الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم كل غلام مرتهن بعقيقته
ورد في الحديث عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمَّى ويحلق رأسه)(1)، وفي رواية عند أحمد والنسائي:(كل غلام رهين بعقيقته)(2)، وفي رواية عند الترمذي وابن ماجة:(كل غلام مرتهن بعقيقته)(3)، وقد اختلف العلماء في تفسير ذلك:
1.
قال الخطابي: [قال أحمد: هذا في الشفاعة يريد أنه إن لم يعق عنه فمات طفلاً لم يُشفع في والديه. وقوله رهينة بإثبات الهاء معناه مرهون فعيل بمعنى مفعول والهاء تقع في هذا للمبالغة، يقال فلان كريمة قومه أي محل العقدة الكريمة عندهم]. (4)
وقول أحمد [هذا] روى البيهقي مثله عن عطاء الخراساني حيث روى بسنده عن يحيى بن حمزة قال: [قلت لعطاء الخراساني ما مرتهن بعقيقته؟ قال: يحرم شفاعة ولده]. (5)
2.
وقيل أن المعنى أن العقيقة لازمة لا بد منها فشبه المولود في لزومها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن وقال النوربشتي أي أنه كالشيء المرهون لا يتم الانتفاع به
(1) سبق تخريجه.
(2)
الفتح الرباني 13/ 13، صحيح سنن النسائي 3/ 885.
(3)
صحيح سنن الترمذي 2/ 94، صحيح سنن ابن ماجة 2/ 206.
(4)
معالم السنن 4/ 264 - 265.
(5)
سنن البيهقي 9/ 299.
دون فكه، والنعمة إنما تتم على المنعم عليه بقيامه بالشكر ووظيفته والشكر في هذه النعمة ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أن يعق عن المولود شكراً لله تعالى وطلباً لسلامته. (1)
3.
وقيل أن المعنى أن الغلام مرهون بأذى شعره ويدل على ذلك قوله: (فأميطوا عنه الأذى). (2)
4.
وقيل أنه مرهون بالعقيقة بمعنى أنه لا يسمى ولا يحلق شعره إلا بعد ذبحها (3)، ولم يرتض ابن القيم هذه التفسيرات للحديث وردها وقال: وفيه نظر لا يخفى فإن شفاعة الولد في الوالد ليست بأولى من العكس وكونه والداً له ليس للشفاعة فيه.
وكذا سائر القرابات والأرحام وقد قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، وقال تعالى:(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)، وقال تعالى:(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)، فلا يشفع أحد لأحد يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذنه سبحانه وتعالى في الشفاعة موقوف على عمل المشفوع له من توحيده وإخلاصه. ومن الشافع من قربه عند الله ومنزلته ليست مستحقة بقرابة ولا بنوة ولا أبوة.
وقد قال سيد الشفعاء وواجههم عند الله لعمه وعمته وابنته: (لا أغني عنكم من الله شيئاً) وفي رواية: (لا أملك لكم من الله شيئاً) وقال في شفاعته العظمى لما يسجد
(1) الإحسان 12/ 131 - 132 الهامش، فتح الباري 12/ 12، نيل الأوطار 5/ 150.
(2)
معالم السنن 4/ 265.
(3)
نيل الأوطار 5/ 150.
بين يدي ربه ويشفع: (فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة) فشفاعته في حد محدود يحدهم الله سبحانه له ولا تجاوزهم شفاعته.
فمن اين يقال أن الولد يشفع لوالده فإذا لم يعق عنه حبس عنه الشفاعة له ولا يقال لمن يشفع لغيره أنه مرتهن ولا في اللفظ ما يدل على ذلك والله سبحانه وتعالى يخبر عن ارتهان العبد بكسبه كما قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا) فالمرتهن هو المحبوس إما بفعل منه أو فعل من غيره، وأما من لم يشفع لغيره فلا يقال له مرتهن على الإطلاق، بل المرتهن هو المحبوس عن أمر كان بصدد نيله وحصوله ولا يلزم من ذلك أن يكون بسبب منه بل تحصيل ذلك تارة بفعله وتارة بفعل غيره.
وقد جعل الله سبحانه النسيكة عن الولد سبباً لفك رهانه من الشيطان الذي يعلق به من حين خروجه إلى الدنيا وطعن في خاصرته فكانت العقيقة فداء وتخلصاً له من حبس الشيطان له وسجنه في أسره ومنعه له من سعيه في مصالح آخرته التي إليها معاده فكأنه محبوس لذبح الشيطان له بالسكين التي أعدها لأتباعه وأوليائه وأقسم لربه أنه ليستأصلن ذرية آدم إلا قليلاً منهم فهو بالمرصاد للمولود من حين يخرج إلى الدنيا فحين يخرج يبتدره عدوه ويضمه إليه ويحرص على أن يجعله في قبضته وتحت اسره ومن جملة أوليائه وحزبه فهو أحرص شيء على هذا
…
فكان المولود بصدد هذا الارتهان فشرع الله سبحانه للوالدين أن يفكا رهانه بذبح يكون فداه فإذا لم يذبح عنه بقي مرتهناً به فلهذا قال عليه الصلاة والسلام: (الغلام مرتهن بعقيقته فأريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى) فأمر بإراقة الدم عنه الذي يخلص به من الارتهان، ولو كان الارتهان يتعلق بالأبوين لقال فأريقوا عنكم الدم لتخلص إليكم شفاعة أولادكم. فلما أمرنا بإزالة الأذى الظاهر عنه وإراقة الدم الذي يزيل الأذى
الباطن بارتهانه علم أن ذلك تخليص للمولد من الأذى الباطن والظاهر، والله أعلم بمراده ورسوله. (1)
(1) تحفة المودود ص 57 - 59.