الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدبيات العرب في مجالسهن
للآنسة وداد سكاكيني
وودت لو أن لدي من الوقت ما يسمح لي بالتفرغ لمطالعة ما تناله يدي من الذخائر الأدبية القيمة التي أثقف بها نفسي وتدوين ما يعن لي من خطرات تجيش بها النفس في تلك اللحظات القصيرة التي تنشط فيها العواطف لتقلى وحي الروح والوجدان.
ويؤسفني أن الوقت يمضي سراعاً غير حافل بهذه الرغبة المتواضعة التي أتمناها عليه فأجدني مضطرة أن اختلس منه الفينة بعد الفينة أجزاء قصيرة لأطفاء شهوة النفس وإشباع نهم الفكر، لذلك أعتذر إلى القراء إن رأوني مقصرة في تحليل أجزاء هذا الموضوع الذي يطالعونه ولم يجدوا في بحثه ذلك العمق الذي يتطلبه المقاوم ويطمحون إليه.
قرأت في كتاب بليغ لأحد أساتيذ المحاضرات في جامعة السوربون فصولاً قيمة عن مجالس الأدب والثقافة في فرنسا وكيف كانت تزدهر بقادة الفكر من نساء ورجال على السواء، فرأيت أن أتحدث إلى قراء مجلة الثقافة عن مجال أدبياتنا العربيات في عصور دول العرب الذهبية، وأضع بين أيديهم غيضاً من فيض تلك المحادثات الشائقة والمساجلات الرائعة والمطارحات البارعة التي كانت فضليات النساء تساهم فيها نوابغ الرجال ولعلي أوفق في الآتي إلى معالجة هذا الموضوع كرة أخرى فأبحثه بحثاً مستفيضاً يدعمه الدرس والتحليل والمقارنة.
لقد ذكر هذا الأديب الأجيال التي ازدهرت فيها أندية الأدب في فرنسا وجال في الكلام على نادي المركيزة دورامبويه الذي أنشأه في فاتحة القرن السابع عشر وكان يختلف إليه أكابر أدباء هذا العصر وعلية القواد، مثل الأمير قونديه وريشيليو وروترو وقورنيه والفيلسوف لاروشفوقولد، وكانت مناظرات هذا المجلس ومباحثاته يتناولها التفكير العميق والاستقراء والدرس، ومن رأي أهل هذا المعشر إن للمرأة فضلاً في ما ينحون نحوه من المثل العليا. وإن المحبة الخالصة ليست بغريزة غاشمة جائرة الطباع ثائرة الجماح، وإنما هي عاطفة سامية تلقي على الأنفس والأرواح أشعة ساطعة فتنيرها كلها، وشأن المرأة في الحب أن تكون حصاناً ذات عفة وحياء وإنصاف، وأن يكون الرجل شهماً مخلصاً فيه، وقد نفحت السيدة رامبويه هذا المجلس بروحها العالية فمد ظلاله الوارفة على الأخلاق والطبائع طيلة
القرن السابع عشر.
ثم يمضي مؤلف الكتاب قدماً في تنقيبه وتنقيره عن هذه المجالس. حتى يطوي مسافة العصور، فنسرح الطرف ونملئ الذهن ونثقف الذوق بما في هذا الأدب من بهاءٍ وبهجة ورونق وروعة. وقد ذكر أن مجلس السيدة دالامبير أثر في الأدب وإن المناظرات فيه دارت ما بين نصرة القديم ونصرة الحديث وكان مونتيسكيو وماريفو من نجوم سمائه فلم يكن للأثرة أثر في هذه الجماعة، وقد برز الخامل من بين الحظائر بنبوغه وتفتحت الأعين على رؤى الجمال والبدائع ومهد السبيل لذوي العبقريات من البؤساء والمساكين.
أطلعت على هذا كله ويزيد، فراقني هذا البحث الممتع وقلت لنفسي: إلا ليت أدباءنا يكتبون عن مجالس أدبياتنا في مطاوي الحقب الغابرة، ألم يكن لأدبنا العربي مجالس أشرقت فيها شموس النابغات ولمعت فراقد الأدبيات فكن يجتمعن إلى الأدباء والشعراء ويطربن من مجالستهم في الآداب الرفيعة؟ قلت هذا ولمع في خاطري خيال سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة والولادة بنت المستكفي وكثيرات ملئ بهن أبو الفرج أغانيه.
قال الأصفهاني صاحب الأغاني ناسباً الخبر إلى معمر بن المثنى إن الفرزدق خرج إلى المدينة. فدخل على سكينة بنت الحسين مسلماً فقالت له: يا فرزدق من أشعر الناس؟ قالت أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنيه عزيز
…
علي ومن زيارته لمام
ثم سألته يا فرزدق من أشعر الناس فقال أنا قالت: كلا أشع منك الذي يقول:
إن العيون التي في طرفها حور
…
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهن أضعف خلق الله إنسانا
فقال الفرزدق لك الله تفضلين علي جريراً، فطيبت من نفسه وأعطته جارية لها وقالت يا فرزدق أحتفظ بها فقد آثرتك على نفسي.
وسكينه تعلم ما بين الفرزدق وجرير من مطاعنة الهجاء وسبة الكلام فشاءت التنادر عليه والعبث بشعره ففضلت عليه جريراً.
عاشت سكينة حياة أدب خالص، وكانت المدينة سكناها فأنشأت فيها مجلساً للأدب كان يحضره الأكابر من رجال قريش وتجتمع إليها الشعراء. وحدث أبو الفرج أنه اجتمع في
ضيافتها جرير والفرزدق وكثير وجميل ونصيب وهم حملة لواء الشعر في عصر نبي أمية كله، فمكثوا عندها أياماً لبثوا فيها يتناشدون الأشعار ويروون الأخبار وكانت تسامرهم وتفضل أحدهم على رفقائه وتأخذ عليه بمأخذ من المعاني وعشرات من الألفاظ فقالت للفرزدق كيف تقول؟
فلما استوت رجلاي في الأرض تالتا
…
أحي ترجي أم قتيل تغادره
فقلت أرفعا الأمراس لا يشعروا بنا
…
وأقبلت في إعجاز ليل ابادره
أبادر بوابين قد وكلا بنا
…
وأحمر من ساج تيص مساعده
ماذا حملك على إفشاء سرها وسرك وهلا سترت عليك وعليها، ثم انثنت سكينة إلى جرير وقالت له أأنت القائل؟
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
…
وقت الزيارة وارجعي بسلام
قال نعم، قالت أفلا أخذت بيدها وأنت عفيف وفيك ضعف، ثم ناظرت فيذلك بقية الشعراء، حتى بلغت النوبة جميلاً فأعجبت بقوله:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بوادي القرى إني إذن لسعيد
لكل حديث بينهن بشاشة
…
وكل قتيل عندهن شهيد
ثم أجازت كل واحد من هؤلاء بما يريد
وكانت سكينه تطرب لشعر الشعراء وتحزن لموتهم فلما مات جميل ذكرت بيته:
فيا ليتني أعمى أصم تعودني
…
بثينة لا يخفى عليَّ كلامها
فقالت رحمه الله إنه كان صادقاً في شعره عذرياً في حبه، وإذا اختصم رواة الشعر في عصر سكينة جاؤها لتحكم بينهم وتحسن التفضيل والتعليل، وكان المغنون أيضاً يتبارون في مجلسها بالغناء فتعجب بهم وهي جد طروب، غضة النفس للأنغام فتحشر إليها أصحاب الصوت والتلحين كما فعلت بابن سريج وكان قد نسك وآلى على نفسه أن لا يقول صوتاً فأرسلت إليه خادمها أشعب فأحضره إليها وقضت سمراً غناها به:
وقرت عيني وقد كنت قبلها
…
كثير البكاء مشفقاً من صدوها
وبشرة خود مثل تمثال بيعة
…
تظل النصارى حوله يوم عيدها
وقد أثر مجلس سكينة في الشعراء والأدباء فكان سبيلاً لتنافسهم في التقرب منها وحضور
ناديها وكانوا يجوّدون أشعارهم ويحلقون فيها ويهفهفونها حتى يفوز أحدهم بقولها له: أحسنت وأجدت.
وكانت سكينة تفضل الشاعر عمر بن أبي ربيعة وترفع مكانته بين الشعراء. ففتحت في عبقريته روحاً من الخلود، كما كانت تشجع الأدباء وتكرم الشعراء وتدني مقاعدهم وتقدر أقدارهم، والشعر ريحان، إذا تعهده الجنان بالأرواء والإسقاء أمرع وأزهر وهذه المجالس خير مسعف للشعر وباعث للعبقرية.
ويذكرني ابن أبي ربيعة بابن زيدون ومجلس ولادة بنت المستكفي من خلفاء بني أمية في الأندلس بقرطبة وكان في قرطبة كما يحكي ابن فياض في تاريخه عن أخبارها مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، فما بالك في أنواع الكتابات وتفنن النساء بغيرها من نواحي الأدب والفنون في ذلك العصر العربي المجيد. لقد كانت قرطبة جنة الدنيا في زمانها، وفي إبان ازدهارها وعمرانها. كان يختلف إلى مجلس ولادة الشعراء والعلماء، وكانت هي سافرة فتساجل الشعراء والأدباء وتأخذ على أشعارهم بالمغامز ما بين نثر المترسلين وآداب المتأدبين. فأثر مجلسها في عبقرية رجال الأندلس وكان لها علاقات غرامية مع الوزير ابن زيدون الذي انطلقته بخالد الشعر فرققت ولادة ديباجة كلامه فجاء ساحراً قوياً، وكانت له سيدة بنات أشعاره وقد تعذب في سبيل تفضيلها إياه ورفعها شأنه فحسده الوزير ابن عبدوس وسجنه وشتته وصادر أمواله فقال بولادة قصيدته الخالدة:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
…
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
فابن زيدون لولا مجلس ولادة وهيامه بها لكان أحد الشعراء الذين أبصروا الدنيا ثم رحلوا عنها ولم يبق لهم أي ذكر فيها.
ذكرت كل هذا فرأيت أن أدبنا العربي المنيف مليء بمثل هذه المجالس التي جعل منها الأديب الفرنسي بواعث نهضة أدبه ولم نجعل نحن منها هذه البواعث لأدبنا، وقد تقول طائفة من الشعوبية التي تطعن بالعرب أن ليس لدينا أدب قمين بالذكر والعناية والتقدير، لأنها ثملت بخمرة التمدن الغربي وشغفت بأدب الغرب دون غيره، فتاهت في حكمها، وفاتها أن لنا في أدبنا العربي من الروائع والبدائع ما احتذاه الغربيون في أدبهم حتى جاء جميلاً كاملاً، وقد يكون أدباء الغرب أنفسهم أخذوا طراز هذه المجالس عن العرب، فإذا
كان أول مجلس للأدبيات في فرنسا هو أول القرن السابع عشر أي منذ أربعة عصور فإن مجلس سكينة المتقادم عهده ومجلس ولادة الذي كان في منتصف العصر الرابع الهجري أقدم بكثير من أول مجلس للأدبيات الفرنسيات.
وعلى تطاول الأيام سيترتب أدبنا حتى يتبوأ مراتب الخلود، ما دام أدبنا وأدبياتنا ينقبون في ذخائر أجدادنا وينفحوننا بنفحات عبقريتهم وإلهامهم.
بيروت
وداد السكاكيني