغصب وتمضي مدة يمكن المضي فيها إلى ذلك الموضع كما صرح به في المهذب، وكلام الماوردي، والروياني في البحر يفهم أن الخلاف يطرد في هذه الحالة أيضاً فإنهما قالا بعد حكاية الخلاف في الانفساخ: إذا كان الغاصب أجنبياً.
والأصح: أنه لا يبطل فعلى هذا إن كان الركوب مقدراً بمدة يخير بين شيئين:
أحدهما: المقام على الإجارة والرجوع على الغاصب.
والثاني: فسخ الإجارة، وإن كان الركوب مقدراً بالمسافة كان خياره بين ثلاثة أشياء:
- الفسخ والرجوع بالمسمى.
- الإجازة والرجوع على الغاصب.
- الإجازة وركوب البعير إلى المسافة.
وفي النهاية عند الكلام في موت الرضيع: حكاية خلاف عن العراقيين يعضد إجراء الخلاف الذي يفهمه كلام الماوردي [وسنذكره، وكذلك فيها، وفي الوسيط ما يقتضيه]؛ فإنهما حكيا- فيما إذا حبس المكري الدابة ولم يسلم ولم يكن قد عين مدة وجهين:
أحدهما: ينفسخ، واختاره الإمام بعد أن نسبه إلى المراوزة؛ لأن المدة وإن ذكرت فليست معينة، وإنما المطلوب المنفعة فيها فليكن الاعتبار بمضي زمان إمكان الانتفاع؛ ولأن المكتري لو حبسها هذه المدة استقرت عليه الأجرة كما لو حبسها المدة المسماة، فإذا سوينا بين نوعي الإجارة في حق المكتري؛ وجب أن نسوي بينهما في حق المكري.
والثاني: وهو الذي أجاب به العراقيون- أنها لا تنفسخ.
قال في الوسيط: لكن يقال: قد تأخر حقه فله الخيار إن شاء؛ لأن الوقت
غير معين.
قال الرافعي: وعدم الانفساخ به أجاب الأكثرون، ورواية الأصحاب في الخيار تخالف ما رواه فإنهم قالوا: لا خيار للمكتري كما لا خيار للمشتري إذا امتنع البائع من تسليم المبيع مدة ثم سلم.
قلت: الوجه ما رواه الغزالي وبه أجاب الماوردي، ويخالف امتناع البائع من التسليم فإن الإجارة لا تراد للدوام ولا في كل وقت وزمان بل عند الحاجة إليها.
فإذا تعذر عليه السير في الوقت الذي استأجر فيه فقد فات المطلوب؛ فلذلك ثبت له الخيار، [والملك يراد للداوم، فأي وقت حصل فيه التسليم حصل الغرض؛ فلذلك لم يثبت له خيار. والله أعلم].
فروع:
لو ابتدر الآجر حين الغصب إلى انتزاع المغصوب، فإن لم تمض مدة لمثلها أجرة، فلا خيار للمستأجر، واستحق عليه تمام المسمى.
وإن مضت مدة لمثلها أجرة، فإن قلنا بالانفساخ في مدة الغصب فالحكم كما سنذكره فيما لو هرب المكري، والعقد على منفعة، وهي مقدرة بالمدة.
وإن قلنا بعدم الانفساخ، ثبت له الخيار لا غير.
ولو قدر الآجر على انتزاع المغصوب من الغاصب، فهل يجب عليه ذلك؟ فيه وجهان: أصلهما ما إذا احتاجت الدار المستأجرة إلى إعادة جدار أو جذع أو مفتاح ضاع في يد المستأجر، وفيه خلاف:
مذهب العراقيين- وهو الأظهر-: أنه لا يجب عليه ذلك؛ لما فيه من إلزام عين لم يتناولها العقد؛ فأشبه ما إذا احتاجت الدار إلى باب أو ميزاب.
والذي صار إليه القاضي الحسين والشيخ أبو محمد: أنه يجب؛ توفيراً للمنفعة؛ كما يجب عليه إقامة جدرانها، بل وإصلاح جذع منكسر وما يجري مجراه من مرمة لا يحتاج فيها إلى تجديد عين.
قال الرافعي: وكلام السرخسي يوهم طرد الوجهين في عمارة يحتاج إليها
لخلل قارن العقد كالباب، والميزاب. وإن جماعة أجابوا بعدم الإجبار على إقامة الجذع ونحوه، ومنهم البغوي، والمتولي [والعراقيون كما حكاه الإمام،] والدعامة التي تمنع الانهدام إذا احتيج إليها في معنى جذع [جديد] أو في [معنى] إقامة مائل، فيه تردد.
قال: وإن مات الصبي الذي وقعت الإجارة على إرضاعه انفسخ العقد على المنصوص، أي: في الجامع والنفقات من الأم؛ لتعذر الاستيفاء بتعذر الإبدال؛ لاختلاف الصبيان في الرضاع؛ فلهذا لم نكتف في الاستئجار عليه بوصف الرضيع بل اشترطنا رؤيته.
وقيل: فيه قول آخر؛ أنه لا ينفسخ؛ لأنه مستوفى به فلا تبطل الإجارة بموته كالراكب.
قال: فإن تراضيا على إرضاع غيره جاز؛ لأن الحق لهما ولا يعدوهما وإن تشاحا أي: تمانعا في إرضاع غيره فسخ العقد لتعذر إمضائه، والفاسخ له- كما قال البندنيجي وغيره- المستأجر، ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي: أنه لا فرق في الرضيع بين أن يكون ولد المستأجرة أو لا.
وحكى الإمام [أن محل الخلاف] فيما إذا كان غير ولدها، أما إذا كان ولدها: فإن فرعنا على أنها تنفسخ بموت الأجنبي فهنا أولى، وإلا فقولان منصوصان:
وجه الانفساخ: أن لبنها لا يدر على الأجنبي دروره على ولدها، ثم قال: وهذا ضعيف لا أصل له، والمصير إلى الانفساخ باطل مطلقاً.
قال في المهذب: وفي معنى موت الصبي أن يستأجر كحالاً فيبرأ أو من يقلع ضرسه فيسكن الوجع أو من يقتص له فيعفو عن القصاص فيكون على القولين، وقد حكى في مسألة الكتاب وجه: أن له إبدال الصبي مع بقائه، [وطرده متجه في باقي الصور [ومن أصحابنا] من أقام قلع وتد مقام الضرس عن سكونه].
وحكى القاضي في مسألة الاستئجار على قلع الضرس وجهاً: أن العقد لا
ينفسخ، بل يبقى في ذمته إلى وقت هيجان الوجع، فحينئذ يقلعه، وهو قريب مما حكيناه من قبل عن اختيار أبي الطيب.
وألحق الأصحاب بمسألة الرضيع ما إذا استأجره لرعي أغنام بأعيانها فتلفت، وما إذا استأجره لخياطة ثوب بعينه أو حفظه فتلف؛ كما حكاه الإمام، لكن الإمام حكى الخلاف في مسألة الثوب وجهين عن العراقيين، وقال: أصحهما أن العقد لا ينفسخ، وهذا ما جزم به الماوردي عند الكلام في الأجير المشترك.
قال الإمام: وعلى هذا فقد حكى العراقيون وجهين فيما لو قال المستأجر: ليس عندي ثوب آخر، أو: لست آتي به والثياب عندي عتيدة في أن الأجرة تستقر إذا مضت [مدة] يتأتى فيها العمل أو لا تستقر، وإذا مضت المدة انفسخت الإجارة؟ وهذا ما أشتر إليه من قبل، وقد جزم في التهذيب في كتاب الخلع بالانفساخ عند الامتناع من الإبدال للعجز.
والوجه المذكور في جواز إبدال الرضيع مع بقائه مطرد هنا، وقد حكاه المتولين وصححه الإمام عن العراقيين في كتاب الصداق، وقال: إنه الأظهر، وقال: إن الممكن من الفرق على منع الإبدال- بينه وبين إبدال الراكب-: أن منفعة الدابة لا تقع بالراكب، وإنما هي انتفاع من غير تأثر به، والثوب يتأثر بالخياطة، وتقع فيه وتبقى ما بقي، والأثر عند الشافعي كالعين على قول مذكور في كتاب التفليس، وإذا كان كذلك، فالأعيان لا يدخلها الإبدال في العقود الواردة على الأعيان.
ثم قال: وقد اختلف الأئمة في تنزيل الوجهين:
فمذهب العراقيين وطوائف من المراوزة: أنا إذا منعنا الإبدال نمنعه مع التراضي به، إلا أن يعرض عقد صحيح.
وصار صائرون إلى أن محل الخلاف فيما إذا أراد المالك أن يبدل، فأبى الخياط، أما إذا تراضيا جاز بلا خلاف؛ وهذه طريقة القاضي.
والذي حكاه الرافعي عن العراقيين والشيخ أبي علي: انفساخ الإجارة بتلف الثوب المعين، وبه أجاب ابن الحداد- فيما إذا اكترى دواباً في الذمة لحمل
خمسة أعبد معينين، فمات اثنان، وحمل ثلاثة- أن له ثلاثة أخماس الكراء ويسقط خمساه؛ إذا تساوت أوزانهم، ويوافقه نص الشافعي فيما لو نكح امرأة على خياطة ثوب معين فتلف قبل أن تخيطه: أن لها مهر المثل، لكن الشيخ أبا علي صور المسألة في الثوب بما إذا وقع العقد على [عين] الدابة ليحمل عليها متاعاً بعينه، أو ليركبها مدة بجواز الإبدال، وأن العقد لا ينفسخ بهلاك المتاع والراكب، وفرق بأن العقد والحالة هذه يتناول المدة، ألا ترى أنه لو سلم الدابة، ولم يركب، تستقر الأجرة، وفيما إذا استأجر لخياطة الثوب المعين العقد يتناول العمل؛ ولهذا لو سلم نفسه مدة يمكن فيها الخياطة، ولم يخط، لم تستقر الأجرة.
قال الرافعي: وفيما ذكره نزاع سنعرفه من بعد.
قلت: النزاع الذي سيأتي فيما إذا وقع العقد على العين، كما إذا استأجره لخياطة ثوب بعينه، فسلم نفسه مدة تسع الخياطة، هل تستقر به الأجرة أم لا؟ وما ذكره الشيخ أبو علي وإن كان مشابهاً لهذه الصورة، فالمراد: إذا التزم الأجير خياطة الثوب في الذمة؛ فإنه صور المسألة كذلك، وسيأتي أن الإجارة إذا كانت على عمل في الذمة لا تستقر إلا بالعمل.
فرع: لو لم يتلف الثوب المعين للخياطة، لكن بدا للمستأجر أن يقطعه.
قال الإمام: الذي يتجه عندنا: أنه لا يجب عليه الإتيان به؛ ليقطع، ولكنا إذا فرعنا على أن أجرة الأجير تستقر [بعد مضي] مدة تسع العمل، فإذا لم يأت بالثوب حتى مضت تلك المدة بعد التمكين استقرت الأجرة.
وإن قلنا: إن الأجرة لا تستقر بالتمكين ومضي المدة؛ يثبت للأجير الخيار، فإن فسخ تخلص، وسلمت [منافع نفسه] وإن لم يفسخ، فهو المتسبب في تفويتها.
وأما المستأجر، فلا خيار له بحال؛ لأن العذر من جهته.
قلت: وما قاله من عدم إلزامه القطع مع تفريعنا على أن الأجرة تستقر بالتمكين ومضي المدة لا شك في وضوحه، وأما على القول بعدم الاستقرار؛
ففي كلام الأئمة ما ينازع فيه؛ فإن الرافعي حكى في المساقاة عند الكلام فيما إذا انقطع الماء، وقدر رب النخيل على رده: أن من استأجر قصاراً لقصارة ثوب بعينه يكلف تسليمه إليه، وحكيت في باب: ما يتم [به] البيع عن المتولي وغيره: أن من استأجر صباغاً؛ ليصبغ له ثوباً، وسلمه إليه – ليس له بيعه ما لم يصبغه، وكذلك لو استأجر صائغاً على عمل ذهب، ونظائر ذلك فلو تمكن المستأجر من المبيع لم يمتنع عليه البيع والله أعلم.
قال: وإن مات الأجير في الحج أو أحصر قبل الإحرام [أي]: وقد وقع العقد على عينه، لم يستحق شيئاً من الأجرة؛ لأن الأجرة تقابل المقصود وابتداؤه من الإحرام، وقد فات بكماله وما قبله من السير تسبب فيه فأشبه من استؤجر على الخبز أو البناء فأحضر الآلة ومات وهذا هو المنصوص في عامة كتبه وعن الصيرفي والإصطخري: أنه يستحق قسطاً من الأجرة بقدر ما قطع من المسافة؛ لأنهما أفتيا سنة حصر القرامطة الحج بالكوفة بأن الأجراء يستحقون من الأجرة بقدر ما عملوا.
ووجهه: أن الأجرة تقع في مقابلة السير والعمل جميعاً؛ ألا ترى أنها تختلف باختلاف المسافة طولاً وقصراً وفصل ابن عبدان فقال:
إن قال: استأجرتك لتحج من كذا، فالجواب كما قالاه. وإن قال: على الحج، فالجواب كما حكي على النص، وهذا كالتفصيل الآتي عن ابن سريج.
قال: وإن كان بعد الفراغ من الأركان أي: وقبل الإتيان بالرمي والمبيت استحق الأجرة أي بجملتها، وعليه دم لما بقي. أما وجوب الدم فلأنه دخل الحج نقص فكان عليه جبره بالدم كما في حجه عن نفسه، وأما استحقاقه تمام الأجرة فلإتيانه بما قابلته الأجرة والنقص الحاصل الدم جابره.
فعلى هذا فلو نقصت قيمة الدم عن القدر الذي يجب حطه من الأجرة؛ ففي حط قدر التفاوت وجهان، وقيل: يلزمه أن يرد ما يقابل الفائت بجملته؛ لأن الدم كان جابراً لحق الله تعالى.
وبعضهم جزم بهذا فيحصل في المسألة طريقان، وهما جاريان فيما إذا أحرم
من دون الميقات، وهذا كله تفريع على القول بامتناع البناء على الحج كما هو الصحيح أما إذا جوزناه وكانت الإجارة على العين كما صورناه فقد انفسخت فيما بقي ووجب رد قسطه من الأجرة والمستأجر يستأجر من يرمى عنه ويبيت [ولا دم على الآجر، وإن كانت في الذمة استأجر وارث الآجر من يرمى عنه ويبيت] ولا حاجة إلى الإحرام؛ لأنهما يؤتى بهما بعد التحللين ولا يلزمه الدم ولا رد شيء من الأجرة، ذكره المتولي وسيأتي في كلام صاحب التهذيب ما يأتي ذلك.
قال: وإن مات وقد بقي عليه بعض الأركان استحق بقدر ما عمل، كما لو استأجره على خياطة ثوب فخاط بعضه.
وقيل: لا يستحق شيئاً؛ لأنه لم يسقط الفرض عن المستأجر وهو المقصود فأشبه ما لو التزم له مالاً ليرد عبده الآبق فرده بعض الطريق ثم هرب.
وقد بنى بعضهم الخلاف [هاهنا] على الخلاف الآتي في [أن] البناء على الحج، هل يجوز أم [لا]؟
فإن قلنا يجوز استحق، وإلا فلا.
وهذا البناء ضعيف؛ أن مقتضاه أن يكون الصحيح عدم الاستحقاق؛ لأن الصحيح عدم البناء.
وقد حكى الكرخي وغيره: أن الصحيح الاستحقاق كما جزم به الشيخ، وحكاه ابن عبدان عن الجديد، و [حكى] المنع عن القديم.
وحكى الإمام طريقة متوسطة، فقال: إن جوزنا البناء استحق لا محالة؛ لأن المستأجر بسبيل من إتمامه وإلا ففي الاستحقاق الخلاف.
ولا فرق فيما ذكرناه على الأظهر بين أن يكون الباقي من أركان الحج الوقوف أو غيره، وقد قيل: إن القول بعد الاستحقاق مفروض فيما إذا كان الموت قبل الوقوف؛ أما إذا كان بعده، ففيه وجهان:
قال: ويستأجر المستأجر من يستأنف الحج عنه أي: فلا يجوز البناء على حج الأجير؛ لأنها عبادة تفسد أولها بفساد آخرها فأشبهت الصوم والصلاة؛ ولأنه لو أحصر وتحلل ثم زال الحصر وأراد البناء عليه [لم يجز] وإذا لم يجز له البناء
على فعل نفسه فأولى [أن لا يجوز] على فعل غيره، وهذا هو الجديد والقديم جواز البناء؛ لأن النيابة جارية في جميع أفعال الحج، فتجري في بعضها كتفرقة الزكاة.
وقد خص صاحب التهذيب هذا بما إذا كان قبل التحللين أما إذا كان بعد التحللين فلا تجري؛ إذ لا ضرروة إليه لإمكان جبر ما بقي من الأعمال بالدم وأوهم بعضهم بإجراء الخلاف.
ثم على قول البناء: إن مات الأجير وقد بقي وقت للإحرام بالحج أحرم الثاني به [ووقف الثاني بعرفة إن لم يكن الأول قد وقف ولا يقف إن كان قد وقف] ويأتي بباقي الأعمال، ولا بأس بوقوع إحرام الثاني وراء الميقات؛ فإنه مبنى على الإحرام الأول.
وإن فات وقت الإحرام بالحج فيم يحرم الثاني؟ فيه وجهان:
أحدهما: وبه قال [أبو] إسحاق- بعمرة؛ لفوات وقت الإحرام بالحج ثم يطوف ويسعى فيجزئانه عن طواف الحج وسعيه، ولا يبيت ولا يرمى فإنهما ليسا من أعمال العمرة، ولكنهما يجبران بالدم.
والثاني: وهو الأصح: أنه يحرم بالحج ويأتي ببقية الأعمال والممنوع ابتداء الإحرام بالحج في غير أشهره وهذا بناء.
فعلى هذا: إذا مات بين التحللين أحرم النائب إحراماً لا يحرم اللبس والقلم، وإنما تحرم النساء، وقد نسب الإمام الوجه الأول المحكي عن أبي إسحاق إلى العراقيين، ومقابله إلى المراوزة، والموجود في كتبهم تصحيح الوجه [الثاني] مع ذكر الأول.
وهذا الذي ذكرناه مذكور فيما إذا حج الإنسان عن نفسه، ثم مات في أثناء الحج هل يجوز له البناء عليه؟
وشبه الخلاف في جواز البناء بالخلاف على الأذان والخطبة، وجواز الاستخلاف وإن اختلف الأظهر منها.
أما إذا وقع العقد على حج في الذمة لم تنفسخ الإجارة بموت الأجير بل يستأجر من تركته من يحج عنه إن كان وقت الوقوف باقياً وإن لم يكن باقياً
ثبت للمستأجر الخيار كما سنذكره.
تنبيه: قول الشيخ استحق بقدر ما عمل هل يكون المستحق من المسمى، أو من أجرة المثل؟ [ثم قال]: لم يصرح أحد بذكره فيما وقفت عليه، والذي يقتضيه القياس: أن يتخرج على [الخلاف السابق] في أن الفسخ في المستقبل هل ينعطف على الماضي أم لا؟ فإن انعطف، كان المستحق له أجرة مثله، وإلا فالقسط من المسمى، ثم التوزيع [يكون على قولين.
أحدهما: أنه يقسط على الأعمال وحدها؛ لما ذكرناه من قبل، وهذا يفهم كلام الشيخ من قبل.
وقال ابن يونس: إنه الصحيح وأظهرهما في الرافعي: أنها تقسط على العمل والسير جميعاً؟] لأن للوسائل حكم المقاصد إذا وقعت تبعاً، وتعب الأجير في السير أكبر، فيبعد ألا يقابل بشيء مع كونه حصل بعض المقصود.
وقال ابن سريج: إن قال: استأجرتك لتحج عني، فالتوزيع على الأعمال وحدها، وإن قال: لتحج من بلد كذا فالتوزيع على السير والعمل جميعاً، وحمل القولين على حالين.
فرع: لو أحصر الأجير في هذه الحالة، فله التحلل، وإذا تحلل فعمن يقع ما أتى به؟ فيه وجهان:
أصحهما: عن المستأجر، وهو ما حكاه الشيخ أبو حامد كما لو مات؛ إذ لم يوجد من الأجير تقصير.
فعلى هذا: الحكم كما تقدم، ودم الإحصار على المستأجر.
والثاني: عن الأجير، وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب؛ كما لو أفسده؛ لأنه لم يحصل غرضه.
فعلى هذا: دم الإحصار على الأجير.
وإن لم يتحلل، وأقام على الإحرام حتى فاته الحج، انقلب الحج إليه؛ كما في
صورة الإفساد، ثم يتحلل بعمل عمرة، وعليه دم الفوات.
ولو حصل الفوات بسبب نوم أو تأخر عن القافلة، ونحو ذلك غير الإحصار- انقلب الحج إلى الأجير؛ كما في الإفساد ولا شيء للأجير.
ومن أصحابنا من أجرى فيه الخلاف المذكور في الموت.
[قال: وإن هرب المكري والعقد على منفعة، مثل: أن استأجره ليخيط له شهراً، أو هذا الثوب ثبت للمستأجر الخيار؛ [بين الفسخ والإبقاء؛] لتضرره بفوات بعض المعقود عليه في حالة، وبتأخر حقه في أخرى.
والبقاء: بالمد مقصور مصدر بقي يبقى بقاء.
قال: وإن كان [العقد] على مدة أي: ولم ينفسخ، انفسخ بمضي الوقت حالاً فحالاً، أي: كلما مضت لحظة انفسخ فيها وهو بتخفيف اللام.
ووجه ذلك: أن المنافع تتلف بمضي الزمان.
وقد قيل: إذا مضت مدة لمثلها أجرة انفسخ فيها، وهل ينفسخ في الباقي؟ فيه قولاً تفريق الصفقة، والصحيح الأول.
قال البندنيجي: فعلى هذا إذا أحضر وأجاز المستأجر العقد، أجازه بالحصة.
قال: وإن كان على عمل: أي كخياطة ثوب، أو بناء حائط- لم ينفسخ؛ لإمكان استيفاء المعقود عليه بعد مدة، فإذا قدر عليه طالبه به؛ لقدرته على القيام بالحق المتوجه عليه، ويجيء في هذه الصورة الوجه الذي اختاره الإمام وحكاه عن المراوزة فيما إذا لم يسلم العين حتى مضت مدة يمكن العمل فيها كما حكيناه من قبل؛ إذ لا يظهر فرق بينهما.
واعلم أن الموجود في بعض النسخ: وإن هرب المكتري والعقد على منفعة، وفي بعضها: وهو المكري والعقد على منفعة، وعلى هذا يحتاج أن تقدر مع قوله: والعقد على منفعة: وعين ما تستوفي منه المنفعة، وإلا فمجرد هرب المكرى مع وجود ما يستوفى منه المنفعة لا يثبت خيار ولا غيره، وحينئذ يكون قد احترز بقوله: والعقد على منفعة عما إذا ورد العقد على ما في الذمة،
وسيأتي حكمه].
قال: وإن هرب الجمال وترك الجمال [وفيها فضل] بيع ما فضل أي: عن حق المكتري وأنفق عليها؛ لأنه قد قدر على إنفاق ما تعين عليه من ماله فتعين طريقاً، وكذا ينفق من ثمن الفاصل أجرة من يخدمها كما صرح به الماوردي؛ [و] لأن إخدامها واجب على الآجر كطعمتها.
قال الفوراني وغيره: ولا يجوز بيع جميع الجمال؛ خشية أن يأكل ثمنها إذا رأى في ذلك [مصلحة] بخلاف ما إذا لم تكن مستأجرة، والفرق أن هاهنا تعلق حق المكتري بأعيان الجمال، فليس لأحد تفويت منفعته، [والصانع بخلافه؛ قال مجلي: وهذا الفرق ضعيف؛ فإن البيع لا يفوت عليه منفعة؛] إذ البيع لا يفسخ الإجارة.
قال: فإن لم يكن فيها فضل اقترض عليه أي: من بيت المال أو من المستأجر أو من غيره؛ لانتهاء الإمكان إليه.
والمقترض والبائع هو الحاكم؛ لأنه الناظر في أموال الغائبين، وله أن يدفع ما يقترضه المستأجر لينفقه عليها إن وثق به، سواء كان القرض منه أو من غيره، كما صرح به في المهذب.
وحكى القاضي أبو الطيب القولين الآتيين في هذه الصورة، وقال: إذا قلنا: إنه [لا] يجوز فدفعه إليه- كان كمن أنفق بغير حكم حاكم، وذلك موافق لما سيأتي فيما إذا أذن الحاكم للملتقط أن ينفق على اللقيط من ماله: هل يجوز أم لا؟
والمشهور هاهنا ما في المهذب، حتى ادعى الرافعي في باب اللقيط: أنه لم ير سواه، وأبدى الخلاف تخريجاً.
وإن لم يثق به دفعه إلى أمين لينفقه، فإذا انتهت مدة الإجارة ولم يحضر الآجر باع الحاكم منها ما يقضي بثمنه ما اقترضه، ويحفظ باقيها، وإن رأى بيع الجميع كي لا تأكل نفسها- فعل.
قال: وإن أمر الحاكم المستأجر أن ينفق عليها قرضاً جاز في أصح القولين؛
لأنه موضع ضرورة؛ إذ قد لا يجد الحاكم غيره، وهذا موافق لما نص عليه الشافعي في أن للقاضي أن يأذن للملتقط أن ينفق على اللقيط من مال نفسه ليرجع، وعلى هذا قال: ويقبل قوله في النفقة بالمعروف أي: وإن نازعه الجمال فيما أنفق؛ لأنه أمين. وحكى الماوردي فيمن المقبول قوله في قدر النفقة في هذه الحالة- ثلاثة أوجه لأصحابنا، أشار إليها الشافعي في الأم.
أحدها: أن القول قول المنفق، وهو الأصح في البحر.
والثاني: أن القول قول الجمال؛ لأنه غارم.
والثالث: أنه يرجع فيه إلى عرف الناس وعادتهم، فإذا وافق ذلك قول أحدهم فهو المعمول به، سواء وافق قول المنفق [أو قول] الجمال أو خالفهما، وهذا اختيار الشافعي.
قال: وإن خالف قياس الأصول الموجبة لأحد المذهبين فقد يترك القياس إذا تفاحش إلى ما يكون عدلاً بين الناس.
والقول الثاني: لا يجوز؛ ولأنه يؤدي إلى أن يكون مقبول القول فيما يستحقه على غيره كما ذكرنا من قبل، وهذا موافق ما نص عليه الشافعي في أن القاضي لا يأذن لواجد الضالة في الإنفاق عليها من مال نفسه ليرجع على صاحبها، بل يأخذ المال منه ويدفعه إلى أمين، ثم الأمين يدفع إليه كل يوم قدر الحاجة، وسنذكر إن شاء الله في باب اللقيط الفرق بينهما.
وإذا تعذر على الحاكم الاقتراض من المستأجر وغيره باع الحاكم من الجمال بقدر الحاجة لينفق عليها من ثمنه، ولا يخرج على الخلاف في بيع المستأجر؛ لأنه محل ضرورة ويبقى في يد المستأجر إلى انتهاء المدة؛ ذكره الرافعي وغيره.
قال: وإن لم يكن حاكم، فأنفق وأشهد أي: وشرط الرجوع رجع؛ لأنه حق على غائب؛ فجاز عند الضرورة أن يتوصل صاحبه إليه بحسب المكنة؛ كما يجوز لصاحب الدين الممنوع أن يتوصل إلى أخذه من مال من هو عليه جهراً أو سراً بحكم وغير حكم، وهذا هو الصحيح في تعليق القاضي الحسين.
وقيل: لا يرجع؛ لأنه يصير حاكماً لنفسه ليستوفي حقه من مال غيره، وكما لا يرجع مستودع الدابة على ربها بثمن علوفتها، وإن أنفق وترك الإشهاد نظر: إن لم
ينو الرجوع لم يرجع وإن نواع فوجهان في تعليق القاضي الحسين، فإن اختلفا في نية الرجوع فالقول قول المنفق. وهذا الكلام [قد] يفهم أن الخلاف جار فيما إذا ترك الإشهاد مع القدرة عليه وبدونها كما فهم الرافعي مثله في مسألة المساقاة، والمصرح به في كتب المذهب: أن محلهما إذا لم يقدر على الإشهاد، أما إذا قدر [عليه] فلم يفعله فلا يرجع وجهاً واحداً؛ صرح به مجلي. وقد أحال معظم الأصحاب الكلام في هذه المسألة على ما ذكروه في باب المساقاة فليطلب منه، وقد ألحق الإمام عدم القدرة على إثبات الواقعة عند الحاكم أو عسرها- بحالة عدم الحاكم، وإذا قلنا: يرجع عند عدم الحاكم، فاختلف الجمال والمنفق في قدر المنفعة: قال الرافعي: القول قول الجمال؛ لأن إنفاق المكتري لم يستند إلى ائتمان من جهة الحاكم. وفيه احتمال للإمام من جهة أن الشرع سلطه عليه، وهذا منهما محمول على الرجوع في حالة عدم الإشهاد، أما إذا اعتبرنا الإشهاد فالبينة تقطع الخصومة، وقد قال مجلي في كتاب اللقطة: إنه يجب عليه أن يشهد في كل دفعة.
قال: وإن مات أحد المتكاربين والعين المستأجرة باقية- لم يبطل العقد؛ لأنه عقد معاوضة [على ما يقبل النقل] ليس لأحدهما فسخه من غير عذر فلم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين كالبيع.
قال: وإن هلكت العين المستأجرة في يد المستأجر من غير عدوان- لم يضمن)؛ لأنها عين قبضها ليستوفي منها ما ملكه فلم يضمنها بالقبض، كالنخلة إذا اشترى ثمرتها، ولا يشبه ما إذا اشترى سمناً وقبضه في بستوقة حيث تكون مضمونة في يده على أصح الوجهين في تعليق القاضي الحسين وغيره؛ لأنه أخذها لمنفعة نفسه ولا ضرروة في قبض السمن فيها، والمرجع في العدوان إلى العرف، فلو ربط الدابة في الإصطبل، وماتت- فلا ضمان.
ولو انهدم عليها، فهلكت، أطلق الرافعي القول- حكاية عن الأصحاب- بوجوب الضمان.
وقال غيره: ينظر: إن كان انهدامه في وقت عهد أن تكون الدابة فيه تحت سقف كجنح الليل في الشتاء والمطر الشديد في النهار- فلا ضمان.
وإن كان في وقت لا يعهد ذلك فيه، ضمن؛ لأن التلف- والحالة هذه- جاء من ربطها في الإصطبل.
ولو ضرب الدابة، أو كبحها باللجام، أو ركضها برجل، فإن فعل من ذلك ما يفعله العامة فلا شيء عليه وإن تعداه ضمن، ويخالف المؤدب إذا ضرب الصغير فمات، أو الزوج وزجته فماتت حيث يضمن بكل حال؛ لأن الآدمي يمكن تأديبه بغير الضرب بخلاف الحيوان؛ فقد حكى الإمام عن العراقيين في كتاب الرهن ما يقتضي أن العلة في ضمان الزوجة أمر آخر، [فإنه حكى أنهم] قالوا: لو قال السيد: اضرب عبدي فضربه ووالى الضرب عليه، فلا ضمان، بخلاف الزوج وإن كان مأذوناً من جهة الشرع في الضرب، وفرقوا: بأن الإذن في ضرب الزوجة مقيد بتوقي القتل وإبقائها والإبقاء عليها، والإذن في مسألة العبد لا تقييد فيه، قال: وكأنهم رأوا الأمر بالضرب أمراً بحسبه بالغاً ما بلغ، وهذا محتمل عندي؛ فإن الضرب يخالف القتل، والأمر به أراه مشعراً بالاقتصار عليه، ومن قتل إنساناً لا يقال ضربه، ولو قال: أدب عبدي فلا [يجوز أن] يشك في أنه لو قتله ضمنه؛ فإن التاديب مصرح بإبقاء المؤدب.
فرع: إذا غصبت الدابة المستأجرة مع دواب سائر الرفقة، فذهب بعضهم في الطلب ولم يذهب المستأجر انبنى ذلك على أنه: هل يلزمه الرد عند انقضاء المدة أم لا؟ فإن قلنا: لا يلزمه الرد، لم يضمن. وإن قلنا: يلزمه؛ فإن استرد من ذهب دابته من غير مشقة ولا غرامة ضمن المستأجر المتخلف، وإن لحقتهم غرامة [أو مشقة] فلا ضمان؛ كذا حكاه العبادي في الزيادات.
قال: وإن انقضت [مدة] الإجارة لزم المستأجر رد العين وعليه مؤنة الرد)؛ لأنه أذن له في إمساكها؛ لاستيفاء المنفعة من غير استحفاظ ولا إيداع، فإذا انقضت المدة وجب عليه الرد ومؤنته كالمستعير، وهو ظاهر كلام الشافعي، وبه قال الإصطخري.
وقال البندنيجي: إنه المذهب، وهو الذي حكاه [القاضي الحسين] عن العراقيين.
وقيل: يجب ذلك على المؤجر؛ لأنها أمانة في يده؛ فهي كالوديعة. واستغنى الشيخ بجعل مؤنة الرد على المؤجر- على هذا القول- بأن المستأجر لا يجب عليه الرد، بل التخلية؛ لأن المؤنة ملازمة لوجوب الرد، وهذا ما حكاه القاضي الحسين والإمام عن المراوزة، واختاره القفال والقاضي الحسين والغزالي.
وقال الماوردي: إنه مذهب الشافعي، ولا وجه لمن خرج من أصحابنا في الإجارة من الرهن وجهاً آخر أن الرد واجب على المستأجر؛ لأن الرهن يغلب فيه حق المرتهن؛ فجاز أن يكون وجوب رده على وجهين، وفي الإجارة يستويان؛ فاختص بها المالك [بحق الملك] وخص القاضي أبو الطيب محل الخلاف بما إذا لم يشترط على المستأجر الرد، أما إذا اشترطه وجب بلا خلاف، ومنعه ابن الصباغ وقال: من لا يوجب الرد عليه ينبغي ألا يجوز شرطه، وهذا ما يقتضيه كلام القاضي الحسين؛ فإنه حكى أن صاحب التقريب فرع على القول الأول إذا شرط الآجر على المستأجر أن يرد الدابة إلى بلد الآجر لزمه الرد، وإن أطلق العقد، وكان المالك معه، رد عليه إذا بلغ الموضع الذي اكترى إليه، وإلا فعليه أن يرده إلى بلده.
ثم قال: وهذا عندي غلط، ولا يلزمه الرد إلى بلد المكري، بل إذا بلغ الموضع المقصود، فهي مال غائب، حصل في يده، يسلمه للحاكم، أو يودعه أميناً، وعلى هذا المذهب: إذا شرط الرد بطل العقد؛ لأنه خلاف مقتضاه، لكنه لو خرج لا ضمان.
ثم على الخلاف المذكور في الكتاب يتفرع مسألتان
إحداهما: إذا أمسك العين المستأجرة بعد انقضاء المدة فتلفت في يده فعلى الأول: يضمن، وعلى الثاني لا ضمان، إلا أن يطالبه المالك بالتمكين منها فيمتنع، وعلى هذه الحالة حمل [ما] قابله النص.
الثانية: وجوب الأجرة، فعلى الأول: تجب وإن لم يستعملها، وعلى الثاني: لا.
قال الماوردي: ومحل الخلاف في هذه والتي قبلها: إذا لم يكن ثم عذر، أما إذا كان ثم عذر مانع [من الرد] فلا ضمان ولا أجرة، وكذا قاله في المهذب.
ويلتحق بذلك: ما إذا ردها، فتلفت في الطريق؛ كما صرح به البندنيجي وابن الصباغ.
وفي كلام الإمام ما يقتضي خلافه؛ فإنه قال في تضعيف وجه الضمان: ويبعد كل البعد أن يقال: إذا انقضت المدة، وهم المستأجر بالرد، فتلفت العين في يده من غير تقصير – يجب عليه الضمان.
ومن أوجبه طرد القول في إثبات الضمان، وألحق العين بعد مدة الإجارة بالمستعار والمأخوذ سوماً.
ولا نزاع في أن المستأجر إذا بذل العين للآجر فلم يقبلها: أنها تصير في حكم الوديعة، إلا أن يستعملها؛ ولو ترك الرد عليه بعد الطلب برضا الآجر، بقيت العين في يده عارية يضمنها بالقيمة، ولا يضمنها بالأجرة، صرح به الماوردي.
فرع: إذا استأجر قدراً؛ ليطبخ فيها، ثم حملها بعد المدة على حمار ليردها، فسقط الحمار، وانكسرت القدر- قال العبادي في الزيادات: إن كان لا يستقل بحملها الراجل، فلا ضمان [عليه]، وإلا فعليه الضمان؛ لأن العادة أن القدر لا ترد بالحمار مع استقلال الآدمي بحملها.
قال: وإن اختلفا في الرد فالقول قول المؤجر؛ لأن الأصل عدم الرد، وقد قبض العين لغرض نفسه؛ فكان كالمستعير، وقيل: القول قول المستأجر، وقد تقدم الكلام في ذلك وما قيل من الفرق بينه وبين الوكيل يجعل في مواضع؛ منها كتاب الرهن.
قال: وإن هلكت العين [التي] استؤجر على العمل فيها في يد الأجير أي: من غير تفريط فإن كان العمل في ملك المستأجر أو في غير ملكه والمستأجر مشاهد له- لم يضمن؛ لأن المال غير مسلم إليه في الحقيقة، وإنما استعان المالك به في شغله، كما يستعين بالوكيل والتلميذ، وهذا ما نص عليه في الإملاء.
وعن أبي سعيد الإصطخري، وأبي علي الطبري حكاية القولين [الآتيين] في هذه الحالة أيضاً.
قال: وإن كان في غير ملك المستأجر؛ ففيه قولان:
أصحهما: أنه لا يضمن؛ لأنه قبض العين لمنفعته ومنفعة المالك، فلم يضمنها من غير تعد كالعين المستأجرة ومال القراض والرهن، وهذا ما اختاره المزني.
والقول الثاني: أنه يضمن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ"؛ ولأنه أخذ العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق فأشبه المستعير والمستام؛ ولأن الأجرة ترجع إليه فوجب أن يكون الضمان عليه، كما لو أجر دابة فتلفت تحت يد مستأجرها، فعلى هذا حكمه في الضمان حكم المستعير والمستام، ففي وجه [عند العراقيين]: يضمن القيمة وقت التلف.
وفي وجه: يضمن ضمان الغصوب، وهو اختيار أبي حامد كما حكاه في البحر، ولا شك في ضمان الحر.
وهذه الطريقة هي الصحيحة، وعليها يدل قول الشافعي في المختصر.
والأجراء كلهم سواء؛ فما تلف في أيديهم من غير جنايتهم ففيه واحد من قولين:
أحدهما: الضمان؛ لأنه أخذ الأجرة.
والقول الآخر: لا ضمان إلا بالعدوان، ومن الأصحاب من قطع بالقول الأول؛ لما حكي عن الربيع أنه قال: كان الشافعي يرى أن الأجراء لا يضمنون، غير أنه كان لا يبوح به؛ مخافة [من] أجراء السوء، وأن القاضي يقضي بعلمه غير أنه كان لا يبوح به؛ مخافة قضاة السوء.
وروى الحارث أن الشافعي سلم لقصار ثياباً مرتفعة فاحترق دكان القصار، واحترقت الثياب، فتشفع القصار إليه بقوم في الصبر عليه إلى أجل، فقال: لا أضمنه شيئاً؛ لأنه لم يصح عندي أن الصناع يلزمهم الضمان؛ كذا حكاه في البحر والقائل بهذا الطريق حمل قوله في المختصر: "ففيه واحد من قولين" على ترتيب من يفصل بين أن يتلف الشيء في يده بفعله من غير تعد، وبين أن يتلف بآفة سماوية، وهو أبو حنيفة؛ فإنه لا وجه إلا الضمان مطلقاً أو عدمه مطلقاً.
وقد استدل المزني على ما اختاره بثلاثة أشياء:
أحدها: قال: قطع الشافعي بأنه لا ضمان على الحجام يأمره الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يشرط دابته.
والثاني: قال: ما علمت أحداً ضمن الراعي بالمنفرد بالرعي.
والثالث: قال الشافعي: لو اكترى رجلاً ليخيط متاعه في دكانه، فاحترق المتاع، لا ضمان عليه.
فإذا ألقوا عن هؤلاء الضمان؛ لزمهم إلقاؤه عن الصانع- يعني: عن الأجير المشترك- وقد وافقه الغزالي في مسألة الراعي، فادعى الإجماع فيها وكتب الأصحاب كافة من "الحاوي" و"الشامل" و"تعليق" أبي الطيب، وغيرها مصرحة بأن الأمر فيما ذكره المزني خلا الحر- كما هو مذكور في غيره حرفاً بحرف حتى جعل ابن الصباغ إذنه للراعي بالرعي في موات بمنزلة رعيه في ملكه؛ فلا يضمن وإن لم تكن مشاهدة.
فرع: إذا ضاع حلي الطفل في يد المرضعة هل تضمنه؟
قال الماوردي إن قيل: إن الأجراء يضمنون- انبنى ذلك على أن الأجرة للرضاع والخدمة تبع أو للخدمة والرضاع تبع؟ فعلى الأول: [لا] ضمان وعلى الثاني: لا تضمن إن كانت منفردة، وتضمن في أحد القولين إن كان مشتركاً.
واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي إجراء الخلاف في الأجير المشترك والمنفرد كما هو ظاهر النص في "المختصر"؛ لأن كل ما فسر به المشترك والمنفرد كما سنذكره عن الجمهور ينطبق عليه كلامه، وقد صرح بذلك صاحب الإفصاح وصححه الروياني في البحر، والقاضي الحسين وغيرهما، وقد روي عن ابن أبي أحمد [وأبي الحسن بن القطان] والقفال: أن الأجير المنفرد لا يضمن قولاً واحداً، وإنما الخلاف في المشترك، والأجير المشترك على الصحيح عند الروياني وغيره، هو الذي يتقبل العمل في ذمته كما هو دأب الخياطين والقصارين، والحمالين ونحو ذلك، فإذا التزم لواحد أمكنه أن يلتزم لغيره مثل ذلك العمل؛ فكان مشتركاً بين الناس، والمنفرد: هو الذي أجر نفسه مدة مقدرة لعمل فلا يمكنه تقبل مثل ذلك العمل لغيره في هذه المدة، وعبر القاضي الحسين عن هذا بأن المشترك: هو الذي لا يستحق الأجرة إلا بالعمل، والمنفرد: هو الذي يستحقها بالتمكين ومضي المدة وقيل: المشترك هو الذي يشارك في الرأي، فيقال له:
اعمل في أي موضع شئت، والمنفرد: هو الذي عين عليه العمل وموضعه.
وقيل: المشترك هو الذي لا يضيق عليه وقت العمل، سواء ورد على عينه أو في ذمته؛ فإن له أن يؤخر العمل عن وقت العقد من غير فرق وإن ورد على عينه فيعمل لغيره.
والمنفرد هو الذي يضيق عليه وقت العمل؛ فلا يمكنه من العمل لغيره فيه.
قال مجلي: وهذا يقع بشيئين:
أحدهما: أن يقع العقد على مدة معلومة.
والثاني: أن يرد على عين الأجير.
فإن قيل: إذا لم يضيق الوقت عليه، فالظاهر: أنه يتعين العمل عقيب العقد في مطلق الإجارة؛ فيصير بمثابة المضيق.
قيل: ليس كذلك فإن المضيق تنفسخ الإجارة بمضي المدة من غير عمل فيها، وهاهنا لو مضت مدة تتسع للعمل، ولم يعمل، لم ينفسخ العقد، وقد فسر الماوردي المنفرد بالذي يكون عمله في ملك المستأجر أو في غير ملكه والمستأجر مشاهد له وحكى اختلافاً فيما إذا كان الأجير يعمل بحانوت نفسه لمستأجر واحد ولا يعمل لغيره ومستأجره غائب عن عمله هل يلتحق بالأجير المنفرد أو المشترك؟ فالذي صار إليه أبو إسحاق وهو مذهب البصريين: الأول؛ والذي صار إليه ابن أبي هريرة وهو مذهب البغداديين [الثاني].
قال: ويستحق الأجرة لما عمل في ملك المستأجر أي: أو بحضرته إلى أن هلكت؛ لأن العين كما ذكرنا تحت يد مالكها، فالعمل يسلم له أولاً فأولاً، ولا فرق في ذلك بين أن يوكن العمل قصارة ويقول: إنها عين أو أثر.
قال: ولا يستحق لما عمل في غير ملكه أي: ولا عند غيبته إذا فرعنا على الصحيح في أن يده يد أمانة؛ لأنه لم يسلم ما عمله فشابه المبيع إذا تلف قبل القبض؛ وهذه طريقة أهل العراق، وبنى القاضي الحسين ذلك فيما إذا كانت الصنعة قصارة على أنها كالعين كما ذكرنا في باب التفليس أنه الصحيح الصنعة قصارة على أنها كالعين كما ذكرنا في باب التفليس أنه الصحيح.
وقال: إذا قلنا إنها أثر استحق الأجير أجرة ما عمل.
قال في البحر: وهذا لا يصح، لأن القصارة وإن كانت أثراً لابد [من] أن
تصل إلى يد صاحبه وفيه الأثر حتى تقرر الأجرة ويستقر حكم العمل فلا وجه لهذا القول وما قاله مصادرة أما إذا قلنا: إن الأجير يضمن فقد أطلق في "المهذب" استحقاق الأجرة، وهو ما حكاه الغزالي عن العراقيين؛ لأنه يقوم عليه معمولاً فيصير بما يغرمه مسلماً للعمل فيستحق الأجرة، وأطلق الماوردي القول بأنه لا يستحق.
وقال القاضي الحسين: إن قلنا: إن الصنعة أثر استحق الأجرة، وإن قلنا: إنها كالعين فالمالك يغرمه قيمة ثوب غير مقصور.
قال الغزالي: والصحيح عدم الاستحقاق فإنه لا ضمان، وعلى الخلاف المذكور في أن القصارة ونحوها عين أو أثر ينبني حق الحبس كما صرح به في المهذب وغيره.
فإن قلنا: إنها عين كان له حق الحبس وإلا فلا.
وعن أبي يعقوب الأبيوردي: أن الصنعة إن لم يكن لها أثر قائم لم يكن له الحبس قولاً واحداً، وإن كان له عين مال فيه كالصبغ ونحوه جرى الخلاف فيه.
فروع: ذكرها القاضي الحسين.
إذا أتلف أجنبي العين التي عمل الأجير فيها استحق الأجير الأجرة على المستأجر إن قلنا: إنها أثر ورجع صاحب الثوب على المتلف بقيمته مقصوراً، وإن قلنا: إنها كالعين انبنى ذلك على أن الأجنبي إذا أتلف المبيع قبل القبض هل ينفسخ العقد أو يثبت الخيار؟
فإن قلنا: ينفسخ انفسخت الإجارة هاهنا ورجع الأجير على المتلف بالأجرة، ورجع المالك عليه بقيمة الثوب [غير مقصور].
وإن قلنا: لا ينفسخ وثبت الخيار فهكذا الحكم في مسألتنا، فإن فسخ فالحكم كما تقدم وإن أجاز العقد غرم للأجير الأجرة ورجع على المتلف بقيمة الثوب مقصوراً، ولو أتلف صاحب الثوب الثوب تقررت عليه الأجرة.
ولو أتلف الأجير الثوب انبنى على أن جناية البائع كالآفة السماوية أو كإتلاف الأجنبي، فإن جعلناها كالآفة السماوية غرم للمالك قيمة الثوب مقصوراً إن
جعلنا الصنعة أثراً واستحق الأجرة.
وإن قلنا: كالعين لم يستحق الأجرة واستحق عليه قيمته غير مقصور، وإن جعلناها كجناية الأجنبي فيلزمه [قيمة العين ثم إن قلنا: القصارة أثر لزمه قيمته مقصوراً، وإن قلنا: إنها كالعين فللمالك الخيار على الأصح، وحكى في البحر عن بعض الخراسانيين أنا إذا قلنا: إنه كالآفة السماوية فلا أجرة للقصار وإن قلنا: إن القصارة أثر].
قال: وإن اختلف المستأجر، والأجير المشترك في رد العين؛ أي: مع قولنا: إنه غير ضامن فقد قيل: القول قول المستأجر، وقيل: القول قول الأجير وتوجيههما تقدم في الوكيل بجعل.
أما إذا قلنا: إنه ضامن فالقول قول المستأجر قولاً واحداً كالمعير.
قال: وإن باع المكري العين من المكتري جاز؛ لأنه في يده من غير حائل فهو كبيع المغصوب من الغاصب.
ولأن الملك في الرقبة خالص له وعقد الإجارة إنما ورد على المنفعة، فلا يمنع من بيع الرقبة؛ كما أن تزويج الأمة لا يمنع من بيعها.
وقد أشار في الوسيط إلى خلاف في صحة البيع بقوله: والظاهر الصحة وأذكره بعضهم؛ لكونه لم يجده في النهاية، بل وجد فيها نفي الخلاف في المسألة، وكذلك في أكثر الكتب المشهورة، وبعضهم قال: إنه مصرح به في المحيط، وكان يستخرجه من أصول في المذهب سأذكرها.
قال: ولم تنفسخ الإجارة بل يستوفى ما بقي بحكم العقد؛ لأن الملك لا ينافيها، ولهذا يستأجر ملكه من المستأجر وهذا هو الأصح ولم يورد الماوردي هنا سواه.
وعن ابن الحداد وغيره: أن الإجارة تنفسخ، [وهو محكي في الحاوي في كتاب الصلح]؛ لأنه إذا ملك الرقبة حدثت المنافع على ملكه تابعة للرقبة، إذا
كانت المنافع مملوكة له، لم يبق عقد الإجارة عليها، كما أنه لو كان مالكاً في الابتداء، لم يصح منه الاستئجار، [و] شبه بما إذا ملك أمة؛ فإنه لا يجوز أن يتزوجها، ولو تزوج أمة، ثم اشتراها، انفسخ النكاح.
والقائلون بالأول قالوا: إنما ينتقل للمشتري ما كان للبائع والبائع لا يملك حين البيع المنفعة؛ فلم ينتقل إلى المشتري.
[ويخالف النكاح؛ فإن السيد مالك لمنفعة بضع الأمة المزوجة؛ بدليل أنها لو وطئت بشبهة كان المهر له لا للزوج، فإذا باع انتقلت منافع البضع إلى المشتري] فاجتمع شيئان فقدم أقواهما وهو النكاح.
التفريع: إن قلنا بالصحة فعليه فرعان:
أحدهما: لو تلفت المنافع قبل انقضاء مدة الإجارة انفسخت الإجارة ورجع على الآجر بحصة ما بقي من المدة، وفي انفساخها في الماضي الطريقان السابقان.
الثاني: لو انفسخ البيع قبل تمام المدة، كان للمستأجر أن يستوفي المنفعة إلى انقضاء المدة.
وإنقلنا بمذهب ابن الحداد فعليه فرعان:
أحدهما: أن المستأجر، هل يرجع على الآجر بأجرة بقية المدة أم لا؟ فيه وجان:
أحدهما: لا، وبه قال ابن الحداد؛ لأن المنافع قائمة في يده، وأيضاً فإنه لو اشترى زوجته لا يسقط مهرها.
[وأصحها في الرافعي: أنه يرجع؛ لأن الأجرة إنما تستقر بسلامة المنافع للمستأجر [على موجب الإجارة] ولم تسلم، ويخالف المهر؛ فإن استقراره لا يتوقف على سلامة المنفعة للزوج؛ بدليل استقراره بالموت.
الثاني: العين في بقية مدة الإجارة: هل ترد إلى البائع حتى ينتفع بها في قدر المدة الباقية من مدة الإجارة أم لا؟ فيه وجهان في النهاية:
أحدهما: أنها ترد إليه.
والثاني- وهو الأصح-: أنها لا ترد، والمنافع تحدث على ملك المشتري بعد انفساخ الإجارة.
قال الإمام: وهذا الخلاف يناظر ما إذا باع المكري الدار من غير المكتري، وصححناه، ثم انفسخت الإجارة بعيب فالدار هل ترد للبائع، لينتفع بها في بقية المدة، أم تكون للمشتري؟
ثم هذا الخلاف جار، سواء قلنا: إن المستأجر يرجع على البائع بالأجرة أم لا، ولا تعلق لأحد الخلافين بالثاني؛ فإن سبب الخلاف في ارتداد المنافع إلى البائع تخيلنا استثناء المنافع عن استحقاق المشتري، وسبب الخلاف [في الرجوع] بالأجرة وعدمه: انتساب المشتري إلى جلب الملك وهو السبب الفاسخ، وكان شيخي يقول: إذا حكمنا بارتداد المنافع إلى البائع [في بقية المدة استرد المشتري قسطاً من الأجرة وجهاً واحداً، وإن قلنا: لا ترد المنافع إلى البائع] فهل يسترد المشتري قسطاً من الأجرة؟ فعلى وجهين وهذا ليس وراءه تحصيل.
قلت: ومن القول بانفساخ الإجارة ورجوع منفعة المدة الباقية إلى الآجر البائع وعدم رجوع المشتري عليه بقسطها من الأجرة تمسك القائل بتصحيح ما أوهمه لفظ الغزالي من عدم صحة البيع؛ لكون ذلك ملازماً للبيع؛ فتصير المنفعة في بقية المدة كالمستثناة كما أشار إليه كلام أبي الطيب الذي سنذكره من بعد، والاستثناء باللفظ إذا كان مبطلاً للعقد كان الاستثناء بالشرع مثله.
دليله: بيع الجارية واستثناء حملها وإذا كانت حاملاً بحر، والله أعلم.
واعلم أن الخلاف المذكور في انفساخ الإجارة وعدمه يتخرج عليه مسائل:
منها: إذا أوصى لزيد برقبة دار ولعمرو منفعتها، فأجرها عمرو من زيد هل يصح؟ فيه وجهان:
ومنها لو مات المستأجر ووارثه المؤجر ففي انفساخ الإجارة الوجهان.
ومنها: إذا أجر داراً من أبيه ومات الأب في المدة ولا وارث له سوى المستأجر وعليه ديون مستغرقة وقلنا: إن الدين لا يمنع الإرث كما هو الجديد، أما إذا قلنا بالقديم فالإجابة باقية قولاً واحداً، وقد ادعى الروياني أن الانفساخ في هذه الصورة هو ظاهر المذهب وهو ما جزم به الماوردي وفرق بينه وبين البيع من المستأجر: بأنه بالإرث صار قائماً مقام المؤجر فلم ينفذ له عقد على نفسه وهو في البيع لا يقوم مقام البائع إلا فيما سمي بالعقد فعلى هذا قال ابن الحداد: الابن غريم يضارب بأجرة بقية المدة مع الغرماء وهذا بخلاف قوله في الشراء فمنهم من تكلف له فرقين:
أحدهما: أن الانفساخ في صورة الشراء حصل باختيار المستأجر، وفي الإرث لا صنع للمستأجر؛ فلا يسقط حقه.
والثاني: أن هناك الإجارة وإن انفسخت فلا تخرج المنافع من يده، وهاهنا تخرج، لأن الدار تباع في الديون وأبطل الأول بأنه لا فرق في سقوط الأجرة بين
أن يفوت [محل] المنافع بفعله أو لا؛ كما إذا انهدمت الدار المستأجرة أو هدمها فإنه يرجع بالأجرة وأبطل الثاني فإنا لا نسلم أن المنافع تبقى للمشتري ثم إذا سلمنا ذلك فبقاؤها ليس من مقتضى الإجارة بل لحدوثها على ملكه بسبب ملك الرقبة والتملك بغير جهة الإجارة لا يقتضي استقرار الأجرة.
وقد حكى في البحر [عن القاضي الطبري] فرقاً آخر ومعناه: أن في مسألة البيع ما فات على المستأجر من الأجرة جبره نقص الثمن، وما فات على الآجر من الثمن بسبب كونها مستأجرة جبرته الأجرة، فلو أوجبنا في هذه الحالة الأجرة لأضررنا بالبائع وفي مسألة الإرث لم يفت على الميت شيء بسبب الإجارة حتى يجعل الأجرة جابرة له ولا حصل للمستأجر شيء حتى يجعل الأجرة في مقابلتهن فلو لم نوجب له الأجرة لأضررنا به وكان ابن الحداد يراع نفي الضرر في الصورتين.
قال الروياني: وهذا فيه نرظ؛ لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن وهي تبطل البيع، وفيما قاله نظر ومن تمام هذه المسألة أن المؤجر لو مات عن ولدين أحدهما المستأجر، وقلنا بمذهب ابن الحداد: لا تنفسخ الإجارة إلا فيما انتقل إليه بالإرث وهو النصف وله الرجوع بنصف أجرة ما انفسخ العقد فيه فيما ورثه أخوه وهذا ما حكاه الماوردي.
قال الرافعي: وهو مستبعد عند الأئمة لأنه يؤدي إلى أن يرث المستأجر نصيبه بمنافعه والآجر نصيبه مسلوب المنفعة، والله أعلم.
قال: وإن باع من غيره لم يصح في أحد القولين [أي: سواء أذن المستأجر أو لم يأذن كما ذكره المتولي؛ لأن] يد المستأجر مانعة من التسليم بحق فكانت أولى بمنع البيع من يد الغاصب التي تمنع منه بظلم، وهذا ما صححه الشيخ أبو علي.
ويصح في الآخر، ويستوفي المستأجر ما بقي؛ [فإن لم يعلم المشتري بالإجارة ثبت له الخيار] لأن ثبوت العقد على المنفعة لا يمنع من بيع الرقبة، كالأمة المزوجة، وهذا هو الصحيح في الحاوي، وتعليق البندنيجي وغيرهما.
فإن قيل: هل يمكن أن يكون مأخذ [هذا] الخلاف في أن العقد يرد على
العين أو [على] المنفعة.
فإن قلنا: يرد على العين امتنع.
وإن قلنا: يرد على المنفعة فلا.
قلت: لا يمكن؛ لأمرين:
أحدهما: أن هذا الخلاف حكاه الماوردي وغيره قولين، وما ذكرته وجهين، ولا يمكن تخريج قولين على وجهين.
والثاني: أن الخلاف المذكور في أن الإجارة ترد على العين أو المنفعة مذكور بعينه كما ذكره القاضي الحسين في عقد النكاح على الزوجة، ولم يمنع صحة بيع المزوجة اتفاقاً؛ فظهر أنه لا يصلح أن يكون مأخذ الخلاف.
ولكن الإمام حكى عن الأئمة أنهم بنوا هذا الخلاف على ما إذا باع داراً واستثنى سكناها سنة؛ ففي صحة البيع قولان:
فإن قلنا: لا يمنع البيع عند الاستثناء؛ صح بيع الدار المكراة، وإلا فلا؛ هذه طريقة القاضي الحسين وسنذكر عن غيره خلافها.
ثم إذا قلنا بصحة البيع، فوجد المستأجر عيباً بالمستأجر ففسخ الإجارة، فلمن تكون المنفعة فيما بقي من مدة الإجارة؟ فيه وجهان:
اختار ابن الحداد منهما: أنها تكون للمشتري.
واختار أبو زيد: أنها [تكون] للبائع؛ وهذا ما صححه في البحر.
وحكي أن القاضي الطبري قال: وعلى هذا يجوز أن يبيع عيناً ويستثنى منفعتها مدة.
قال ابن الصباغ والروياين: وهذا التخريج خلاف مذهب الشافعي.
والفرق بينهما ذكرته في باب ما يجوز بيعه.
وقد بنى المتولي الخلاف في أن منفعة المدة الباقية تعود إلى البائع والمشتري على أن الفسخ يرفع العقد من أصله أو من حينه إن قلنا بالأول، فهي للمشتري، وإلا فللبائع.
وقال: إنهما لو تقايلا وقلنا: إنها عقد، فهي للبائع، وكذا إن قلنا: إنه فسخ على الصحيح، وحكم هبة العين المستأجرة حكم بيعها، وفي رهنها طريقان حكاهما الماوردي في كتاب الصلح:
أحدهما: طرد القولينك
والثاني: القطع بالبطلان.
فرعان:
أحدهما: إذا أقر الآجر بالعين المستأجرة لغير المستأجر ففي قبول إقراره بالرقبة قولان:
أحدهما: [لا؛] كما لو أقر بما باعه لغير المشتري.
والثاني: نعم؛ لأنه مالك في الظاهر غير متهم في الإقرار، ويخالف إقرار البائع؛ لأنه يصادق ملك الغير؛ [وهذا هو الأظهر، والمنصوص في "عيون المسائل".
قال الرافعي]: وقد ينبني الخلاف على أن المكري هل له بيع المستأجر؟ إن قلنا: نعم، صح إقراره، وإلا فهو على الخلاف في إقرار الراهن.
وإذا قلنا: يقبل إقراره؛ ففي بطلان حق المستأجر من المنفعة أوجه:
أظهرها: أنه لا يبطل.
والثاني: يبطل؛ تبعاً للرقبة؛ كالعبد إذا أقر على نفسه بالقصاص، يقبل، ويبطل حق السيد تبعاً.
والثالث: إن كان المقر به في يد المكتري؛ فلا تزال يده حتى انقضاء مدة الإجارة، وإن كان في [يد] المقر له، فلا ينزع من يده.
وإذا قلنا: يبطل حق المكتري فهل له تحليف المكري؟ فيه الخلاف المذكور في أن المرتهن هل يحلف الراهن إذا أقر بالمرهون وقبلناه.
الثاني: بيع الحديقة المساقى عليها في المدة يشبه بيع المستأجر.
قال الرافعي: ولم أر له ذكراً، نعم في فتاوى صاحب التهذيب: أن المالك إن
باعها قبل خروج الثمرة لم يصح؛ لأن للعامل حقاً في ثمارها؛ فكأنه استثنى بعض الثمرة وإن كان بعد خروج الثمرة لم يصح البيع في الأشجار ونصيب المالك من الثمار ولا حاجة إلى شرط القطع؛ لأنها مبيعة مع الأصول ويكون العامل مع المشتري [كما كان مع البائع].
قلت: وقد ذكرت لمنع البيع قبل انتهاء مدة العمل في المساقاة وجهاً ظاهراً في باب ما يجوز بيعه فليطلب منه.
قال: وإن كان أي المستأجر عبداً فأعتقه عتق؛ لأن الحيلولة لا تمنع العتق، دليله: صحة عتق المغصوب والآبق؛ ولأن الإجارة عقد على منفعة فلم يمنع العتق كالنكاح، [ولا تنفسخ الإجارة كالنكاح].
قال: ويلزم المولى للعبد أقل الأمرين من أجرته أو نفقته.
أما وجوب أجرة المثل إذا كانت أقل من النفقة؛ فلأن الحرية قطعت سبب وجوب النفقة- وهو الرق- وقد فوت السيد عليه منافعه في باقي مدة الإجارة؛ فضمن بدلها، كما لو أكرهه على العمل.
وأما وجوب النفقة إذا كانت أقل من أجرة المثل؛ فلأن العتق إنما يقع على ما هو مملوك للسيد، والمنفعة في حال العقد لم تكن مملوكة له، فلم ينلها العتق، وامتنع أن يرجع ببدلها، [فوجبت النفقة؛ لأنه] كالباقي على ملكه؛ بدليل أنه يملك بدل منفعته بحق الملك.
وهذا الوجه على هذا النعت لم أره فيما وقفت عليه، بل المحكي في المهذب وغيره أن العبد هل يستحق على السيد أجرة المثل أم لا؟ فيه قولان:
القديم: نعم، والجديد: لا، فعلى هذا هل يرجع السيد [بنفقته؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تجب في بيت المال.
والثاني: وهو الأشبه في الرافعي والمختار في المرشد أنها تكون على السيد] استيفاء لما تقدم من حكمي الإجارة والنفقة؛ فقد حكى صاحب
التقريب وراء ذلك وجهين:
أحدهما: أن الإجارة تنفسخ بالعتق.
والثاني: أن العبد يثبت له الخيار بين فسخ الإجارة والبقاء عليها؛ كما ثبت للأمة إذا عتقت تحت عبد.
والمذهب الأول، وهو الذي أورده الجمهور، ومنهم صاحب التهذيب، وقال: إن الحكم في أم الولد إذا أجرها سيدها، ثم مات قبل انقضاء المدة كذلك.
وحكى وجهاً آخر: أن الإجارة تنفسخ بموت سيدها، وهو ما أورده [في] البحر؛ لأنه انتهى ملكه؛ فصار كما لو أوصى بمنفعة عبده لشخص مدة حياته، ثم مات، وأاجره الموصى له، ثم مات قبل انقضاء مدة الإجارة- فإنها تنفسخ في الباقي.
والإمام في مثل هذه الصورة يقول: تبينا أن الإجارة لم تصح في ذلك القدر.
وحكم المعلق عتقه بصفة إذا أجر ثم وجدت الصفة حكى أم الولد.
فرع: إذا انفسخت إجارة المعتق بسبب من الأسباب؛ فالمنافع في المدة الباقية لمن تكون؟
قال المتولي: [إن قلنا إن للمعتق الرجوع على السيد بالأجرة عادت إلى المعتق].
وإن قلنا: لا يرجع عليه [بها] فالمنافع تكون للمعتق أو للسيد؟ فيه وجهان.
فرع: إذا أجر عبده، ثم مات، فأعتقه الوارث، فالحكم كما تقدم إلا في الرجوع على المعتق؛ فإنه لا يثبت.
فرع: للأب والوصي إجارة الصبي وماله كما يصح منهما بيع ماله.
وحكى الإمام عن رواية صاحب التقريب وجهاً: أنه لا يجوز للأب إجارته.
فعلى الأول: لا يجوز أن يجاوز بالإجارة مدة بلوغه بالسن.
فلو أجره ثم بلغ في أثناء المدة، فهل تنفسخ الإجارة فيما بقي؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لأنه متصرف المولى عليه حين كان له التصرف، فأشبه [ما لو] باع له شيئاً أو اشترى له شيئاً.
والثاني: يبطل؛ لأنه عقد على منافع لا يجوز له التصرف فيها؛ لأن المولى عليه بعد بلوغه يجوز له التصرف في منافع نفسه وماله دون غيره.
ومن هذه العلة يفهم أن محل الخلاف إذا بلغ رشيداً، أما لو بلغ سفيهاً؛ فلا.
قال القاضي أبو الطيب بعد حكاية ما حكيته من الخلاف: ومن أصحابنا من قال: إن أجره مدة يتيقن أن يبلغ الصبي قبل مضيها؛ فإن العقد يبطل فيما يتيقن فيه البلوغ، وهل يبطل في الباقي؟ فيه قولاً تفريق الصفقة.
وإن أجره مدة لا يتيقن بلوغه قبل انقضائها، لكنه بلغ بالاحتلام فإن العقد يكون صحيحاً في جميع المدة لازماً؛ كما نقول في السيد إذا أعتق العبد بعدما أجره مدة.
وهذه الطريقة هي الصحيحة عند الروياني في الحلية.
وحكى الرافعي طريقة أخرى فيما إذا أجره مدة يعلم بلوغه في أثنائها بالسن- أن العقد باطل في الجميع قولاً واحداً؛ كما إذا أجر الراهن المرهون مدة يحل الدين قبل انقضائها.
وصححها البغوي والذي صححه الإمام والمتولي عند البلوغ بالاحتلام الانفساخ.
وصحح الروياني في الحلية وغيره عدمه.
ثم إذا قلنا بعدم الانفساخ، فهل يثبت [له] الخيار؟
فيه وجهان في طريق المراوزة:
أظهرهما: لا.
وقد جعل الإمام الخلاف في انفساخ العقد إذا أورده على ماله مرتباً على الخلاف في انفساخه إذا ورد على نفسه، وأولى بعدم الانفساخ.
والخلاف في ثبوت الخيار في هذه الحالة مرتب على الخلاف في التي قبلها، وأولى بألا يثبت، كذا حكاه في آخر الباب. ولو أجر [الولي مال المجنون، فأفاق في أثناء المدة، فهو في معنى البلوغ بالاحتلام.
قال: وإن أجر] العين قبل انقضاء المدة من غير المستأجر- لم يجز.
صورة المسألة: أن يؤجر داره مثلاً شهراً ثم يؤجرها من آخر الشهر الذي يليه، فلا يصح.
الثاني: لأمرين:
أحدهما: أنه أجر ما لا يقدر على تسليمه فشابه إجارة الآبق.
والثاني: أن إمكان إيصال الشروع في الاستيفاء بالعقد لم يوجد.
قال: وإن أجرها من المستأجر جاز في أظهر القولين، قال البندنيجي: وهو المنصوص؛ لأن الدار في يد المستأجر والمنفعة [تقع] متوالية في ملكه فصار القبض معجلاً؛ كما لو أجرها منه ابتداء الشهرين وقد صار إلى ترجيح هذا القول صاحب التقريب [وغيره].
والقول الثاني: إنه لا يجوز؛ كما لا يجوز أن يؤجرها من غيره، وهو الذي صححه في الوسيط.
وقال الروياني [في البحر] والبندنيجي: إنه الأقيس، وأن نظير المسألة ما إذا باع الثمرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع، إن باعها من غير صاحب الأصل لم يجز، وإن باعها منه فوجهان، وقد احتج الغزالي لقول المنع بأن العقد الأول قد ينفسخ فلا يتحقق شرط العقد الثاني وهو الاتصال بالأول، ولناصر الأول أن يقول: الشرط رعاية الاتصال ظاهراً، وذلك لا يقدح فيه الانفساخ
العارض؛ ألا ترى أنه يجوز [السلم عندنا في المعدوم في الحال الموجود وكذا المحل وإن كان المسلم إليه قد يموت فيحل عليه الحق والمسلم فيه منقطع فلا يوجد شرط القطع، وكما يجوز أن يؤجر الشهر الثاني من المستأجر يجوز أن يؤجره من المستأجر منه ولا يجوز أن يؤجرها من المستأجر منه إذا كان المستأجر قد أجرها كما حكاه في التهذيب.
وعن فتاوى القفال: أنه يجوز]؛ لأنه الذي عاقده [فيضم إلى ما استحق بالعقد الأول الشهر الثاني].
ولا يجوز أن يؤجرها من المستأجر ولو أجر داره سنة ثم باعها وجوزناه لم يكن للمشتري أن يؤجر السنة الثانية من المكتري، وترددوا في أن الوارث هل يتمكن منه إذا مات مورثه المؤجر.
فرع: يجوز أن يؤجر الحيوان من آدمي وغيره شهراً [في] النهار دون الليل بخلاف غيره؛ لما في إدامة استعمال الحيوان من الإضرار به بخلاف غيره، وأوقات الصلوات من النهار مستثناة، وكذا سننها الرواتب وأوقات الطهارة ولا ينقص من الأجرة شيء، ولا فرق بين صلاة الجمعة وغيرها.
وعن ابن سريج كما حكاه الرافعي في أواخر الباب: أنه يجوز له ترك الجمعة بهذا السبب والسبوت في استئجار اليهود تقع مستثناة إذا اطرد عرفهم بذلك ذكره الغزالي في فتاويه.
قال: وإن انقضت مدة الإجارة وفي الأرض زرع فإن كان بتفريط من المستأجر أي بأن زرع ما يستحصد في تلك المدة أو أخر البذر جاز إجباره على قلعه وتسوية الأرض لتعديه كالغاصب، وهذا لفظه في التهذيب.
قال: وجاز تركه بأجرة؛ لأن الحق للمالك فجاز تركه برضاه، قال في التتمة: ولا يجوز إجباره على القلع قبل انتهاء المدة؛ لأن منفعة الأرض في الحال ملكه وهل له منعه من زراعة ما لا يدرك في تلك المدة ابتداء؟
قال الشيخ في المهذب: يحتمل ألا يمنع زرعه كما لا يقلع إذا زرع، وما ذكرناه عن التهذيب يقتضي المنع.
قال: وإن لم يكن بتفريط منه أي: بأن يكون لتأخير المطر، أو لكثرته، أو لحر أو برد، أو لكون الجراد أكل رؤوس الزرع فنبت ثانياً وتأخر الإدراك لذلك.
قال: فقد قيل: يجوز إجباره؛ لأنه مفرط بترك الاستظهار في مدة الإجارة.
وقيل: لا يجوز؛ لأن هذه الموانع ليست من صنعه وهو معذور في ترك الزيادة على المدة المحتاج إليها عادة، وهذا ما قال المتولي: إنه المذهب، وجزم به القاضي الحسين؛ فعلى هذا يجب على المستأجر أجرة المثل لما زاد، وهذا كله إذا استأجر للزراعة وأطلق وجوزناه كما هو الصحيح، أما إذا عين زرعاً نظر: إن عين ما [لا] يستحصد في تلك المدة فالحكم فيما إذا زرع ما لا يستحصد فيها، أو ما يستحصد في تلك المدة كما إذا استأجر لزراعة الحنطة شهرين: فإن شرط القلع بعد مضي المدة جاز وكأنه لا [يبغي إلا الفضل] ثم لو تراضيا على الإبقاء بعد ذلك مجاناً لو تأخر فلا بأس، وإن شرط الإبقاء فسد العقد للتناقض بينه وبين التأقيت، فلو زرع لم يقلع زرعه مجاناً للإذن، بل يؤخذ منه أجرة المثل لجميع المدة، وإن أطلقا العقد ولم يتعرضا لقلع ولا إبقاء فوجهان:
أحدهما: وهو ظاهر كلام الشافعي كما حكاه الماوردي وبه قال الشيخ أبو محمد: أنه فاسد؛ لأن العادة في الزرع الإبقاء فكان كما لو شرطا.
وأصحهما في الرافعي وبه جزم القاضي الحسين: أن التأقيت يحضر المعقود عليه فيمنفعة تلك المدة فعلى هذا إن توافقا بعد المدة على إبقائه مجاناً أو بأجرة فذاك وإن أراد المالك إجباره على القلع فوجهان:
أحدهما وبه قال أبو إسحاق: أنه يتمكن منه.
[وأشبههما] ويحكى عن القفال: أنه لا يتمكن منه؛ لأن العادة في الزرع الإبقاء.
وعلى هذا فأظهر الوجهين أن له أجرة المثل للزيادة.
وفيه وجه لا؛ لأنه إذا أجر مدة لا يدرك فيها الزرع كان معيراً للزيادة على تلك المدة.
قال أبو الفجر السرخسي: إذا قلنا لا يقلع بعد المدة [لزم تصحيح العقد فيما إذا شرط الإبقاء بعد المدة] وكأنه صرح بمقتضى الإطلاق ولو عين ما يشك
في أنه هل يستحصد في تلك المدة أم لا؛ كما إذا استأجر لزراعة البر خمسة أشهر- فإنه يجوز أن يحصد فيها في بعض البلاد وبعض السنين.
قال الماوردي: حكمه حكم ما ذكرناه فيما إذا علم أنه يستحصد؛ إسقاطاً للشك واتباعاً لليقين.
فرع: إذا انقضت مدة الإجارة للبناء والغراس، والبناء والغراس [قائم فالحكم] فيه كالحكم فيما لو رجع المستعير في العارية وقد ذكرناه، ومن تتمته: أنه لو شرط في الإجارة للبناء والغراس التبقية بعد المدة ففي الصحة وجهان:
أرجحهما عند الإمام والبغوي: الفساد.
والثاني وهو الذي أجاب به العراقيون أو معظمهم وكذا الماوردي: الصحة؛ لأن الإطلاق يقتضي الإبقاء فلا يضر شرطه ويصير مستعيراً على مذهب الشافعي؛ فلا يلزمه [الأجرة].
قال الرافعي: وبهذا يتأيد كلام السرخسي في مسألة الزرع.
قال: وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة جاز أن تعقد بلفظ السلم؛ لمساواته السلم في الثبوت في الذمة.
وصورة ذلك أن يقول: أسلمت إليك هذا الدينار أو ديناراً في ذمتي في خياطة ثوب من صفته كذا وكذا، ويبين نوع الخياطة إن اختلف إلى فارسية ورومية. والفارسية بغرزة والرومية بغرزتين، أو في بناء حائط في موضع كذا طوله كذا [وعرضه كذا] وارتفاعه كذا ويصف ما يبنى به.
قال: وإن عقد بلفظ السلم اعتبر فيه قبض الأجرة في المجلس؛ لأنه سلم وإن عقد بلفظ الإجارة فقد قيل: يعتبر أي القبض اعتباراً بالمعنى؛ فإن معناه معنى السلم، وهذا هو الأصح عند العراقيين، والشيخ أبي علي والبغوي.
وقال في التتمة في كتاب الحج: إنه المذهب.
وقيل: لا يعتبر اعتباراً بلفظه وهو ما اختاره مختارون، وهذه القاعدة مطردة في مسائل السلم بلفظ الشراء كما حكاه أبو الطيب، والشراء بلفظ السلم، والبيع بلا ثمن، والهبة بثمن، والقراض على أن الربح لأحدهما، والمباضعة على أن الربح بينهما، ولكن الأصح في بعض النظر إلى اللفظ إذا كان المعنى بعيداً، وفي
بعض النظر إلى المعنى إذا كان قريباً، وما ذكره الشيخ هو المشهور.
وحكى مجلي فيما إذا عقد بلفظ السلم [أو بلفظ] الإجارة ثلاثة أوجه:
أحدها: يشترط قبض الأجرة في المجلس.
والثاني: لا يشترط والقائل به يقول: يتبع المعنى لا الاسم.
والثالث: إن كان بلفظ السلم اشترط، وإن كان بلفظ الإجارة فلا.
وعلى كل حال فلا يجوز أن تكون الأجرة في هذه الحالة مؤجلة كما صرح به في المهذب؛ كي لا يكون بيع دين بدين.
وفي الحاوي: أنه إن عقد على ما في الذمة حالاً جاز أن تكون الأجرة فيه حالة ومؤجلة، وإن عقد على مؤجل كاستئجار بعير [في الذمة] يركبه إلى مكة بعد شهر من وقته لم يجز تأجيل الأجرة فيه؛ لأنها تصير ديناً بدين، وهل يلزم تعجيل قبضها قبل الافتراق أم لا؟ [فيه وجهان]:
قال: ولا تستقر الأجرة في هذه الإجارة إلا بالعمل؛ لأن المعقود عليه ما في الذمة فلا يستقر بدله من غير استيفاء كالمسلم فيه.
وفي الرافعي، والوسيط: أن الإجارة إذا وردت على الذمة وسلم دابة بالوصف المشروط فمضت المدة عند المكتري استقرت الأجرة لتعيين حقه بالتسليم وحصول التمكين.
ويمكن أن يحمل ما قاله الشيخ على ما إذا اعتمد العقد العمل كما صورناه، وما قاله الرافعي وغيره على ما إذا اعتمد الدابة؛ كما إذا قال: آجرتك دابة في ذمتي من صفتها كذا وكذا إلى موضع كذا فسلمها، كما سنذكر مثله عن الشيخ
أبي محمد من بعد، ويدل عليه أن لفظ الغزالي إذا حبس المكري الدابة التي استأجرها استقرت عليه الأجرة، وإن لم يستعملها حتى مضت المدة في حبسه؛ سواء كانت الإجارة واردة على عين الدابة أو على الذمة.
وفي التتمة: أنه إذا التزم في ذمته عملاً من الأعمال ثم سلم نفسه إليه ليستعمله.
وقلنا: إن تسليم النفس في الإجارة على منفعة محصورة يحصل تسليمها أو سلم عبده ليستعمله، أو أذن لعبده حتى التزم في ذمته عملاً وسلم نفسه- هل تستقر الأجرة بمضي مدة يمكن فيها الإتيان بذلك الفعل أم لا؟ فيه وجهان:
قلت: ولا بد مع ذلك من ملاحظة إجبار من له دين حال في ذمة إنسان بذله إليه لقصد براءة الذمة لا غير، أما إذا لم يجبره على قبضه فلا يتجه الاستقرار أصلاً.
قال: ويجوز أن يعقد على [عمل] معجل ومؤجل [كالسلم]؛ وصورة المعجل أن تقول: أسلمت إليك في خياطة هذا الثوب حالاً [أو ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب حالاً أو استأجرتك على تحصيل خياطة هذا الثوب حالاً].
وصورة المؤجل: أن يقول ما ذكرناه ويذكر بدل قوله حالاً إلى شهر مثلاً.
قال: وإن هلكت العين [أو غصبت أي العين] التي سلمها الآجر للمستأجر؛ ليستوفي منها ما في الذمة لم تنفسخ الإجارة بل يطالب بالبدل؛ لأن المعقود عليه ما في الذمة، وهو باق وليس للمستاجر في هذه الحالة مطالبة الغاصب بالأجرة اتفاقاً.
ومن هذا يظهر أنها إذا تعيبت لا فسخ له، بل يردها ويطالب ببدلها من طريق الأولى.
واعلم أن العين المسلمة عن هذه الإجارة وإن لم ينفسخ العقد بتلفها؛ فإنه يثبت فيها حق واختصاص حتى يجوز له إجارتها.
ولو أراد المكري إبدالها، فهل له ذلك دون رضى المكتري؟ فيه وجهان:
أصحهما عن المعظم: لا؛ لما فيها من حق المكتري.
والثاني عن الشيخ أبي محمد: أنه يفرق بين أن يعتمد اللفظ الدابة بأن يقول:
أجرتك دابة في ذمتي من صفتها كذا [فلا يجوز إبدال التي] سلمها أو لا يعتمد بأن يقول: التزمت إركابك على دابة صفتها كذا، فيجوز الإبدال، وهذا ما اختاره في الوسيط ويترتب على الوجهين ما إذا أفلس المكري بعد تعيين الدابة، هل يقدم المكتري بمنفعتها؟ والأصح:[التقديم]، وهو المذكور في التهذيب. ولو أراد المكتري أن يعتاض عن حقه في إجارة الذمة، قال الرافعي: إن كان قبل أن يسلم دابة لم يجز؛ لأنه اعتياض عن مسلم فيه وإن كان بعد التسليم جاز؛ لأن الاعتياض- والحالة هذه- واقع في حق [عن عين].
وفي التتمة: أنه هل يجوز أن ينقل هذه المنفعة إلى غيره بعقد الإجارة أم لا؟
ينبني ذلك على أن تسليم الأجرة في المجلس هل هو شرط أم لا؟ فإن اعتبرناه- لم يجز- وإلا فالحكم كما ذكرناه فيما لو استأجر عين مال.
قال: وإن [هرب المكري، اكترى عليه؛ لأنه حق في ذمته] تدخله النيابة فحصله الحاكم للمستحق؛ كمن أسلم في طعام إلى أجل، فهرب المسلم إليه عند حلوله – فإن الحاكم يستوفي لصاحب الحق حقه من ماله.
والإكراء يكون بمال المكري إن أمكن، وإلا فيما يقترض عليه من مال بيت المال أو من المستاجر أو [من] غيره.
ولا يجوز في هذه الصورة أن يفوض القاضي الأمر في الإكراء إلى المكتري كما نص عليه في البويطي؛ لأن حرصه على استيفاء حقه يمنعه من النظر للغائب.
وهذا النص: شبيه بما حكيناه عن العراقيين في كتاب الرهن؛ أنهم لا يجوزون أن يكون المرتهن وكيلاً في بيع الرهن في غيبة الراهن؛ لهذا المعنى.
قال: فإن تعذر ذلك؛ ثبت للمكتري الخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر إلى أن يجده؛ لأنه تأخر حقه؛ فثبت له الخيار؛ كما لو أسلم في شيء فتعذر.
وإذا فسخ لا يقترض عليه الحاكم لوفاء الأجرة؛ لأنها دين، وبالاقتراض يجدد مثله.
فرع: إذا كانت الإجارة على الحج في الذمة، ولم يحج الأجير في السنة الأولى، فهل تنفسخ الإجارة أم لا؟
قال الأصحاب: إذا أطلق العقد، كان محمولاً على السنة الأولى، منزلاً منزلة تعيينها ولو عين، فأخر الحج عنها، فهل تنفسخ الإجارة؟ فيه طريقان حكاهما الإمام:
أظهرهما: أنه على قولين؛ كما في المسلم فيه إذا انقطع، وأصحهما: عدم الانفساخ.
والطريق الثاني: القطع بهز
فعلى هذا: إن كان الاستئجار من المغصوب، ثبت له الخيار، وكذا إن كان المستأجر للميت قد تطوع بالأجرة من ماله، فله الخيار. وإن كان الاستئجار] للميت بماله، فالذي صار إليه العراقيون: أنه لا خيار؛ لأن الأجرة لتحصيل الحج؛ فلا انتفاع باستردادها.
وتوقف الإمام فيما ذكروه؛ فإن الورثة تستفيد بالفسخ صرف الأجرة إلى من هو أحرى بالتحصيل.
وأيضاً فإنهم إذا استردوها، تمكنوا من إبدالها بغيرها.
وأورد البغوي وغيره: أن على الوارث مراعاة النظر للميت: فإن كانت المصلحة بفسخ العقد، لخوف إفلاس الأجير أو هربه، فلم يفعله – ضمن.
قال الرافعي: وهذا هو الأظهر، ويجوز أن يحمل المنسوب إلى العراقيين على أحد أمرين رأيتهما للأئمة:
أحدهما: صور بعضهم المنع فيما لو كان الميت قد أوصى بأن يحج عنه إنسان بمائة- مثلاً ووجهه بأن الوصية مستحقة الصرف إلى المعين.
الثاني: حكى الحناطي أن أبا إسحاق ذكر في الشرح أن للمستأجر للميت أن يرفع الأمر للحاكم ليفسخ العقد إن كانت المصلحة تقتضيه، وإن لم يستقل به فإذا نزل ما ذكروه على التأويل الأول لم يقع خلاف، وإن نزل على الثاني بان أمره.
فرع: ذكره الإمام في باب الإجارة على الحج:
إذا قال: ألزمت ذمتك أن تحصل لي حجة بنفسك، قال الصيدلاني: الإجارة صحيحة ومتضمنة أن يكون هو الحاج، ولا ينيب غيره مناب نفسه، وهذه الصورة من قسم إجارة الذمة.
وهذ زلل عظيم، فإن ربط الشيء بمعين حتى لا يقوم غيره مقامه مع اعتقاد
التحاق ذلك بالديون- متناقض، والإجارة على الذمة قسم من أقسام السلم، والسلم في شجرة معينة باطل. انتهى.
ويقرب مما ذكره الصيدلاني في البعد- وإن لم يكن في معناه- ما صار إليه القاضي الحسين فيما إذا قال: استأجرتك لكذا، أو لتفعل كذا- أن هذه إجارة ذمة، ولا تكون إجارة عين ما لم يقل: استأجرت عينك أو نفسك لكذا أو لتعمل كذا.
والأظهر: أن هذه إجارة عين.
قال: وإن دفع إليه ثوباً فقطعه قميصاً [ثم اختلفا]؛ فقال صاحب الثوب: أمرتك أن تقطعه قباء، فعليك الأرش، وقال الخياط: بل أمرتني بقميص فعليك الأجرة؛ تحالفا على ظاهر المذهب؛ لأنهما اختلفا في صيغة العقد مع اتفاقهما على أصله؛ فاقتضى أن يتحالفا؛ كالمتبايعين. [و] لأن كلا منهما يصير منكراً ومدعياً [عليه]؛ فالخياط يدعي الأجرة، وينفي الضمان، ورب الثوب يدعي الضمان، وينفي الأجرة.
ولأنهما لو اختلفا والثوب صحيح، فقال رب الثوب: استأجرتك لتخيطه قميصاً، وقال الخياط [بل استأجرتني]: لأخيطه قباء تحالفا عليه، ولا يختلف قول الشافعي في ذلك، وإذا كان كذلك وجب إذا اختلفا بعد قطع الثوب أن يتحالفا عليه؛ لأن ما أوجب التحالف [مع بقائه أوجب التحالف] مع تغير أحواله، كذا قاله الماوردي.
ومراد الشيخ بظاهر المذهب: ظاهر نصه في الجامع الكبير كما سنذكره مع نصه في الإملاء على التحالف فيما إذا سود الصباغ ثوب إنسان وقال له: هكذا أمرتني، وقال مالك الثوب: بل أمرتك بصبغه أحمر، وقد روى القاضي أبو الطيب أن الشافعي قال في اختلاف العراقيين: كان ابن أبي ليلى يقول: إن القول قول الخياط.
وقال أبو حنيفة: القول قول رب الثوب، وهذا أصح القولين، وغير القاضي
يرونه أشبه القولين، وإن المزني نقل هذه المسألة إلى المختصر وجامعه الكبير وذكر هذين القولين ثم قال: قال الشافعي: وكلاهما مدخول؛ لأن الخياط يدعي الأجرة، وينفي الضمان، ورب الثوب ينفي الأجرة، ويدعي الضمان؛ فلا أقبل قولهما، وأردهما إلى أصل القياس على السنة، فيحلف كل واحد منهما لصاحبه، وأرد الثوب على صاحبه، ولا أجرة للخياط، ولا ضمان عليه.
فاختلف الأصحاب من أجل هذه الروايات في هذه المسألة على خمسة طرق:
أحدها: أن المسألة على قول واحد وهو ما ذكره الشيخ، وما قاله في الجامعين فهو حكاية مذهب الغير ويؤيدها قوله بعد حكاية كلامهما: وكلاهما مدخول؛ وبهذه الطريقة قال أبو علي الطبري في الإفصاح، وصاحب التقريب، والشيخ أبو حامد، ومتأخرو الأصحاب؛ كما قال الماوردي بعد أن صححها.
وحكى في البحر: أن القاضي الطبري قال: إنما نقل ذلك صاحب الإفصاح من الجامع الكبير، وليس ذلك مذهب الشافعي، وإنما ذلك حكاية عن غيره.
والطريق الثاني: أن المسألة على قولين:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: أن القول قول المالك لإعراضه عن مذهب ابن أبي ليلى، وقوله: إن مذهب أبي حنيفة أشبه.
ووجهه: أنهما لو اختلفا في أصل الإذن كان القول قوله؛ فكذلك في صفته؛ كما إذا قلنا فيما إذا اختلف في صفة الإذن في الوكالة: إن القول قول الموكل، ونظائر ذلك.
ولأن الخياط معترف بأنه أحدث نقصاً في الثوب، ويدعي أنه مأذون له فيه،
والأصل عدمه، وهذا ما اختاره المزني، وصححه الأكثرون، ومنهم القاضي الروياني، وقال: إن قول التحالف لا يصح؛ لأن الاختلاف واقع في الإذن لا في الأجرة والغرم، فكان القول قول الآذن.
والطريق الثالث: أن المسألة على قولين لا غير:
أحدهما: أن القول قول الخياط؛ لأنهما اتفقا على الإذن في القطع، والظاهر أنه لا يتجاوز المأذون.
ولأن المالك يدعي عليه الغرم والأصل عدمه؛ وبهذه العلة فارقت هذه المسألة مسألة الوكالة، وقد ذكرت الفرق بينهما في باب الوكالة.
والثاني: أن القول قول المالك لما ذكرناه.
وما استدل به من كونهما اتفقا على القطع يبطل بما إذا دفع إليه ثوباً، وقال: هو وديعة، فقال الآخر: هبة- فإن القول قول الدافع مع اتفاقهما على القبض.
وما ذكر من أن الظاهر أنه لا يتجاوز المأذون- لا يصح مع تجويز الخطأ والنسيان، مع أن العرف إنما يستعمل في إطلاق العقود لا في التنازع.
دليله: أن العطار أو الدباغ لو اختلفا في شيء من آله العطر أو الدباغ؛ لم يرجح قول أحدهما.
وما ذكر من كون المستاجر يدعي عليه الغرم والأصل عدمه يبطل بما لو اختلفا في [أصل] الإذن؛ وهذه طريقة ابن سريج، وأبي إسحاق، وابن أبي هريرة، والقاضي أبي حامد، كما حكاه الماوردي، وصار إليه الأكثرون؛ كما قال الرافعي، وصححها تبعاً للروياني.
واحتج القائلون بأنهما قولان للشافعي بأنه قال لأحدهما: هو أشبه القولين.
وفي البحر: أن القاضي أبا حامد قال: القول قول رب الثوب قولاً واحداً ولم يحك قولاً ثانياً في المسألة.
الطريق الرابع: أن المسألة على ثلاثة أقوال:
ظاهر المذهب: القول قول المالك.
القول قول الخياط، وهذه الطريقة معزوة في شرح الجويني إلى القفال، وقد حكاها القاضي أبو الطيب والبندنيجي والشيخ في المهذب عن بعض أصحابنا،
وقال الماوردي: لعلها طريقة أبي الطيب بن سلمة وأبي حفص بن الوكيل.
والطريق الخامس: حكاه أبو الفرج السرخسي في أماليه عن ابن سريج: أنه [إن جرى] بينهما عقد، فليس إلا التحالف؛ كسائر الاختلافات في بقية المعاوضات.
وإن لم يجر فالخياط لا يدعي الأجرة، وإنما النزاع في الأرش، ففيه القولان المذكوران في الطريقة الثالثة.
التفريع:
إن قلنا بظاهر المذهب، وهو التحالف فلا تخفى كيفيته مما تقدم في البيع، والمالك هنا في رتبة البائع ثم والحكم بعد جريانه مذكور في الكتاب.
قال: ولا يستحق الخياط الأجرة؛ لأن التحالف يوجب رفع العقد، فتصير كأن لا عقد، وحينئذ فلا أجرة؛ لأن العمل غير مأذون فيه.
فعلى هذا: إن كان الخيط من نفس الثوب، لم ينزع وإن كان من الخياط، فله نزعه، وإن بذل له رب الثوب قيمته، لم يلزمه القبول.
ولو قال: أنا أشد خيطي في طرف خيطك حتى إذا جررت خيطك دخل خيطي مكانه- لم يلزمه ذلك أيضاً.
وهكذا الحكم في كل موضع قلنا: لا يستحق الأجرة.
قال: وهل يلزمه أي الخياط أرش النقص؟ فيه قولان: أي منصوصان في [الإملاء]:
أحدهما: يلزمه؛ لأنهما إذا تحالفا فكأن لا عقد و [لو] لم يتعاقدا وقطع لزمه الأرش، فكذلك هاهنا.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه نفى بيمينه ما ادعي عليه من العدوان؛ فوجب أن يعمل بموجبها كيمين صاحب الثوب في نفي الأجرة.
وأيضاً: فإنه لو لم يحلف لكان لا يلزمه إلا أرش النقص، فلا بد وأن يكون ليمينه فائدة؛ وهذا ما رآه المزني في الجامع الكبير، وهو الأصح، وبه جزم الماوردي، والقاضي الحسين.
ثم على الأول، فيما يغرمه من الأرش ثلاثة أقوال حكاه الماوردي:
أحدها: ما بين قيمة الثوب صحيحاً ومقطوعاً قميصاً لأنه أثبت بيمينه: أنه لم يأذن في هذا القطع، وقد اختار هذا أبو إسحاق وصححه الإمام.
والثاني: ما بين قيمته مقطوعاً قباء ومقطوعاً قميصاً، فيقال: كم قيمة الثوب صحيحاً؟ فإذا قيل: عشرون، قيل: وكم قيمته مقطوعاً قباء؟ فإذا قيل: خمسة عشر، قيل: وكم قيمته مقطوعاً قميصاً؟ فإذا قيل: ثلاثة عشر؛ لزمه درهمان.
فلو خرجت القيمتان متساويتين، فلا شيء عليه.
ووجه هذا: أن أصل القطع مأذون فيه، وإنما تعدى بالزيادة.
قال الإمام: وهذان القولان محلهما إذا جرى ابتداء القطع على حسب الإذن، ثم ترتب عليه قطع يخالف الإذن، أما إذا كان القطع المنفي باليمين على وجه لا يترتب شيء منه على جنس القطع المأمور به، فيجب القطع بإيجاب إتمام الضمان.
وقد حكى الشيخ أبو محمد هذين القولين وجهين، وبناهما على أصلين:
أحدهما: القولان فيما إذا اكترى أرضاً ليزرعها حنطة، فزرعها ذرة- ففي قول: عليه أجرة المثل؛ نظراً إلى أن ابتداء الفعل عدوان، وفي قول: يغرم تفاوت ما بين الزرعين.
والأصل الثاني: الخلاف في أن الوكيل إذا باع بالغبن الفاحش كم يغرم: هل جميع قدر الغبن أو يحط عنه ما يتغابن بمثله؛ لأنه كالمأذون فيه؟
ولم يرتض الإمام البناء على الأصل الأخير.
والقول الثالث: أن ما يصلح من القميص للقباء لا يلزمه ضمانه، وما لا يصلح [له] يلزمه ما بين قيمته صحيحاً ومقطوعاً؛ وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة وأدرجه الروياني في البحر في القول الثاني.
ثم إذا قلنا: إنه يغرم تفاوت ما بين القطعين، فهل يستحق الأجرة للقدر الذي يصلح للقباء من القطع؟
فيه وجهان عن ابن أبي هريرة:
أحدهما: نعم، وبه أجاب في التهذيب، وضعفه ابن الصباغ؛ لأنه لم يقطعه للقباء، وإن قلنا: إن القول قول الخياط فلا بد من اليمين، وفي كيفيتها وجهان حكاهما الماوردي:
أحدهما- وهو ما حكاه ابن الصباغ والبندنيجي والإمام-: أنه يحلف إنه ما أذن له في قطعه قباء ولقد أذن له في قطعه قميصاً.
والثاني-: وهو قول الشيخ أبي حامد، وهو الذي صححه الماوردي-: أنه يحلف إنه أذن في قطعه قميصاً.
ثم إذا حلف فلا أرش عليه، وهل يستحق الأجرة؟ فيه وجهان:
أحدهما- وهو قول ابن أبي هريرة وطائفة، والأصح في تعليق البندنيجي والبحر-: نعم؛ عملاً بتصديقه.
فعلى هذا: أي أجرة يستحق؟ فيه وجهان في الحاوي وغيره:
أحدهما: الأجرة التي ادعاها- عملاً بما ذكرناه.
قال الإمام: وهذا الذي صرح به شيخي، وهو بعض ما ذكره الصيدلاني وغيره.
والثاني: أجرة المثل، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب، والقاضي الحسين، والبندنيجي.
وفي الذخائر: أن هذا إذا كان دون ما ادعى: أنه المسمى، أما إذا كان المسىم أقل، فلا يجب سواه؛ وهو مستنبط من كلام الإمام.
وعلى هذا القول: على الخياط تسليم الثوب مخيطاً؛ لأن الخيوط إن كانت لرب الثوب؛ فهو أحق بها، وإن كانت للخياط؛ فقد صارت تابعة لعمله.
والأظهر في الرافعي، وبه قال أبو إسحاق وأبو علي الطبري:
أنه لا يستحق الأجرة؛ لأنه في الأجرة مدع؛ فيكون القول قول المنكر، وفائدة اليمين: دفع الغرم عن نفسه.
فعلى هذا: للخياط أخذ الخيط إن كان ملكه، وهو منتفع به، كما قيده الإمام، وعليه ضمان ما نقص من الثوب بأخذه؛ كما إذا صبغ ثوب الغير بصبغ من عنده، ثم نزعه.
فعلى هذا: له أن يعرض اليمين على المالك، فإن حلف انتهت الخصومة، وإن نكل فوجهان:
أحدهما: تثبت له الأجرة بالنكول مع اليمين السابقة، وبه قال القاضي الحسين.
والثاني: لا بد من الحلف ثانياً؛ حكاه مجلي.
فإن قلنا: إن القول قول المالك مع يمينه؛ ففي كيفيتها وجهان فيالحاوي:
أحدهما: أنه يحلف بالله ما أمره بقطعه قميصاً نفياً لما ادعاه الخياط، ولا يحلف لإثبات ما ادعاه من إذنه في القطع قباء، وهذا ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً لنفسه.
والثاني: أنه يحلف على النفي والإثبات، فيقول: والله ما أمرته بقطعه قميصاً ولقد أمرته بقطعه قباء.
قال: وهذا غير صحيح؛ لأن ذلك إنما يكون عند التحالف وإذا حلف قال ابن الصباغ: وجب الغرم على الخياط وجهاً واحداً، والفرق بين الغرم والأجرة الواجبة بيمين الخياط: أن الأجرة إنما تجب له بثبوت الإذن في قطعه قباء، وذلك يثبت بيمينه، وفي مسألتنا الغرم وجب بالقطع، وإنما يثبت باليمين عدم الإذن في قطعه.
ثم في قدر الغرم الأقوال السابقة.
وحكى أبو الفرج السرخسي فيه وجهين كما في وجوب الأجرة، ولا خلاف في أن اختلاف المتعاقدين في الأجرة أو في المدة أو في قدر المنفعة بأن قال المكري: أكريتها إلى خمسة فراسخ، فقال: بل إلى عشرة، أو في قدر المستأجر بأن قال: أكريتك هذا البيت من هذه الدار، فقال: بل جميع الدار- يوجب التحالف كما في البيع، وإذا تحالفا فسخ العقد، وعلى المستأجر أجرة المثل؛ لما استوفاه.
فرع: لو قال للخياط: إن كان يكفيني هذا الثوب قباء فاقطعه، فقطعه فلم يكفه- ضمن الأرش؛ لأن الإذن مشروط بشيء ولم يوجد، ولو قال: هل يكفيني قباء؟ فقال: نعم، فقال: اقطعه فقطعه- لم يضمن لأن الإذن مطلق.
فرع: لو أتى الخياط لرب الثوب بثوب، فقال: هذا ثوبك، فقال: بل غيره، قال البندنيجي: القول قول الأجير.
وهكذا الحكم في كل الأجراء، فإذا حلف، فقد اعترف بثوب لرب الثوب، وهو لا يدعيه.
تنبيه: القباء ممدود، وجمعه: أقبية، وتقبيت القباء: لبسته.
قال الجواليقي: [قيل]: هو فارسي معرب.
وقيل: عربي مشتق من القبو، وهو الضم والجمع.
ولنختم الباب بفروع تتعلق به.
يجوز الاستئجار لحفر الآبار مقدراً بالمدة؛ بأن يقول: تحفر لي شهراً، وبالعمل؛ بأن يذكر الطول العرض والعمق ويعين الموضع، وإذا وقع ذلك وجب على الأجير إخراج التراب المحفور، وإن انهار شيء من جوانب البئر لم يلزمه إخراجه، وإذا انتهى إلى موضع صلب أو حجارة نظر: إن كان يعمل فيه المعول وجب حفره على أظهر الوجهين، وبه قال القاضي أبو الطيب.
والثاني: لا: وبه قال ابن الصباغ؛ لأنه خلاف ما اقتضته المشاهدة فيكون له فسخ العقد، وإن لم يعمل فيه المعول أو نبع الماء قبل أن ينتهي إلى القدر المشروط وتعذر الحفر انفسخ العقد في الباقي، ولا ينفسخ [فيما مضى] على أصح الطريقين فتوزع الأجرة المسماة على ما عمل وما بقي، وإذا استأجر لحفر قبر وجب بيان طوله وعمقه وموضعه وإذا وضع الميت في القبر لا يجب على الأجير رد التراب عليه.
[ولو] استأجر لضرب لبن قدر بالزمان أو العمل، وإذا قدر به بين العدد والقالب وإن كان القالب معروفاً فذاك وإلا بين طوله وعرضه وسمكه، وعن القاضي أبي الطيب: الاكتفاء بمشاهدة القالب، ويجب بيان الموضع الذي يضرب فيه [اللبن]؛ لاختلافه بقرب الماء وبعده، ولا يجب عليه [بعد الضرب إقامته حتى يجف، ولو استأجر لطبخ اللبن فطبخه لم يجب عليه] إخراجه من الأتون.
وإذا استأجر للرعي وجب بيان المدة وجنس الحيوان، ثم يجوز على قطيع معين ويجوز في الذمة، وحينئذ فأظهر الوجهين في المهذب: أنه يجب بيان العدد.
والثاني- وبه أجاب ابن الصباغ والقاضي الروياني-: أنه لا يجب ويحمل على ما جرت العادة بأن يرعاه الواحد. قال الروياني: وهو مائة رأس من الغنم على التقريب، فإن توالدت قال ابن الصباغ: لا يلزمه رعى أولادها إن ورد العقد
على أعيانها، وإن كان على الذمة وجب.
وإذا استأجر الوراق للكتابة جاز وعلى من يكون الحبر؟ فيه ثلاثة طرق أشبهها: أن الرجوع فيه إلى العادة فإن اضطربت وجب البيان وإلا فيبطل، وأشهرها: القطع بأنه لا يجب على الوراق؛ لأن الأعيان لا تستحق بالإجارة.
والثالث: أنه على الخلاف في أن اللبن يتبع في الاستئجار [على الحضانة] أم لا؟ فإن أوجبناه على الوراق فهو كاللبن في حق الرضاع لا يجب تقديره، ولو صرح باشتراطه عليه كان كما لو صرح بالرضاع والحضانة، وإن لم يوجبه عليه فشرط عليه فسد العقد وإن لم يكن معلوماً، وإن كان معلوماً ففيه طريقان:
أحدهما: القطع بالصحة؛ لأن المقصود الكتابة والحبر تبع.
والثاني: أنه شراء أو استئجار.
وإذا استأجر الخياط والصباغ وملقح النخل والكحال فالقول في الخيط والصبغ وطلع الفحال والكحل كما ذكرنا في الحبر.
وقال في البحر: إن الكحل إذا شرط أن يكون على الكحال فسد العقد.
وفيه وجه وفرق الإمام وشيخه بين الخيط والحبر والصبغ، [فقطعا في الخيط بأنه لا يجب على الخياط، وعلى ذلك جرى الغزالي وأورد في الحبر والصبغ] الطريق الثاني والثالث من الطرق الثلاثة التي أوردناها.
ويجوز الاستئجار للخروج إلى بلد السلطان ليتظلم للمستأجر، ويعرض حاله في المظالم، ويسعى في أمره عند من يحتاج، مع التقيد بالمدة، وإن كان في ذلك نوع جهالة كما لو استأجره يوماً ليخاصم عنه غرماءه، ولو بدا للمستأجر فله أن يستعمله فيما ضرره مثل ذلك.
وإذا استأجر للخبز وجب بيان الأقراص وغلظها ورقها، وأنه يخبز في تنور [أو فرن] وآلات الخبز على الأجير إن كانت الإجارة في الذمة، وإلا فعلى المستأجر، وليس على الأجير إلا تسليمه نفسه، والقول فيمن عليه الحطب كما في الحبر في الوراق.
وإذا اكترى دابة [ليحمل عليها [كذا منا] ويركبها فحمل عليها
وركب] وأخذ في السير فأراد المكري أن يعلق عليها مخلاة أو سفرة إما من قدام القتب أو من خلفه أو أن يردفه رديفاً- كان للمستأجر منعه.
وإذا استأجر من يكتب له صكاً على هذا البياض فكتبه خطأ قال في الفتاوى: عليه نقصان الكاغد، وكذا لو أمره أن يكتب بالعربية فكتب بالعجمية أو بالعكس.
ولو اكترى دابة ليحمل عليها حطباً من موضع كذا إلى دارة يوماً إلى الليل فركبها في عوده فعطبت- ضمن؛ لأنه استأجرها للحمل لا للركوب، وقيل: لا يضمن للعرف، ولو اكترى دابة شهراً ليقضي عليها الحقوق، ويشيع عليها الموتى قاله في البحر: لا يجوز.
وكذا لو استأجر شيئاً في أول النهار؛ ليرده بالعشي لم يجز؛ لأنه لا يعرف، وفيه وجه آخر: أنه يجوز ويرده بعد الزوال.
قال القاضي الحسين: وإذا اكترى دابة ليركبها إلى موضع كذا ويشتري الحنطة هناك ويحملها عليها إلى بلد العقد- لم يجز؛ لأن شراء الحنطة لا يتفق في الحال فربما يتراخى إلى يوم أو يومين؛ فيجهل المدة.
وفي الرافعي: أنه إذا اكترى دابة إلى بلد ليعود عليها راكباً فله أن يجاوز ذلك البلد؛ لأنه يستحق أن يقطع قدر تلك المسافة ذهاباً وإياباً، ثم إن قدر في هذه الإجارة مدة مقامه في المقصد فذاك، وإلا فإن لم يزد على مدة المسافرين انتفع بها في الإياب، وإن زاد حسبت عليه الزيادة.
والذي ذكره الإمام: أن العادة إن كانت فيمن انتهى إلى ذلك البلد لا يرجع على فوره بل يبيت ثم يصبح، فإذا بات لا يحسب عليه وقت المبيت من المدة وإن كانت العادة [به] جارية بأن ينقلب على فوره، فإن أقام على خلاف المعهود حسب ذلك عليه من مدة إيابه، ولو اضطربت العادة فالأصح حمل مطلق العقد على الانقلاب على البدار، ومن أصحابنا من زعم أنه متى لم يبين بطل العقد، ولو خرج بالدابة في وقت الأمن ثم حدث خوف في الطريق، فإن سار فيه وضاعت الدابة ضمن، وإن [مكث] في ذلك المكان؛ احتياطاً للدابة قال الإمام:
كان في حكم المودع المؤتمن في تلك المدة؛ يعني: لا تحسب عليه، وإن استأجر وفي الطريق خوف ثم رجع وذلك الخوف قائم فماتت الدابة فلا ضمان عليه؛ لأن الحرص في العقد جرى مع العلم بالخوف القائم فيضمن الرضا [به].
ولو استأجر طاحونتين متقابلتين [ثم نقص] الماء وبقي ما يدير به إحداهما ولم يفسخ- قال العبادي: يلزمه أجرة أكثرهما ولو دفع غزلاً إلى نساج واستأجره لينسجه ثوباً طوله عشرة في عرض معلوم فجاء بالثوب وطوله أحد عشر لا يستحق شيئاً من الأجرة.
قال المتولي: لأنه في آخر الطاقة الأولى من الغزل صار مخالفاً لأمره، فإذا بلغ طولها عشرة كان من حقه أن يعطفها ليعود إلى الموضع الذي بدأ منه، فإذا لم يفعل وقع ذلك وما بعده في غير الموضع المأمور، وإن جاء به وطوله تسعة فإن كان طول السدى عشرة استحق من الأجرة بقدره، لأنه لو أراد أن ينسج عشرة لتمكن منه، وإن كان طوله تسعة لم يستحق شيئاً لمخالفته في الطاقة الأولى فلو كان الغزل المدفوع إليه مسدَّى واستأجره كما ذكرناه، ودفع إليه من اللحمة ما يحتاج إليه، فجاء به أطول في العرض المشروط- لم يستحق للزيادة شيئاً، وإن جاء به أقصر في العرض فإن كان أنقص نظر. إن كان ذلك لمجاوزته القدر المشروط [من الصفاقة لم يستحق شيئاً من الأجرة؛ لأنه مفرط؛ لمخالفته أمره، وإن راعى المشروط] في صفة الثوب رقة وصفاقة فله الأجرة؛ لأن الخلل والحالة هذه من السدى، وإن كان أزيد فإن أخل بالصفاقة لم يستحق شيئاً [من الأجرة] وإلا استحق الأجرة بتمامها؛ لأنه زاده خيراً [إذا راعى الصفات المشروطة]، كذا قال المتولي هذا الفرع بجملته، والله أعلم.