الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب إلى مؤسسي مجلة الثقافة
بقلم الأستاذ غابريل بونور
أرحب من صميم فؤادي بالغاية التي ترمون إليها واصفق استحساناً لها. أن ما استهواكم يستهوي كرام النفوس من الشباب في كل مكان، والجهاد في سبيل الفن والمجد هو المطمح الذي يتطالون إليه ويهيمون به وهم يختارون هذا الجهد بباعث الشهامة وبما يبتغونه من حياة ذات مثل أعلى. أن القضية التي أخذتم على أنفسكم القيام بأعبائها هي من القضايا التي لا يحالفها النجاح إلا إذا كان رائدها العمل بقلب سليم.
فالعمل بقلب سليم هو الأمنية التي نذر لها (شارل بيغي) جهوده وشارل بيغي هو من أولئك الذين كانوا أكثر الناس ألماًَ من جراء الضعة التي شوهت بها صور الحياة العصرية الحديثة ومشاريع العمل فيها، حتى لقد أوشك أن يكون اليوم كل جهد من جهود البشر عصر الهمجية المثقفة، ملوثاً بطابع المال يصر عن المادة ولا يعود إلا إليها. فالمنافع الاقتصادية التي أصبحت لا تخفى عن أحد، هي التي تسير العالم وتخضع لإرادتها آلهة الحرب والسلم المصفدة بالأغلال وتحكم في أقدار الرجال وتستحوذ على أرواحهم وهم لا يشعرون لتخضع ضمائرهم لأغراضها بعد أن استبعدت وسخرت جهودهم في الحياة.
لقد مضى عهد الأرباب والأبطال فمضت معه أمجاد الجماعات العريقة في النبل ومطامح البطولة وقصائد المفاخرة في وصف الوقائع التي كان يوحي بها ما يثور في النفوس من عنجهية. لقد مضى كل ذلك وحل محله ما يتصف به زماننا من احتساب فوائد الأموال وأساليب النسيئة وأصول المضاربة ثم الذهب والصناعة وإيجاد المدهشات من دقائق الأعمال الصناعية الفنية التي تتطلب أن يستقلّ الإنسان بفكرته ويقف في سبيلها كل أيام حياته فيؤدي بذلك ثمناً باهظاً لقاء ما تعود به عليه من رفاه ونعمى. ولقد كان من وراء ذلك أن فوضى زماننا الغاشم المثقل بالضجيج والدخان أقلق نفوس المتسائلين عن مصير الفكر وأحزن قلوبهم فبات من المحال أن ينسب إلى أمة ولوعة بالعظمة طموحة إليها غاية سليمة مخلصة، ولم يبق من يؤمن بمهمة التمدين ولا من يشك في غاية التوسع وبسط النفوذ الاقتصادي لتصدير المنتجات وبيعها ومن هذا نشأ الخلاف الواسع الذي فرق بين الشرق والغرب فكان بيننا حائلاً كثيفاً لا يقل في ثقله عن فولاذ هذا العصر. ليس بين الشرقيين
من يمكنه أن يعتقد اليوم تجرد أوربا عن غاية النفع وليس من شرقي يستطيع متى ضمه مجلس مع غربي أن يحسبه بريئاً من الاشتراك في جشع السيطرة المادية التي تحدو الأمم صاحية القوى الصناعية إلى العمل. وهكذا فإن هذا العهد التعس الذي ظهرت فيه أعراض الحمى أفسد حتى الصلات الشخصية وسرى فساده فلم تسلم منه حتى أواصر الود بين الرفاق.
لقد شعر (ويليفريد سكافن بلونت) بما أوحاه إليه إبداعه الفني حينما كان يجوب منذ خمسين عاماً انقضت أنحاء جزيرة العرب ومصر، أن هذا الخلاف قد استمد أصوله من الأمم الحديثة ومن فوضاها التعسة. وهكذا فقد مشى الفساد إلى كل منحى وأصبح حزننا الذي يجدده كل شيء لا سبب له إلا أننا نعيش في عصر ضربت فيه الفوضى أطنابها وأحاط به القبح حتى ليخيل بأنه قضي الأمر فأصبح من المستحيل العمل بقلب سليم.
لا أذكر أي أخلاقي من الانكليز قال مؤخراً أنه لن يكون السبب في نشوب حرب طروادة جمال هيلانة بل إيجاد الأسواق اللازمة لتصدير منتجات الصناعة ومنسوجات القطن، ولقد وقعت في هذه الأيام وأنا أطالع، على فكرة ل (سانت بوف) تستهوي النفس ولها صلة شديدة بما أبحث فيه: لقد ذكر مؤلف حديث الاثنين بأنه من الممكن أن يظهر في زماننا أعمال عظيمة كاكتشافات غريبة ومشاريع هائلة ولكن ليس في هذا ما يدعو لمجد العصر الذي نعيش فيه. أن المجد هو في نقطة الابتداء وفي الداعي الأول للعمل أي في الفكر. كان الناس في عام 89 لا يحجمون عن أي عمل في سبيل الوطن والبشرية وكانوا في عهد الايمبراطورية يقدمون على كل شيء حباً بالمجد، وعلى هذا الأساس قامت العظمة إذ ذاك أما اليوم فإن النتائج مهما ظهرت ذات شأن قلا تتكون إلا والنفع الاقتصادي محركها والمضاربة المالية ركن من أركانها. هذا هو الطبع الخاص الذي طبع به زماننا، وهو طابع يمثل الحطة التي لا يسلم من وصمتها إلا القليل من أعمال هذا العصر لولا بعض الرجال مثل (مالا رميه) الذي أوحت إليه هذه المظاهر الوضيعة وهذا الجشع المؤسف أن يرسم بعض الخطط التي لم يكن رائده فيها الأطهارة القلب والتجرد عن الغايات. ولا شك أن في ازدياد الفوضى والتحكم بالناس في زماننا جعل الفكر مخدراً بما بقي من حثالة المادة وأن دخان المصانع والمعامل الأسود المتلبد فوق ما هبتنا إياه الطبيعة من جميل مناظرها
لشاهد على البركان الذي يثور والسعير الذي تضطرم نيرانه وأننا نعتقد أن القول الفصل في هذا العراك الذي يمتد لكل جهات الأرض والذي يتوقف عليه مصير كل الشعوب لا يكون إلا للقوة الفكرية، ولكن الفكر لا يكاد يظهر إلا مغلوباً على أمره ف كل مكان، وفي كل مكان ما برح يقوم رجال شرفوا نفساً وأثخنتهم الجراح دون أن يجد اليأس من الحاضر إليهم سبيلا.
إن العمل الذي أرى التمائم تفكُّ عنه في دمشق هو ثأر وأمل. فهنالك نفر من الشبان ضربوا للعمل نطاقاً يغرسون في حدوده أزاهير الحياة الفكرية ذات المثل الأعلى. وفي العالم جهة، سلطان الفكر أقوى منه في كل مكان. وهذه الجهة، هي الشرق. فالفكر بنظر أبناء الشرق لن يبرح المنبع الفياض السامي الذي لن يضيع معه شيء بل يخرج منه كل ما يكتسب. فما شك أحد في الشرق بالفكر وبتلاؤمه مع مناحي الحياة وبانتصاره الأخير المحتم. على هذه العقيدة بنيت الفكرة التي تعتلج في نفوس مؤسسي الثقافة وهذا الذي يحبب إلي رأيهم وعملهم المفعمين بالإخلاص ويجعلني، ولو حسبني بعضهم مغالياً، أكبر شأن هذه المجلة الأدبية الفلسفية التي أسسها كتاب فتيان.
قد يقول من يلقبهم (هانري دي مونترلان) بخنازير المكاسب: إنه لمن الطيش أن يصدر شبان مثل هذه المجلة! فدعهم يهرفوا، أما نحن رواد الفكر فإننا نعتمد على ثروة هي غير رؤوس الأموال التي اعتاد أن يستثمرها أصحاب المصارف فنستدر ما أدخر من النشاط وكرم النفس وذكاء العقل والإخلاص في العمل وشرف الروح والعقيدة الوطنية، تلك الصفات التي تحبب إلي كثيراً الشباب السوريين وتجعلني أشاركه الأمل العظيم الذي يتمثل فيه بين هذا الشعب الناهض.
غابريل بونور