المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحق والواقع بقلم كاظم الداغستاني ما بزغ فجر الحركة العلمية الحديثة في - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ١

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌الحق والواقع بقلم كاظم الداغستاني ما بزغ فجر الحركة العلمية الحديثة في

‌الحق والواقع

بقلم كاظم الداغستاني

ما بزغ فجر الحركة العلمية الحديثة في الشرق العربي حتى نشطت فئة من أبنائه فأقبلت على دراسة العلوم الحقوقية وتفهم ما سنته الأمم، غربية كانت أو شرقية، من شرائع ونظم وقوانين، وزاد في هذا النشاط والإقبال تطور تلك الدراسة وتصنيفها في عداد العلوم لمدرسية الأخرى، فلقد كانت العلوم الحقوقية في جميع أجزاء البلاد العثمانية ومنها بلاد الشرق العربي وفقاً على الشيوخ من رجال الدين والمتفقهين، وكانت الشريعة الدينية والفقه الديني والقضاء الديني المراجع الوحيدة للحكم في جميع القضايا الحقوقية والجزائية والتجارية والإدارية وغيرها من فروع الحقوق، ودام الأمر عل هذا حتى عهد التنظيمات الخيرية التي جرت في زمن خلافة السلطان عبد المجيد سنة 1839 حينما شرع العثمانيون بنقل القوانين عن الغرب وتعديل أكثرها ثم توكيل أمر النظر فيها إلى محاكم نظامية أقاموا ف سنة 1879 عدداً منها في المدن والأمصار. ومن أسبابا انتشار الدروس الحقوقية في الغرب في الشرق العربي أيضاً البعثات العلمية إلى الغرب وما أنشئ من معاهد ومدارس للحقوق في القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد ولقد سرت عدوى دراسة الحقوق سرعاً فكثر الإقبال على هذه الدراسة حتى أوشك أن لا يتناسب مع دراسة العلوم الأخرى. ومما يسترعي انتباه الباحث أن هذه الدراسة كانت في جميع وجوهها مقتصرة على درس الحق دون الواقع ونريد هنا بالواقع ما يحترمه الناس، ويجرون على مقتضاه، ويعملون على الاحتفاظ به دون أن يكون هنالك من القوانين والأنظمة ما يؤيده، ويدخل في هذا الباب طائفة كبيرة من التقاليد والعادات والأنماط التي ما برحت تجري مجرى العرف ولا يجمعها قانون أو يضمها نظام، فيرجع في تفهمها إلى ما عرفه الناس عنها وما حفظوه من أصولها.

قد يتفق الحق مع الواقع فيكون الأمر من الوجهة العلمية كما هو من الوجهة القانونية، ولكن كثيراً ما نجد حكماً من الأحكام أيده الحق ونص عليه، ولكن الواقع يخالفه أو يفرق عنه. ولعل أوضح مثال نضربه على ذلك، تعدد الزوجات، فهو حكم ما برحت تنص عليه وتبيحه شرائع بلاد الشرق العربي، ولكنه في الواقع ندر في المدن الكبرى وقل كثيراً في المدن الصغرى. وكذلك حظ المرآة من الإرث فإن القوانين في جميع بلاد الشرق العربي ما

ص: 70

برحت تنص على أنه نصف حظ الذكر، ولكن في الواقع وعلى الأخص في القرى البعيدة وبعض المدن الصغيرة وعند الأعراب المتحضرين فإن المرآة قا أن تصل إلى نصيبها هذا من الإرث الذي منحها إياه الشرع الإسلامي وحال الواقع بينها وبين الوصول إليه.

ودراسة الواقع لها من الأهمية شأن كبير فيتفهم أمزجة الشعوب وطبائعها وعاداتها وتقاليدها، ويزداد شأنه وتعظم أهميته حينما تعمد الدولة إلى وضع وسن الشرائع وتعديا الأنظمة وجعلها تفي بحاجة البلاد وتفق مع تقاليدها وتؤول إلى نهضتها وتقدمها في معارج المثل العليا التي تطمح إليها.

يرى فريق من علماء الاجتماع المعاصرين وفي مقدمتهم دور كهايم أن أوضاع الحياة في الجماعة البالغة لا يمكن أن تتطور حتى تتبعها القوانين والأنظمة فتتطور معها فهي دائماً مرآتها تنعكس على صورتها فتتحول بتحولها وتتناسب معها حتى لا تكاد تفرق عنها، وهكذا فإن الدارس المتتبع يستطيع أن يستنبط من حقوق الجماعة وقوانينها صور أخلاقها ومبلغ التعاضد الاجتماعي القائم بين أفرادها وما قطعته من مراحل اجتماعية في حياتها الغابرة والحاضرة. وإذا اعترض معترض على هؤلاء العلماء وضرب لهم الأمثلة على أن الواقع كثيراً ما يختلف عن الحق وأن التقاليد والعادات كثيراً ما تبقى قائمة بذاتها دون أن تؤيدها أو تقيدها النظم والشرائع، أجابوا بأن هذه الحال إذا وقعت فهي حال استثنائية أو كما يسموها (مرضية) لا تلبث أن تزول متى عوفيت الجماعة وعادت سيرتها الأولى في طريق تطورها الطبيعي، فالقاعدة العامة في نظرهم هي أن الحقوق وما يتبعها من قوانين ونظم لا تبرح صورة صادقة عن الواقع وما جاء على غير هذه القاعدة فهو من المستثنيات وأن الأصل في الجماعات كما في الأفراد هو الصحة أما المرض فعرض طارئ قد يحل الشفاء محله أو يستعصي فيذهب بحياة المصاب به.

ويرد على رأيهم هذا ما يدلي به آخرون من علماء الأخلاق والحقوق والاجتماع مقدمتهم الأستاذ البيرباييه، وملخص ما يقيمونه من الأدلة على ضعف هذا الرأي أن هنالك مجموعة من الأخلاق والعادات والتقاليد لا يمكن أن تنص عليها القوانين أو تؤيدها الحقوق فليس في قوانين الجزاء مثلاً ما يجبر على عمل الخير وعمل الخير واجب احترمته أمم الأرض وتسابقت في مضماره منذ أقدم الأعصر وليس في قوانين الجزاء أيضاً ما ينص على

ص: 71

عقاب موسر قدير امتنع عن معونة جائع يشرف على الموت على أن في التقاليد والأخلاق ما يستهجن ذلك ويستقبحه، وكذلك شأن تاجر قوي ما برح يضارب خصمه الضعيف ويزاحمه حتى أفقده كل ما لديه من مال وأنزل به من ضائقات العيش ما حداه إلى اليأس القاتل، وإن كثيراً من رجال تعتبرهم الناس جناة آثمين وليس في القانون ما يوجب أخذهم بجريمتهم لأن الشارع لم يعد عملهم جرماً أو خطيئة، وكثيراً ما تحتوي القوانين على أحكام أهمل العمل بها أو حالت التقاليد وما جرى مجرى العادة دون تنفيذها أو العمل بمقتضاها. ومن جملة الأدلة التي يقيمونها أيضاً على بعد الشقة في كثير من الأحوال بين الحق والواقع هذا النقد الذي كثيراً ما يوجهه العلماء والكتاب والشعراء في الكتب والصحف وعلى المسارح إلى بعض الأحكام، فيعرضون طائفة من أمراض اجتماعية أهمل أمرها واضعوا القوانين وصنوفاً من مظالم أخلاقية قصرت النظم الموضوعة في تلافيها، وينددون في بكثير من مناحي القانون، مشيرين إلى عدم مطابقتها للواقع ولما يتفق مع الشفقة والعدل أو لما تتطلبه الأمة من أغراض ومثل عليا في حياتها مما يصح القول معه أن حقيقة الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية في الأمة لا تظهر جلية واضحة في قوانينها بل في كتابة من يعترضون لنقد تلك القوانين وتنفيذها.

وإن كان هذا الفرق بين الحق والواقع لا يبرح ظاهراً حتى في جماعة قدم عهدها في نهضتها وفي تعديل قوانينها وإصلاحها وفي اتساع نطاق تقسيم الأعمال فيها فكيف يكون شأنه في جماعة لم يمض عليها زمن طويل في وضع قوانينها الحديثة وتعديل نظمها القديمة؟ لا شك أنه يكون أكثر ظهوراً وأشد خطراً. ويزداد هذا الفرق خطورة في جماعة اختلفت سكان بلادها في وجوه معاشهم وطراز حياتهم الاجتماعية والاقتصادية فكانوا ومنهم الحضريون سكان الأمصار، ومنهم الفلاحون أبناء الأرياف البعيدة، ومنهم الأعراب المتحضرون الساكنون في البيوت أو في المضارب أو المتنقلين في مشارق البادية ومغاربها. إن الحقوق وجدها في مثل هذه الجماعة لا يمكن أن تؤدي إلا صورة مبهمة تفرق كثيراً عن الواقع فلا تمثل إلا ناحية لا شأن لها من نواحي الحياة فيها. ودرس الواقع في مثل هذه الجماعة هو الأساس النهم في تفهم أوضاعها والوقوف على ما يجب معرفته من أهدافها وما يتطلبه تحقيق الأهداف من نظم وشرائع. ولعل أهم سبب في انصراف

ص: 72

الطلاب والمشتغلين في الحقوق عن درس هذا الواقع ووصف صوره في مختلف أقطار الشرق العربي هو الصعوبة التي يلقاها من يود التعرض لهذه الأبحاث لأن درس الحقوق لا يحتاج لأكثر من الانصباب على ما في بطون الكتب والمؤلفات، أما درس الواقع فهو يحتاج لجمع المواد من مواقعها ودرس الأوضاع في مواطنها وتحقيق ذلك يدعو لأسفار ورحلات في مختلف الأقطار حاضرها وباديها، عامرها وغامرها، والجري في تصنيف هذه المواد ووصفها على الأصول الأتنوغرافية الحديثة التي تتطلب دقة في مراقبة الظواهر الواقعية، والنعمق فيوصف تفاصيلها، وتحديد المواقع التي جمعت منها، والزمن الذي جمعت فيه والجماعات التي عملت بها، مع بيان الفوارق بين مختلف الطبقات في كل جماعة من هذه الجماعات والإلمام بكل ما من شأن أن يوضح هذه الموارد ويؤيد الثقة بصحتها. وهنالك عوائق أخرى من أهمها أن المشتغلين في دراسة الحقوق كثيراً ما تأبى عليهم نفوسهم أن يجمعوا الكثير من هذه التقاليد والعادات والأوهام سواء كانت حضرية أو بدوية، شعبية أو خاصة بطبقة من الطبقات فيعرضونها على أنظار الناس من المواطنين والأجانب، ظناً منهم بأن فيذلك بعض الغضاضة، مع أن أعرق الأمم في الحضارة كالأمة الانكليزية والفرنسية والألمانية لم تخل حتى اليوم من أمثال هذه العادات والأوهام التي انصرف علماؤهم وفقهائهم لجمعها ووضع المؤلفات الكبيرة عنها ومن أشهر هؤلاء المؤلفين في هذا العالم الذي سموه الفولكور البحاثة المعروف السير جيمس فريزر الذي لم يكد يترك خرافة أو عادة من التقاليد والخرافات والأساطير الانكليزية خاصة والأوربية عامة إلا وصفها وأتى على ذكرها.

والشرق العربي، بعد أن وصلت دراسة الحقوق فيه إلى ما وصلت أحوج ما يكون لدراسة الواقع وجمع ما تبعثر في مختلف أقطاره م مختلف التقاليد والعادات والمشترع الذي يتصدى للبحث فيما يجب أن يكون، يتحتم عليه أن يعرف ما هو، ومن العبث أن يتصدى المصلح الاجتماعي لتعديل وضع من الأوضاع الاجتماعية قبل أن يعرف شكل هذا الوضع ويقف على كنه صوره في مختلف أقطار البلاد التي ينتسب إليها، ولقد أتاحت لنا دراسة من هذا النوع، تصدينا لها في سورية خلال سنوات عديدة أن نتأكد بأننا كالكثيرين من زملائنا نجهل الكثير مما يجب أن نعرفه عن الجماعة التي نعيش فيها جهلاً فادحاً قد لا

ص: 73

يتفق مع ما نعرفه عن الجماعات الأخرى الغربية عنا، ولو أراد الباحث أن يرجع إلى ما يتطلبه من مؤلفات في هذا البحث لتعذر عليه الاهتداء إلا إلى نتف مبعثرة في صحف بعض الكتب والمجلات وأكثر مما عالجه المستشرقون ممن انصرفوا لمراقبة هذه الأمور فتفهموها كما أرادوا أو الكتاب والسائحون الغربيون الذين مروا بنا في طريقهم فكان جل ما كتبوه وصفاً روائياً خيالياً لا يتفق مع الحقيقة ولا يصلح للعلم أن يقتبسه أو يستند إليه.

نحن نعرف وقد علمتنا التجارب أن في درس الواقع في مختلف أقطار الشرق العربي صعوبات جمة يحتاج تذليلها الجهد هو أولى بالجماعات منه بالأفراد ولكن هذه الصعوبات يجب أن لا تثنينا عما لا منوحة عنه من إصلاحنا الاجتماعي وإعداد قوانيننا الآتية وتسيير نهضتنا القومية الحديثة في طريقي الحق والواقع معاً.

كاظم الداغستاني

ص: 74