الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ـ[ما رأيكم بكتابات عداب الحمش؟ ]ـ
ـ[وماذا عن كتابات حسان عبد المنان؟ ]ـ
يبدو أن مثل هذا السؤال قد سبق، إبداء رأي حول الكتب وأصحابها لا يمكن إلا بعد تتبع محتواها بطريقة علمية دقيقة، وأنا لم أتمكن من ذلك حتى الآن.
ـ[ما
شروط الإجتهاد في التصحيح والتضعيف
وهل هذه الشروط متوفرة في أحد المشايخ في عصرنا أو حتى في المتأخرين؟ ]ـ
هذا سؤال مهم جدا، وأنا أشكر لك هذا السؤال. وقد يكون الجواب طويلا وأرجو منك الصبر.
يا أخي العزيز - حفظني الله وإياك -! من المعلوم بديهيا أن لكل علم رجالا متخصصين يشكلون مصادره الأصيلة، ومن خلال عملهم النقدي انبثقت قواعد ذلك العلم ومسائله، لذلك فإن الباحث يكون أكثر أمناً من الخطأ والتخبط في الفهم والتطبيق بقدر رجوعه إلى تلك المصادر الأصيلة، ومداومة الاشتغال بها وإمعان النظر فيها، كما أنه لا يُعد الباحث أو العالم مصدرا أصيلا بمجرد أنه قد ألف كتابا أو كتابين أو كتبا في ذلك العلم أو أنه كان منشغلا به، أو بمجرد كونه إماما في مجال علمي آخر، وإنما يعد فقط مصدرا مساعدا. وهذا كما قال الشاعر:
''للحرب أقوام لها خلقوا
…
وللدواوين كتاب وحساب''.
وقال مسلم في التمييز ص: 20: (فإنك يرحمك الله ذكرت أن قبلك قوما ينكرون قول القائل من أهل العلم إذا قال: هذا حديث خطأ وهذا حديث صحيح، وفلان يخطيئ في روايته حديث كذا، والصواب ما روى فلان بخلافه، وذكرت أنهم استعضموا ذلك من قول من قاله ونسبوه إلى اغتياب الصالحين من السلف الماضين وحتى قالوا إن من ادعى تمييز خطأ روايتهم من صوابها متخرص بما لا علم له به ومدع علم غيب لا يوصل إليه.
واعلم وفقنا الله وإياك أن لولا كثرة جملة العوام مستنكري الحق وراميه بالجهاله لما بان فضل عالم على جاهل، ولا تبين علم من جهل، ولكن الجاهل ينكر العلم لتركيب الجهل فيه، وضد العلم هوالجهل، فكل ضد ناف لضده، دافع له لا محالة، فلا يهولنك استنكار الجهال وكثرة الرعاع لما خص به قوم وحرموه، فإن تعداد العلم دائر إلى معدنه، والجهل واقف على أهله.
وجاء في تذكرة الحفاظ 3/ 1031:
''فكم من إمام في فن مقصر عن غيره، كسيبويه مثلا إمام في النحو ولا يدري ما الحديث ووكيع إمام في الحديث ولا يعرف العربية، وكأبي نواس رأس في الشعر عري من غيره، وعبد الرحمن بن مهدي إمام في الحديث لا يدري ما الطب، وكمحمد بن الحسن رأس في الفقه ولا يدري ما القراءات، وكحفص إمام في القراءة تالف في الحديث، وللحروب رجال يعرفون بها''.
وقول السخاوي في هذا المجال مشهور، وهذا نصه:
''هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم (يعني نقاد الحديث) في التعديل والتجريح كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعن، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين''.
''فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم وجودة التصور، ومداومة الاشتغال، وملازمة التقوى والتواضع، يوجب لك (إن شاء الله) معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله''.
ومشكلة إخواننا في المجال العلمي هو خلطهم بين المصادر الأصيلة وبين المصادر المساعدة وإحلال بعضها مكان الآخر أو إهمال الأصيل واعتماد المساعد ومبالغتهم فيه.
ولذا نرى بعضهم يعتمدون على عالم من علماء هذا العصر في دراساته وتحقيقاته، ويدمنون نظرهم في تواليفه، وتقليدهم له ومشيهم وراءه، دون الرجوع إلى نقاد الحديث ونصوصهم وتآليفهم، وذلك لفرط حبهم واحترامهم وتقديرهم له نظرا لما يتميز به من العناية الكبيرة بالحديث وعلومه وانشغاله بها تخريجا وتحقيقا، وبروزه في مجال الدعوة إلى العمل بما صح من الأحاديث ومحاربة البدع، بحيث لا يسوغون لأحد أن يعيد النظر فيما قام به هذا العالم الفاضل المحترم من الدراسات والتخريجات، ومن دعا إلى إعادة النظر فيها، أو انتقده في بعض أخطائه فإنه قد عرض نفسه للخطر، حتى وصل غلو بعضهم في التعصب إلى حد أن يزعم أن ذلك الشخص أعلم من الإمام أحمد بن حنبل.
فما هذا الهراء الذي يسيء إلى هذا العالم وسمعته؟
ولا ينبغي أن يكون حبنا واحترامنا وتقديرنا لشخص ما بهذه الدرجة التي تعمي قلوبنا وتحجبها عن إدراك الحقيقة والصواب، بل يجب أن يكون ذلك في حدود رسمها لنا القرآن الكريم من العدل والإنصاف والحق. وإن كنا لا نسوغ ذلك التعصب والمبالغة في حق الأئمة السابقين الذين هم أكثر علما وعملا وتقوى منا فإن عدم جواز ذلك في حق المعاصرين أولى وأجدر.
زارني في البيت في الصيف الماضي بعض الإخوة وكان من بينهم شاب لا أعرفه، ولفتت انتباهي طبيعة هذا الشاب من بينهم منذ أن دخل معهم في المجلس، وكان عابس الوجه، ولما رأيته غير مبتسم ألح سؤالا في نفسي وهو: لماذا لا أرى هذا الشاب مبتسما في وجهي بخلاف الآخرين.
واستمر هذا السؤال في نفسي لمدة أيام إلى أن جاءني الخبر بأن الشاب يصفني في بعض المواقع بما يأتي:
هذا الهندي المليباري الجاهل لا يعرف حتى اللغة العربية ولا قراءة القرآن الكريم، ولا أدري لماذا يلتف حوله الشباب.
ففهمت أن الشاب كان يكرهني وكان يخبئ ذلك في نفسه لسبب ما، قد يكون - والله أعلم - اهتمامي بتفضيل نقاد الحديث وتقديمهم على الشيخ الألباني وغيره من المعاصرين والمتأخرين، ثم ازداد هو كراهية لما أجبته في ذلك المجلس عن سؤال يتصل بالشيخ الألباني بما لم يعجبه.
ومن المناسبة أن أنقل لك ما جرى بيني وبين هذا الشاب في ذلك المجلس حسب ما يحضرني الآن؛ بعد ترحيبي بالإخوة الضيوف الكرام، خاصة الأخ الفاضل المحترم الشيخ أبو الحسن المأربي الذي تميز بتواضعه وأدبه وعلمه، بدأت الحديث بلفت الانتباه إلى ضرورة التمييز بين المصادر الأصيلة لعلوم الحديث وبين مصاردها المساعدة، وشأن ذلك شأن العلوم كلها، وذكرت التشريع الإسلامي مثالا لذلك، فإنه لا يختلف أحد في أن القرآن الكريم والسنة النبوية هما المصدران الأصيلان للتشريع الإسلامي، وأما الأئمة وآراؤهم ومذاهبهم وكتبهم فتشكل فقط مصادره المساعدة، كما أنه لا يختلف أحد في خطورة التلفيق بين الأصيل والمساعد فيما يخص التشريع الإسلامي، أو إحلال أحدهما مكان الآخر. وكذلك بالنسبة إلى علوم الحديث وغيرها من سائر العلوم، إذن لا بد من التركيز على هذا الجانب الأساس عند دراسة علوم الحديث أو البحث فيها.
وأيدني الشيخ أبو الحسن بصفة عامة. وسألني ذلك الشاب:
هل الشيخ الألباني مؤهل للتصحيح والتضعيف؟
قلت: يا أخي لا يهمني أن أعرف أن فلانا مؤهل للتصحيح أو غير مؤهل، وإنما يهمني فقط العمل الذي يقوم به، هل هو وفق منهج المحدثين النقاد في ذلك أولا، فما ينسجم معه فذلك المقبول، وما لا يكون كذلك فمرفوض، كائنا من كان، دون تعرض للطعن فيه، وبذلك نستطيع تقييم الباحثين، أما كونهم مؤهلين لذلك أو غير مؤهلين فليس لدي وقت للنظر فيه، ولا أرى في ذلك كبير فائدة.
فقال لي: هل الحافظ ضياء الدين المقدسي مؤهل والحافظ ابن حجر مؤهل؟
فوجئت بإلحاحه علي في هذا السؤال؟
قلت له: ما الفائدة من معرفة ذلك؟
فقال لي: إذا كان مؤهلا نسوغ له مخالفة النقاد، وإلا لا نسمح له بذلك.
قلت له: الأمر لا يتوقف على ما تصدره أنت من الفتوى والحكم، وإنما الذي يهمنا هو من يفهم لغة المحدثين ويوافقهم وينتهج منهجهم في التصحيح والتضعيف.
فسألني الشاب: إسناد يكون مثل الشمس ضعفه الإمام البزار وصححه أحد المتأخرين، وماذا تقول عنه؟
قلت له: الجواب يتوقف على دراسة هذا السند.
وأنت تقول إسناد مثل الشمس، وذلك نظرا لظاهر حاله، لكنه في الواقع قد لا يكون كذلك عند النقاد لشذوذه وغرابته، بل إن الإسناد إذا كان مثل الشمس حقيقة فمن المستحيل عرفا أن يخفى ذلك على النقاد أو أحدهم، ومع ذلك فإذا ضعفه إمام من الأئمة فذلك دليل واضح على أن الإسناد فيه شيئا ينبغي البحث عن علته. وهذا الإمام الحاكم يقول:
''إذا وجدت حديثا صحيح الإسناد ولم يخرجه الشيخان فعليك بالبحث عن علته''، وكيف يكون ذلك إذا ضعفه أحد النقاد!
إذا كنا نحن قد وقفنا على نصاعة السند وأنه مثل الشمس فإن ذلك لن يكون بعبقريتنا في نقد الحديث، وإنما بشدة غرورنا بظاهره، ثم إن الإسناد الذي لم يعرفه المتقدمون ولم يشتهر لديهم ثم اشتهر في رواية المتأخرين فلا يمكن إلا أن يكون وهما وخطأ وإن كنت تعده كالشمس. ثم استدللت له بقول الحافظ البيهقي، وأيدني في ذلك الشيخ أبو الحسن المأربي.
ووجدت الشخص يلح في السؤال نفسه، فقلت له: أنا أذكر لك انطباعي تجاه الشيخ الألباني:
إن الشيخ الألباني رحمه الله أكثر الناس اليوم فهما لمنهج المحدثين، وأكثرهم قربا له، وأكثرهم انشغالا بالحديث وعلومه، ومع ذلك فإني أرى أنه ليس مؤهلا لنقد الحديث، واستغرب بعض الإخوة هذا الجواب ومنهم الشيخ أبو الحسن المأربي قبل أن أكمل الكلام.
قلت: نعم ليس مؤهلا لنقد الحديث مثل البخاري ومسلم وأحمد، وحتى الحافظ ابن حجر - فيما أرى - ليس بناقد مثل الأئمة السابقين، ولا الحافظ ضياء الدين المقدسي، وهؤلاء محققون ومدققون لكلام النقاد ومعتمدون عليه.
فقاطعني الشاب بقوله: حتى الحافظ ابن حجر والحافظ المقدسي ليسا من المؤهلين لتصحيح الحديث؟
قلت له: نعم، أسرد لك من نصوص المتأخرين ما يفيد ذلك، وذكرت له قول الحافظ الذهبي وابن حجر والسخاوي، ومع ذلك فلم يقتنع بذلك.
وعند نهاية الجلسة قلت: على كل حال فإننا مطالبون بإنزال الناس منازلهم، ونحن نجد في الإسلام ما يشجعنا على النقد الموضوعي، يقول الله تعالى:(فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه). ولا يمكن هذا إلا بالنقد الموضوعي، وإلا كيف يعرف الأحسن.
هذا ما يحضرني الآن، وقد جرى الحديث والنقاش حول الجرح والتعديل ومنهج البخاري في التاريخ الكبير وأبي حاتم في علله، وتعليلهما أحيانا لحديث صحيح باعتبار بعض طرقه بقولهم هذا باطل، مع أن الحديث صحيح لا نزاع في صحته، وكان الشيخ أبو الحسن - حفظه الله - قد أجاد في ذلك، وتركت له معظم الأوقات احتراما له وتواضعا.
ثم وصلني في اليوم الثاني خبر مفاده: هناك شائعة حولي يلوك بها بعض الشباب، وهي:
أنني كنت أقول في الشيخ الألباني إنه غير مؤهل للتصحيح، وليس له باع في الحديث، والحافظ ابن حجر غير مؤهل، والحافظ المقدسي غير مؤهل. والشيخ أبو الحسن شرح لهم مقصودي بما قلت أثناء الجلسة، لكنهم لم يقتنعوا بذلك.
قلت لصاحبي الذي حكى لي ذلك: الله المستعان، هكذا ينقلون الأخبار تشويها لأصحابها، وهم بعيد عن الأمانة والدقة، لا لشيئ سوى أنهم لم يروا فيهم ما يرضي وجدانهم وأهواءهم.
أعود إلى الإجابة، اسمح لي هذا الاستطراد يا أخي العزيز:
أما ما يتصل بشروط الاجتهاد في معرفة صحة الحديث وخطئه فيمكن تلخيصه من قول الحافظ ابن حجر:
''هذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهما غائصا واطلاعا حاويا وإدراكا لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك، لما جعل الله تعالى فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه، دون غيرهم ممن يمارس ذلك. وقد تقصر عبارة المعلل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، كما في نقد الصيرفي سواء، فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث''انتهى.
أما اليوم فيكثر المتكلمون في الحديث دون تأهلهم لذلك، ثم يتطاول بعضهم على نقاد الحديث بحجة كم ترك الأول للآخر.
هذا الذي ذكره الحافظ صحيح للغاية، بل يؤيده الواقع العلمي الذي نعيشه اليوم، ذلك لأنه إذا قارنا بين تصحيح كثير من المعاصرين وتصحيح النقاد وجدنا فرقا واضحا لا يمكن إنكاره، وهو أن المعاصرين يقولون عند التصحيح (إسناده صحيح) أو (رجاله ثقات)، وكذا من صحح الحديث من المتأخرين، بينما النقاد القدامى قالوا (حديث صحيح). هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المتأخرين على اقتناعهم التام بأنهم غير مؤهلين لإدراك العلل والشذوذ، كما أدركها النقاد الجهابذة الذين سبق وصفهم في سياق كلام الحافظ ابن حجر، لأن ذلك من اختصاصهم، وقد صرح المتأخرون أنفسهم بذلك في كتب المصطلح، وأما خلاف ذلك فلن تجد فيه نصا واحدا للأئمة، سوى خزعبلات بعض الباحثين الجدد وما ينسجه خيالهم.
والله إنه لأمر مستغرب ومؤسف أن يقول الباحث المعاصر عن الحديث الصحيح الذي اتفق على صحته النقاد أو الذي صححه أحد النقاد:
''إسناده صحيح ''، وما قيمة تصحيح هذا الباحث المعاصر الذي لا يتجاوز نظره ظاهر الإسناد وأحوال الرواة، في مقابل قول النقاد إن الحديث صحيح وسليم من شذوذ وعلة؟ أيهما أتم وأدق: تصحيح الباحث أو تصحيح النقاد؟ وهل يحتاج القارئ بعد تصحيح النقاد إلى المعاصر الذي يعبر عن ظاهر السند؟ وهل أتى بشئ جديد يزيد تصحيح الناقد قوة؟ وإذا أجاب أحد منا بنعم فهو عامي متعصب، ينبغي أن نقرأ فيه قوله تعالى:(وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
ولو صحح المعاصر على منهج المحدثين النقاد لزاد الحديث الصحيح الذي صححه النقاد قوة بعد قوة، كما عمل الحافظ البغوي في كتابه شرح السنة، إذ يقول (حديث صحيح)، وكما زاد الصحيحين قوة بعد قوة تتبع الإمام الدارقطني وغيره.
والإنسان الذي لا تتوفر لديه من الخلفية العلمية في مجال ما يكون عاجزا عن معرفة حقائقه ودقائق أموره، بل يضطر إلى اعتماد ظواهر الأمور، وقد يشتد غروره بها بحيث يندفع إلى المغامرة إذا كان معاندا، لكن لا يقف على حقيقة فعله ولا يندم على حماقته التي قد تكون قاتلة إلا إذا وقع في المخاطر.
وهذه أمور مجربة في حياتنا اليومية، ومن يخالف هذا المألوف فشاذ خطير معاند.
وأنا لا أرى شخصا مؤهلا لنقد الحديث إلا إذا كان عنده خلفية علمية واضحة حول أحاديث الحفاظ الذين يشكلون مدار الروايات، بحيث إذا انقلب على أحد من الرواة حديث هذا الحافظ بحديث ذاك، أو وقع التلفيق بين حديثين ولو بوجه بسيط، يعلم ذلك دون عناء، ويرجعه إلى أصله.
وإذا تأملنا في سيرة المحدثين النقاد المبثوثة في تضاعيف كتب التراجم، وجدناهم يحفظون الأحاديث مثل ما يحفظون سور القرآن الكريم. فيحفظون الأحاديث مقيدة براويها المدار، فمثلا: ما رواه مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ويحصون أحاديثه عددا، وكم أحاديثه في باب كذا. وبذلك لم يستطع أحد من قبل أن يدس فيها ما لم يحدث به مالك ولو كلمة صغيرة إلا وقد اكتشف ذلك من قبل الناقد.
وللحفاظ النقاد وسائل عدة في إحصاء الأحاديث حسب رواتها الذين تدور عليهم رواياتها؛ كتتبعهم للأصول التي يملكها بعض الحفاظ أو ما يتداوله الثقات، أو المذاكرة مع الحفاظ المعاصرين لا سيما مع أثبتهم وأحفظهم، وتعد المذاكرة أكثر الوسائل شهرة لدى الحفاظ في هذا المجال.
وكذا ما رواه مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وما رواه الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وعن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهكذا ما يتصل بأصحاب الزهري، ممن يشكل مدارا رئيسا في الحديث.
وآثار هذا الإحصاء، ونتائجه تزخر لها كتب التراجم والعلل، وبذلك استطاعوا الجزم بأن فلانا تفرد، وهذا الحديث إنما يروى هكذا، أو هذا مقلوب، وغير ذلك من العبارات التي لا تصدر منهم إلا بضبط الأحاديث وإحصائها على الطريقة السابقة.
وبهذا الحفظ والاستيعاب والضبط والإحصاء يكون بعضهم أدرى وأكثر تخصصا في أحاديث بعض الحفاظ، ويقال فلان أعلم الناس بأحاديث فلان، ويقول قتادة: أحفظ أحاديث فلان مثل ما أحفظ سورة البقرة.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا اتكالا على إسرائيل لأنه كان يأتي به أتم.
ورد عن إسرائيل قوله: '' كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ سورة الحمد''
وأنا لا أظن أن هذه الحقائق لا تخفى على المشتغلين بالتراجم.
(انظر فقط كتاب معرفة علوم الحديث ص: 140 - 146، وص: 164 - 165، لتعرف أسلوبهم في حفظ الأحاديث وتركيزهم عليه في المذاكرة) بالله عليك أرني واحدا فقط من المعاصرين يحفظ الأحاديث مثل ما يحفظ النقاد، أو يحفظ أحاديث أحد الرواة المشهورين فقط، ويفهم ملابسات الرواية مثل ما يفهمون، ويعرفون الواقع في تلك الأحاديث مثل ما يعرفون.
ومن يستطيع اليوم أن يقول: للزهري عن فلان من الأحاديث كذا؟ ولمالك عن نافع أحاديث كذا، ولشعبة عن قتادة عن أنس مما لم يسمعه ابن أبي عروبة أو هشام الدستوائي كذا، وفي باب كذا أحاديث كذا؟.
إذن أقول لك هو مؤهل للاجتهاد في التصحيح والتضعيف.
ونتذكر ما قاله الحافظ الذهبي:
''
…
ونحن لا ندعي العصمة في أئمة الجرح والتعديل لكن هم أكثر الناس صوابا وأندرهم خطأ وأشدهم إنصافا وأبعدهم عن التحامل وإذا اتفقوا على تعديل أو جرح فتمسك به واعضض عليه بناجذيك ولا تتجاوزه فتندم ومن شذ منهم فلا عبرة به فخل عنك العناء وأعط القوس باريها فوالله لولا الحفاظ الأكابر لخطبت الزنادقة على المنابر ولئن خطب خاطب من أهل البدع فإنما هو بسيف الاسلام وبلسان الشريعة وبجاه السنة وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فنعوذ بالله من الخذلان''.
وقال في تذكرة الحفاظ وهو ينصح طلبة الحديث:
''
…
ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكى نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب، والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل:
فدع عنك الكتابة لست منها
…
ولو سودت وجهك بالمداد
قال الله تعالى عز وجل (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
فإن آنست يا هذا من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا وإلا فلا تتعنَّ، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأى ولمذهب فبالله لا تتعب، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك، فبعد قليل ينكشف البهرج وينكُب الزغل، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فقد نصحتك فعلم الحديث صَلِف، فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب''.
وقال في موضع آخر من تذكرة الحفاظ:
''فلقد تفانى أصحاب الحديث وتلاشوا، وتبدل الناس بطلبة يهزأ بها أعداء الحديث والسنة، ويسخرون منهم''.
وقال في سير أعلام النبلاء:
''وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال: من أحمد؟ وما ابن المديني؟ ولا يفقهون الرأي .. إلى أن قال: وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه. ومن تكلم بالجاه وبالجهل أو بالشر والبأو فأعرض عنه، وذره في غيه، فعقباه إلى وبال. نسأل الله العفو والسلامة ''.
وقال أيضا: فقد عم البلاء، وشملت الغفلة، ودخل الدخل على المحدثين الذين يركن إليهم المسلمون، فلا عتب على الفقهاء وأهل الكلام.
وأين من قال '' لو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة حتى البخاري لما تجاوزوا النتائج التي توصلت إليها .. ''؟
وأين الذي يردد في كل مناسبة يمر بها: ''كم ترك الأول للآخر ''؟ وفي الواقع أن كل ما نستطيع معرفته اليوم إنما هو عن طريق التخريج من الكتب المتوفرة لدينا. وإذا حفظ منها الأحاديث فإنما يحفظونها وهي خليطة بين ما ثبت وبين ما لم يثبت، بخلاف النقاد فإنهم يحفظونها من الأصول أو من خلال المذاكرة مع الحفاظ مميزا بين الصواب والخطأ.
ولا يمكن معرفة مصدر الحديث وصاحبه الحقيقي حين قلبه الراوي وهما، إلا إذا استوعب أحاديث شيخه، والإسناد الذي يروى به ذلك الحديث.
انظر إلى العقيلي كيف صدر منه قوله فيما يخص حديث خالد بن عمرو:
'' ليس له أصل من حديث سفيان الثوري، وقد تابعه محمد بن كثير الصنعاني، ولعله أخذه عنه ودلسه لأن المشهور به خالد هذا '' ويقول الإمام أحمد: ''كل شيئ يرويه ابن فضيل عن عمارة إلا هذا الحديث يعني أنه رواه عن أبيه عن عمارة، وبقية الأحاديث يرويها ابن فضيل عن عمارة '' وقد قال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غندر حكم بينهم.
وعن عبد الرحمن بن مهدي: كنت عند أبي عوانة فحدث بحديث عن الأعمش فقلت: ليس هذا من حديثك. قال: بلى! قلت: لا. قال: يا سلامة، هات الدرج فأخرجت، فنظرت فيه فإذا ليس الحديث فيه. فقال: صدقت، يا أبا سعيد، فمن أين أتيت؟ قلت: ذوكرت به، وأنت شاب، فظننت أنك سمعته.
وهذا يحي بن معين يقول: حضرت نعيم بن حماد بمصر فجعل يقرأ كتابا صنفه فقال: حدثنا ابن المبارك عن عون، وذكر أحاديث، فقلت: ليس ذا عن ابن المبارك فغضب، وقال: ترد علي، قلت إي والله، أريد زينك، فأبى أن يرجع، فلما رأيته لا يرجع قلت: لا والله ما سمعت هذه من ابن المبارك، لا سمعها هو من ابن عون قط، فغضب وغضب من كان عنده، وقام فدخل، فأخرج صحائف، فجعل يقول _ وهي بيده _ أين الذي يزعمون أن يحيى بن معين ليس بأمير المؤمنين في الحديث؟ نعم يا أبا زكريا غلطت، وإنما روى هذه الأحاديث غير ابن المبارك عن ابن عون.
وكثيرا ما نسمع النقاد يقولون عند نقد الحديث ''إنما هو كذا وما رواه ليس بصحيح، وهو مقلوب''، وهذا لا يمكن القول به إلا إذا استوعب أحاديث الراوي بإحصاء دقيق، وإلا لا يستطيع الجزم بذلك التعقيب، بل تدور في رأسه شكوك وتساؤلات تعجزه عن الجزم بأن الأمر كذا.
أما نحن فإن كنا لا نفهم قول النقاد ولغتهم العلمية وأسلوب تعليلهم بالتفرد وبالمخالفة فكيف نعلم استقلالا بوجود العلة أو عدمها أو أن الثقة لم يهم ولم يخطئ في الحديث الذي نقله عمن فوقه، ونحن لا ندري ما الذي في الأصول التي يعتمدها النقاد.
وفي الواقع نحن عالة على النقاد القدامى، وعن طريق المتأخرين وقفنا على نصوص هؤلاء النقاد وأعمالهم النقدية، وباحتكاكنا مع هذه النصوص وبقدر انسجامنا معها نستوعب هذا العلم العظيم ونفهم لغة المحدثين ونطبق قواعده كما طبقوها.
ونحن إذ نقوم بتخريج الأحاديث ونحاول معرفة مدار رواياتها فإننا نعتمد في ذلك كله على المراجع المتوفرة اليوم، مطبوعة كانت أو مخطوطة، وكم فاتنا من المصادر التي دونها السابقون؟ وأين مسند الإمام يعقوب بن شيبة الذي لم يكمل منه إلا 30 مجلدا؟
وأين مسند الإمام الماسرجسي الذي يبلغ 1000 جزءا، وكيف نقف على المسانيد الأخرى التي فقدت؟
ونحن إذا قمنا بتخريج حديث بكل ما أوتينا من قوة ثم قمنا بمقارنة ذلك بما أورده الدارقطني في علله تبين لنا بشكل واضح مقدار عجزنا ومدى علمنا، وجزمنا بأننا عالة على الأئمة القدامى. ومع ذلك قد يستدرك الباحث على الناقد بما رواه لاحقه وهما، وهذه مصيبة أخرى، لكن مما يؤسفني أن بعضهم يبرر ذلك بقوله (كم ترك الأول للآخر)، ولله في خلقه شؤون.
ولا بد أن نتذكر جيدا في هذه المناسبة قول الحاكم الحجة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة.
وبعد فإني أود أن أذكر القارئ بأني لم أقصد بهذه الدردشة السريعة الشيخ الألباني رحمه الله ولا الطعن فيه، وإنما قصدي هو تصحيح الأخطاء حين تقع، وتوضيح المفاهيم حين تختلط، ومعالجة الظاهرة السيئة المتمثلة في التعصب على شخص في حساب جهابذة العلماء، وتبرير المخالفة معهم بحجة كم ترك الأول للآخر.