الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصل المقامات
أحاديث ابن دريد
لخليل مردم بك
أسلوب المقامات فن من فنون الإنشاء العربي فتن به كثير من الأدباء والمنشئين نحو عشرة قرون فأصحاب المقامات منذ القرن الرابع إلى القرن الثالث عشر كثيرون حتى أن أدباء الفرس والعبرانيين والسريان ممن ثقفوا اللغة العربية أخذوا بسحر المقامات فأنشأوا بلغاتهم مثلها محاكاة للمقامات العربية.
والمقامة في الإصلاح الأدبي قطعة من النثر يضاف إليه نظم في كثير من الأحيان مبنية على قصة قصيرة خيالية في معناها أو حوادثها ترمي إلى مغزى معين ولها على الغالب وفي الأكثر بطل يدور عليه أهما في القصة من كياسة وبراعة وغرائب ومفاجئات مثل أبي زيد السروجي في مقامات الحريري كما أن لها راوياً يروي تلك القصة وما فيها من أقوال البطل وأفعاله مثل الحارث بن همام في مقامات الحريري أيضاً، كل ذلك بأسلوب مصنوع مسجع غاية في التألق والتزويق يجمع من شوارد اللغة وفصحها وعيون مفرداتها وتراكيبها وأمثالها ونوادرها مقداراً وافراً.
أما معنى المقامة اللغوي وكيف وردت في الشعر الجاهلي وكونها بمعنى الجماعة من الناس والنادي والمقام ثم كيف تطورت في القرن الأول والثاني فصارت تطلق على المجالس التي كان يعقدها خلفاء بني أمية وأوائل خلفاء بني العباس للعباد والزهاد ليسمعوا وعظهم ونصحهم ثم كيف أخذت معنى الخطبة من منظوم ومنثور على سبيل المجاز تسمية الكلام بالموضع الذي قيل فيه وكيف استعملها الجاحظ في كتاب البخلاء ص 218 بقوله:. . . يفيضون في الحديث ويذكرون من الشعر الشاهد والمثل ومن الخبر الأيام والمقامات إلى آخر تلك الأطوار التي مر بها حتى استقر معناه المصطلح عليه، أما هذا فلا يعنيني أمره في هذه المقالة وإنما أريد أن أعالج البحث عن أصل المقامات في معناها الإصلاحي.
أقدم ما ول إلينا من المقامات في المعنى الإصلاحي قسم من مقامات بديع الزمان الهمذاني (358 - 398) فقد قيل أنه أنشأ أربعمائة مقالة لم يبلغنا منها إلا أحدى وخمسون مقالة. وأكثر الناس على أنه أول من ابتكر هذا الفن لأنه لم يصل إلنا أقدم من مقاماته. ولكن ابن
خلكان يقول في وفيات الأعيان ج 1 ص 43 في ترجمة أحمد ابن فارس (329 - 395) أنه وضع المسائل الفقيهة في المقامة الطيبة وهي ماية مسألة وكان له رسائل أنيقة ومسائل في اللغة تغالى بها الفقهاء ومنه اقتبس الحريري صاحب المقامات ذلك الأسلوب وعليه اشتغل بديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات فإذا كان الحريري (446 - 516) اقتبس من ابن فارس فما بالك ببديع الزمان الذي سبق الحريري بنحو قرن والذي هو تلميذ ابن فارس الخاص لازمه حتى استنفذ ما عنده كما يقول الثعالبي في يتيمة الدهر؟ ولكن مقامة ابن فارس مفقودة فلا يمكن المقابلة بينها وبين مقامات البديع.
على أن أبا اسحق الحصري صاحب زهر الآداب المتوفي سنة 488 لا يجعل ابن فارس أول من انشأ المقامات بل يعزوها إلى ابن دريد (223 - 321) ويجعل أحاديثه التي أنشأها هي التي أوحت للبديع إنشاء مقاماته. قال الحصري في زهر الآداب ج 1 ص 235: ولما رأى البديع أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره وأنتجها من معادن فكره وأبداها للأبصار والبصائر وأهداها إلى الأفكار والضمائر في معارض حوشية وألفاظ عنجهية فجاء أكثرها تنبو عن قبوله الطباع ولا ترفع له حجب الأسماع وتوسع فيها إذ صرف ألفاظها ومعانيها وفي وجوه مختلفة وضروب منصرفة عارضه بأربعماية مقامة في الكدية تذوب ظرفاً وتقطر حسناً لا مناسبة بين المقامتين لفظاً ولا معنى عطف مساجلتها ووقف مناقلتها على رجلين سمى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندري وجعلهما يتهاديان الدر ويتنافثان السحر في معان تضحك الحزين وتحرك الرصين وتطالع منها كل طريفة ويوقف منها على كل لطيفة وربما أفرد بعضهما بالحكاية وخض أحدهما بالرواية
فقول الحصري يدل على أنه أطلع على تلك الأحاديث لأنه يصفها ويقارن بينها وبين مقامات البديع ويذكر خصائص كل منهما. وقد نقل هذه الفقرة ياقوت الحموي في معجم الأدباء ج1 ص 98 بترجمة البديع.
ولكن المستشرق الألماني الأستاذ بروكلمن يقطع أمل كل باحث من العثور على تلك الأحاديث إذ يقول في النسخة الانكليزية من دائرة المعارف الإسلامية بمادة مقامة ما معناه: أما كون بديع الزمان أخذ فكرة إنشاء المقامات من الأربعين حديثاً التي وضعها ابن دريد
كما يقول الحصري فلا يمكن الوقوف على مبلغ ذلك من الصحة لأن الأربعين حديثاً مفقودة. فمن الحق أن نعترف للبديع بأنه ابتكر أسلوباً جديداً في الأدب العربي وهذا رأي المستشرقين لأن كل من كتب منهم على المقامات أو على بديع الزمان لم يخرج عنه.
منذ أطلعت على ما قاله الحصري وعلى ما قاله المستشرق الألماني أخذت عن أحاديث ابن دريد ما وصل إلي من كتبه وفي كتب التراجم والأدب وكان في ما عدت إلى قراءته من الكتب أمالي القالي لأن أبا علي القالي (288 - 356) تلميذ ابن دريد يروي عنه في الأمالي كثيراً فألفيت في أجزاء الأمالي الثلاثة أخباراً ونوادر وفوائد وأحاديث كثيرة في اللغة والأدب مروية عن ابن دريد وعثرت من ذلك على احد عشر حديثاً ترجح عندي لدرجة اليقين أنها من الأحاديث الأربعين التي عارضها بديع الزمان لأن أثر التوليد والوضع ظاهر عليها ولأنها كما وصفها الحصري في معارض حوشية وألفاظ عنجهية صرف ألفاظها ومعانيها في وجوه مختلفة وضروب منصرفة وهذا بيان عنها على حسب ورودها في الطبعة الأولى من الأمالي:
1 -
حديث المفاخرة بين طريف بن العاصي والحرث بن ذبيان عند بعض مقاول حمير. ج1 ص 72.
2 -
حديث النسوة اللاتي أشرن على بنت قيل من أقيال حمير بالزواج ووصفن لها محاسن الزواج ج 1 ص 80
3 -
حديث المخاصمة بين سبيع بن الحرث وميثم بم مثوب بمجلس القيل مرثد الخير وخطبته في شأنهما وإصلاحه ذات بينهما ج 1 ص 92
4 -
حديث زبراء الكاهنة تنذر الكاهنة بني رئام من قضاعة بين الشجر وحضر موت ج1 ص 126
5 -
حديث خنافر الحميري مع رئيه شصار ودخوله في الإسلام بارشاد رئيه ج1 ص 133
6 -
حديث مصاد بن مذعور وخروجه في طلب ذود له وما أخبره به الجواري الطوارق بالحصى. ج1 ص143
7 -
حديث بعض مقاول حمير مع ابنيه عمرو وربيعة وما دار بينه وبينهما من المساءلة
حين كبرت سنه ليبلو عقلهما ويعرف مبلغ علمهما. ج1 ص152
8 -
حديث اجتماع عامر بن الظرب وححمة بن رافع عند ملك من ملوك حمير وتساؤلهما عنده. ج2 ص 280
9 -
حديث خروج خمسة نفر من طيء إلى سواد بن قارب ليمتحنوا علمه ج2 ص 292
10 -
حديث ما دار بين المنذر بن النعمان الأكبر وبين عامر بن جوين لما وفد عليه. ذيل الأمالي ص 179
11 -
حديث غسان بن جهضم مع ابنة عمه أم عقبة وكيف تراءى لها في المنام بعد وفاته. ذيل الأمالي ص 205
وها أنا إذا أورد الحديث الثاني مثالاً لبقية الأحاديث لأنه من أسهلها لغة وهو: قال القالي: حدثنا أبو بكر ابن دريد رحمه الله قال أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن أبي الكلبي عن أبيه قال كان قيل من أقيال حمير منع الولد دهراً ثم ولدت له بنت فبنى لها قصراً نيفاً بعيداً عن الناس ووكل بها نساء من بنات الأقيال يخدمنها ويؤدبنها حتى بلغت مبلغ النساء فنشأت أحسن منشأ وأتمه في عقلها وكمالها. فلما مات أبوها ملكها أهل مخلافها فاصطنعت النسوة اللواتي ربينها وأحسنت إليهن وكانت تشاورهن ولا تقطع أمراًَ دونهم فقلن لها يوماً يا بنت الكرام لو تزوجت لتم لك الملك، فقالت وما الزوج فقالت إحداهن: الزوج عز في الشدائد، وف الخطوب مساعد، إن غضبت عطف، وإن مرضت لطف، قالت نعم الشيء هذا فقالت الثانية: الزوج شعاري حين اصرد، ومتكئي حين أرقد، وأنسي حين أفرد. فقالت إن هذا لمن كمال طيب العيش. فقالت الثالثة، الزوج لما عناني كاف، ولما شفني شاف، يكفيني فقط الآلاّف، ريقه كالشهد، وعناقه كالخلد، لا يمل قرانه، ولا يخاف حرانه. فقالت أمهلنني أنظر فيما قلتن فاحتججت عنهن سبعاً ثم دعتهن فقالت: قد نظرت فيما قلتن فوجدتني أملكه رقي، وأبثه باطلي وحقي، فإن كان محمود الخلائق، مأمون البوائق، فقد أدركت بغيتي، وإن كان غير ذلك فقد طالت شقوتي، على أنه لا ينبغي إلا أن يكون كفؤاً كريماً يسود عشيرته، ويرب فصيلته، لا أتقنع به عاراً في حياتي، ولا أرفع به شناراً لقومي بعد وفاتي. فعليكنه فأبغينه وتفرقن في الأحياء فايتكن اثنتي بما أحب فلها أجزل الحباء، وعلي هي الوفاء، فخرجن فيما وجهتهن له وكن بنات مقاول ذوات عقل
ورأي. فجاءتها إحداهن وهي عمرطَّة بنت زرعة بن ذي خنفر فقالت قد أصبت البغية، فقالت صفيه ولا تسميه، فقالت غيث في المحل، ثمال في الأزل، مفيد مبيد، يصلح النائر، وينعش العاثر، ويغمر الندي، ويقتاد الأبي، عرضه وافر، وحسبه باهر، غض الشباب، طاهر الأثواب. قالت ومن هو؟ قالت سبرة بن عوَّال بن شدَّاد ابن الهمال. ثم خلت بالثانية فقالت أصبت من بغيتك شيئاً؟ قالت نعم، قالت صفيه ولا تسميه، قالت مصاص النسب، كريم الحسب، كامل الأدب، غزير العطايا مألوف السجايا، مقتبل الشباب، خصيب الجناب، أمره ماض، وعشيره راض. قالت ومن هو؟ قالت يعلى بن هزال ابن ذي جدن. ثم خلت بالثالثة فقالت ما عندك؟ قالت وجدته كثير الفوائد، عظيم المرافد، يعطي قبل السؤال، وينيل قبل أن يستنال، في العشيرة معظم، وفي الندي مكرم، جم الفواضل، كثير النواقل، بذال أموال، محقق آمال، كثير أعمام وأخوال. قالت ومن هو؟ قالت رواحة بن حمير بن مضحي بن ذي هلاهلة. فاختارت يعلى بن هزال فتزوجته فاحتجبت عن نسائها شهراً ثم برزت لهن فأجزلت لهم الحباء وأعظمت لهن العطاء.
وهذا الحديث كما ترى ينادي على نفسه بأنه موضوع. أما سلسة السند التي أوردها في روايته ورواية بقية الأحاديث على اختلاف في بعض أسماء الرواة فليست غير إتباع للعرف الجاري حينئذ في رواية القصص مثل قصة عنترة المروية عن الأصمعي. لاسيما وابن دريد معروف بالوضع قال الأزهري في مقدمة كتاب التهذيب: ومن ألف في زماننا الكتب فرمي بافتعال العربية وتوليد الألفاظ وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامها أبو بكر محمد بن دريد. معجم الأدباء ج6 ص 486. وقال الأبهري: جلست إلى جنب ابن دريد وهو يحدث ومعه جزء فيه ما قال الأصمعي فكان يقول في واحد حدثنا الرياشي وفي آخر حدثنا أبو حاتم وفي آخر حدثنا ابن أخي الأصمعي عن الأصمعي يقول كما يجيء على قبله. تاريخ بغداد ج2 ص 196.
والقارئ ولا شك يحس الروح التي تجمع بين هذا الحديث وبين مقامة من مقامات بديع الزمان أو الحريري لاسيما في تزويق الأسلوب وجمع المفردات والشوارد، ولئن خلت أحاديث ابن دريد من بطل واحد معين فذلك لأن فن المقامات لم يكن استكمل حدوده بعد فضلاً عن أن وجود البطل لم يطرد في كل المقامات حتى ما أنشئ منها بعد الحريري مثل
مقامات الزمخشري (467 - 538) وكأن الحصري أشار إلى ذلك لما فضل مقامات البديع على أحاديث ابن دريد وذكر من مزاياها بطلها أبا الفتح الإسكندري وراويها عيسى بن هشام فقال: ووقف مناقلتها على رجلين سمى احدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندري
هذا وفي الأمالي أحاديث أخر أملاها ابن دريد لم يترجح عندي حتى الآن إنها من الأحاديث الأربعين الموضوعة إما لقصرها أو لقلة الصنعة في إنشائها أو لخفاء أثر الوضع والتوليد في أسلوبها ومعناها ومبناها وإليك بعضها:
1 -
حديث أوس بن حارثة ونصيحته لأبنه مالك ج1 ص 102
2 -
حديث خطبة الإعرابي في المسجد الحرام ج1 ص 113
3 -
حديث الأعرابي مع ضيفه ج1 ص 117
4 -
حديث ملاقاة يزيد بن شيبان حين خرج حاجاً لرجل من مهرة وانتساب كل لصاحبه ج2 ص 103
5 -
حديث صفة الأسد في مجلس يزيد بن معاوية لأبي زبيد الطائي وجميل ابن معمر العذري والأخطل. ذيل الأمالي ص 183
6 -
حديث الخليل بن أحمد وصديقه مع امرأة من فصحاء العرب وبناتها. ذيل الأمالي ص202
وفي بلوغ الأرب للآلوسي طائفة من الأحاديث التي حدث بها ابن دريد عن الأعراب أكثرها في وصف الغيث يلوح عليها ميسم الوضع أخص بالذكر منها حديثاً لغلامين من الأعراب في وصف الغيث. بلوغ الأرب ج3 ص 353 فليرجع إليه وإلى بقية الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها.
خليل مردم بك