المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأبداع والأتباع بقلم جميل صليبا في سوريا عدد غير قليل من المتعلمين - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ١

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌الأبداع والأتباع بقلم جميل صليبا في سوريا عدد غير قليل من المتعلمين

‌الأبداع والأتباع

بقلم جميل صليبا

في سوريا عدد غير قليل من المتعلمين تلقوا مبادئ الحضارة الحديثة وتغذوا بلبان العلم وتهذبت نفوسهم بالأدب وتوصلوا بعد الملاحظة والتجربة إلى درجة من الثقافة والتفكير قد لا تقل عن مستوى المتعلمين من رجال البلاد الأخرى.

إلا أن ارتقاء الفكر وازدياد المعرفة لا يقتضيان بالضرورة ارتقاءً في الأدب والأخلاق لأن حكم الحال كما يقول الغزالي غير حكم المنطق والمقال. فقد تنمو المدارك العلمية ويتسع الخيال والتفكير ونجمد مع ذلك العواطف وتجف الميول وتنضب ينابيع الرحمة المنسجمة من القلب فليس كل ارتقاء علمي مصحوباً بارتقاء أدبي، وقد تعرف الشيء ولا تعمل به ولا تدرك الواقع ولا تفكر في إصلاحه لأن العلم بما هو لا يقتضي العمل بما يجب أن يكون.

وأكثر الذين ارتقت معارفهم واتسع أفقهم الفكري لا يزالون في إضطراب نفسي وتشويش عملي لأن المثل الأعلى الذي تصوره أعلى من الواقع الذي غرقوا فيه ورغبوا في التخلص منه ولأن الأفق الذي ارتقوا إليه أوسع نطاقاً من البيئة التي ضاقت بأحلامهم.

بحثت مرة بين بعض الشبان من طلبة العلم عن الرجل الذي يرغبون في التشبه به وعن الصفة التي يريدون الانتساب إليها فحصلت على نتائج مختلفة تدل كلها على قلق النفس وفقدان الثقة وضعف الإدارة، فأكثر هؤلاء التلاميذ يريدون أن يكونوا مثل غاندي أو مصطفى كمال أو سعد زغلول أو موسوليني أو نابليون. وأحسن المهن في نظرهم السياسة - كما يقولون - والصحافة والمحاماة والطب والهندسة. ولعلهم لم ينتخبوا هذه المهن الأخيرة إلا حباً بالسياسة فكأن السياسة في أعينهم إله معبود أو لعل خير دليل على قلقهم ترددهم ف انتخاب المهنة وعدم ثقتهم بالمستقبل لأنهم لا يجدون فه إلا شبهات وظلمات فوق ظلمات! ففيهم من يريد أن يكون مثل نابليون، إلا أن المهنة التي ينتخبها هي الطب، ومنهم من يريد أن يكون مثل مصطفى كمال ويريد أن يكون في الوقت نفسه شاعراً. فهنالك تضاد بين الغاية والواسطة وتردد في الإدارة وضعف في الإيمان والثقة.

ولعل للتقليد والإتباع أعظم الأثر في تكوين هذا القلق في نفوس الشبان لأنهم يقلدون

ص: 65

الحضارة الغربية تارة ويتبعون صور الحياة الماضية أخرى فيتشوش عليهم الانتخاب ويختلط الأمر فتفقد أفكارهم اتساقها وتصبح حياتهم العملية عرضة للاضطراب والتبديل السريع.

والتقليد يجعل الإنسان شبيهاً بالآلة، ينقل عن غيره أصول التفكير والعمل من غير أن يكون له فيها حرية الاختيار. وإذا سار المرء زماناً على طريقة الإتباع دون الإبداع ونسج حياته بقواعد النقل لا بأحكام العقل أصابه ركود في الفكر وجمود في العواطف وصار كالآلة يتحرك بغيره لا بنفسه وإذا صار شبيهاً بالآلة خسر صفقته وانحط إلى أدنى درجات الحيوانية. وأي حال هي أشقة من حالة الركود الفكري والجمود النفسي. أفلا يصبح الإنسان فيها خالياً من الذكريات والأفكار والرغائب؟ كأن نفسه قد خلت من التصور وقلبه قد تجرد من العاطفة أو كأن صور الطبيعة المختلفة قد انقلبت إلى صورة واحدة، فلا ابتسام على ثغر الزهر ولا نور في أشعة الشمس ولا أمل في احمرار الشفق! كأن هذه الألوان قد تبدلت وانقلبت إلى لون وائد غامض كما تبدل ألوان الأشياء إذا رسمتها أشعة الشمس. وكأن الفكر قد فقد نوره والعواطف قد أضاعت عذوبتها فانقلبت النفس من حالة الوحي إلى حالة التقليد أو من الحرية إلى التقيد وهي حالة - أعيذك منها - أشبه بالنوم لا بل أشبه بالموت، لأن سكونها كسكون المادة حركتها كحركة الآلة فلا تتخيل ولا تبدع ولا تحلل ولا تركب بل تقلد أفعال غيرها كما تعيد ذرات الهواء حركات الذرات المجاورة فهي كالمادة خاضعة لقانون الاستمرار لا لقانون الإبداع.

وحالة الإتباع هذه على عكس حالة الإبداع، لأن النفس في الاختراع تكون مسرحاً للذكريات والأفكار، فتجري الصور أمام مرآة الشعور كما تجري مياه النهر، وتسق في تعاقبها كما تتسق النقرات الموسيقية. وتصدر المعاني العلمية والصور الفنية عن عوامل الحياة الكامنة وراء حجاب الشعور كما يفتح الزهر أكمه بعد دبيب الحياة في ألياف الشجر. يكون الإنسان في هذه الحالة حديد البصر واسع الخيال، يكشف في كل صورة من صور الوجود عن لون جديد، ويرى في كل مادة حيلة جديدة، كأن لغته لغة الوحي والإلهام لا لغة القياس والبرهان، لا يحتاج لسوى الحدس في الكشف عن الأمور العلمية، ولا يعرف غير الذوق في إدراك الأمور البديعية، يتوجه إلى فضاء الفكر ويعلة في جو المعقولات ولا

ص: 66

يحزن لتبدل الأشياء واختلافها، فالمرئيات والمسموعات والمشمومات كلها ناطقة بما في نفسه، والطبيعة لا تتحرك إلا بما يتحرك به قلبه.

لقد وصف الفلاسفة هذه الحالة وقالوا إنها حالة تتخمر فيها ميول النفس وراء حجاب الشعور فينجس الاختراع على صورة وحي يسنده المخترع إلى قوة مفارقة له مجردة عن إدارته. فالشاعر يعزو وحيه إلى شياطينه والموسيقار، إلى ألهته، ويظن بأنه يكتب بما يمليه عليه غيره، ويخيل إليه أنه متبع في حين أنه مخترع مبتدع. وهذا مخالف تماماً لحالة الإتباع لأن المقلد قد يظن نفسه مبدعاً للأحوال التي ينقلها عن غيره، كالذي يجرفه السيل فيظن أنه مخير في سيره، وهو مسير لا مخير، تقذفه الأمواج ولا يخطر بباله أن يقف لمحة ف وجهها.

على أن المخترع لا يخلو في إبداعه من إتباع المجاري القديمة التي حفرها قبله طائفة المخترعين لأن الهيئة الاجتماعية تؤثر في صور الإبداع كما يؤثر الإقليم في أشكال النبات والحيوان. وللاختراع البديعي أساس اجتماعي كما للاختراع العلمي. لأن الشاعر والموسيقار والعالم والسياسي كلهم يستفيدون من الآثار التي حفظها الماضي في حوض الجماعة المشترك. وهذا ما يمكننا التعبير عنه بقوانا أن الإتباع ضروري للإبداع ولقد قال هنري بروغسون أن إبداع المادة غير ممكن وإن الإبداع لا يكون إلا في الصورة فيمكنك تخليق الأشياء كل يوم بصورة جديدة. ولكن إبداعك لا يعدو التركيب. فأنت إنما تركب صورة جديدة من عناصر قديمة، ولا تتخيل شيئاً إلا على أساس صور المواد المحفوظة في نفسك. نعم إنك قد تتخيل حصاناً مجنحاً ولا وجود للحصان المجنح في الطبيعة إلا أن الحصان والأجنحة كلها موجودة على إنفراد ولولا وجودها لما استطعت أن تتخيل صورة مؤلفة منها. فالإنسان يبدع الصور الذهنية وقد يبدع المعاني والأفكار ولكن هذا الإبداع لا يخرج عن كونه مبيناً عن التجربة. إننا بأحلامنا نضع المثل العليا في السماء، ولكننا إذا رجعنا إلى الحقيقة عرفنا أن هذه المثل العليا منسوجة بخيوط الواقع. أضف إلى ذلك أن للإبداع، فنياً كان أو علمياً، أنماطاً معينة لا يمكن التوصل إليها إلا إذا أطلع المخترع على القواعد والاصطلاحات القديمة. وهذه الاصطلاحات السابقة لا بد للإنسان من اكتسابها حتى تصبح عادة أو طبيعة له، فإذا تعودت وصارت حاضرة في ذهنه أمكنه بعد ذلك أن يضم

ص: 67

بها شيئاً جديداً إلى حظيرة العلم والفن. فالمخترع لا يتقن إبداعه إلا إذا استفاد من الماضي لأن الإتباع ضروري للإبداع كما أن العادة ضرورية للتفكير والحرية.

انظر إلى الطريق الذي يسلكه العالم أو الشاعر أو الروائي في إبداعهم، إنهم يتصورون بالحدس، كما قال (هنري برغسون)، معنى مجرداً بسيطاً وخيالاً عاماً مبهماً يقلبونه بالتدريج إلى شكل حسي وصورة متشخصة. فهم يدركون النهاية قبل البداية، ثم يعودون إلى المبدأ فيفكرون في الواسطة التي يمكن الانتقال بها شيئاً فشيئاً إلى الغاية. وعند ذلك تصبح الغاية المجردة حقيقة متشخصة. فالكاتب الروائي يتصور قبل كل شيء مسألة من المسائل الاجتماعية أو قضية من القضايا، ثم يجمع الحوادث ويصور الواقعات ويصف الأشخاص وصفاً يستطيع به تحقيق الغاية التي يتطلع إليها. فالواقعات التي تخيلها والحوادث التي جمعها مقتبسة من الحياة الاجتماعية، ولولا وجود هذه العناصر لما حصل التركيب. ولله در ابن سينا حين قال إن واجب الوجود لا يهب الصورة للمادة إلا عند استعداد المادة لها. فالإبداع يقتضي إذن تحليل المحسوسات المتشخصة إلى عناصرها البسيطة ضمن مركبات جديدة ولذلك كان لا بد في الإبداع من بقاء الآثار القديمة ضمن الصور الجديدة. وهذا ما يبعث على انتشار الأختراع وارتياح الناس إليه. والناس لا يرتاحون كما قال (ويليم جيمس) إلا إلى القديم ضمن الحديث، ولذلك يقلقون أمام الصور الجديدة التي لم يوآلفوها ويتألمون من الصور القديمة التي أصبحت بالية لا تتفق مع روح العصر.

والسوريون اليوم قلقون لأنهم مترددون بين الماضي والمستقبل، لا يعرفون أية صورة من صور الحياة يتبعون ولا إلى أي قطب من هذين القطبين يتوجهون، فالماضي يهزهم والحياة الجديدة تستفزهم، إلا أن الماضي المحسوس أثقل على كاهلهم من المستقبل المجرد. وهم أبو أو أرادوا سائرون بحكم الضرورة في تيار المدنية الحديثة.

ولعل إبداع صورة صالحة لحياة السوريين الجديدة لا يتم إلا بتحليل هذا الماضي إلى عناصره المقومة. نعم إن البناء في الأمم التي ليس لها ماض أسهل منه في الأمم القديمة ولكن هذه الأخيرة لا تستطيع التجرد من جميع عناصر حياتها السابقة. فالمهندس الذي يبني مدينة جديدة يخططها كما يريد، ولكن المهندس الذي يصلح مدينة قديمة لا يستطيع

ص: 68

إصلاحها إلا بالهدم والبناء معاً. فهو يهدم البيوت القديمة ويستفيد من أوضاعها وأنقاضها في بناء الشوارع الجديدة. يجمع الماضي إلى المستقبل ويضع القديم في الحديث، ولكن الصورة المجردة التي في نفسه هي أصل إبداعه. لأن الفكرة كما قال ابن خلدون أول العمل.

إن أسباب القلق في نفوس الشبان ناشئة عن فقدان المثل الأعلى من نفوسهم وعدم وجود تفكير شخصي حر يجردون به عن إتباع الآثار القديمة وتقليد الأوضاع الغربية تقليداً أعمى. ولو أبدعوا لأنفسهم صورة جديدة لارتاحوا في الارتكاز عليها. . . لولا الإبداع لبقيت البشرية مظلمة كما كانت في العصر الحجري. فالإبداع قد ملأ الحياة الاجتماعية بالصور الدينية والعلمية والفنية. وهي بالنسبة إلى الحياة كالزهر بالنسبة إلى الطبيعة. والتوازن المتحرك خير من التوازن الساكن مع الراحة، لأن الحركة أقرب إلى الحياة والحرية. والمرء في التوازن الساكن يعيش مقلداً على نمط واحد وإذا تحرك كانت حركته ميكانيكية. ولكنه في التوازن المتحرك يجدد نفسه وأفكاره في كل لمحة. وكما تقلب العادة الحرية إلى تقيد والنفس إلى مادة، فكذلك يقلب التوازن الاجتماعي الساكن واجبات الإنسان الحر إلى فرائض اتباعية. فالإبداع دليل على الحرية وهو بالنسبة إلى العقل كالحرية بالنسبة إلى الإدارة وإذا تكامل صار كما قال ابن سينا في أعلى درجات التكوين، إلا أن الإنسان بالرغم منه لا يستطيع التجرد من الماضي وكلما كان الماضي بعيداً كانت تقاليده ثقيلة.

جميل صليبا

ص: 69