المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌سورة آل عمران

‌سُورَة آل عمرَان

فِي هَذِه السُّورَة قَوْله تَعَالَى:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 190، 191]

هَذِه الْآيَة كثيرا مَا يصدر مصنفو علم الْهَيْئَة بهَا كتبهمْ ظنا مِنْهُم أَنَّهَا تنوه بفنهم وتحث على الِاشْتِغَال بِهِ

وللرازي فِي تَفْسِيرهَا كَلَام يُوضح مَا قُلْنَاهُ

وَقَالَ غَيره {إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي فِي اتحادهما وإنشائهما على مَا هما عَلَيْهِ من الْعَجَائِب والبدائع {وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي تعاقبهما ومجيء كل مِنْهُمَا خلف الآخر بِحَسب طُلُوع الشَّمْس وغروبها التَّابِعين لسباحتها فِي بَحر قدرته سُبْحَانَهُ بِحَسب إِرَادَته

وَكَون ذَلِك تَابعا لحركة السَّمَوَات وَسُكُون الأَرْض مُخَالف لما ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور أهل السّنة من الْمُحدثين وَغَيرهم من سُكُون السَّمَاوَات وتحرك النُّجُوم أَنْفسهَا بِتَقْدِير الله تَعَالَى الْعَلِيم وَهُوَ مُوَافق من بعض الْوُجُوه لما ذهب إِلَيْهِ متأخرو الفلاسفة من أَن مَرْكَز السيارات هُوَ الشَّمْس.

ص: 34

وَقَالَ الشَّيْخ مُحي الدّين بن عَرَبِيّ: إِن الله تَعَالَى جعل هَذِه السَّمَاوَات سَاكِنة وَخلق فِيهَا نجوما تسبح بهَا وَجعل لَهَا فِي سباحتها حركات مقدرَة لَا تزيد وَلَا تنقص وَجعلهَا تسير فِي جرم السَّمَاء الَّذِي هُوَ مساحتها فتخرق الْهَوَاء المماس لَهَا فَيحدث بسيرها أصوات ونغمات مطربة لكَون سَيرهَا على وزن مَعْلُوم فَتلك نغمات الأفلاك الْحَادِثَة من قطع الْكَوَاكِب المسافات السماوية.

وَجعل أَصْحَاب علم الْهَيْئَة للأفلاك ترتيبا مُمكنا فِي حكم الْعقل وَجعلُوا الْكَوَاكِب فِيهِ كالشامات على سطح الْجِسْم.

وكل مَا قَالُوهُ يُعْطِيهِ ميزَان حركاتها وَإِن الله تَعَالَى لَو فعل ذَلِك كَمَا ذَكرُوهُ لَكَانَ السّير السّير بِعَيْنِه وَلذَلِك يصيبون فِي علم الكسوفات وَنَحْوه.

وَقَالُوا إِن السَّمَاوَات كالأكر وَإِن الأَرْض فِي جوفها وَذَلِكَ كُله تَرْتِيب وضعي يجوز فِي الْإِمْكَان غَيره وهم مصيبون فِي الأوزان مخطئون فِي أَن الْأَمر كَمَا رتبوه.

قَالَ: فَلَيْسَ الْأَمر إِلَّا على مَا ذَكرْنَاهُ شُهُودًا. انْتهى

وَيُؤَيّد دَعْوَى: أَنه يجوز فِي الْإِمْكَان غَيره مَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَاب الزيج الْجَدِيد من أَن الشَّمْس سَاكِنة لَا تتحرك أصلا وَأَنَّهَا مَرْكَز الْعَالم وَأَن الأَرْض وَكَذَا سَائِر السيارات والثوابت تتحرك عَلَيْهَا وَأَقَامُوا على ذَلِك الْأَدِلَّة والبراهين بزعمهم وبنوا عَلَيْهِ الْكُسُوف والخسوف وَنَحْوهمَا وَلم يتَخَلَّف شَيْء من ذَلِك.

ص: 35

فَهَذَا يشْعر بِأَنَّهُ لَا قطع فِيمَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَاب الْهَيْئَة.

وَيحْتَمل أَن يُرَاد بـ {واخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} تفاوتهما بازدياد كل مِنْهُمَا بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باخْتلَاف حَالَة الشَّمْس بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا قربا وبعدا بِحَسب الْأَزْمِنَة أَو فِي اخْتِلَافهمَا وتفاوتهما بِحَسب الْأَمْكِنَة إِمَّا فِي الطول وَالْقصر فَإِن الْبِلَاد الْقَرِيبَة من قطب الشمَال أَيَّامهَا الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أَيَّام الْبِلَاد الْبَعِيدَة مِنْهُ ولياليها

وَإِمَّا فِي أَنفسهمَا فَإِن كرية الأَرْض تَقْتَضِي أَن يكون بعض الْأَوْقَات فِي بعض الْأَمَاكِن لَيْلًا وَفِي مُقَابِله نَهَارا وَفِي بَعْضهَا صباحا وَفِي بَعْضهَا ظهرا أَو عصرا أَو غير ذَلِك.

وَهَذَا مِمَّا لَا شُبْهَة فِيهِ عِنْد كثير من النَّاس وَلَيْسَ بالبعيد بل اخْتِلَاف الْأَوْقَات فِي الْأَمَاكِن مشَاهد محسوس لَا يخْتَلف فِيهِ اثْنَان.

إِلَّا أَن فِي كرية الأَرْض اخْتِلَافا فقد ذكر الشَّيْخ مُحي الدّين أَن الله تَعَالَى بعد أَن خلق الْفلك المكوكب فِي جَوف الْفلك الأطلس خلق الأَرْض سبع طَبَقَات وَجعل كل أَرض أَصْغَر من الْأُخْرَى ليَكُون على كل أَرض قبَّة سَمَاء فَلَمَّا قدر خلقهَا وَقدر فِيهَا أقواتها واكتسى الْهَوَاء صُورَة البخار الَّذِي هُوَ الدُّخان فتق ذَلِك الدُّخان سبع سماوات طباقا وأجساما شفافة وَجعلهَا على الْأَرْضين كالقباب على كل أَرض سَمَاء أطرافها عَلَيْهَا نصف كرة وكرة الأَرْض لَهَا كالبساط فَهِيَ مدحية دحاها من أجل السَّمَاء أَن تكون عَلَيْهَا،

ص: 36

وَجعل فِي كل سَمَاء من هَذِه وَاحِدَة من الْجَوَارِي على التَّرْتِيب الْمَعْرُوف. انْتهى.

قَالَ الْجدُّ (1) متعقباً: وَالْقلب يمِيل إِلَى الكرية وَالله لَا يستحيي من الْحق

قَالَ وَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّيْخ أَمر شهودي وَفِيه الْمُوَافق والمخالف لما ذهب إِلَيْهِ مُعظم الْمُحدثين وَأكْثر عُلَمَاء الدّين وَالَّذِي قطع بِهِ بعض الْمُحَقِّقين أَنه لم يَجِيء فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المرفوعة مَا يفصل أَمر السَّمَاوَات وَالْأَرْض أتم تَفْصِيل إِذْ لَيست الْمَسْأَلَة من الْمُهِمَّات فِي نظر الشَّارِع صلى الله عليه وسلم والمهم فِي نظره مِنْهَا وَاضح لَا مرية فِيهِ وَسُبْحَان من لَا يتعاصى قدرته شَيْء.

و {اللَّيْل} وَاحِد بِمَعْنى جمع وواحدته لَيْلَة مثل تمر وَتَمْرَة.

وَقَوله سُبْحَانَهُ {لآيَات لأولي الْأَلْبَاب} أَي إِنَّهَا دلالات على وحدانية الله تَعَالَى وَكَمَال علمه وَقدرته وأولو الْأَلْبَاب أَصْحَاب الْعُقُول الْخَالِصَة عَن شوائب الْحس وَالوهم وَوجه دلالات الْمَذْكُورَات على وحدته تَعَالَى أَنَّهَا تدل على وجود الصَّانِع دلَالَة الدُّخان على النَّار لتغيرها المستلزم لحدوثها واستنادها إِلَى مُؤثر قديم

وَمَتى دلّت على ذَلِك لزم مِنْهُ الْوحدَة وَوجه دلالتها على كَمَال علمه وَقدرته أَنَّهَا فِي غَايَة الإتقان وَنِهَايَة الإحكام لمن تَأمل فِيهَا وتفكر فِي ظَاهرهَا وخافيها وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَمَال الْعلم وَالْقُدْرَة كَمَا لَا يخفى.

(1) يعني بالجد - على الأرجح - جده. صاحب تفسير "روح المعاني" وهو أبو الثناء، محمود شهاب الدين الألوسي، عالم العراق في عصره. ولد سنة 1217 هـ، وتوفي سنة 1270 هـ. وله آثار عديدة في اللغة والأدب والفقه والتفسير.

ورده على الأمر الشهودي عند ابن عربي، هو رد على من تبنى هذا في زمننا من الفئة الضالة، التي تنكر المحسوس والملموس، وما اكتشف من العلوم. بدعوى أن الأرض مبسوطة. وهذا مما يضحك عليهم الأطفال.

وما ذكره ابن عربي فلا سند علمي له، لا من العقل ولا من النقل.

ص: 37

وَأما قَوْله تَعَالَى {ويتفكرون فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض رَبنَا مَا خلقت هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فقنا عَذَاب النَّار} فقد فَسرهَا ابْن الْقيم فِي كِتَابه (بَدَائِع الْفَوَائِد) أحسن تَفْسِير وَاسْتدلَّ بهَا على وجود الصَّانِع والنبوات وعَلى الْمعَاد وَالْجنَّة وَالنَّار باستدلال عَجِيب لَيْسَ من مَوْضُوع كتَابنَا هَذَا. فَمن أَرَادَهُ، فَليرْجع إِلَيْهِ.

ص: 38