المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الحلقة الرابعة عشرة يوم عرفة وفضله] - ما يجب أن يعرفه المسلم عن دينه

[عبد الله الخياط]

الفصل: ‌[الحلقة الرابعة عشرة يوم عرفة وفضله]

[الحلقة الرابعة عشرة يوم عرفة وفضله]

الحلقة الرابعة عشرة: يوم عرفة وفضله أيها المسلم المشفق من الذنوب والآثام.

أيها الحاج الراجي للمغفرة والرحمة والرضوان.

إنك اليوم في ساحة الغفران وفي ضيافة ملك الملوك، وحسبك به من رب كريم يعطي الجزيل ويتجاوز عن الذنب العظيم. لبيك يا ربنا لبيك. إن يوم عرفة يوم الغفران، يوم التجليات والنفحات والرضوان، يوم ينزل الرحمن فيه إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف ملائكته ويشهدهم سبحانه بالمغفرة والرحمة لعباده، وتلك هي أعظم ضيافة للحجيج وأعظم جائزة من الرب العظيم قديم الإحسان.

في هذه الساحة الكبرى، ساحة عرفات، تسكب العبرات، وتقال العثرات، ويجبر الكسر، وتمحى

ص: 110

السيئات، فيا لعظيم من أخلص التوبة وأقبل على الله في هذا اليوم ضاجا من الحوبة مستغفرا نادما على التفريط ويا لعظيم من حظي بهذا الموقف فحظي بالغفران والرضوان، إنها سعادة الأبد ليس بعدها شقاوة إلا لمن عاود العصيان، واغتر بحلم الملك الديان.

روى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة، وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء ويقول - أي لملائكته - انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا ضاحين، جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة» .

وفي رواية لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة» .

ص: 111

بدء وقت الوقوف بعرفة: يبدأ وقت الوقوف من الزوال في اليوم التاسع يوم عرفة إلى طلوع فجر اليوم العاشر يوم العيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر مناديا ينادي: الحج عرفة من جاء ليلة جمع - أي ليلة المزدلفة - إلى عرفات قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أي أدرك الحج. وهو، أي الوقوف بعرفة أعظم أركان الحج.

ويجزئ الوقوف في أي جزء من حيث يبتدئ الزوال إلى طلوع فجر يوم العيد، غير أنه لو وقف الحاج بالنهار وجب عليه أن يستمر في وقوفه إلى ما بعد المغرب، اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخروجا من الخلاف، فإن بعض الأئمة رحمهم الله يبطل حج من نفر من عرفة نهارا ولم يعد للوقوف جزءا من الليل.

والمقصود بالوقوف الحضور. فلو حضر الحاج إلى عرفة وقت الوقوف ولو نائما أو مريضا أو كان قاعدا أو مضجعا أو ماشيا صح حجه حتى الحائض والنفساء والجنب.

ص: 112

استحباب الوقوف عند الصخرات: صح «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات أسفل جبل الرحمة وقال: وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف» أي لا يشترط الوقوف عند الصخرات. ففي أي جزء من عرفة وقف الحاج أجزأه، ومن ثم تبدو سماحة الدين وواقعيته ويسره ورفعه الحرج عن هذه الأمة المرحومة، إذ لو كان الوقوف عند الصخرات من شروط الحج لما وسع هذا الحيز عموم الحجيج ولأضحى على الأمة من الحرج والعنت والمشقة ما يعجزهم ويكرثهم. وحتى صعود جبل الرحمة ليس بسنة ولا يترتب عليه فضل أو مزيد من الأجر، ولو تيسر للحاج الاغتسال قبل الوقوف كان أفضل فهو سنة.

ويقف الحاج في عشية عرفة، تلك العشية المباركة متضرعا خاشعا ملبيا مستغفرا داعيا لنفسه ولمن يحب بخيري الدنيا والآخرة.

وليس لعرفة دعاء مخصوص، بل يدعو الحاج بكل ما جال في نفسه ودار في خلده مما يشعر بحاجته إليه

ص: 113

وفيه صلاح حاله ومآله.

ولقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير ما قلت أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» . ووردت أدعية مأثورة لو دعا بها الحاج لكان فيها خير وبركة بالإضافة إلى التلبية والتهليل والاستغفار.

الإفاضة من عرفة: إذا غربت الشمس يوم عرفة أفاض الحجيج إلى مزدلفة في سكينة ووقار لقوله صلى الله عليه وسلم عندما لحظ سرعة الناس في المسير: «أيها الناس عليكم السكينة فإن البر ليس بالإيضاع» أي بالإسراع.

وتستحب التلبية والتكبير والتهليل وذكر الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. فإذا وصل الحاج إلى المزدلفة صلى بها المغرب والعشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين، لا يفصل بينهما بنافلة،

ص: 114

ويبيت بها حتى يصلي الفجر أول وقتها لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى المزدلفة صلى المغرب والعشاء ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر ثم ركب القصواء - أي ناقته - حتى أتى المشعر الحرام، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا، ثم دفع - أي إلى منى - قبل طلوع الشمس» ، أي لم يزل واقفا يدعو الله تعالى ويذكره في موقفه.

وأفضل الوقوف ما كان بجوار المشعر الحرام، وفي أي بقعة وقف الحاج من مزدلفة أجزأه ذلك، فعن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح بجمع، أي بالمزدلفة، أتى قزحا - وهو الجبل الذي في المشعر الحرام - ووقف عليه وقال: " هذا قزح، وهو الموقف وجمع كلها موقف» . أي المراد بالوقوف الحضور. قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]

وللحاج أن يدفع من المزدلفة إلى منى بعد نصف الليل وإن كان من أهل الأعذار، لقول ابن عباس - رضي الله

ص: 115

عنهما -: « (كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى) » متفق عليه، ويلتقط الحاج الحصى من المزدلفة لفعل ابن عمر رضي الله عنهما، ويصح التقاطه من أي مكان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس: هات التقط لي. ولم يعين له الموضع.

وقبل طلوع الشمس يدفع الحاج من المزدلفة قاصدا منى مارا في طريقه بوادي محسر. وهو الوادي الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل الذين قدموا من الحبشة لهدم الكعبة، فكانوا عبرة إلى الأبد، يمر الناس بموضع هلاكهم فيتعظون بمصيرهم، ويسرع قليلا في هذا الوادي بقدر رمية حجر، ثم يسلك الطريق الوسطى التي توصله إلى جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة رافعا يده اليمنى قائلا: الله أكبر، اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا.

ويقطع التلبية إذا شرع في الرمي، ووقت الرمي لجمرة العقبة بعد طلوع الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها ضحى، ورخص للضعفة وذوي الأعذار في الرمي بعد

ص: 116

منتصف ليلة النحر.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الإبل أن يرموا بالليل» . وهكذا كل صاحب عذر يسعه ذلك.

أما مقاس الحصى التي ترمى به الجمار فهو مثل حصى الخذف متوسط الحجم بين حجم حبة الفول والحمص، «لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما التقط له ابن عباس الحصى قال: بأمثال هؤلاء - أي فارموا - وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» .

ذبح الهدي: فإذا فرغ الحاج من رمي جمرة العقبة قصد المنحر ونحر هديه أو ذبحه أو ينيب من ينحره أو يذبحه عنه. وليس للذبح مكان مخصوص بل كل منى منحر غير أن النحر في جهة مخصوصة أضمن للانتفاع بما يذبح، أكلا وتصدقا؛ لئلا يذهب اللحم دون جدوى، وتنبعث منه الروائح الكريهة فتقض مضاجع الحجيج، وذلك ما يتنافى مع حكمة الإسلام في ذبح الهدي أو الضحايا والتوسعة

ص: 117

بها على فقراء الحرم، ويتنافى أيضا مع شرعة الإسلام من النظافة للمسلم فالإسلام دين النظافة.

الحلق أو التقصير: وبعد الفراغ من نحر أو ذبح الهدي يحلق الحاج أو يقصر رأسه والحلق أفضل لما روي أن «النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثا فقال: رحم الله المحلقين» - ويقتصر النساء على التقصير.

وبرمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير يتم للحاج التحلل الأول أو التحلل الأصغر، ويباح له ما كان محظورا عليه بإحرامه من تغطية الرأس ولبس الثياب والطيب وغيرها من المحظورات إلا النساء لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء» .

طواف الإفاضة: ثم يقصد الحاج مكة لطواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج. ثم يصلي ركعتي الطواف خلف المقام. فإن كان مفردا أو قارنا ولم يكن سعى مع طواف القدوم

ص: 118

فعليه أن يسعى بين الصفا والمروة.

وإن كان قد سعى أول قدومه أجزأه سعيه الأول وإن كان متمتعا سعى أيضا، وبطواف الإفاضة يباح للحاج كل محظور حتى النساء.

العودة إلى منى والمبيت بها: ثم يعود إلى منى من يومه، فيبيت بها ليالي أيام التشريق. فإذا زالت الشمس من وسط السماء أي بعد دخول وقت الظهر للأيام الثلاثة، أيام التشريق أخذ في رمي الجمار الثلاث الصغرى والوسطى وجمرة العقبة.

أما الجمرة الصغرى فهي التي تلي مسجد الخيف، ويبدأ بها الرمي فيرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتأخر عنها قليلا ويستقبل القبلة ويدعو الله سبحانه بما أراد. ثم يتقدم إلى الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات ويتأخر ويدعو مستقبلا القبلة. ثم يذهب إلى جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات أيضا وينصرف ولا يقف عندها للدعاء، وكذلك يفعل في الأيام الثلاثة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.

ص: 119

ويصلي الصلوات المكتوبة في أيام منى جماعة قصرا اتباعا للسنة.

فإن تعجل في النفر من منى إلى مكة في اليوم الثاني عشر فلا إثم عليه وإن تأخر إلى اليوم الثالث عشر فهو أفضل وأكمل. قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]

وبانتهاء الحديث عن الركن الخامس من أركان الإسلام أيها المسلم والحاج الذي وفقه الله لأداء فريضة الإسلام وتفضل عليه بزيارة بيته المعظم وشرفه بالوقوف على المشاعر المعظمة. . بانتهاء الحديث عن الحج تنتهي هذه التوجيهات الإسلامية التي كتبتها إليك الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد قياما بواجب النصح والإرشاد، إذ من حق المسلمين عليها ذلك، وتذكيرا بما افترضه الله على العباد من العلم بأصول الدين وقواعده التي لا يعذر الجاهل بها، وعليه أن يجتهد في معرفتها وتعلمها، فهي رأس مال المسلم.

ص: 120

وإذا خسر المرء رأس ماله فقد ضاع منه كل شيء.

نسأل الله أن ينفع بها وأن يتقبل من الحجيج حجهم ويجعله حجا مبرورا إنه أكرم مسؤول، وصلى الله على صفوة الخلق سيدنا محمد نبي الرحمة وعلى آله الطيبين وصحبه البررة الكرام، والحمد لله رب العالمين.

ص: 121