الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فريق العلماء وفريق الأدباء
وأيهما السباق
للأمير مصطفى الشهابي
هجم التتر والمغول في الشرق والأسبان في الغرب على الممالك العربية هجوماً عنيفاً طوح الملك واجتاح معظم ما أنتجته قرائح هذه الأمة العظيمة خلال قرون ونام أجدادنا بعد ذلك نوم أهل الكهف فما أفاق أحفادهم إلا في النهضة الأخيرة أيام استيلاء نابليون على مصر أو أيام محمد علي رأس الأسرة المالكة العلوية. وما كادوا يفتحون عيونهم حتى رأوا أوربا قد سبقتهم أشواطاً ورائها قد عدلت كثيراً من أسس العلوم اليونانية والعربية وأضافت إليها مئات أمثالها. وإذا بهم يجدون أنفسهم جهلاء إذا هم اقتصروا على ما كان يعلمه ابن سينا والرازي في الطب وابن البيطار في النبات والدميري في الحيوان وابن وحشية وابن العوام في الزراعة وابن خلدون في الاجتماع والاقتصاد وأخوان الصفا في مجمل العلوم المادية والفلسفية وغيرهم في العلوم السائرة. وما ذلك لأن بضاعة الأجداد الأقدمين كانت حقيرة في تلك الأيام أو هي مما يحقر في أيامنا هذه بل لأن العوم والفنون والآداب كلها تقدمت واتسعت حتى أصبح من المتعذر على الإنسان أن يتقن فرعاً منها طيلة حياته. على حين أن العلماء من أجدادنا كان واحدهم يطمح إلى تعلم العلوم بأسرها وإلى التصنيف فيها جميعاً فكان مثلاً يفخر بأنه صاحب الكتاب الفلاني في الطب والرسالة الفلانية في الفلك والمصنف الفلاني في الزراعة والديوان الفلاني في الشعر بعد الشقة بين هذه العلوم والفنون المختلفة.
ورحنا منذ فجر نهضتنا إلى اليوم نبعث الشبان إلى أوربا يستقون العلم من مناهله كما أخذنا نستعين بعلماء الغرب في مدارسنا حتى كثر سواد المتعلمين وزاد عدد الاختصاصين فهل بلغنا بعد هذا الجهد ما تصبو إليه نفوسنا؟ وما هو مبلغ تقدمنا سواء في العلوم أم في الآداب؟ ففي الطب مثلاً صار لدينا اختصاصيون في مختلف العلوم الطبية يعدون من نطس الأطباء لكنني لم أسمع بأن أحداً منهم أفشى للناس أسباب مرض من الأمراض وأظهر لهم كيفية مداواته بل ما برح البحث الدقيق عن غوامض الجراثيم وفتكها بالأحياء يقوم له علماء أوربا وأميركا واليابان ويتولونه دون غيرهم.
وفي الفنون الزراعية صار لدينا مختبرات وحقول للتجارب لا بأس بها ندرس فيها أمراض الزروع وحشراتها ونجرب أنواع النباتات والحيوانات الزراعية وأصنافها لكننا ما تجاوزنا في كل ذلك حد الدرس. وإذا كان هنالك أصناف نباتية مفيدة أوجدناها كقطن السكالاريدس في مصر أو كان هناك حشرات عرفنا أطوار حياتها كحشرلت القطن والبرتقال وغيرها فالفضل في ذلك يعود إلى الأساتذة الأوربيين في الغالب.
وهكذا حالنا في العلوم السائرة طبيعية كانت أم رياضية أم فلسفية وتلخص بأن كل ما بذلناه ونبذله من الجهود لا يتعدى حد هضم بعض العلوم التي أوجدها الغربيون وبأننا صرنا نتعرف حقائق هذا الكون بأساليب يقينية وطرائق علمية بدلاً من الأساليب والطرائق الغيبية القديمة. لكننا ما برحنا مقصرين عن علماء الغرب في كل أبحاثنا وما برح البحث العلمي الذي غايته كشف المجهول من غوامض هذه الطبيعة شيئاً يأتيه رجال الغرب وحدهم إلا قليلاً.
ويبدو تقصيرنا حتى في تعرف بلادنا واستقصاء أمورها. وقد سابقنا علماء أوربا وأميركا في دارنا فكانوا المجلين في هذا المضمار شأنهم فيغيره زكنا فساكل يأتون في آخر الحلبة. ولنتخذ الشام مثلاً فهو مدين إلى بلانكنهورن ولارته وزموفن في الكشف عن طبقات أرضه وإلى فورسكال وشوينفورت وبوست في درس نباتاته ودرس بعض ألفاظها العربية، وإلى (رو) في بيان معادنه علمياً واقتصادياً وإلى غزول في درس أسماكه ومصايد أنهاره وبحاره، وإلى علماء عديدين في وصف مصانعه وآثاره الخ. . . . ولعل بعض دروس شخصية درسها عدد من بعض رجالنا في دمشق تتناول بعض موضوعات اجتماعية وأخلاقية وزراعية مما سأفرد له بحثاً خاصاً هو كل ما لم يسبقنا الغربيون إليه في هذا الصدد وكأني بهم لو سابقونا في هذه الموضوعات أيضاً لسبقونا ولبذونا لما لهم من الجلد العجيب على تتبع دقائق الأبحاث العلمية.
وإذا انتقلنا من العلوم إلى اللغة العلمية نصطدم بأبحاث لا تحصى ليس لها ألفاظ في لغتنا العربية لأنه من البديهي أن أجدادنا ما فكروا في وضع ألفاظ لعلوم ومخترعات ومصنوعات كانوا بها جاهلين. فماذا فعلنا نحن أما هذا النقص المخيف وهو في الحقيقة نقص لا تزيله سوى جهود علماء يتوفرون عليه في أنحاء العالم العربي تعاضدين متساندين
في مجمع مشترك يضم جهودهم بعضاً إلى بعض. لقد حاول رجالنا في مصر والشام والعراق إيجاد هذا المجمع وإيجاد نواة له فلم يفلحوا. وطاحت الأيام بمجمع السيد توفيق البكري وبنادي حفني ناصيف وبالمجمع الذي أولف خلال الحرب الكبرى في مصر وبمجامع بيروت وبغداد وعمان وكلها ألفت بعد الحرب تلك. ولم يدم سوى المجمع العلمي العربي في دمشق وهو على قلة موارده وضعف وسائله قد قام في هذا الباب بخدمة لا ينكرها إلا كل مكابر فوضع أعضاؤه بضع مئات من الألفاظ العربية أو المعربة لمعان علمية في الزراعة والنبات والحشرات وعلم الطبيعة وغيرها ونشرت تباعاً في مجلته.
وبدت حاجتنا الملحة إلى وضع الألفاظ العلمية الجديدة منذ أوائل القرن التاسع عشر عندما أخذنا نترجم العلوم العصرية أو نؤلف فيها. وكان من المبرزين في ترجمة الكتب العلمية أو ضبط ألفاظها محمد عمر التونسي ومحمد عمران الهراوي. وممن جمعوا بين العلم واللغة العلمية احمد ندي وعلي رياض واحمد حمدي الجراح وغيرهم في مصر وفانديك ويوحنا ورتبات وجورج بوست وبطرس البستاني وبشارة زلزل في الشام. وما قصر المستشرقون في هذا الباب بل ظهر منهم علماء أعلام أضافوا إلى لغتنا عدداً لا يستهان به من الألفاظ العلمية وحددوا مدلول كثير من الألفاظ القديمة المشكوك فيها مثل فريتاغ ولين ودوزي ينفورث وغيرهم.
لكن الجهود التي بذلت في هذا السبيل سواء أكان مصدرها رجالنا أم المستشرقين ليست في الحقيقة سوى عمل ضئيل أننا واقفون حيارة تجاه آلاف من الألفاظ نحتاج إلى وضعها أو إلى أقرارها على الوجه الأمثل. وما برحنا نرقب تأسيس مجمع للغة العربية يتضافر عليه علماؤنا في العالم العربي وفي عالم المستشرقين فيضعون لنا معجماً إفرنجياً عربياً تثبت فيه أهم الألفاظ العلمية مع مقابلها العربي أو المعرب ولعل المجمع الذي صدر مرسوم بتأليفه في مصر خليق بتحقيق هذه الأمنية إذا أحسنت الحكومة المصرية انتقاء أعضائه وأقصت عنه الأهواء السياسية ولم تبخل عليه بالوسائل المادية التي لا غنى عنها في هذا العمل المهم. ولا شك أن نجاح هذا المجمع سيكون مفخرة من مفاخر مصر كما أن إخفاقه سيلبس الذين كانوا علة هذا الإخفاق عاراً وخزياً لا يمحوها كر الأيام والسنين.
هذا في العلم أما في الأدب فقد ظن أدباؤنا أن محاكاة رجالنا الأقدمين في نظمهم ونثرهم هو
كل ما نتطلبه منهم. فالذي دانى بشعره المتنبي وأبا تمام والبحتري وابن الرومي من هم دنوهم بلغ سدرة المنتهي في عالم القريض. والذي قرب بترسله من الجاحظ وابن المقفع وسهل ابن هرون وعمرو بن مسعدة عد من أئمة الأدب وبلغاء الكتاب الذين لا يشق لهم غبار. ولكن الأمر على ما أرى هو اليوم أصعب مما يذهبون إليه. ذلك إن أدب اليوم عند الغربيين خاصة له صور متعددة الأشكال والألوان وله أبواب ما طرقها أجدادنا أو هم قصروا فيها كما قصر فيها أدباؤنا في أيامنا هذه منها الروايات الشعرية والأقاصيص النثرية وصور البيئات الاجتماعية وصور العواطف والمشاعر والنزعات النفسية المختلفة فكل هذا يتطلب معرفة علم النفس والاجتماع والأخلاق ويستلزم ألماماً بكثير من العلوم المادية ومفرداتها العربية حتى تجئ اللوحة الأدبية كاملة غير مشوهة.
ويستنتج من ذلك أن زاد الأديب اليوم غير زاده في الأمس فإذا تمكن أدباؤنا الحاضرون الذين هبتهم الطبيعة بروح أدبية عالية من تغذية نفوس قارئيهم بهذا الزاد في نسج كنسج من ذكرت من أدبائنا الغابرين، عددناهم من المبرزين في صناعتهم وعقنا لهم لواء السبق واعترفنا لهم بهذا الفضل. فأما وهم لم يبلغوا بعد هذه المنزلة وأما والطريق الممتدة أمامهم لا تزال طويلة المدى فهم والعلماء سواسية في التقصير وليس لفريق منهما فضل على الثاني.
مصطفى الشهابي