الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ـ[هناك نقطة مهمة يغفل عنها الكثير من العلماء الذين عرفوا منهج المحدثين الصافي من أكدار أهل الكلام ألا وهي:
لماذا لا يكون لكم عمل على كتب السنة تصحيحا وتضعيفا
وفق هذه القواعد التي نعلم أنها هي الصواب. فالتقعيد النظري مهم جدا ولكن لا بد من التطبيق العملي حتى يتبين للناس المغالطات الموجودة في كثير من الكتب المحققه باسم المحدثين وهي تخالف كثيرا من قواعد المحدثين الحقيقيين؟ ]ـ
خدمة السنة تتوقف على المجتمع، ولا يقدر فرد أن يقوم بجميع وظائفها، ولكل منا دوره قدر المستطاع، وأما نحن وبفضل الله تعالى وحده بعد ادراك خطورة المشكلات العلمية التي نعاني منها اليوم وبعد تشخيصها قمنا بمعالجتها من خلال توضيح القواعد وتأسيسها بأبعادها الحقيقية وبعد ذلك يكون الجانب التطبيقي محترما لدى المنصفين وقد نوفق بأداء هذه المهمة أو يوفق غيرنا من طلاب العلم.
وأنت ترى كيف يشغلنا بعض الناس عن توجهنا نحو التطبيق العملي بإثارة مشكلات حول ذلك المنهج الذي انتهجه النقاد، دون أن يقرؤا ما كتب في ذلك من الأبحاث والكتب، أو يناقشوننا في البراهين التي اعتمدناها، ولذلك قلت إن خدمة السنة عمل جماعي، ولكل دوره، وحتى اعتراض المعترضين أراه دورا فاعلا في سبيل الخدمة، وكل ذلك بأجره عند الله حسب النية، وفقنا الله تعالى وإياكم للإخلاص في العمل، وأن يجنبنا جميعا ما يفسد عملنا، والله ولي التوفيق.
ـ[قال الحاكم في علوم الحديث (ص 82) (
…
فاجتمع جماعة من مشايخ الاسلام، واجتمع عبد الله بن أحمد بن حنبل ومحمد بن إبراهيم بن مربع وأبو الأذان وكليجة وغيرهم فتشاورا من ينتقي لهم على الشيوخ فاجتمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي وكتبوا كلهم بانتخابه). ]ـ
ـ[* ما معنى يكتبون بانتخابه؟ ]ـ
ـ[* لماذا لا يأخذون كل حديث ذلك الراوي؟ ]ـ
ـ[* هل كان الأئمة أحمد وابن المديني ومن قبلهم ينتخبون أحاديث كل الرواة، أم كانوا ينتخبون أحاديث بعض الرواة دون الرواة الآخرين؟ ]ـ
الانتخاب على الشيوخ عمل علمي قام به الحفاظ المتقنون، ويقال عنه الانتقاء أيضا، ولهم فيه أغراض مختلفة، منها منهجي، ومنها نقدي.
أما المنهجي فمن عادة المحدثين عموما أن يحرصوا على أوقاتهم، لا سيما إذا كانوا مسافرين، ويركزون على الأحاديث التي تعد فوائد بالنسبة لهم، أو الأحاديث التي لم يسمعوها بعلو، ويعد هذا من أهم جوانب التنظيم التي يتم بها استثمار الأوقات في سماع ما يعنيهم من المرويات، وقد يكون الانتخاب ضروريا إذا كان الشيخ عسيرا في الرواية.
لذلك يقوم المحدثون قبل لقاء الشيوخ بانتخاب ما يريدون سماعه من مسموعاتهم، ويتبادلون المعلومات حول ما يحتاج إليه كل منهم من أحاديث الشيوخ من خلال المذاكرة فيما بينهم، أو من خلال زملائهم في الرحلة والسماع.
قد ينتخب بعض المحدثين لشيوخهم قبل انعقاد مجلس الإملاء، ما يملون لهم، حتى يرتكزوا في الإملاء على ما يعني طلابهم من المرويات لعلوها أو لغرابتها وتفردهم بها أو لجودة أسانيدها أو لشهرة رواتها أو غير ذلك من خصائص الأسانيد والرواية، وقصتهم في ذلك مبثوثة في كتب التراجم، وغاية ما في ذلك كسب الوقت وعدم انشغالهم بما لا يعنيهم من المرويات والمسموعات لكونهم قد سمعوها بعلو من مصادر أخرى، أو سمعوها منه قديما، وهذا هو المعنى الإجمالي لما ورد في السؤال.
وهناك من المحدثين القدامى من يسمع دون انتخاب ويقوم بنسخ كل ما تحتوي أصول الشيخ ويقال عن ذلك: كتابة الحديث على وجهه، وقد يتفاوت اهتمامهم بهذا الأسلوب الاستيعابي باختلاف الشيوخ والأوقات والظروف.
وعلى كل حال فإن السماع في الحالين: الانتخاب والاستيعاب، يكون له سلبيات وإيجابيات، ذكرها الأئمة في أكثر من مناسبة. ومن هنا جاء في ذم كتابة الحديث على وجهه، قولهم: فلان حاطب ليل. يعني بذلك يكتب الحديث دون انتخاب. كما جاء أيضا الثناء مثل قولهم: إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش. يعني عليك أن تكتب كل ما لدى الشيوخ من الأحاديث دون انتخاب، وإذا أردت أن تحدث فعليك التفتيش لما تحدث به.
وشرح ذلك مستوفى في كتب المصطلحات، لا سيما في كتاب الخطيب (الجامع لأخلاق الراوي).
ومثل هذه الجوانب التاريخية المتصلة بتلقي الأحاديث وكتابتها لا زالت مجهولة لدى فئة كبيرة من الباحثين، وهي بحاجة إلى دراسة علمية متخصصة لبلورتها، لما في ذلك من فوائد جمة. ومشكلتنا تكمن في جهلنا تاريخ أئمتنا السابقين في جانب عنايتهم بتلقي الحديث وكتابته وضبطه التي كانت محل تطور عبر العصور الماضية حسب مستجداتها وأعرافها العلمية. وكانت عنايتهم هذه حرصا منهم - سواء كانوا متأخرين أو متقدمين - على أن يتم نقل الحديث من شخص إلى شخص أو يتم نقل الكتاب من شخص إلى شخص، وهو بعيد عن جميع احتمال التصحيف والتحريف والانتحال. وقد بذلوا جميعا ما في وسعهم في سبيل حماية السنة حسب مقتضيات عصورهم، ورحمهم الله تعالى، وجزاهم عنا أحسن جزاء، ولو لم ينهضوا - سواء في عصور الرواية أو في عصور ما بعد الرواية - بمقتضيات عصورهم لوقعت في السنة تحريفات وتصحيفات وأوهام وافتراءات، وقد شرحنا ذلك في كتاب الموازنة.
وأما الانتخاب لهدف نقدي فكتمييز الصحيح من الضعيف الغريب، قد يكون ذلك بوضع علامات خاصة على الضعيف الغريب ضمن المرويات التي تضمنتها نسخ المحدثين وأصولهم، كما ورد في حديث قتيبة عن الليث في جمع التقديم.
قد يكون ذلك باستخراج أحاديث شيخ معين مع بيان ضعفها وصحتها، كما عمل الخطيب البغدادي بالنسبة إلى بعض كتب أقرانه، مثل (كتاب الفوائد المنتخبة الصحاح والغرائب لأبي القاسم المهرواني، تخريج الخطيب)، و (كتاب الفوائد المنتخبة الصحاح والغرائب، انتقاء الخطيب البغدادي من حديث الشريف أبي القاسم علي بن إبراهيم). وللإمام الدارقطني عمل مشهور في هذا المجال.
وقد يكون ذلك الانتخاب تلبية لطلب المحدث الذي لم يكن قادرا على تمييز ما أصاب مما أخطأ فيه من أحاديثه ومروياته، كما انتخب البخاري أحاديث شيخه إسماعيل بن أبي أويس بعد أن طلب منه ذلك.
وقد يكون ذلك لغرض امتحان الشيوخ لمعرفة مدى ضبطهم وإتقانهم، حكى الخطيب البغددي أن فضلك الرازي نصح صالح جزرة عند سفره إلى نيسابور بكتابة الأحاديث عن محمد بن يحيى، فلما قدم إلى نيسابور انتخب ما يريد كتابته عنه من الأحاديث وبعد قراءتها على محمد بن يحيى قال صالح جزرة: أفادني الفضل بن عباس الرازي حديثا عنك عند الوداع فقال: هات، فقلت: حدثكم سعيد بن عامر عن شعبة
…
فذكر الحديث فقال محمد بن يحيى: من ينتخب مثل هذا الانتخاب ويقرأ مثل هذه القراءة
يقول الخطيب تعقيبا على الحديث الأخير الذي عرضه على محمد بن يحيى: قصد صالح امتحان محمد بن يحيى في هذا الحديث لينظر أيقبل التلقين أم لا، فوجده ضابطا لروايته حافظا لأحاديثه محترزا من الوهم بصيرا بالعلم. (راجع تهذيب الكمال 26/ 626، والتهذيب 9/ 454). والله أعلم.