المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سُورَة الْبَقَرَة فِي هَذِه السُّورَة بعض الْآيَات الْمُشْتَملَة على بَيَان الأجرام - ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة بالبرهان

[محمود شكري الألوسي]

الفصل: ‌ ‌سُورَة الْبَقَرَة فِي هَذِه السُّورَة بعض الْآيَات الْمُشْتَملَة على بَيَان الأجرام

‌سُورَة الْبَقَرَة

فِي هَذِه السُّورَة بعض الْآيَات الْمُشْتَملَة على بَيَان الأجرام مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22]

تَفْسِير هَذِه الْآيَة

معنى {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} أَي كالفراش فِي صِحَة الْقعُود وَالنَّوْم عَلَيْهَا أَنه سُبْحَانَهُ جعل بَعْضهَا بارزا عَن المَاء مَعَ أَن مُقْتَضى طبعها أَن يكون المَاء محيطا بِأَعْلَاهَا لثقلها وَجعلهَا متوسطة بَين الصلابة واللين ليتيسر التَّمَكُّن عَلَيْهَا بِلَا مزِيد كلفة فالتصيير بِاعْتِبَار أَنه لما كَانَت قَابِلَة لما عدا ذَلِك فَكَأَنَّهَا نقلت مِنْهُ وَإِن صَحَّ مَا نقل عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنه أَن الأَرْض خلقت قبل السَّمَاء غير مدحوة فدحيت بعد خلقهَا ومدت فَأمر التصيير حِينَئِذٍ ظَاهر إِلَّا أَن كل النَّاس غير عَالمين بِهِ وَالصّفة يجب أَن تكون مَعْلُومَة للمخاطب وَلَا يُنَافِي كريتها كَونهَا فراشا لِأَن الكرة إِذا عظمت كَانَ كل قِطْعَة مِنْهَا كالسطح فِي افتراشه كَمَا لَا يخفى.

ص: 16

وَسَيَأْتِي إِقَامَة الدَّلَائِل على كريتها وَبَيَان مَا يعارضها من ظواهر النُّصُوص وتوجيه ذَلِك

وَاخْتَارَ سُبْحَانَهُ لفظ {السَّمَاء} على السَّمَاوَات مُوَافقَة للفظ الأَرْض وَلَيْسَ فِي التَّصْرِيح بتعددها هُنَا كثير نفع وَمَعَ هَذَا يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا مَجْمُوع السَّمَاوَات وكل طبقَة وجهة مِنْهَا

وَالْبناء فِي الأَصْل مصدر أطلق على الْمَبْنِيّ بَيْتا كَانَ أَو قبَّة أَو خباء أَو طرافا وَمِنْه قَوْلهم بنى فلَان بأَهْله أَو على أَهله خلافًا للحريري لأَنهم كَانُوا إِذا تزوجوا ضربوا خباء جَدِيدا ليدخلوا على الْعَرُوس فِيهِ

وَالْمرَاد بِكَوْن السَّمَاء بِنَاء أَنَّهَا كالقبة المضروبة أَو أَنَّهَا كالسقف للْأَرْض

وَيُقَال لسقف الْبَيْت بِنَاء وَرُوِيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس

وَالْمرَاد من السَّمَاء فِي قَوْله {وَأنزل من السَّمَاء مَاء} جِهَة الْعُلُوّ أَو السَّحَاب.

وَإِرَادَة الْفلك الْمَخْصُوص - بِنَاء على الظَّوَاهِر - غير بعيدَة، نظرا إِلَى قدرَة الْملك الْقَادِر جل جلاله وسمت عَن مدارك الْعقل أَفعاله إِلَّا أَن الشَّائِع أَن الشَّمْس إِذا سامتت بعض الْبحار والبراري أثارت من الْبحار بخارا رطبا وَمن البراري يَابسا فَإِذا صعد البخار إِلَى طبقَة الْهَوَاء الثَّالِثَة تكاثف فَإِن لم يكن الْبرد قَوِيا اجْتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف.

ص: 17

فالمجتمع سَحَاب والمتقاطر مطر. وَإِن كَانَ الْبرد قَوِيا كَانَ ثلجا وبردا وَقد لَا ينْعَقد وَيُسمى ضبابا.

وعَلى هَذَا يُرَاد بالنزول من السَّمَاء نشوؤه من أَسبَاب سَمَاوِيَّة وتأثيرات أثيرية فَهِيَ مبدأ مجازي لَهُ على أَن من انجاب عَن عين بصيرته سَحَاب الْجَهْل رأى أَن مَا فِي هَذَا الْعَالم السفلي نَازل من عرش الْإِرَادَة وسماء الْقُدْرَة بِحَسب مَا تَقْتَضِيه الْحِكْمَة بِوَاسِطَة أَو بِغَيْر وَاسِطَة كَمَا يُشِير إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِن من شَيْء إِلَّا عندنَا خزائنه وَمَا ننزله إِلَّا بِقدر مَعْلُوم} بل من علم أَن الله سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاء على الْمَعْنى الَّذِي أَرَادَهُ وبالوصف الَّذِي يَلِيق بِهِ مَعَ التَّنْزِيه اللَّائِق بِجلَال ذَاته تَعَالَى صَحَّ لَهُ أَن يَقُول إِن مَا فِي الْعَالمين من تِلْكَ السَّمَاء وَنسبَة نُزُوله إِلَى غَيرهَا أَحْيَانًا لاعتبارات ظَاهِرَة وَهِي رَاجِعَة إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} [البقرة: 29]

تَفْسِير هَذِه الْآيَة:

{اسْتَوَى} أَي علا إِلَيْهَا وارتفع من غير تكييف وَلَا تَمْثِيل، وَلَا تَحْدِيد،

ص: 18

قَالَه الرّبيع أَو قصد إِلَيْهَا بإرادته قصدا سويا بِلَا صَارف يلويه وَلَا عاطف يثنيه من قَوْلهم اسْتَوَى إِلَيْهِ كالسهم الْمُرْسل إِذا قَصده قصدا مستويا من غير أَن يلوي على شَيْء قَالَ الْفراء

وَالْمرَاد ب {السَّمَاء} الأجرام العلوية أَو جِهَة الْعُلُوّ

وَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِي خلق السَّمَاء وَمَا فِيهَا وَالْأَرْض وَمَا فِيهَا بِاعْتِبَار التَّقَدُّم والتأخر لتعارض الظَّوَاهِر فِي ذَلِك

فَذهب بَعضهم إِلَى تقدم خلق السَّمَاوَات لقَوْله تَعَالَى {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} [النازعات: 27 - 33]

ص: 19

وَذهب آخَرُونَ إِلَى تقدم خلق الأَرْض لقَوْله تَعَالَى {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} [فصلت: 9 - 12]

وَجمع بَعضهم فَقَالَ: إِن قَوْله {أخرج مِنْهَا ماءها} بدل أَو عطف بَيَان لقَوْله {دحاها} أَي بسطها مُبين للمراد مِنْهُ فَيكون تأخرها لَيْسَ بِمَعْنى تَأَخّر ذَاتهَا بل بِمَعْنى تَأَخّر خلق مَا فِيهَا وتكميله وترتيبه بل خلق التَّمَتُّع وَالِانْتِفَاع بِهِ فَإِن البعدية كَمَا تكون بِاعْتِبَار نفس الشَّيْء تكون بِاعْتِبَار جزئه الْأَخير وَقَيده الْمَذْكُور كَمَا لَو قلت بعثت إِلَيْك رَسُولا ثمَّ كنت بعثت فلَانا لينْظر مَا يبلغهُ. فَبعث الثَّانِي وَإِن تقدم لَكِن مَا بعث لأَجله مُتَأَخّر فَجعل نَفسه مُتَأَخِّرًا

وَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ،

ص: 20

يُشِير إِلَى هَذَا. وَلَا يُعَارضهُ مَا رَوَاهُ ابْن جرير وَغَيره وصححوه عَنهُ أَيْضاأَن الْيَهُود أَتَت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَسَأَلته عَن خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَقَالَ خلق الله الأَرْض يَوْم الْأَحَد والاثنين وَخلق الْجبَال وَمَا فِيهِنَّ من الْمَنَافِع يَوْم الثُّلَاثَاء وَخلق يَوْم الْأَرْبَعَاء الشّجر والمدائن والعمران والخراب فَهَذِهِ أَرْبَعَة فَقَالَ تَعَالَى {أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى قَوْله {سَوَاء للسائلين} وَخلق يَوْم الْخَمِيس السَّمَاء وَخلق يَوْم الْجُمُعَة النُّجُوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالْمَلَائِكَة. (2)

وَإِنَّمَا قُلْنَا وَلَا يُعَارضهُ إِلَى آخِره لجَوَاز أَن يحمل على أَنه خلق مَادَّة ذَلِك وأصوله إِذْ لَا يتَصَوَّر الْمَدَائِن والعمران والخراب قبل فعطفه عَلَيْهِ قرينَة لذَلِك.

وَاسْتشْكل الرَّازِيّ تَأَخّر التدحية عَن خلق السَّمَاء وَقَالَ إِن الأَرْض جسم عَظِيم فَامْتنعَ انفكاك خلقهَا عَن التدحية فَإِذا كَانَت التدحية مُتَأَخِّرَة كَانَ خلقهَا أَيْضا مُتَأَخِّرًا.

(2) في الأحاديث ذكر أيام الخلق، وفيها اختلاف كثير. وليس تحديد الأيام على ما يظن. وقد دخلت الأقوال الإسرائيليات في تفصيلات لا تثبت في صحاح الأحاديث. وانظر "صحيح الجامع الصغير وزيادته"3235.

ص: 21

وَهَذَا غَفلَة مِنْهُ لِأَن من يَقُول بتأخر دحوها عَن خلقهَا لَا يَقُول بعظمها ابْتِدَاء بل يَقُول إِنَّهَا فِي أول الْخلق كَانَت كَهَيئَةِ الفِهْر (1) ثمَّ دحيت فَيتَحَقَّق الانفكاك وَيصِح تَأَخّر دحوها عَن خلقهَا.

وَقَوله إِن خلق الْأَشْيَاء فِي الأَرْض لَا يُمكن إِلَّا إِذا كَانَت مدحوة لَا يخفى دَفعه بِنَاء على أَن المُرَاد بذلك خلق الْموَاد وَالْأُصُول لَا خلق الْأَشْيَاء فِيهَا كَمَا هُوَ الْيَوْم.

وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين: اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي أَن خلق السَّمَاء مقدم على خلق الأَرْض أَو مُؤخر نقل الإِمَام الواحدي عَن مقَاتل الأول وَاخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ وَلم يَخْتَلِفُوا فِي أَن جَمِيع مَا فِي الأَرْض مِمَّا ترى مُؤخر عَن خلق السَّمَاوَات السَّبع بل اتَّفقُوا عَلَيْهِ.

فَحِينَئِذٍ يَجْعَل الْخلق فِي الْآيَة الْكَرِيمَة بِمَعْنى التَّقْدِير لَا الإيجاد أَو بِمَعْنَاهُ وَيقدر الْإِرَادَة وَيكون الْمَعْنى أَرَادَ خلق مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا لكم على حد {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} و {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن} وَلَا يُخَالِفهُ قَوْله تَعَالَى {وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} فَإِن الْمُتَقَدّم على خلق السَّمَاء إِنَّمَا هُوَ تَقْدِير الأَرْض وَجَمِيع مَا فِيهَا أَو إِرَادَة إيجادها والمتأخر عَن خلق السَّمَاء إِيجَاد الأَرْض وَجَمِيع مَا فِيهَا فَلَا إِشْكَال وَأما قَوْله سبحانه وتعالى {خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} فعلى تَقْدِير الْإِرَادَة وَالْمعْنَى أَرَادَ خلق الأَرْض.

(1) الحجر الذي يملأ الكف مع شبه الإستدارة.

ص: 22

وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَجعل فِيهَا رواسي} يَنْبَغِي أَن يكون بِمَعْنى أَرَادَ أَن يَجْعَل وَيُؤَيّد ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} فَإِن الظَّاهِر أَن المُرَاد أَتَيْنَا فِي الْوُجُود وَلَو كَانَت الأَرْض مَوْجُودَة سَابِقَة لما صَحَّ هَذَا

فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ اإنكم لتكفرون بِالَّذِي أَرَادَ إِيجَاد الأَرْض وَمَا فِيهَا من الرواسِي والأقوات فِي أَرْبَعَة أَيَّام ثمَّ قصد إِلَى السَّمَاء فتعلقت إِرَادَته بإيجاد السَّمَاء وَالْأَرْض فأطاعا بِأَمْر التكوين فأوجد سبع سماوات فِي يَوْمَيْنِ وأوجد الأَرْض وَمَا فِيهَا فِي أَرْبَعَة أَيَّام.

بَقِي هَا هُنَا بَيَان النُّكْتَة فِي تَغْيِير الأسلوب حَيْثُ قدم فِي الظَّاهِر هَاهُنَا وَفِي {حم} السَّجْدَة خلق الأَرْض وَمَا فِيهَا على خلق السَّمَاوَات وَعكس فِي (النازعات)

وَلَعَلَّ ذَلِك لِأَن الْمقَام فِي الْأَوَّلين مقَام الامتنان فمقتضاه تَقْدِيم مَا هُوَ نعْمَة نظرا إِلَى المخاطبين فَكَأَنَّهُ سبحانه وتعالى وَهُوَ الَّذِي دبر أَمركُم قبل خلق السَّمَاء ثمَّ خلق السَّمَاء وَالْمقَام فِي الثَّالِثَة مقَام بَيَان كَمَال الْقُدْرَة فمقتضاه تَقْدِيم مَا هُوَ أدل على كمالها

هَذَا وَالَّذِي يفهم من بعض عِبَارَات الْقَوْم أَن المحدد وَيُقَال لَهُ سَمَاء أَيْضا مَخْلُوق قبل الأَرْض وَمَا فِيهَا وَأَن الأَرْض نَفسهَا خلقت بعد ثمَّ بعد خلقهَا خلقت السَّمَاوَات السَّبع ثمَّ بعد السَّبع خلق مَا فِي الأَرْض من معادن ونبات ثمَّ ظهر عَالم الْحَيَوَان ثمَّ عَالم الْإِنْسَان.

فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} حِينَئِذٍ قدره أَو أَرَادَ إيجاده أَو أوجد مواده

وَمعنى قَوْله تَعَالَى {وَجعل فِيهَا رواسي} إِلَى آخِره فِي الْآيَة الْأُخْرَى على نَحْو هَذَا.

وَقَوله تَعَالَى {وخلق الأَرْض} فِيهَا على ظَاهره، وَلَا يأباه قَوْله سُبْحَانَهُ {{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] إِلَى

ص: 23

آخِره لجَوَاز حمله على معنى ائتيا بِمَا خلقت فيكما من التَّأْثِير والتأثر وإبراز مَا أودعتكما من الأوضاع الْمُخْتَلفَة والكائنات المتنوعة أَو إتْيَان السَّمَاء حدوثها وإتيان الأَرْض أَن تصير مدحوة أَو لتأت كل مِنْكُمَا الْأُخْرَى فِي حُدُوث مَا أُرِيد توليده مِنْكُمَا.

وَبعد هَذَا كُله لَا يَخْلُو الْبَحْث من صعوبة وَمَا زَالَ النَّاس يستصعبونه من عهد الصَّحَابَة إِلَى الْآن وسنعود إِلَيْهِ مرّة أُخْرَى إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

وَمعنى سواهن أتمهن وقومهن وخلقهن ابْتِدَاء مصونات عَن العوج والفطور لَا أَنه سبحانه وتعالى سواهن بعد أَن لم يكن كَذَلِك فَهُوَ على حد قَوْلهم ضيق فَم الْبِئْر ووسع الدَّار.

لَا يُقَال إِن أَرْبَاب الأرصاد الْمُتَقَدِّمين أثبتوا تِسْعَة أفلاك وَهل هِيَ إِلَّا سماوات لأَنا نقُول هم لَا يزالون شاكين فِي النُّقْصَان وَالزِّيَادَة فَإِن مَا وجدوه من الحركات يُمكن ضَبطهَا بِثمَانِيَة وَسَبْعَة بل بِوَاحِد وَبَعْضهمْ أثبتوا بَين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الْميل الْكُلِّي

وَقَالَ بعض محققيهم لم يتَبَيَّن لي إِلَى الْآن أَن كرة الثوابت كرة وَاحِدَة أَو كرات منطوية بَعْضهَا على بعض.

وَأطَال الإِمَام الرَّازِيّ الْكَلَام فِي ذَلِك

على أَنه إِن صَحَّ مَا شاع فَلَيْسَ فِي الْآيَة مَا يدل على نفي الزَّوَائِد بِنَاء على مَا اخْتَارَهُ الرَّازِيّ من أَن مَفْهُوم الْعدَد لَيْسَ بِحجَّة

وَكَلَام الْبَيْضَاوِيّ فِي تَفْسِيره يشيير إِلَيْهِ خلافًا لما فِي منهاجه الْمُوَافق

ص: 24

لما عَلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي وَنَقله عَنهُ الْغَزالِيّ فِي "المنخول".

وَذكر عبد الْحَكِيم السيالكوتي الْهِنْدِيّ أَن الْحق أَن تَخْصِيص الْعدَد بِالذكر لَا يدل على نفي الزَّائِد وَالْخلاف فِي ذَلِك مَشْهُور

وَإِذا قُلْنَا بكرية الْعَرْش والكرسي لم يبْق كَلَام.

وَضمير {فسواهن} للسماء إِن فسرت بالأجرام

وَأما مَا ذهب إِلَيْهِ متأخرو الفلاسفة فَلَا سَمَاء عِنْدهم بل الأجرام العلوية قَائِمَة بالجاذبية فَإِن الشَّمْس وَسَائِر الْكَوَاكِب السيارات عَلَيْهَا بل وَجَمِيع الثوابت لَيست مركوزة فِي جسم من الْأَجْسَام والآيات القرآنية وَإِن لم يكن فِيهَا مَا يدل على خلاف مَا ذكر فِي الْكَوَاكِب بل رُبمَا كَانَ فِيهَا مَا يدل على مَا يُؤَيّد مَذْهَب الْمُتَأَخِّرين فَإِن النُّصُوص تشعر بِأَن مَا نشاهده من الحركات لَيست بالأجرام اشْتَمَلت على الْكَوَاكِب مثل قَوْله سُبْحَانَهُ {لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار وكل فِي فلك يسبحون}

ص: 25

نعم المناقضة والمخالفة بَين مَذْهَب الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين فِي هَذَا الْبَاب فَإِن الْمُتَقَدِّمين قَالُوا إِن الْعَالم الجسماني كرة منضدة من ثَلَاث عشرَة كرة ومركز الْعَالم مَرْكَز كرة الأَرْض غير أَن الْمُتَأَخِّرين لم يثبتوا من السَّمَاوَات سبعا وَلَا أَكثر من ذَلِك وَلَا أنقص والمتشرعون مِنْهُم قَالُوا المُرَاد من السَّمَاوَات السَّبع أَصْنَاف أجرام الْكَوَاكِب فَإِنَّهُم جعلوها على سَبْعَة أَصْنَاف فِي الْمِقْدَار وَذَلِكَ هُوَ الضلال الْبعيد فَلَا يلْزم أَن يكون كل مَا لم تصل إِلَيْهِ أَيدي أفكارهم هُوَ فِي حيّز الْعَدَم {بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله} فَإِن الرُّسُل صلى الله عليه وسلم كلهم أخبروا بِوُجُود السَّمَاوَات فِي هَذَا الفضاء الَّذِي لَيْسَ لَهُ مبدأ وَلَا انْتِهَاء وَهَذَا خاتمهم صلى الله عليه وسلم قد ذكر مَا ذكر مِمَّا رأى فِي معراجه فِي السَّمَاوَات واستفتاحه لَهَا بِوَاسِطَة جِبْرِيل كل ذَلِك يبطل تَأْوِيل من أوَّلَ.

وَسَيَأْتِي فِي ذَلِك كَلَام مفصل وَمَا ذَكرْنَاهُ هُنَا كَاف فِي الْمقَام وَالله ولي التَّوْفِيق.

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]

ص: 26

ذكر أهل التَّفْسِير أَن معَاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قَالَا يَا رَسُول الله مَا بَال الْهلَال يَبْدُو ويطلع دَقِيقًا مثل الْخَيط ثمَّ يزِيد حَتَّى يعظم وَيَسْتَوِي ويستدير ثمَّ لَا يزَال ينقص ويدق حَتَّى يعود كَمَا كَانَ لَا يكون على حَال وَاحِدَة فَنزلت.

وَالسُّؤَال يحْتَمل أَن يكون عَن الْغَايَة وَالْحكمَة وَأَن يكون عَن السَّبَب وَالْعلَّة وَلَا نَص فِي الْآيَة وَالْخَبَر على أَحدهمَا.

أما الملفوظ من الْآيَة فَظَاهر وَأما الْمَحْذُوف فَيحْتَمل أَن يقدر مَا سَبَب اختلافها وَأَن يقدر مَا حكمته.

وَهِي وَإِن كَانَت فِي الظَّاهِر سؤالا عَن التَّعَدُّد إِلَّا أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَة متضمنة للسؤال عَن اخْتِلَاف التشكلات النورية لِأَن التَّعَدُّد يتبع اختلافها إِذْ لَو كَانَ الْهلَال على شكل وَاحِد لَا يحصل التَّعَدُّد كَمَا لَا يخفى.

وَأما الْخَبَر فَلِأَن مَا فِيهِ يسْأَل بهَا عَن الْجِنْس وَحَقِيقَته فالمسؤول عَنهُ حِينَئِذٍ حَقِيقَة أَمر الْهلَال وشأنه حَال اخْتِلَاف تشكلاته النورية ثمَّ عوده إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْأَمر المسؤول عَن حَقِيقَته يحْتَمل ذَيْنك الْأَمريْنِ بِلَا ريب

ص: 27

فعلى الأول يكون الْجَواب بقوله {قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج} مطابقا مُبينًا للحكمة الظَّاهِرَة اللائقة بشأن التَّبْلِيغ الْعَام المذكرة لنعمة الله تَعَالَى ومزيد رأفته وَهِي أَن تكون معالم للنَّاس يوقتون بهَا أُمُورهم الدِّينِيَّة ويعلمون أَوْقَات زُرُوعهمْ ومتاجرهم ومعالم للعبادات يعرف بهَا أَوْقَاتهَا كالصيام والإفطار وخصوصا الْحَج فَإِن الْوَقْت مرَاعِي فِيهِ أَدَاء وَقَضَاء

وَلَو كَانَ الْهلَال مدورا كَالشَّمْسِ أَو ملازما حَالَة وَاحِدَة لم يكد يَتَيَسَّر التَّوْقِيت بِهِ وَلم يذكر صلى الله عليه وسلم الْحِكْمَة الْبَاطِنَة لذَلِك مثل كَون اخْتِلَاف تشكلاته سَببا عاديا أَو جعليا لاخْتِلَاف أَحْوَال المواليد العنصرية كَمَا بَين فِي مَحَله لِأَنَّهُ مِمَّا لم يطلع عَلَيْهِ كل أحد

وعَلى الثَّانِي يكون من الأسلوب الْحَكِيم وَيُسمى القَوْل بِالْمُوجبِ وَهُوَ تلقي السَّائِل بِغَيْر مَا يتطلب بتنزيل سُؤَاله منزلَة غَيره تَنْبِيها على أَنه الأولى بِحَالهِ وَاخْتَارَهُ السكاكي وَجَمَاعَة. فَيكون فِي هَذَا الْجَواب إِشَارَة إِلَى أَن الأولى على تَقْدِير وُقُوع السُّؤَال أَن يسْأَلُوا عَن الْحِكْمَة لَا عَن السَّبَب لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِهِ صَلَاح معاشهم ومعادهم وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا بعث لبَيَان ذَلِك

وَبَعض عُلَمَاء الْهَيْئَة اليونانية قَالَ لَيْسُوا مِمَّن يطلع على دقائق علم الْهَيْئَة الْمَوْقُوفَة على الأرصاد والأدلة الفلسفية

وَهَذَا وهم لِأَن ذَلِك على فرض تَسْلِيمه فِي حق أُولَئِكَ الْمَشَّائِينَ فِي ركاب النُّبُوَّة والمرتاضين فِي رواق الفتوة والفائزين بإشراق الْأَنْوَار والمطلعين بأرصاد قُلُوبهم على دقائق الْأَسْرَار وَإِن لم يكن نقصا من قدرهم

ص: 28

إِلَّا أَنه يدل على أَن سَبَب الِاخْتِلَاف مَا بَين فِي علم الْهَيْئَة من بعد الْقَمَر عَن الشَّمْس وقربه إِلَيْهَا

وَهُوَ بَاطِل عِنْد أهل الشَّرِيعَة فَإِنَّهُ مَبْنِيّ على أُمُور لم يثبت جزما شَيْء مِنْهَا

غَايَة الْأَمر أَن الفلاسفة الأول تخيلوها مُوَافقَة فَمَا أبدعه الْحَكِيم الْمُطلق كَمَا يُشِير إِلَيْهِ كَلَام الشَّيْخ مُحي الدّين رحمه الله فِي «فتوحاته» مِمَّا يُنَادي على أَن مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مُجَرّد تخيل لَا تأباه الْحِكْمَة وَلَيْسَ مطابقا لما فِي نفس الْأَمر أَن الْمُتَأَخِّرين مِمَّن انتظم فِي سلك الفلاسفة كهرشل الْحَكِيم وَأَتْبَاعه أَصْحَاب الرصد والزيج الْجَدِيد تخيلوا خلاف مَا ذهب إِلَيْهِ الْأَولونَ فِي أَمر الْهَيْئَة وَقَالُوا بِأَن الشَّمْس مَرْكَز وَالْأَرْض وَكَذَا النُّجُوم دَائِرَة حولهَا وبنوا حكم الْكُسُوف والخسوف وَنَحْوه على ذَلِك وبرهنوا عَلَيْهِ وردوا مخالفيه وَلم يتَخَلَّف شَيْء من أحكامهم فِي هَذَا الْبَاب بل يَقع بِحَسب مَا يَقع مَا يَقُوله الْأَولونَ مَبْنِيا على زعمهم.

فَحَيْثُ اتّفقت الْأَحْكَام مَعَ اخْتِلَاف المبنيين وتضاد المنشأين ورد أحد الزعمين بِالْآخرِ ارْتَفع الوثوق بكلا المذهبين وَوَجَب الرُّجُوع إِلَى الْعلم المقتبس من مشكاة الرسَالَة والمنقدح من أنوار شمس السِّيَادَة والبسالة والاعتماد على مَا قَالَه الشَّارِع الْأَعْظَم صلى الله عليه وسلم بعد إمعان النّظر فِيهِ وَحمله على أحسن مَعَانِيه!

وَإِذا أمكن الْجمع بَين مَا يَقُوله الفلاسفة كَيفَ كَانُوا مِمَّا يقبله الْعقل، وَبَين

ص: 29

مَا يَقُوله سيد الْحُكَمَاء وَنور أهل الأَرْض وَالسَّمَاء فَلَا بَأْس بِهِ بل هُوَ الْأَلْيَق الأحرى فِي دفع الشكوك الَّتِي كثيرا مَا تعرض لِضُعَفَاء الْمُؤمنِينَ.

وَإِذا لم يكن ذَلِك فَعَلَيْك بِمَا دارت عَلَيْهِ أفلاك الشَّرْع وتنزلت بِهِ أَمْلَاك الْحق.

وسنتكلم فِيمَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الْقَمَر فِيمَا يُنَاسِبهَا من الْآيَات الْآتِيَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]

تَفْسِير هَذِه الْآيَة

الْكُرْسِيّ جسم بَين يَدي الْعَرْش مُحِيط بالسماوات وَالْأَرْض وَقد أخرج جرير وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ "لَو أَن السَّمَاوَات السَّبع وَالْأَرضين السَّبع بسطن ثمَّ وصلن بَعضهنَّ إِلَى بعض مَا كن فِي سعته أَي الْكُرْسِيّ إِلَّا بِمَنْزِلَة الْحلقَة بالمفازة".

وَهُوَ غير الْعَرْش كَمَا يدل عَلَيْهِ مَا أخرجه ابْن جرير عَن أبي ذَر أَنه سَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن الْكُرْسِيّ فَقَالَ يَا أَبَا ذَر مَا السَّمَاوَات السَّبع والأرضون السَّبع عِنْد الْكُرْسِيّ إِلَّا كحلقة ملقاة بِأَرْض

ص: 30

فلاة وَإِن فضل الْعَرْش على الْكُرْسِيّ كفضل الفلاة على تِلْكَ الْحلقَة. (1)

وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ سُئِلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن قَوْله تَعَالَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} قَالَ {كرسيه} مَوضِع قَدَمَيْهِ وَالْعرش لَا يقدر قدره وَقيل هُوَ الْعَرْش نَفسه وَنسب ذَلِك إِلَى الْحسن. وَقيل قدرَة الله تَعَالَى وَقيل تَدْبيره وَقيل ملك من مَلَائكَته وَقيل هُوَ مجَاز عَن الْعلم من تَسْمِيَة الشَّيْء بمكانه لِأَن الْكُرْسِيّ مَكَان الْعَالم الَّذِي فِيهِ الْعلم فَيكون مَكَانا للْعلم بتبعيته لِأَن الْعرض يتبع الْمحل فِي التحيز حَتَّى ذَهَبُوا إِلَى أَنه معنى قيام الْعرض بِالْمحل وَحكي ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَقيل عَن الْملك أخذا من كرْسِي الْملك وَقيل أصل الْكُرْسِيّ مَا يجلس عَلَيْهِ وَلَا يفضل عَن مقْعد الْقَاعِد وَالْكَلَام مسوق على سَبِيل التَّمْثِيل لعظمته تَعَالَى شَأْنه وسعة سُلْطَانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة فَفِي الْكَلَام اسْتِعَارَة تمثيلية وَلَيْسَ ثمَّة كرْسِي وَلَا قَاعد وَلَا قعُود وَهَذَا الَّذِي أختاره الجم الْغَفِير من الْخلف فِرَارًا من توهم التجسيم وحملوا الْأَحَادِيث الَّتِي ظَاهرهَا حمل الْكُرْسِيّ على الْجِسْم الْمُحِيط على مثل ذَلِك وَلَا سِيمَا الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا ذكر الْقدَم كَمَا قدمنَا وكالحديث الَّذِي أخرجه الْبَيْهَقِيّ وَغَيره عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ:

(1) رواه ابن جرير، ومحمد بن جعفر ابن أبي شيبة، والبيهقي في " الأسماء والصفات" من طرق عن أبي ذر مرفوعاً، وهو حديث صحيح. وراه ابن أبي شيبة في "العرش" والحاكم في "المستدرك" بسند صحيح موقوفاً، ورواه الضياء في "الأحاديث المختارة"، مرفوعاً وهو غلط كما قال ابن كثير - ن -.

ص: 31

"الْكُرْسِيّ مَوضِع الْقَدَمَيْنِ وَله أطيط كأطيط الرحل الْجَدِيد إِذا ركب عَلَيْهِ من يثقله مَا يفضل مِنْهُ أَربع أَصَابِع"(1).

وَأَنت تعلم أَن ذَلِك وَأَمْثَاله لَيْسَ بالداعي الْقوي لنفي الْكُرْسِيّ بِالْكُلِّيَّةِ

فَالْحق أَنه ثَابت كَمَا نطقت بِهِ الْأَخْبَار الصَّحِيحَة وتوهم التجسيم لَا يعبأ بِهِ وَإِلَّا لزم نفي الْكثير من الصِّفَات وَهُوَ بمعزل عَن اتِّبَاع الشَّارِع وَالتَّسْلِيم لَهُ.

وَأكْثر السّلف الصَّالح جعلُوا ذَلِك من الْمُتَشَابه الَّذِي لَا يحيطون بِهِ علما وفوضوا علمه إِلَى الله تَعَالَى مَعَ القَوْل بغاية التَّنْزِيه وَالتَّقْدِيس لَهُ تَعَالَى شَأْنه.

والقائلون بِالظَّاهِرِ من الصُّوفِيَّة لم يشكل عَلَيْهِم شَيْء من أَمْثَال ذَلِك.

وَقد ذكر بعض العارفين مِنْهُم أَن (الْكُرْسِيّ) عبارَة عَن تجلي جملَة الصِّفَات الفعلية فَهُوَ مظهر إلهي وَمحل نُفُوذ الْأَمر وَالنَّهْي والإيجاد والإعدام الْمعبر عَنْهُمَا بالقدمين. وَقد وسع السَّمَوَات وَالْأَرْض وسع وجود عَيْني ووسع حكمي لِأَن وجودهما الْمُقَيد من آثَار الصِّفَات الفعلية الَّذِي هُوَ مظهر لَهَا وَلَيْسَت القدمان فِي الْأَحَادِيث عبارَة عَن قدمي الرجلَيْن وَمحل النَّعْلَيْنِ تَعَالَى الله سُبْحَانَهُ عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَلَا الأطيط عبارَة عَمَّا تسمعه وتفهمه فِي الشَّاهِد بل هُوَ إِن لم تفوض علمه إِلَى الْعَلِيم الْخَبِير إِشَارَة إِلَى بروز الْأَشْيَاء المتضادة أَو اجتماعها فِي ذَلِك الْمظهر الَّذِي هُوَ منشأ التَّفْصِيل والإبهام وَمحل الإيجاد والإعدام، ومركز الضّر والنفع والتفريق وَالْجمع. وَمعنى "مَا يفضل

(1) أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "العرش"(ق 114/ 1 - 2). والبيهقي في " الأسماء والصفات"(290) من طريق عمارة بن عمير عن أبي موسى موقوفاً عليه به، دون قوله: "الجديد، إذا ركب

". وأخرجه الخطيب في تاريخه (8/ 52) من طريق عبد الله بن خليفة مرفوعاً مع الزيادة إلا أنه قال: "إلا قدر

". ورواه أبو يعلى والبزار عن ابن خليفة هذا عن عمر مرفوعاً. وقال الحافظ ابن كثير: "عبد الله بن خليفة، وليس بذلك المشهور، وفي سماعه من عمر نظر، وعندي في صحته نظر" - ن -.

ص: 32

مِنْهُ أَربع أَصَابِع إِن كَانَ الضَّمِير رَاجعا إِلَى الرجل ظَاهر وَإِن كَانَ رَاجعا إِلَى الْكُرْسِيّ فَهُوَ إِشَارَة إِلَى وجود حضرات هِيَ مظَاهر لبَعض الْأَسْمَاء لم تبرز إِلَى عَالم الْحس وَلم يُمكن أَن يَرَاهَا إِلَّا من ولد مرَّتَيْنِ وَلَيْسَ المُرَاد من الْأَصَابِع الْأَرْبَع مَا تعرفه من نَفسك.

وللصوفية فِي هَذَا الْمقَام كَلَام غير هَذَا ولعلنا نشِير إِلَى بعض مِنْهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَأَنا أَقُول غير مبال بجهول: إِن غَالب هَذِه الْأَقْوَال لَيست برطب إِذْ أعدت وَلَا يبس، والمعول عَلَيْهِ مَا أَرَادَ الله تَعَالَى وَرَسُوله بِظَاهِر كَلَامهمَا {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53]

ص: 33