المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سُورَة يُونُس قَالَ الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ - ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة بالبرهان

[محمود شكري الألوسي]

الفصل: ‌ ‌سُورَة يُونُس قَالَ الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ

‌سُورَة يُونُس

قَالَ الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس: 5 - 6]

تَفْسِير هَذِه الْآيَة

{الشَّمْس} مَأْخُوذَة من شمسة القلادة للخرزة الْكَبِيرَة وَسطهَا وَسميت بذلك لِأَنَّهَا أعظم الْكَوَاكِب كَمَا تدل عَلَيْهِ الْآثَار وَيشْهد لَهُ الْحس وَإِلَيْهِ ذهب جُمْهُور أهل الْهَيْئَة وَمِنْهُم من قَالَ سميت بذلك لِأَنَّهَا فِي الْفلك الْأَوْسَط بَين أفلاك العلوية وَبَين أفلاك الثَّلَاثَة الْأُخَر على تَرْتِيب مَا فِي قَوْله

(زُحَلٌ شرى مريّخه من شمسه

فتزاهرتْ لعُطاردَ الأقمار)

وَهُوَ أَمر ظَنِّي لم تشهد لَهُ الْأَخْبَار النَّبَوِيَّة كَمَا ستعلمه

واستفادةُ الْقَمَر النُّور من الشَّمْس سَوَاء أَكَانَت على سَبِيل الانعكاس من غير أَن يصير جَوْهَر الْقَمَر مستنيرا كَمَا فِي الْمرْآة أم بِأَن يَسْتَنِير جوهره على مَا هُوَ الْأَشْبَه عِنْد الرَّازِيّ قد ذكرهَا كثير من النَّاس.

وَهِي مِمَّا لم يجِئ من حَدِيث من عرج إِلَى السَّمَاء صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا جَاءَ عَن الفلاسفة.

ص: 50

وَقد زَعَمُوا أَن الأفلاك الْكُلية تِسْعَة أَعْلَاهَا فلك الأفلاك وَهُوَ الْفلك الأطلس ثمَّ فلك الثوابت ثمَّ فلك زحل ثمَّ فلك المُشْتَرِي ثمَّ فلك المريخ ثمَّ فلك الشَّمْس ثمَّ فلك الزهرة ثمَّ فلك عُطَارِد وَهُوَ الْكَاتِب بزعمهم ثمَّ فلك الْقَمَر.

وَاسْتدلَّ كثير مِنْهُم على هَذَا التَّرْتِيب بِمَا يبْقى مَعَه الِاشْتِبَاه بَين الشَّمْس وَبَين الزهرة وَالْكَاتِب كالكسف والانكساف وَاخْتِلَاف المنظر الَّذِي توصلوا إِلَى مَعْرفَته بِذَات الشعبتين لِأَن الأول لَا يتَصَوَّر هُنَاكَ لِأَن الزهرة وَالْكَاتِب يحترقان عِنْد الاقتران فِي مُعظم المعمورة وَالثَّانِي أَيْضا مِمَّا لَا يُسْتَطَاع علمه بِتِلْكَ الْآلَة لِأَنَّهَا تنصب فِي سطح نصف النَّهَار وَهَذَانِ الكوكبان لَا يظهران هُنَاكَ لِكَوْنِهِمَا حوالي الشَّمْس بِأَقَلّ من برجين فَإِذا بلغا نصف النَّهَار كَانَت الشَّمْس فَوق الأَرْض شرقية أَو غربية فَلَا يريان أصلا

وَجعل الشَّمْس فِي الْفلك الْأَوْسَط لما فِي ذَلِك من حسن التَّرْتِيب كَأَنَّهَا شمسة القلادة أَو لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَة الْملك فِي الْعَالم فَكَمَا يَنْبَغِي للْملك أَن يكون فِي وسط الْعَسْكَر بنبغي لَهَا أَن تكون فِي وسط كرات الْعَالم أَمر إقناعي بل هُوَ من قبيل التَّمَسُّك بحبال الْقَمَر.

وَمثل ذَلِك تمسكهم فِي عدم الزِّيَادَة على هَذِه الأفلاك بِأَنَّهُ لَا فضل فِي الفلكيات مَعَ أَنه يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون ثخن الْفلك الْأَعْظَم أقل مَا يُمكن أَن يكون للأجسام من الثخانة إِذْ لَا كَوْكَب فِيهِ حَتَّى يكون ثخنه مُسَاوِيا لقطره وَقد بَين فِي «رِسَالَة الأبعاد والأجرام» أَنه بلغ الْغَايَة فِي الثخن وَحِينَئِذٍ يُمكن أَن يكون لكل من الثوابت فلك على حِدة وَأَن تكون تِلْكَ الأفلاك متوافقة فِي حركاتها جِهَة وقطبا ومنطقة وَسُرْعَة بل لَو قيل يتخالف بَعْضهَا لم يكن هُنَاكَ دَلِيل يَنْفِيه لِأَن المرصود مِنْهَا أقل قَلِيل فَيمكن أَن يكون بعض مَا لم يرصد متخالفا

على أَن من النَّاس من أثبت كرة فَوق كرة الثوابت وَتَحْت الْفلك الْأَعْظَم وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا اسْتدلَّ

ص: 51

وَمن علم أَن أَرْبَاب الأرصاد مُنْذُ زمن يسير وجدوا عدَّة كواكب سيارة غير السَّبع مِنْهَا هرشل وَقد رصده بعض الفلاسفة الْمُتَأَخِّرين وَهُوَ أَبْطَأَ سيرا من زحل فَوَجَدَهُ يقطع البرج فِي سِتّ سِنِين شمسية وَأحد عشر شهرا وَسَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا لَا يبْقى لَهُ اعْتِمَاد على مَا قَالَه المتقدمون وَيجوز أَمْثَال مَا ظفر بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخّرُونَ

وَأَيْضًا من الْجَائِز أَن تكون الأفلاك ثَمَانِيَة لِإِمْكَان كَون جَمِيع الثوابت مركوزة فِي محدب ممثل زحل أَي فِي متممة الْحَاوِي على أَنه يَتَحَرَّك بالحركة البطيئة والفلك الثَّامِن يَتَحَرَّك بالحركة السريعة وَحِينَئِذٍ تكون دَائِرَة البروج الْمَارَّة بأوائل البروج منتقلة بحركة الثَّامِن غير منتقلة بحركة الممثل ليحصل انْتِقَال الثوابت بحركة الممثل من برج إِلَى برج كَمَا هُوَ الْوَاقِع

وَقد صرح البرجندي أَن القدماء لم يثبتوا الْفلك الْأَعْظَم وَإِنَّمَا أثْبته الْمُتَأَخّرُونَ.

وَأَيْضًا يجوز أَن تكون سَبْعَة بِأَن تفرض الثوابت ودائرة البروج على محدب ممثل زحل وَيكون هُنَاكَ نفسان تتصل إِحْدَاهمَا بِمَجْمُوع السَّبْعَة وتحركها إِحْدَى الحركتين الْأَوليين وَالْأُخْرَى بالكرة السَّابِعَة وتحركها الْأُخْرَى وَلَكِن بِشَرْط أَن تفرض دوائر البروج متحركة بالسريعة دون البطيئة كتحركها متوهمة على سطوح الممثلات بالسريعة دون البطيئة لتنقل الثوابت بالبطيئة من برج إِلَى برج كَمَا هُوَ الْوَاقِع

وَأَيْضًا ذكر الرَّازِيّ أَنه لم لَا يجوز أَن تكون الثوابت تَحت فلك الْقَمَر فَتكون تَحت كرات السيارة لَا فَوْقهَا؟

ص: 52

وَمَا يُقَال من أَنا نرى أَن هَذِه السيارة تكسف الثوابت والكاسف تَحت المكسوف لَا محَالة مَدْفُوع بِأَن هَذِه السيارات إِنَّمَا تكسف الثوابت الْقَرِيبَة من المنطقة دون الْقَرِيبَة من القطبين فَلم لَا يجوز أَن يُقَال هَذِه الثوابت الْقَرِيبَة من المنطقة مركوزة فِي الْفلك الثَّامِن والقريبة من القطبين مركوزة فِي كرة أُخْرَى تَحت كرة الْقَمَر.

على أَنه لم لَا يجوز أَن يُقَال (1): الْكَوَاكِب تتحرك بأنفسها من غير أَن تكون مركوزة فِي جسم آخر وَدون إِثْبَات الِامْتِنَاع خرط القتاد؟

وَذكروا فِي استفادة نور الْقَمَر من ضوء الشَّمْس أَنه من الحدسيات لاخْتِلَاف أشكاله بِحَسب قربه وَبعده مِنْهَا وَذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْن الْهَيْثَم لَا يُفِيد الْجَزْم بالاستفادة لاحْتِمَال أَن يكون الْقَمَر كرة نصفهَا مضيء وَنِصْفهَا مظلم ويتحرك على نَفسه فَيرى هلالا ثمَّ بَدْرًا ثمَّ ينمحق وَهَكَذَا دَائِما

ومقصود أَنه لَا بُد من ضم شَيْء آخر إِلَى اخْتِلَاف الأشكال بِحَسب الْقرب والبعد ليدل على الْمُدعى وَهُوَ حُصُول الخسوف عِنْد توَسط الأَرْض بَينه وَبَين الشَّمْس

وَأَنت تعلم أَنه لَا جزم أَيْضا وَإِن ضم مَا ضم لجَوَاز أَن يكون سَبَب آخر لاخْتِلَاف تِلْكَ الأشكال النورية لَكنا لَا نعلمهُ كَأَن يكون كَوْكَب كمد تَحت فلك الْقَمَر ينخسف بِهِ فِي بعض استقبالاته وَإِن طعن فِي ذَلِك بِأَنَّهُ

(1) هذا الاحتمال هو الذي ذهب إليه المتأخرون من الفلاسفة الإفرنج، وبرهنوا عليه، وعدوا القول بما سواه محض هذيان، كما أنه مذهب المحدثين من المتشرعين، فالكواكب كلها سابحة في الجو بنفسها، متحركة بالجاذبية على تفصيل مذكور في محله. (المؤلف)

ص: 53

لَو كَانَ لرئي قُلْنَا لم لَا يجوز أَن يكون ذَلِك الِاخْتِلَاف والخسوف من آثَار إِرَادَة الْفَاعِل الْمُخْتَار من دون توَسط الْقرب والبعد من الشَّمْس وحيلولة الأَرْض بَينهَا وَبَينه بل لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا توَسط الْكَاف وَالنُّون وَهُوَ كَاف عِنْد من سلمت عينه من الْغَيْن.

وللمتشرعين من الْمُحدثين وَكَذَا للصوفية كَلِمَات شهيرة فِي هَذَا الشَّأْن.

ولعلك قد وقفت عَلَيْهَا وَإِلَّا فستقف بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

وَقد استندوا فِيمَا يَقُولُونَهُ إِلَى أَخْبَار نبوية وأرصاد قلبية وغالب الْأَخْبَار فِي ذَلِك لم تبلغ دَرَجَة الصَّحِيح وَمَا بلغ مِنْهَا آحَاد.

وَالْحق أَنه لَا جزم بِمَا يَقُولُونَهُ فِي تَرْتِيب الأجرام العلوية وَمَا يلْتَحق بذلك وَأَن القَوْل بِهِ مِمَّا لَا يضر بِالدّينِ إِلَّا إِذا صادم مَا علم مَجِيئه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم.

وَقَوله تَعَالَى {وَقدره منَازِل} أَي قدر للقمر منَازِل أَو قدر مسيره فِي منَازِل وَتَخْصِيص الْقَمَر بِهَذَا التَّقْدِير لسرعة سيره بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّمْس وَلِأَن مَنَازِله مَعْلُومَة محسوسة ولكونه عُمْدَة فِي تواريخ الْعَرَب وَلِأَن أَحْكَام الشَّرْع منوطة بِهِ فِي الْأَكْثَر

والمنازل ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا وَهِي على مَا ذكره ابْن قُتَيْبَة فِي «كتاب الأنواء» وَغَيره مِمَّن ألف فِي الأنواء الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك الرامح والسماك الأعزل والغفر والزباني والإكليل وَالْقلب والشولة والنعائم والبلدة وَسعد الذَّابِح وَسعد بلع وَسعد الأخبية وَفرغ الدَّلْو الْمُقدم وَالْفَرغ الْمُؤخر وبطن الْحُوت

ص: 54

وَهِي مقسمة على البروج الأثني عشر الْمَشْهُورَة فَيكون لكل برج منزلان وَثلث والبرج عِنْدهم ثَلَاثُونَ دَرَجَة حَاصِلَة من قسْمَة ثَلَاث مئة وَسِتِّينَ جُزْءا هِيَ أَجزَاء دَائِرَة البروج على اثْنَي عشر والدرجة عِنْدهم منقسمة بستين دقيقة

وَهِي منقسمة بستين ثَانِيَة وَهِي منقسمة بستين ثَالِثَة وَهَكَذَا إِلَى الروابع والخوامس والسوادس وَغَيرهَا

وَيقطع الْقَمَر بحركته الْخَاصَّة فِي كل يَوْم بليلته ثَلَاث عشرَة دَرَجَة وَثَلَاث دقائق وَثَلَاثًا وَخمسين ثَانِيَة وستا وَخمسين ثَالِثَة

وَتَسْمِيَة مَا ذكر منَازِل مجَاز لِأَنَّهُ عبارَة عَن كواكب مَخْصُوصَة من الثوابت قريبَة من المنطقة والمنزلة الْحَقِيقِيَّة للقمر الْفَرَاغ الَّذِي يشْغلهُ جرم الْقَمَر.

فَمَعْنَى نزُول الْقَمَر فِي هاتيك الْمنَازل مسامتته إِيَّاهَا وَكَذَا تعْتَبر المسامتة فِي نُزُوله فِي البروج لِأَنَّهَا مَفْرُوضَة أَولا فِي الْفلك الْأَعْظَم

وَأما تَسْمِيَة نَحْو الْحمل والثور والجوزة بذلك فباعتبار المسامتة أَيْضا

وَكَانَ أول الْمنَازل الشرطان وَيُقَال لَهُ النطح وَهُوَ لأوّل الْحمل ثمَّ تحركت حَتَّى صَار أَولهَا على مَا حَرَّره الْمُحَقِّقُونَ من الْمُتَأَخِّرين الْفَرْع الْمُؤخر وَلَا يثبت على ذَلِك لِأَن للثوابت حَرَكَة على التوالي على الصَّحِيح وَإِن كَانَت بطيئة وَهِي حَرَكَة فلكها

ومثبتو ذَلِك اخْتلفُوا فِي مِقْدَار الْمدَّة الَّتِي يقطع بهَا جُزْءا وَاحِدًا من دَرَجَات منطقته فَقَالَ بَعضهم هِيَ سِتّ وَسِتُّونَ سنة شمسية أَو ثَمَان

ص: 55

وَسِتُّونَ سنة قمرية. وَذهب ابْن الأعلم إِلَى أَنَّهَا سَبْعُونَ سنة شمسية وطابقه الرصد الْجَدِيد الَّذِي تولاه نصير الطوسي بمراغة وَزعم مُحي الدّين أحد أَصْحَابه أَنه تولى رصدعدة من الثوابت كعين الثور وقلب الْعَقْرَب بذلك الرصد فَوَجَدَهَا تتحرك فِي كل سِتّ وَسِتِّينَ سنة شمسية دَرَجَة وَاحِدَة وَادّعى بطليموس أَنه وجد الثوابت الْقَرِيبَة إِلَى المنطقة متحركة فِي كل مئة سنة شمسية دَرَجَة.

وَالله تَعَالَى أعلم بحقائق الْأَحْوَال وَهُوَ الْمُتَصَرف فِي ملكه وملكوته كَمَا يَشَاء.

قَوْله تَعَالَى {لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب} هَذِه الْآيَة تكلم فِيهَا كثير من الْمُفَسّرين وَأحسن من تكلم عَلَيْهَا الإِمَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تيميه ألف فِي ذَلِك رِسَالَة سَمَّاهَا «بَيَان الْهدى من الضلال»

وَبعد أَن ذكر لَهَا مُقَدّمَة قَالَ:

"إِنِّي رَأَيْت النَّاس فِي شهر صومهم وَفِي غَيره أَيْضا مِنْهُم من يصغي إِلَى مَا يَقُوله بعض جهال أهل الْحساب من أَن الْهلَال يرى أَو لَا يرى وَيَبْنِي على ذَلِك إِمَّا فِي بَاطِنه وَإِمَّا فِي بَاطِنه وَظَاهره حَتَّى بَلغنِي أَن من الْقُضَاة من كَانَ يرد شَهَادَة الْعدَد من الْعُدُول لقَوْل الحاسب الْجَاهِل الْكَاذِب إِنَّه يرى أَو لَا يرى فَيكون مِمَّن كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ وَرُبمَا أجَاز شَهَادَة غير المرضي لقَوْله،

ص: 56

فَيكون هَذَا الْحَاكِم من السماعين للكذب فَإِن الْآيَة تتَنَاوَل حكام السوء كَمَا يدل عَلَيْهِ السِّيَاق حَيْثُ تَقول {سماعون للكذب أكالون للسحت} من الرشا وَغَيرهَا وَمن أَكثر مَا يقْتَرن هَذَانِ!

وَمِنْهُم من لَا يقبل قَوْله فِي المنجم لَا فِي الْبَاطِن وَلَا فِي الظَّاهِر لَكِن فِي قلبه حسيكة من ذَلِك وشبهة قَوِيَّة لِثِقَتِهِ بِهِ من جِهَة أَن الشَّرِيعَة لم تلْتَفت إِلَى ذَلِك لَا سِيمَا إِن كَانَ قد عرف شَيْئا من حِسَاب النيرين واجتماع القرصين ومفارقة أَحدهمَا الآخر بعدة دَرَجَات وَسبب الإهلال والإبدار والاستتار والكسوف والخسوف فَأجرى حكم الحاسب الْكَاذِب الْجَاهِل بِالرُّؤْيَةِ هَذَا المجرى.

ثمَّ هَؤُلَاءِ يجيزون من الْحساب وَصُورَة الأفلاك وحركاتها أمرا صَحِيحا قد يعارضهم بعض الْجُهَّال من الْأُمِّيين المنتسبين إِلَى الْإِيمَان أَو إِلَى الْعلم أَيْضا فيراهم قد خالفوا الدّين فِي الْعَمَل بِالْحِسَابِ فِي الرُّؤْيَة أَو فِي اتِّبَاع أَحْكَام النُّجُوم فِي تأثيراتها المحمودة والمذمومة فيراهم لما تعاطوا هَذَا وَهُوَ من الْمُحرمَات فِي الدّين صَار كل مَا يَقُولُونَهُ من هَذَا الضَّرْب حَقًا وَلَا يُمَيّز بَين الْحق الَّذِي دلّ عَلَيْهِ السّمع وَالْعقل وَالْبَاطِل الْمُخَالف للسمع وَالْعقل مَعَ أَن هَذَا أحسن حَالا فِي الدّين من الْقسم الأول لِأَن هَذَا كذب بِشَيْء من الْحق متأولا جَاهِلا من غير تَبْدِيل لبَعض أصُول الْإِسْلَام وَالضَّرْب الأول قد يدْخلُونَ فِي تَبْدِيل الْإِسْلَام فَإنَّا نعلم بالاضطرار من دين الْإِسْلَام أَن الْعَمَل فِي رُؤْيَة هِلَال الصَّوْم أَو الْحَج أَو الْعدة أَو الْإِيلَاء أَو غير ذَلِك من الْأَحْكَام الْمُعَلقَة بالهلال بِخَبَر الحاسب أَنه يرى أَو لَا يرى لَا يجوز والنصوص المستفيضة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بذلك كَثِيرَة وَقد أجمع الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ وَلَا يعرف فِيهِ خلاف قديم أصلا وَلَا خلاف حَدِيث

إِلَّا أَن بعض الْمُتَأَخِّرين من المتفقهة الحادثين بعد المئة الثَّالِثَة زعم أَنه إِذا غم الْهلَال جَازَ للحاسب أَن يعْمل فِي حق نَفسه بِالْحِسَابِ فَإِن كَانَ الْحساب دلّ على الرُّؤْيَة صَامَ وَإِلَّا فَلَا

ص: 57

وَهَذَا القَوْل وَإِن كَانَ مُقَيّدا بالإغمام ومختصا بالحاسب فَهُوَ شَاذ مَسْبُوق بِالْإِجْمَاع على خِلَافه.

فَأَما اتِّبَاع ذَلِك فِي الصحو أَو تَعْلِيق عُمُوم الحكم الْعَام بِهِ فَمَا قَالَه مُسلم.

وَقد يُقَارب هَذَا القَوْل من يَقُول من الإسماعيلية بِالْعدَدِ دون الْهلَال وَبَعْضهمْ يروي عَن جَعْفَر الصَّادِق جدولا يعْمل عَلَيْهِ وهوا لذِي افتراه عَلَيْهِ عبد الله بن مُعَاوِيَة.

وَهَذِه الْأَقْوَال خَارِجَة عَن دين الْإِسْلَام وَقد برأَ الله مِنْهَا جعفرا وَغَيره وَلَا ريب أَن أحدا مَا يُمكنهُ مَعَ ظُهُور دين الْإِسْلَام أَن يظْهر الِاسْتِنَاد إِلَى ذَلِك إِلَّا أَنه قد يكون لَهُ عُمْدَة فِي الْبَاطِن فِي قبُول الشَّهَادَة وردهَا وَقد يكون عِنْده شُبْهَة فِي كَون الشَّرِيعَة تعلم الحكم بِهِ

وَأَنا إِن شَاءَ الله أبين ذَلِك وأوضح مَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة دَلِيلا وتعليلا شرعا وعقلاً.

قَالَ الله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج} فَأخْبر أَنَّهَا مَوَاقِيت للنَّاس وَهَذَا عَام فِي جَمِيع أُمُورهم وَخص الْحَج بِالذكر تمييزا لَهُ وَلِأَن الْحَج تشهده الْمَلَائِكَة وَغَيرهم وَلِأَنَّهُ يكون فِي آخر شهور الْحول فَيكون علما على الْحول كَمَا أَن الْهلَال علم على الشَّهْر، وَلِهَذَا يسمون الْحُلُول حجَّة فَيَقُولُونَ لَهُ سَبْعُونَ حجَّة وأقمنا خمس حجج فَجعل الله الْأَهِلّة مَوَاقِيت للنَّاس فِي الْأَحْكَام الثَّابِتَة بِالشَّرْعِ ابْتِدَاء أَو سَببا من الْعباد وللأحكام الَّتِي تثبت بِشُرُوط العَبْد فَمَا ثَبت من الموقتات

ص: 58

بشرع أَو شَرط فالهلال مِيقَات لَهُ وَهَذَا يدْخل فِيهِ الصّيام وَالْحج وَمُدَّة الْإِيلَاء وَالْعدة وَصَوْم الْكَفَّارَة وَهَذِه الْخَمْسَة فِي الْقُرْآن قَالَ الله تَعَالَى {شهر رَمَضَان الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن} وَقَالَ تَعَالَى {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} وَقَالَ تَعَالَى {للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر} وَقَالَ تَعَالَى {فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين} وَكَذَلِكَ قَوْله {فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر} وَكَذَلِكَ صَوْم النّذر وَغَيره وَكَذَلِكَ الشُّرُوط من الْأَعْمَال الْمُتَعَلّقَة بِالثّمن، وَدين السّلم وَالزَّكَاة والجزية وَالْعقل وَالْخيَار والأيمان وَأجل الصَدَاق ونجوم الْكِتَابَة وَالصُّلْح عَن الْقصاص وَسَائِر مَا يُؤَجل من دين وَعقد وَغَيرهَا.

وَقَالَ تَعَالَى {وَالْقَمَر قدرناه منَازِل حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم} وَقَالَ {هُوَ الَّذِي جعل الشَّمْس ضِيَاء وَالْقَمَر نورا وَقدره منَازِل لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب مَا خلق الله ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ} فَقَوله {لِتَعْلَمُوا} مُتَعَلق وَالله أعلم بقوله {وَقدره} لَا ب {جعل} لِأَن كَون هَذَا ضِيَاء وَهَذَا نورا لَا تَأْثِير لَهُ فِي معرفَة عدد السنين والحساب وَإِنَّمَا يُؤثر فِي ذَلِك انتقالهما من برج إِلَى برج وَلِأَن الشَّمْس لم يعلق لنا بهَا حِسَاب شهر وَلَا سنة وأنما علق ذَلِك بالهلال كَمَا دلّت على تِلْكَ الْآيَة وَلِأَنَّهُ قد قَالَ تَعَالَى {إِن عدَّة الشُّهُور عِنْد الله اثْنَا عشر شهرا فِي كتاب الله يَوْم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض مِنْهَا أَرْبَعَة حرم} فَأخْبر أَن الشُّهُور

ص: 59

مَعْدُودَة اثنى عشر والشهر هلالي بالاضطرار فَعلم أَن كل وَاحِد مِنْهَا مَعْرُوف بالهلال.

وَقد بَلغنِي أَن الشَّرَائِع قبلنَا أَيْضا إِنَّمَا علقت الْأَحْكَام بِالْأَهِلَّةِ وَإِنَّمَا بدل من أتباعهم كَمَا يَفْعَله الْيَهُود فِي اجْتِمَاع القرصين وَفِي جعل بعض أعيادها بِحِسَاب السّنة الشمسية وكما تَفْعَلهُ النَّصَارَى فِي صَومهَا حَيْثُ تراعي الِاجْتِمَاع الْقَرِيب من أول السّنة الشمسية وَتجْعَل سَائِر أعيادها دَائِرَة على السّنة الشمسية بِحَسب الْحَوَادِث الَّتِي كَانَت للمسيح وكما يَفْعَله الصابئة وَالْمَجُوس وَغَيرهم من الْمُشْركين فِي اصْطِلَاحَات لَهُم فَإِن مِنْهُم من يعْتَبر بِالسنةِ الشمسية فَقَط وَلَهُم اصْطِلَاحَات فِي عدد شهورها لِأَنَّهَا وَإِن كَانَت طبيعية فشهودها عددي وضعي. وَمِنْهُم من يعْتَبر القمرية لَكِن يعْتَبر اجْتِمَاع القرصين.

وَمَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة هُوَ أكمل الْأُمُور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الِاضْطِرَاب. وَذَلِكَ أَن الْهلَال أَمر مشهود مرئي بالأبصار وَمن أصح المعلومات مَا شوهد بالأبصار وَلِهَذَا سموهُ هلالا لِأَن هَذِه الْمَادَّة تدل على الظُّهُور وَالْبَيَان إِمَّا سمعا وَإِمَّا بصرا كَمَا يُقَال أهل بِالْعُمْرَةِ وَأهل بالذبيحة لغيره إِذا رفع صَوته وَيُقَال تهلل وَجهه إِذا استنار وأضاء وَقيل إِن أَصله رفع الصَّوْت ثمَّ لما كَانُوا يرفعون أَصْوَاتهم عِنْد رُؤْيَته سموهُ هلالا وَمِنْه قَوْله

(يُهِلّ بالفرقد رُكْبانُها

كَمَا يُهلّ الرَّاكِب الْمُعْتَمِر)

وتهلل الْوَجْه مَأْخُوذ من اسْتِنَارَة الْهلَال.

فالمقصود أَن الْمَوَاقِيت حددت بِأَمْر ظَاهر بَين يشْتَرك فِيهِ النَّاس وَلَا يُشْرك الْهلَال فِي ذَلِك شَيْء فَإِن اجْتِمَاع الشَّمْس وَالْقَمَر الَّذِي هُوَ تحاذيهما الْكَائِن قبل الإهلال أَمر خَفِي لَا يعرف إِلَّا بِحِسَاب ينْفَرد بِهِ بعض النَّاس مَعَ تَعب وتضييغ زمَان كثير واشتغال عَمَّا يَعْنِي النَّاس ومالا بُد مِنْهُ وَرُبمَا وَقع فِيهِ الْغَلَط وَالِاخْتِلَاف.

ص: 60

وَكَذَلِكَ كَون الشَّمْس حاذت البرج الْفُلَانِيّ أَو الْفُلَانِيّ هَذَا أَمر لَا يدْرك بالأبصار وَإِنَّمَا يدْرك بِالْحِسَابِ الْخَفي الْخَاص الْمُشكل الَّذِي قد يغلط وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك بالإحساس تَقْرِيبًا فَإِنَّهُ إِذا انصرم الشتَاء وَدخل الْفَصْل الَّذِي تسميه الْعَرَب الصَّيف ويسميه النَّاس الرّبيع كَانَ وَقت حُصُول الشَّمْس فِي نقطة الِاعْتِدَال الَّذِي هُوَ أول الْحمل وَكَذَلِكَ مثله فِي الخريف فَالَّذِي يدْرك بالإحساس الشتَاء والصيف وَمَا بَينهمَا من الاعتدالين تَقْرِيبًا فَأَما حُصُولهَا فِي برج بعد برج فَلَا يحْسب إِلَّا بِحِسَاب فِيهِ كلفة وشغل غَيره مَعَ قلَّة جدواه.

فَظهر أَنه لَيْسَ للمواقيت حد ظَاهر عَام الْمعرفَة إِلَّا الْهلَال.

وَقد انقسمت عادات الْأُمَم فِي شهرهم وسنتهم الْقِسْمَة الْعَقْلِيَّة وَذَلِكَ أَن كل وَاحِد من الشَّهْر وَالسّنة إِمَّا أَن يَكُونَا عدديين أَو طبيعيين أَو الشَّهْر طبيعيا وَالسّنة عددية أَو بِالْعَكْسِ

فَالَّذِينَ يعدونهما عدديين مثل من يَجْعَل الشَّهْر ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالسّنة اثنى عشر شهرا وَالَّذين يجعلونهما طبيعيين مثل من يَجْعَل الشَّهْر قمريا وَالسّنة شمسية. وَيلْحق فِي آخر الشُّهُور الْأَيَّام المتفاوتة بَين السنتين

فَإِن السّنة القمرية ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعَة وَخَمْسُونَ يَوْمًا وَبَعض يَوْم خمس وَسدس وَإِنَّمَا يُقَال فِيهَا ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ يَوْمًا جبرا للكسر فِي الْعَادة عَادَة الْعَرَب فِي تَكْمِيل مَا ينقص من التَّارِيخ فِي الْيَوْم والشهر والحول.

وَأما الشمسية فثلاثمائة وَخَمْسَة وَسِتُّونَ يَوْمًا وَبَعض يَوْم ربع يَوْم.

وَلِهَذَا كَانَ التَّفَاوُت بَينهمَا أحد عشر يَوْمًا إِلَّا قَلِيلا تكون سنة فِي كل ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة وَثلث سنة وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَلَبِثُوا فِي كهفهم ثَلَاث مائَة سِنِين وازدادوا تسعا} قيل: مَعْنَاهُ ثَلَاثمِائَة سنة شمسية وازدادوا تسعا بِحِسَاب السّنة القمرية.

ومراعاة هذَيْن، عَادَة كثير من الْأُمَم من أهل الْكِتَابَيْنِ بِسَبَب تحريفهم وَأَظنهُ كَانَ عَادَة الْمَجُوس أَيْضا.

ص: 61

وَأما من يَجْعَل السّنة طبيعية والشهر عدديا فَهَذَا حِسَاب الرّوم والسريانيين والقبط وَنَحْوهم من الصابئين وَالْمُشْرِكين مِمَّن يعد شهر كانون وَنَحْوه عدديا وَيعْتَبر السّنة بسير الشَّمْس

فَأَما الْقسم الرَّابِع فبأن يكون الشَّهْر طبيعيا وَالسّنة عددية فَهُوَ سنة الْمُسلمين وَمن وافقهم.

ثمَّ الَّذين يجْعَلُونَ السّنة طبيعية لَا يعتمدون على أَمر ظَاهر كَمَا تقدم بل لَا بُد من الْحساب وَالْعدَد وَكَذَلِكَ الَّذِي يجْعَلُونَ الشَّهْر طبيعيا ويعتمدون على الِاجْتِمَاع لَا بُد فِيهِ عِنْدهم من الْعدَد والحساب ثمَّ مَا يَحْسبُونَهُ أَمر خَفِي ينْفَرد بِهِ الْقَلِيل من النَّاس مَعَ كلفة ومشقة وَتعرض للخطأ

فَالَّذِي جَاءَت بِهِ شريعتنا أكمل كل الْأُمُور لِأَنَّهُ وَقت الشَّهْر بِأَمْر طبيعي ظَاهر عَام يدْرك بالأبصار فَلَا يضل أحد عَن دينه وَلَا يشْغلهُ مراعاته عَن شَيْء من مَصَالِحه وَلَا يدْخل بِسَبَبِهِ فِيمَا لَا يعنيه وَلَا يكون لأحد طَرِيق إِلَى التلبيس فِي دين الله كَمَا يفعل بعض عُلَمَاء أهل الْملَل بمللهم

وَأما الْحول فَلم يكن لَهُ حد ظَاهر فِي السَّمَاء فَكَانَ لَا بُد فِيهِ من الْحساب وَالْعدَد فَكَانَ عدد الشُّهُور الْهِلَالِيَّة أظهر وأعم من أَن يحْسب سير الشَّمْس وَتَكون السّنة مُطَابقَة للشهر وَلِأَن السنين إِذا اجْتمعت فَلَا بُد من عَددهَا فِي عَادَة جَمِيع الْأُمَم إِذْ لَيْسَ للسنين إِذا تعدّدت حد سماوي يعرف بِهِ عَددهَا فَكَانَ عدد الشُّهُور مُوَافقا لعدد الشُّهُور ثمَّ جعلت السّنة اثْنَي عشر شهرا بِعَدَد البروج الَّتِي تكمل بدور الشَّمْس فِيهَا شمسية فَإِذا دَار الْقَمَر فِيهَا كمل دورته السنوية

وَبِهَذَا كُله تبين معنى قَوْله {وَقدره منَازِل لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب} . فَإِن عدد شهور السّنة وَعدد السّنة بعد السّنة إِنَّمَا أَصله تَقْدِير الْقَمَر منَازِل. وَكَذَلِكَ معرفَة الْحساب فَإِن حِسَاب بعض الشَّهْر لما يَقع فِيهِ من الْآجَال وَنَحْوهَا إِنَّمَا يكون بالهلال وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج}

ص: 62

فَظهر بِمَا ذَكرْنَاهُ أَنه بالهلال يكون تَوْقِيت الشَّهْر وَالسّنة وَأَنه لَيْسَ شَيْء يقوم مقَام الْهلَال الْبَتَّةَ لظُهُوره وَظُهُور الْعدَد الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ وتيسر ذَلِك وعمومه وَغير ذَلِك من الْمصَالح الخالية من الْمَفَاسِد.

وَمن عرف مَا دخل على أهل الْكِتَابَيْنِ وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوس وَغَيرهم فِي أعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وَغير ذَلِك من أُمُورهم من الِاضْطِرَاب والحرج وَغير ذَلِك من الْمَفَاسِد ازْدَادَ شكره على نعْمَة الْإِسْلَام مَعَ اتِّفَاقهم أَن الْأَنْبِيَاء لم يشرعوا شَيْئا من ذَلِك وَإِنَّمَا دخل عَلَيْهِم ذَلِك من جِهَة المتفلسفة الصائبة الَّذين دخلُوا فِي ملتهم وشرعوا لَهُم من الدّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله

فَلهَذَا ذكرنَا مَا ذكرنَا حفظا لهَذَا الدّين عَن إِدْخَال المفسدين فَإِن هَذَا مِمَّا يخَاف من تَغْيِيره.

فَإِنَّهُ قد كَانَت الْعَرَب فِي جَاهِلِيَّتهَا قد غيرت مِلَّة إِبْرَاهِيم بالنسيء الَّذِي ابتدعته فزادت بِهِ فِي السّنة شهرا جَعلتهَا كبيسا لأغراض لَهُم وغيروا بِهِ مِيقَات الْحَج وَالْأَشْهر الْحرم حَتَّى كَانُوا يحجون تَارَة فِي الْمحرم وَتارَة فِي صفر حَتَّى يعود الْحَج إِلَى ذِي الْحجَّة حَتَّى بعث الله الْمُقِيم لملة إِبْرَاهِيم فوافي حجه صلى الله عليه وسلم حجَّة الْوَدَاع وَقد اسْتَدَارَ الزَّمَان كَمَا كَانَ وَوَقعت حجَّته فِي ذِي الْحجَّة فَقَالَ فِي خطبَته الْمَشْهُورَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض السّنة اثْنَا عشر شهرا مِنْهَا أَرْبَعَة حرم ثَلَاث مُتَوَالِيَات ذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة وَالْمحرم وَرَجَب مُضر الَّذِي بَين جُمَادَى وَشَعْبَان" (1). وَكَانَ قبل ذَلِك الْحَج لَا يَقع فِي ذِي الْحجَّة حَتَّى حجَّة أبي بكر سنة تسع كَانَت فِي ذِي الْقعدَة وَهَذَا من أَسبَاب تَأْخِير النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْحَج. وَأنزل الله تَعَالَى {إِن عدَّة الشُّهُور عِنْد

(1) رواه الشيخان وغيرهما - ن -.

ص: 63

الله اثْنَا عشر شهرا فِي كتاب الله يَوْم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض مِنْهَا أَرْبَعَة حرم ذَلِك الدّين الْقيم} فَأخْبر الله أَن هَذَا هُوَ الدّين الْقيم ليبين أَن مَا سواهُ من أَمر النسيء وَغَيره من عادات الْأُمَم لَيْسَ قيمًا لما يدْخلهُ من الانحراف وَالِاضْطِرَاب.

وَنَظِير الشَّهْر وَالسّنة الْيَوْم والأسبوع فَإِن الْيَوْم طبيعي من طُلُوع الشَّمْس إِلَى غُرُوبهَا وَأما الْأُسْبُوع فَهُوَ عددي من أجل الْأَيَّام السِّتَّة الَّتِي خلق الله فِيهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش فَوَقع التَّعْدِيل بَين الشَّمْس وَالْقَمَر بِالْيَوْمِ والأسبوع بِسَبَب الشَّمْس والشهر وَالسّنة بِسَبَب الْقَمَر

وَبِهَذَا قد توجه قَوْله {لِتَعْلَمُوا} - إِلَى {جعل} فَيكون جعل الشَّمْس وَالْقَمَر لهَذَا كُله

فَأَما قَوْله تَعَالَى {وَجعل اللَّيْل سكنا وَالشَّمْس وَالْقَمَر حسبانا} فقد قيل هُوَ من الْحساب وَقيل بحسبان كحسبان الرَّمْي وَهُوَ دوران الْفلك فَإِن هَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ فقد دلّ الْكتاب وَالسّنة وَأجْمع عُلَمَاء الْأمة على مثل مَا عَلَيْهِ أهل الْمعرفَة من أهل الْحساب من أَن الأفلاك مستديرة لَا مسطحة

انْتهى الْمَقْصُود من نَقله ثمَّ ذكر فصلا ختم بِهِ رسَالَته من أَرَادَهُ فليراجعه فَإِن فِيهِ فَوَائِد كَثِيرَة.

ص: 64

وَقَوله تَعَالَى {مَا خلق الله ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ} أَي متلبسا بِالْحَقِّ مراعيا فِيهِ مُقْتَضى الْحِكْمَة الْبَالِغَة

وَقَوله {نفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ} إِنَّمَا خصهم لأَنهم المنتفعون بهَا

ثمَّ قَالَ تَعَالَى {إِن فِي اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَمَا خلق الله فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض لآيَات لقوم يَتَّقُونَ} فِي هَذِه الْآيَة تَنْبِيه إجمالي على قدرَة الله تَعَالَى أَي فِي تعاقب اللَّيْل وَالنَّهَار وَكَون كل مِنْهُمَا خلفة للْآخر بِحَسب طُلُوع الشَّمْس وغروبها التَّابِعين عِنْد أَكثر الفلاسفة لحركة الْفلك الْأَعْظَم حول مركزه على خلاف التوالي فَإِنَّهُ يلْزمهَا حَرَكَة سَائِر الأفلاك وَمَا فِيهَا من الْكَوَاكِب مَعَ سُكُون الأَرْض على مَا زَعَمُوا وَهَذَا فِي أَكثر الْمَوَاضِع

وَأما فِي عرض تسعين فَلَا يطلع شَيْء وَلَا يغرب بِتِلْكَ الْحَرَكَة أصلا بل بحركات أُخْرَى وَكَذَا فِيمَا يقرب مِنْهُ قد يَقع طُلُوع وغروب بِغَيْر ذَلِك وَتسَمى تِلْكَ الْحَرَكَة الْحَرَكَة اليومية وَجعلهَا بَعضهم وهم فلاسفة الإفرنج بِتَمَامِهَا للْأَرْض وَجعل آخَرُونَ بَعْضهَا للْأَرْض وَبَعضهَا للفلك الْأَعْظَم

وَالْقُرْآن الْعَظِيم سَاكِت عَن المذهبين وَذَلِكَ من براهين إعجازه

وَالْمَشْهُور عِنْد كثير من الْمُحدثين أَن الشَّمْس نَفسهَا تجْرِي مسخرة بِإِذن الله تَعَالَى فِي بَحر مكفوف فَتَطلع وتغرب حَيْثُ شَاءَ الله وَلَا حَرَكَة للسماء

وَإِلَى مثل ذَلِك ذهب الشَّيْخ مُحي الدّين بن عَرَبِيّ إِمَام صوفية عصره

وَالله المطلع على حقائق الْأُمُور لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَحده لَا شريك لَهُ

ص: 65