المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (14)

- ‌المحرم - 1329ه

- ‌فاتحة المجلد الرابع عشر

- ‌الاشتراك في المنار

- ‌فتاوى المنار

- ‌جمعية الدعوة والإرشاد

- ‌المقالة الأولى لجريدة العلم

- ‌المقالة الأولى التي كتبتردًّا على جريدة العلم

- ‌نهضة التعليم الإسلامي في سملك دابل

- ‌أعظم رجل في العالم

- ‌اعتصام الفئتين الكبريين من المسلمين

- ‌البابية البهائية

- ‌الماسون في الدولة العثمانية

- ‌صفر - 1329ه

- ‌الذكر بالأسماء المفردة

- ‌أسئلة من الهند

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌أقوال الجرائد

- ‌حال المسلمين والمصلحين

- ‌الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [

- ‌تقرير مرفوع إلى جناب صاحب الدولةالأمير أحمد باشا فؤاد حضرتلري

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع أول - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع الآخر - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌أمير الألاي صادق بك

- ‌المسلمون والقبط(النبذة السادسة)

- ‌اقتراح صاحب المنار على المؤتمر المصري

- ‌كيف خلق الإنسان [*]

- ‌النسائيات [*]

- ‌مذكرة عن أعمالالمبشرين المسيحيين

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌مقدمة مقالات المسلمون والقبط

- ‌جمادى الأولى - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العالم الإسلاميوالاستعمار الأوربي(1)

- ‌آراء أديسونفي مستقبل البشر

- ‌بيان أمير الألاي صادق بك

- ‌شيء من مناقب صادق بك

- ‌بيان هادي باشا الفاروقي

- ‌ألمانيا والعالم الإسلامي

- ‌(المؤتمر المصري)

- ‌اتفاق الدولوالمانع لها من قبول دولتنا فيه

- ‌احتلال فرنسة لمملكة المغرب الأقصى

- ‌جمادى الآخرة - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العالم الإسلاميوالاستعمار الأوربي(2)

- ‌عليكم باللغة العربيةسيدة اللغات

- ‌المؤتمر المصري [*]

- ‌ملكة بهوبال الهندية في إنكلترة [

- ‌بلاغ محمود شوكت باشا

- ‌رأي الأمير صباح الدين

- ‌سياحة السلطانوالاستفادة من منصبه الديني

- ‌جماعة الدعوة والإرشاد

- ‌رجب - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌بحث الاجتهاد والتقليد

- ‌كلمة في السياحة المفيدة

- ‌قانون الجامع الأزهروالمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

- ‌هل للقول من مستمع؟وهل للداعي من مجيب

- ‌ حضرموت

- ‌الدعاء للسلاطينفي الخطب وحكمه شرعًا

- ‌الإلحاد في المدارس العلمانية [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌فقيد مصرمصطفى رياض باشا(2)

- ‌جمعية الاتحادومشروع العلم والإرشاد

- ‌شعبان - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌علم الفلك والقرآن

- ‌فصل في بيان دقائقالمسائل العلمية الفلكية

- ‌كلمات علمية عربيةأسوقها إلى المترجمين والمعربين [1]

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌فقيد مصرمصطفى رياض باشا(3)

- ‌مشروع المنتدى الأدبي في التعليم العربي

- ‌الحريق في الآستانة

- ‌استدراك [

- ‌مخاطبات المنار

- ‌رمضان - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌كلمات علمية عربيةأسوقها إلى المترجمين والمعربين [*](2)

- ‌ملحق بقانون الجامع الأزهروالمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

- ‌الكوليرا [*]

- ‌الإسعافات الطبية الوقتيةللمصابين بالكوليرا

- ‌أرباب الأقلام في بلاد الشامومشروع الأصفر

- ‌شوال - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌بحث الاجتهاد والتقليد

- ‌المسألة الشرقية [*]

- ‌حالة المسلمين في جاوه والإصلاح

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌رد المنار

- ‌نظام مدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌ذو القعدة - 1329ه

- ‌العلوم والفنونالتي تدرس في دار الدعوة والإرشاد

- ‌فتاوى المنار

- ‌المسألة الشرقية

- ‌مقدمات الحربفي طرابلس الغرب

- ‌عِبَرُ الحرب في طرابلس الغرب

- ‌ذو الحجة - 1329ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌مناظرة عالم مسلملدعاة البروتستانت في بغداد

- ‌المسألة الشرقية

- ‌منشورات إيطالية الخداعية

- ‌إعانة أمير أفغانستان وكبراء قومهلأهل طرابلس الغرب

- ‌عريضة الشكرمن العثمانيين المستخدمين في أفغانستان إلى أميرها

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌كتابٌ رصيفٌ ورأيٌ حصيفٌفي المساعدة على الحرب بطرابلس الغرب

- ‌الخطر الأكبر على بلاد العربوالرأي في تلافيه

- ‌الانتقاد على المنار

الفصل: ‌صفر - 1329ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الرابع عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، ولك الأمر من قبل ومن بعد، تخرج الحي

من الميت، وتخرج الميت من الحي، وتخلق الضعف من القوة وتخلق القوة من

الضعف، وتجعل العلم من الجهل، وتجعل الجهل من العلم، وتنصر الحق على

الباطل ولا تنصر الباطل على الحق، فللحق السلطان الأعلى ما وجد من يقوم به،

وإنما بقاء الباطل في نوم الحق عنه، وقد قلت وقولك الحق {إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ} (هود: 45) .

أحمدك اللهم وأصلي وأسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، النبي

الأمي الذي بعثته في الأميين، فزكّاهم بالتأديب والتربية الفضلى وعلّمهم الكتاب

والحكمة العليا، فكانوا بتربيته سادة العالمين، وبتعليمه أئمة العالمين، فاستجبت

فيه دعوة أبيه إبراهيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ

وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) .

أحمدك اللهم وأسألك الرحمة والرضوان، والبركة والإحسان، لآل نبيك

الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين، الذين ابتلوا في سبيلك فثبتوا وصدقوا

وأوذوا لاتباع دينك فصابروا وصبروا، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم فهاجروا

وهجروا، الذين عاهدوا فوفوا وآووا ونصروا، ولمن اتبعهم بإحسان، على هداية

السنة والقرآن، أولئك هم الصالحون المصلحون، والعاملون المخلصون (9:

101) {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ

رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً

ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم} (التوبة: 100) .

أحمدُك اللهم وأسألك أن تهدينا صراطهم المستقيم، وتقينا كما وقيتهم من كيد

الشيطان الرجيم، وتعيذنا كما أعذتهم من شر الوسواس، الذي يوسوس في صدور

الناس، من الجنة والناس، من شياطين الجن المستترين، وشياطين الإنس

الظاهرين، الذين يقعدون بكل صراط يوعدون، ويصدون عن سبيل الله من آمن

ويبتغونها عوجًا، الذين قطعوا حبل الرابطة التي آخيت بها بين المسلمين، ففرقوا

بينهم في الجنس والوطن ومذاهب الدين، فقالوا عربي وتركي، ومصري وغير

مصري، وسني وشيعي، وأنت قلت وقولك الحق: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً

وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ

إِخْوَاناَ} (آل عمران: 103) إلي قولك الحكيم: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا

وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:

105) .

اللهم، إنهم قد تفرقوا عن حقك، وفرقوا بين من جمعتهم بالتوحيد من خلقك،

واتبعوا سنن من قبلهم، في أيام فسادهم وجهلهم، وقد عادوا أولئك المتفرقون إلي

الاتحاد ولم يعودوا، وتابوا عن التعادي والخصام ولم يتوبوا، فغيرت ما بهم، لما

غيروا ما بأنفسهم، تصديقًا لكتابك، وإنفاذًا لسنتك، غيرت تلك النعمة التي أنعمت

بها على سلفهم من الملك الواسع، والعز السابغ والمال الوافر، وأدلت الدولة

لسواهم، وجعلتهم في حكمهم ورزقهم عالة عليهم، ولا تزال بلادهم تنتقص من

أطرافها، ويتغلغل نفوذ الأجانب في أحشائها، وقد أتى عليهم حين من الدهر

يسمعون نذر الزوال من كتاب الوحي ولا يزدجرون، ويشاهدون عبر النكال في

كتاب الكون ولا يعتبرون، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر: 49) ،

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) .

اللهم، إنك تعلم أن ما حل بالمسلمين بتركهم الاعتصام بكتابك، وإعراضهم

عن سنتك في خلقك، قد جعله الناس شبهة على كتابك الحكيم، ووسيلة للطعن في

دينك القويم، وما ظلمتهم ولكن كانوا هم الظالمين، والقرآن هو حجتك عليهم

أجمعين، أمرهم بالاتحاد والاعتصام فتفرقوا، ونهاهم عن الاختلاف فيه فاختلفوا، ولا

يزالون مختلفين، إلا من رحمتهم من المقربين {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ

الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14)) ومن أصحاب اليمين، {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ *

وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 39-40) .

اللهم، إنك لم تذر المؤمنين الأولين على ما كانوا عليه، ولا تدع المسلمين

على ما انتهوا إليه، بل مزت وتميز الخبيث من الطيب، وزيلت وتزيل بين المفسد والمصلح، ووفقت من شئت لنشر دعوة التوحيد والاعتصام، بين جميع

الشعوب والأقوام، اللهم، فانصرهم وهم حزبك على أحزاب الشيطان، المفرقين

بين المسلمين في المذاهب أو العناصر أو اللغات أو الأوطان، وقهم اللهم فتن السياسة

وشرور زعمائها محبي الرياسة، الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ولقد

جاءهم من ربهم الهدى، ولكنهم آثروا عليه الشهوة والهوى، فيناضل فارسهم بسهام

البهتان، ولا بالدليل والبرهان، وينافح بالنميمة وقول الزور، ويدل بالمخيلة

والدعوى والعجب والغرور، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا

كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (الحج: 8) ، {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العُمْيَ وَمَن كَانَ فِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الزخرف: 40) .

أحمدك اللهم عودًا على بدء؛ أن وفقتني لتأييد المصلحين، والدعوة إلي

الاتحاد والائتلاف بين المسلمين، فقد تم بفضلك وتوفيقك للمنار ثلاثة عشر عامًا،

يدعو إلي ذلك بدليلَيْ النقل والعقل، والأساليب المتنوعة من القول الفصل،

وأضرع إليك أن توفقني على رأس العام الرابع عشر في السعي إليه بالفعل، وأن

تظهر هذا الدين في الآخرين، كما أظهرته في الأولين، فقد بدا غريبًا، وعاد كما

بدا في غربته، فأتم اللهم التشبيه باستتباع ذلك لظهوره وقوته، وانصر دعاته

الصادقين، على عداته المنافقين، الذين يلبسون لباسه ويجهلون حقيقته، فيجنون

عليه ما لا يجني المنكرون له، حتى صدق عليهم ما قلته في المتفرقين قبلهم

{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ} (الحشر: 2) {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً

وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ

أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (الحشر 14: 15) .

اللهم، إنك تعلم أن من هؤلاء المفرقين من أعماه الحسد وحب الظهور،

ومنهم من أصمه الكبر والغرور، ومنهم من أفسده الفسق والفجور، ومنهم من أبعده

الكفر بك، والصدود عن هداية رسلك، فهم أمشاج مختلفون في عقائدهم وأخلاقهم

الباطنة، مختلفون في عاداتهم وأعمالهم الظاهرة، لا يجمع بين قادتهم إلا حب المال

والجاه في الحياة، والطمع في نصب التماثيل والصور لهم بعد الممات، وتلك

عاقبة الذبذبة، فيما ابتليت به هذه الأمة من اختلاف التعليم والتربية، نال الأجانب

من نفوسهم ما يشتهون، وهم لا يشعرون، فهم لهم خادمون، ويحسبون أنهم هم

المقاومون، أولئك هم المفرقون، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يفرقون

بين أعضاء الأمة، ويحللون العناصر التي يتركب منها جسم الدولة، أولئك هم

الأخسرون أعمالاً، والرابحون أقوالاً وأموالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا،

وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت

تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16) .

اللهم، قد ضاق ذرع المصلحين، بهؤلاء المفسدين المفرقين، كلما داووا

جرحًا سالت جروح، وكلما رتقوا فتقًا ظهرت لهم فتوق، وكثرت الدعوة بالباطل،

واختلط الحابل بالنابل، وظهر في جو السياسة العارض الممطر، واضطربت

القلوب من موعد الصبح المسفر، يومئذ تظهر عاقبة الذين يعملون في السر، ضد

ما يقولون ويدعون في الجهر، ويتبرأ أهل الجنوب من شياطينهم أهل الشمال؛ إذا

ظهر ما يضمرون لما بقي للإسلام من سلطان وشبه سلطان، بإغراء أولئك الذين

قضوا على سلطة غيره من الأديان، ويومئذ يعلم المغرورون من نوكى المسلمين،

أنهم كانوا فاتنين مفتونين، ( {إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ} (الصافات: 106) ،

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) .

تطلعت رءوس الفتن، واشتعلت نارها في ألبانية فحوران فاليمن، يخرب

المسلمون بيوتهم بأيدهم، ويقتلون أنفسهم بسيوفهم، ويمهدون السبل للطامعين فيهم،

فيكفونهم أمر الحرب، وبذل المال وسفك الدم، أهلك أهل الحضارة والترف منهم

حب الشهوات، وأهلك أهل الخشونة والتقشف الجهلُ بالفنون والصناعات، وقد

أفسد الرؤساء من الفريقين حب الرياسة، وما يتبعها من فتن السياسة (أعوذ بالله

من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من

كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها

السياسة، وكل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس

ويسوس، وسائس ومسوس) [1] فالسياسة مسار الفتن، ومصدر الإفك والكذب،

ومورد السعاية والمحل، وناهيك بسياسة أهل الضعف، في مثل هذا العصر،

الذين فقدوا كل شيء، ويدعي الواحد منهم كل شيء، ويجرد من لا يتبع أهواءهم

من كل شيء، يلبسون الحق بالباطل، وينصرون من يتبع أهواءهم من مظلوم أو

ظالم، يؤيدون المفسدين والمجرمين، ويتجرمون على البرآء الصالحين، {قُل لَاّ

تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 25) ، {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا

ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ} (سبأ: 26) .

يا أيها المفتون المغرور، المختال في ثوبين من الزور، اعلم أنه ليس في

طاقة أحد أن يتقن كل عمل، فيكون رئيسًا أو زعيمًا في السياسة، والعلم والدين

والأدب والكتابة والخطابة، والأمور الاجتماعية والمالية، وكل ما تحتاج إليه الأمة

لتكون من الأمم الحية، فعليك إن كنت من الصادقين أن تتقن عملاً ما، ثم تكون

عونًا وظهيرًا للعاملين، ويا أيها المفتون بالقوة، ادخر قوتك للقاء خصمك الأقوياء،

ولا تضعفها بالبغي على إخوانك الضعفاء، فرب جهاد في غير عدو، ورب

ضعة في حب العلو، ورب باغ على نفسه، وهو يحسب أنه ينتقم من خصمه،

والبغي مصرعه وخيم، {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا

السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ

أَلِيمٌ} (الشورى: 41-42) .

يا أهل القرآن، أقيموا القرآن، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان،

قد غلبتم على ما فرطتم فيه من حقكم، فنزا على مصالحكم الملاحدة والفاسقون من

قومكم، وكانوا هم المنافذ والكوى لدخول سلطان الأجانب في أرضكم، تركتم لهم

دنياكم فطمعوا في دينكم، يريدون إطفاء نوره والإحاطة بوليه ونصيره، فأفيقوا من

نومكم، واتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وانشروا دعوة الإسلام، واجعلوا أمامكم

القرآن، فهو حبل الله الممدود بين أهل الإيمان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا

تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا

تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) .

هذا ما يذكِّر به المنار قراءه المصطفين الأخيار، على رأس عامه الرابع عشر،

كما هي سنته في فاتحة كل سنة، وإنها لتذكرة للخاصة، بحسب حالة الإصلاح

العامة، ويدعوهم كما يدعو جميع العلماء الذين يطلعون عليه، إلى الكتابة إليه بما

يرونه منتفدًا فيه، مؤيدًا بالدليل والبرهان، لا بقول فلان ورأي فلان، فإنما المنار

صحيفة جميع المسلمين، لا صحيفة طائفة واحدة من المقلدين، فهو يدعوهم إلى

الاجتماع على ما اتفقوا عليه، وأن لا يتعادوا فيما اختلفوا فيه، بل يردوه إلى الله

والرسول، فهو خير عمل وأحسن تأويل، {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) .

...

...

...

منشئ المنار ومحرره

...

...

...

محمد رشيد رضا الحسيني

_________

(1)

هذه الاستعاذة للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاشتراك في المنار

(1)

جرى العرف في أقطارنا كلها بأن المشترك في صحيفة مؤقتة؛

كالجرائد والمجلات، اشتراكه مسانهة، كلما جاءت سنة كان مشتركًا فيها، ما لم

يؤذن صاحب الصحيفة قبل دخول السنة الجديدة أو في أولها بقطع الاشتراك.

وعملاً بهذا العرف، ترسل المنار إلى المشتركين في العام الماضي، فمَنْ قَبِلَ هذا

الجزء الأول كان مشتركًا إلى آخر هذه السنة، ووجب عليه أن يؤدي قيمة

الاشتراك كاملة وإن بدا له في أثناء السنة قطع الاشتراك وجعله نصف سنة، فمن

لم يرض بهذا الشرط، فليرد إلينا هذا الجزء.

(2)

من أحب ابتداء الاشتراك في المنار هذا العام، فعليه أن يرسل القيمة

سلفًا مع طلب، وهي مبينة على غلاف كل جزء.

(3)

إذا لم يصل بعض الأجزاء إلى المشترك، فالإدارة ترسله إليه إذا

طلبه بعد موعد وصوله إليه بشهر واحد، فإن طلبه بعد ذلك أو طلب بدلاً عما

أضاعه من الأجزاء، فعليه أن يرسل ثمن ما يطلبه، وثمن الجزء بمصر ستة

قروش، وفي الخارج فرنك ونصف.

_________

ص: 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من سومطرا

(س1-3) لصاحب الإمضاء في فيلمبغ (سومطرا) .

إلى حضرة الأستاذ الأكبر مرشد الأنام، ومشيد دعائم الإسلام، السيد محمد

رشيد رضا. بعد التحية والإكرام؛ بناءً على واسع حلمكم، ووافر علمكم، أتجاسر

على أن أقدم لحضرتكم بعض المسائل الدينية التي أعيانا حلها، وقد أصبحت اليوم

بطرفنا من الوقائع الحالية، مؤملاً من حميد شيمكم أن تجيبونا عنها على صفحات

مناركم المنير، ولشدة مسيس الحاجة إلى الجواب نلح على سماحتكم في المبادرة به،

فالناس لجنابكم منتظرون، ولكم من الله جزيل الأجر، ومنا جميل الشكر، وهي

هذه:

(1)

ما قولكم - لا برحتم نورًا للمبتدئين، وحسامًا مصلتًا على رقاب الملحدين

- في جبانة ببلادنا تدفن فيها أموات المسلمين، وقد اشتدت في هذه الأيام إليها حاجة

الحكومة؛ لجعلها رصيفًا على البحر لوقوف البواخر؛ بسبب لياقتها لذلك وقربها من

الميناء، وقد أضحى من المتعذر هنا وجود غيرها من الأراضي التي تجدر بأن تكون

رصيفًا، وقد أعلنت الحكومة قصدها هذا، وطلبت من المسلمين من غير إجبار أن

ينبشوا موتاهم، وينقلوهم إلى مكان آخر؛ ليتسنى لها بحث الأرض المطلوبة

وتسويتها؟ ولا برحت تكرر الطلب مع الإعلان بعدم الإكراه، فهل يجوز للمسلمين -

والحالة هذه - نبش موتاهم نظراً للمصلحة العمومية أم لا؟ فإن قلتم لا، فهل يحصل

الجواز لو فرضنا وجود الإكراه والإجبار من الحكومة أم لا يحصل؟ تفضلوا

سادتي بادروا بالجواب.

(2)

وما قولكم لا زال مناركم شجًا في حلوق الدجالين، وشبًا ترتعد منه

فرائص المحتالين، في خضاب اللحية أو حلقها، هل ورد في السنة المنيفة نص

يصرح بتحريم ذلك، فإن قلتم: لا، فهل وقع الإجماع على التحريم، وما هو

الحكم فيما لم يَنُص الكتاب والسنة على تحريمه، ولا انعقد عليه الإجماع، وهل

للقياس مدخل في هذا الباب؟ أفيدونا مأجورين.

(3)

وما قولكم - حفظكم الله وأبقاكم - في ضمانة الحياة، هل يجوز في

شرعنا الشريف الجنوح إليها؟ وما الدليل على عدم الجواز لو فرضنا قولكم به؟

فإن سبق لكم في هذا كلام في المنار أو غيره، فالمأمول من فضلكم عدم إحالتنا

عليه، والمكرر يحلو، جزاكم الله عن هذه الأمة خيرًا، آمين.

...

...

... السيد جعفر بن شيخ السقاف

(ج1 نبش المقابر وجعلها للمصلحة العامة)

المشهور في كتب الفقه أن المقابر المسبلة يحرم البناء فيها، سواء كان المبني

قبة أم بيتًا أم مسجدًا ويجب هدمه، قال ابن حجر الهيتمي: حتى قبة إمامنا الشافعي

التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين

الرفع للإمام. وقال: إنه لا يجوز زرع شيء فيها؛ لأنه لا يجوز الانتفاع بها بغير

الدفن.

قال الشمس الرملي: وقد أفتى جماعة من العلماء بهدم ما بني فيها، ويظهر

حمله على ما إذا عرف حاله في الوضع، فإن جهل ترك حملاً على وضعه بحق،

كما في الكنائس التي نقر أهل الذمة عليها في بلدنا، وجهلنا حالها، وكما في

البناء الموجود على حافة الأنهار والشوارع، وصرح في المجموع بحرمة البناء

في المسبلة، قال الأذرعي: ويقرب إلحاق الموات بها؛ لأن فيه تضييقًا على

المسلمين بما لا مصلحة ولا غرض شرعي فيه بخلاف الإحياء ا. هـ وتأمل تقييده

الحرمة بالتضييق بما لا مصلحة فيه، وهل يعمل بمفهومه من أنه إذا كانت هناك مصلحة عامة وامتنع التضييق باستبدال تلك المقبرة بغيرها فإنه يجوز.

وأما نبش القبور، فإن كان قبل البلى حرم إلا لضرورة وعد الفقهاء منها

الدفن بغير غسل، أو في أرض مغصوبة، أو ثياب مغصوبة، أو لغير القبلة أو

وقع في القبر مال، وغير ذلك، قال الرملي في النهاية أما بعد البلى عند من مر

(أي أهل الخبرة بتلك الأرض) فلا يحرم النبش، بل تحرم عمارته وتسوية ترابه

عليه، إذا كان في مقبرة مسبلة؛ لامتناع الناس من الدفن فيه لظنهم عدم البلى.

وقال الشعراني في الميزان الكبرى: (واتفقوا على أنه لا يجوز حفر قبر

الميت؛ ليدفن عنده آخر إلا إذا مضى على الميت زمن يبلى في مثله ويصير رميمًا،

فيجوز حينئذ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: إذا مضى على الميت حول،

فازرعوا الموضع اهـ.

والشافعية صرحوا بمنع زراعة المقبرة المسبلة والموقوفة، كالبناء عليها

وتشريف القبور فيها؛ لأن ذلك يمنع من الانتفاع.

وفي كتاب (كشف القناع عن متن الإقناع) من كتب الحنابلة المعتبرة؛ أن

البناء على القبر مكروه، وفي المسبلة أشد كراهة، وعن الإمام أحمد منعه في وقف

عام، ثم قال ما نصه: وإذا صار (الميت) رميمًا جازت الزراعة وحرثه (أي

موضع الدفن) وغير ذلك؛ كالبناء عليه، قاله أبو المعالي. والمراد (أي بقول أبي

المعالي) : تجوز الزراعة والحرث ونحوهما إذا صار رميمًا (إذا لم يخالف شرط

الواقف لتعيينه الجهة) بأن عين الأرض للدفن، فلا يجوز حرثها ولا غرسها. اهـ.

المراد منه، ثم ذكر جواز نبش قبور المشركين؛ ليتخذ مكانها مسجدًا؛ لأن موضع

مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان مقبرة لهم؛ فاشترى الأرض، وأمر بنبشها

وجعلها مسجدا، وكذا إذا كان فيها مال. وعبر في المنتهى من كتبهم بقوله: (ويباح

نبش قبر حربي لمصلحة أو لمال فيه) .

هذا ما رأيت أن أورده من كلام الفقهاء، والمذاهب فيه متقاربة، ولا أذكر

نصًا صريحًا عندهم في الواقعة، وقد رأيت ما ذكره بعضهم من المصلحة،

وجمهورهم على أن المقبرة الموقوفة أو المسبلة ليس لأحد أن يتصرف فيها بغير

الدفن، حتى إنهم منعوا أن يحفر الإنسان فيها قبرًا لنفسه أو لغيره من الأحياء؛

ليدفن فيه عند الموت، ومن الفقهاء من يرى أنه يجوز التصرف في الوقف

بالاستبدال، وبما هو أقرب إلى مقصد الواقف، والتصرف في المسبلة أهون،

وروي عن الإمام أحمد جواز استبدال مسجد بمسجد للمصلحة، واحتج بأن عمر

أبدل مسجد الكوفة القديم بآخر، وصار الأول سوقًا، وجوز أن يباع ويبنى بثمنه

غيره للمصلحة، ولو في مكان أو بلد آخر.

أما الكتاب فلا ذكر فيه لهذه المسألة، والسنة كذلك، إلا أنه ورد فيها مما

يتعلق بالمسألة حديث بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في مكان كان مقبرة،

وتقدمت الإشارة إلى ذلك في كلام الفقهاء، وحديث جابر عند البخاري والنسائي

قال: (دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة.

قال بعض العلماء: وفيه دليل على أنه يجوز نبش الميت لأمر يتعلق بالحي،

أي على رأي من يعد فعل الصحابي حجة، وهو خلاف ما عليه الجمهور، ولو

كان لهم عناية بالاحتجاج لهذه المسألة، لقالوا: إن هذا العمل مما لا يخفى، وقد

أقره الصحابة عليه، فكان إجماعًا، وكم قالوا مثل ذلك.

والذي أراه أن هذه المسألة كسائر المسائل التي لا نص فيها عن الشارع ترد

إلى أولي الأمر من المسلمين، وهم رءوس الناس وأصحاب العلم والمكانة فيهم،

فيتشاورون فيها، ويقررون ما يرون فيه المصلحة للمسلمين، فإذا رأوا المصلحة

في استبدال مقبرة أخرى بها استبدلوا، ولهم أن ينقلوا حينئذ رمم الموتى ويدفنوها

في المقبرة الجديدة، وإلا فلا. وأما إذا أكرهتهم الحكومة على ذلك، فالأمر ظاهر

أنهم يكونون معذورين.

(ج 2 خضاب اللحية وحلقها)

أما خضاب اللحية وكذا غيرها فهو مستحب، وقد ثبت في الأحاديث

الصحيحة الأمر به؛ كحديث أبي هريرة في الصحيحين: (إن اليهود والنصارى لا

يصبغون فخالفوهم) وهناك أحاديث أخرى، وفيها تصريح بالخضاب بالحمرة

والصفرة والحناء والكتم وهو - بالتحريك - نبات بالبادية خضابه أصفر، وإذا مزج

بالحناء جاء لون الشعر بين السواد والحمرة. وخضب النبي صلى لله عليه وسلم كما

صححه النووي والحسن والحسين وكثير من كبراء الصحابة، وكره بعض

العلماء الخضاب؛ لما ورد من وصف الشيب بالنور، وقال بعضهم: يتبع عادة

بلده؛ لأن هذه المسألة من العادات لا من العبادات، ولكن آداب السلف أعلى،

فينبغي إيثارها.

قال علي القاري في الشمائل: ثم إن القائلين باستحباب الخضاب، اختلفوا

في أنه يجوز الخضب بالسواد والأفضل بالحمرة والصفرة، فذهب أكثر العلماء إلى

كراهة الخضاب بالسواد، وجنح النووي إلى أنها كراهية تحريم، وأن من

العلماء من رخص فيه للجهاد ولم يرخص في غيره، واستحبوا الخضاب بالحمرة

أو الصفرة؛ لحديث جابر قال: أتي بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

يوم فتح مكة، ورأسه كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

غيروا هذا، واجتنبوا السواد أخرجه مسلم ثم قال: والثغامة بضم المثلثة وتخفيف

المعجمة نبات شديد البياض زهره وثمره، ولحديث أبي ذر رفعه (إن أحسن ما

غيرتم به الشيب الحناء والكتم) أخرجه الأربعة وأحمد وابن حبان وصححه

الترمذي، وتقدم أن الصبغ بهما يخرج بين السواد والحمرة. اهـ.

أقول: حديث مسلم في أبي قحافة رواه أحمد من حديث أنس بلفظ (ولا

تقربوا السواد) ، وزاد في الفردوس يعني أبا قحافة، فالنهي في الحديث خاص به،

والسواد للشيخ الهرم يستقبح. وفي الباب حديث ابن عمر عن الطبراني والحاكم

(الصفرة خضاب المؤمن والحمرة خضاب المسلم والسواد خضاب الكافر) .

والحديث منكر كما قال الحافظ الذهبي، وقال الهيتمي: فيه من لم أعرفه. وحديث

ابن عباس عند أبي داود والنسائي (سيكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا

السواد كحواصل الحمام لا يجدون رائحة الجنة) ، زعم العراقي أن إسناده جيد،

ولكن قال ملا علي القاري: في إسناده مقال، ولو كان مما يحتج به لجزموا

بالتحريم، وحديث أبي الدرداء (من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة)

قال علي القاري: إسناده لين اهـ. والصواب أن ضعفه أشد من ذلك، ولا يصح

في هذه الحنيفة السمحة، مثل هذا الوعيد فيما لا ضرر فيه في دين ولا نفس ولا

عرض ولا عقل ولا مال، وهي الكليات الخمس للمحرمات في الإسلام. على أن

هذه الأحاديث الضعيفة معارضة بمثلها، وبما هو أقوى كحديث الأمر المطلق

بالصبغ في الصحيح، وحديث صهيب عند ابن ماجه (إن أحسن ما اختضبتم به

لهذا السواد، أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم) ؛ ولأجل

التعليل الثاني، قال بعض العلماء: إن كراهة الخضاب بالسواد، تنتفي بنية الجهاد

أي: لمن هو من أهله، وحملوا على ذلك ما روي عن بعض السلف من

الاختضاب به، ومنهم ابن عمر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وما ورد

من تعليل كراهة السواد؛ لكونه كان من عادة الكفار، يفيد زوال الكراهية بانتفاء

اختصاصهم بذلك، وتتجه الكراهية الشديدة بل التحريم إذا كان في الخضاب غش

محرم.

وأما حلق اللحية فهو مكروه، فإن من آداب السنة قص الشارب وإعفاء اللحية،

وفي ذلك عدة أحاديث في الصحيحين والسنن، وقد علل ذلك فيها؛ بمخالفة

المشركين والمجوس واليهود والنصارى، وذلك أن الأمم تتميز بآدابها وعاداتها

وأزيائها، وإنما يتشبه الضعيف بالقوي، والواطئ بالعلي، وقد يفضي إسراف

الضعيف في التقليد والتشبه إلى ضياع استقلاله، وتمكين من يتشبه بهم ويقلدهم من

التصرف بجميع أمره، فلا يقولن قائل: إن هذا من أمور العادات لا من أمور الدين،

وقد فقه حكمته وفائدته للمتبعين، وأشهر الأحاديث في ذلك حديث ابن عمر

مرفوعًا (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفروا اللحى) رواه الشيخان، وإذا

زال الاختصاص زال معنى التمايز، وقد صار بعض المسلمين يعفي لحيته تشبهًا

بالإفرنج. وأما سؤال السائل في هذا المقام عن العمل؛ بما لم يرد فيه كتاب ولا

سنة ولا إجماع، فقد أشرنا إلى جوابه بالإجمال في الجواب الأول، ويراه مفصلاً

في تفسير هذا الجزء من المنار وما قبله.

(ج 3 ضمان الحياة)

لم يذكر السائل كيفية هذا الضمان ولا عقده، والمشهور أن هذا عن العقود

التي تشبه الميسر (القمار) ؛ في كون الذي يعطي المال لشركة الضمان، لا

يعطيها إياه في مقابلة عمل تعمله له أو منفعة تسديها إليه، وإنما يرجو بذلك أن

تأخذ ورثته منها أكثر مما أعطى إن هو مات قبل المدة المعينة، وجمهور الفقهاء

يصرحون بأن مثل هذا العقد باطل ومحرم؛ لما فيه من إضاعة المال الواجب

حفظه، وعدم بذله إلا فيما فيه منفعة دينية أو دنيوية معلومة أو مظنونة، وليست

كل العقود التي يحكم الفقهاء ببطلانها محرمة دينيًا فإنهم قد يشترطون شروطًا

اجتهادية، لا يحكم قاضيهم ولا ينفذ أميرهم الحكم إلا إذا تحققت في العقد، وإلا لم

يكن في ترك الشرط منها مخالفة لأمر الله ورسوله، وقد صرح بعض الفقهاء بحل

جميع العقود والشروط التي يتعاقد الناس عليها، ويشترطونها إذا لم تكن مخالفة

للكتاب والسنة الصحيحة، وهذا هو الصواب. وقد ذكرناه في المنار غير مرة،

وربما نفصل القول فيه في وقت آخر تفصيلاً.

_________

ص: 29

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية الدعوة والإرشاد

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ

عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) .

أشهد الله وملائكته والصالحين من عباده؛ بأنني سعيت إلى إنفاذ مشروع

الدعوة والإرشاد في القسطنطينية، وأنا أعتقد اعتقادًا راسخًا لا زلزال فيه ولا

اضطراب؛ أنه أنفع ما يخدم به دين الإسلام في نفسه، وأنه أقرب الطرق لارتقاء

المسلمين في دينهم ودنياهم، وأن البلاد العثمانية ستكون هي التي تجني بواكر

ثمراته، وأن سيكون من هذه الثمرات ائتلاف الشعوب العثمانية وتعاونها على

ترقية البلاد في العلوم والآداب والثروة والعمران، وشدة الاتحاد بالدولة، ومنع

الفتن والثورات الداخلية؛ لأن المرشدين للعامة إذا كانوا من العلماء الأتقياء الخطباء،

يكون تأثيرهم أقوى من كل تأثير.

سعيت إلى إنفاذ المشروع هناك، فرأيت جميع العقلاء، حتى من غير

المسلمين متفقين على نفعه وفائدته، وكونه لا يحل محله سواه، حتى إن جريدة

صباح ولاتوركي أثنتا عليه وهما لغير المسلمين، ولكن تصدى لمقاومته رجلان من

المسلمين أحدهما من رجال الحكومة وجمعية الاتحاد والترقي والآخر من المبعوثين

قاوماه في الباطن، وهما يدعيان المساعدة عليه في الظاهر. فأما رجل الحكومة

والجمعية فلا أصرح باسمه الآن، ويعرفه جميع أعضاء جمعية العلم والإرشاد التي

أسسناها هناك، وأكثر أهل البصيرة في الآستانة من العلماء وغيرهم. وأما

المبعوث فهو عبيد الله أفندي مبعوث أزمير، وصاحب الجريدة المسماة بالعرب.

أقمت في الآستانة سنة كاملة كما علم قراء المنار، ومعظم أعمالي في مصر

معطلة، ثم عدت ولا زال يبلغني من بعض أصحاب الشأن في حكومتها أنهم

يريدون تنفيذ المشروع الذي وافقوا عليه فيها، وعن غيرهم أنهم لا يريدون ذلك،

وهذا ما حملني على السعي لتنفيذه هنا بأوسع وأكمل مما وافقوني عليه هناك.

لا يختلف اثنان في أن أول ما يبدأ به في مثل هذا العمل هو مكاشفة من

يرجى منهم القيام به؛ ودعوتهم إلى الاجتماع والتشاور فيه، وهذا ما بدأت به وقبل

أن يتم اختيار الأفراد الذين أحببت أن يكونوا هم المؤسسين. قامت جريدة العلم

التي هي لسان حال الحزب الوطني بمصر ترجف بالمشروع، وتلبس على الناس

أمره، وباتفاق محمد بك فريد رئيس الحزب والشيخ عبد العزيز شاويش رئيس

تحرير جريدة العلم على مقاومته، فكان مثل خذلان المسلمين لأنفسهم ولدينهم

بمصر والآستانة واحدًا.

كانت جريدة العلم زعمت أنه يوجد بمصر جمعية تدعى جمعية الاتحاد العربي

غرضها فصل البلاد العربية من الدولة العثمانية، وإقامة خليفة عربي فيها تحت

حماية الإنكليز، وأنها تعمل أعلامًا مطرزة لترسلها إلى البلاد العربية، ثم مزجت

مشروع الدعوة والإرشاد بتلك الأوهام، وأطلقت القول في ذم العرب.

خرق في السياسة وسعاية للإيقاع بين الشعبين الكبيرين المقومين للأمة

العثمانية؛ وهما العرب والترك، عن جهل أو علم، فالشعب العربي أكثر عددًا

وأوسع بلادًا، وقيمته وقيمة بلاده المعنوية في هذه الدولة أعظم من كل شيء،

وهذا الطعن فيه يتضمن الطعن في الدولة نفسها، كما نعلم ذلك من العهد الحميدي

المظلم الذي كان يروج فيه مثل هذه السعايات والوشايات الوهمية؛ التي كانت

جريدة اللواء ترجف بها.

ليس هذا المقام بمقام البحث في هذه المسألة، وإنما ذكرتها لأبين أن جريدة

العلم بنت عليها الطعن والإرجاف في مشروع الدعوة والإرشاد، وجعلته تابعًا لها

ووسيلة إليها، وهو المشروع المقدس من أدناس السياسة وأهلها المفسدين، وكان

المغرور بما أرجف به، كان يتوهم أنه بإرجافه يقضي على هذا المشروع ويقتله

وهو جنين حتى لا يطمع أحد في وجوده فيعمل له؛ وفاته أن المخلصين لا يبالون

من رماهم بالريبة، وأكل لحومهم بالغيبة، ولا يثنيهم عن عملهم الإفك والبهتان،

وإنما يزيدهم ذلك إيمانًا وعزمًا، ويقولون حسبنا الله ونعم الوكيل.

وها نحن أولاء نسجل ما كتب في جريدة العلم مع الرد عليه؛ ليكون من مادة

تاريخ هذا المشروع الجليل، وللزمان الحكم الفصل في إظهار الحقائق للعالمين،

وإبطال أباطيل المبطلين، وإلى الله المصير والعاقبة للمتقين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 35

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المقالة الأولى لجريدة العلم

نشرت جريدة العلم بعد الذي أشرنا إليه في المقدمة المقالة الآتية في عددها

205 الذي صدر في 8 المحرم، وهذا نصها:

(مدرسة التبشير الإسلامي)

ما وراء الحجاب

إن فكرة إرسال مبشرين بالإسلام في أطراف الأرض؛ لنصح العامة،

وتمكين عقيدة التوحيد في نفوس أهل الشرك، قد عرضت في العهد الأخير للأستاذ

المرحوم الشيخ محمد عبده، ولقد سمعناه يقول: إنه لولا حكم عبد الحميد ووساوسه

لعرض على الدولة العلية اتخاذ الآستانة التي هي دار الخلافة مقرًّا لتلك المدرسة

الدينية.

مات الشيخ محمد عبده، ودالت دولة عبد الحميد، وحل الدستور والعدل

والعقل محل الفوضى والظلم والجنون، فخطر للشيخ رشيد فيما نظن تحقيق أماني

أستاذنا المرحوم، فذهب إلى دار السعادة، وأفضى بمشروعه إلى ذوي الحل والعقد

هناك، فرحبوا به لأنه من الضرورات اللازمة للعالم الإسلامي، وقد تمكنت

الجهالة بأصول الإسلام من نفوس عامة المسلمين وخاصتهم، حتى إن أحدهم ليسمع

آي كتاب الله أو شيئًا من سنة رسوله المصطفى، فلا يخيل إليه إلا أنها بدع أو

مفتريات تلصق بالدين!

رحب رجال الدولة بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي، بجعله

تحت رعاية شيخ الإسلام الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى

ذلك صاحب المشروع، وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا

وإن كذبًا) من إفراطه في الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش

بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد

تلك المدرسة، فأبوا إلا أن تلحق رأسًا بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون

بإقامتها واختيار المعلمين الصالحين لها، كما أنهم مشتغلون بوضع برامجها

وميزانيتها ونظامها، وربما افتتحت في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى.

ولقد نقل إلينا من الآستانة العلية أن الشيخ رشيد رضا لم يكد ييأس من

استقلاله بأمر تلك المدرسة حتى سارع إلى الاستعانة ببعض ذوي السلطان من

العرب؛ لينشئوا مدرسة للتبشير عربية، ويدور في الأندية من الإشاعات والأقاويل

ما لا يسعنا إلا استبعاده.

فمن ذلك أن جمعية الاتحاد العربي هي التي تسعى وراء ذلك في الخفاء،

وتريد أن توجد تلك المدرسة لتخرج في الظاهر مبشرين بالإسلام، وفي الباطل

مبشرين بدعوتهم الخصوصية إلى مناهضة الأتراك والاستبداد بالوظائف، ونحو

ذلك من الأغراض الحقيرة.

ومن الأقاويل أن الموعز بذلك هم الإنكليز، يردون أن يبلغوا بذلك ما يتمنونه

من تفويض دعائم المملكة العثمانية - خلَّدها الله - ليقيموا بدلها خلافة عربية،

يضعونها في أيدي عباد الشهوات والأموال، حتى يتم لهم الاحتكام المطلق في العالم

الإسلامي - لا قدر الله - كما تم لدولة المماليك، الذين سخَّروا الخلفاء في عهدهم

لبلوغ مآربهم، وقصورهم على الخطبة والصلاة على الجنائز، والتصدر في

المواكب والمجالس.

ولقد ظلت الخلافة الإسلامية في ذلك التعس والانحطاط، حتى قيَّض الله لها

آل عثمان فرفعوا من شأنها، وأعلوا من كلمتها، ودافعوا عن بيضتها. فالإنجليز

يريدون اليوم بتشجيع تلك العصبة الغوية الغافلة؛ أن يعيدوا للخلافة الإسلامية ذلك

العهد الذي كان شرًّا ووبالاً على العالم الإسلامي جميعه، فيتخذوا من تلك العصبة

خليفة، يقيمون به دولة سلطانها الأعظم وخاقانها الأفخم الملك جورج الخامس،

ويؤسسون ملكًا يكون حاكمه العامل السير إدوارد جرتي وكعبته المقدسة لندن.

ومن الإشاعات المتناقلة أيضًا أن القائمين بهذا المشروع مخلصون، لا

يريدون إلا الخير للعالم الإسلامي، ولكنهم مع ذلك يخطئون في عدم أخذهم بالحزم

من الأمور؛ إذ استهانوا بما يحف بعملهم هذا من الشبهات، وما يعتوره من الشكوك،

ويقول هؤلاء: إنه كان الأجمل أن يتربص بالأمر قليلاً حتى تقيم الدولة العلية

مدرسة الآستانة، فتلحق مدرسة القاهرة بها، أو أن يكتفى بتلقين تلاميذ الأزهر

جميع ما يلزم المبشرين من فنون الوعظ وأساليب الإرشاد، وإذا علمنا أن برنامج

الأزهر أمثل الأشياء وأشبهها بما يرمي إليه ذلك المشروع، نعلم أن زيادة مادة أو

مادتين على ما احتواه بالفعل كافية لجعل الأزهر تلك المدرسة التي يريدونها،

ويسعون إلى إقامتها، دون أن يكون من وراء ذلك مجلبة للظنون ومثار للتهم، وإذا

ارتأى بعض القائمين بهذا المشروع عدم كفاءة علماء الأزهر لتدريب طلاب التبشير

وتمرينهم على هذا الفن الجديد، فليتقدم بنفسه: إما متطوعًا أو مأجورًا ليقوم في

الأزهر بهذا الأمر، وليكون له في العاقبة جميل الشكر وجزيل الأجر.

هذا ما رأيناه أن نقدمه من النصائح للقائمين بهذه الحركة الجديدة، ناصحين

للمخلصين منهم أن يتجنبوا مواطن الشبه، وألا يساعدوا العاملين على التحرش

بدولتهم، المناهضين لإخوانهم العثمانيين، المساعدين للدسائس الأجنبية،

المروجين للفتن الداخلية، فليتقوا الله في دينهم، وليتقوا الله في جامعتهم، وليتقوا

الله في أنفسهم، فإنما هلك من قبلهم بهذا الطيش والرعونة، وبالكدح إلى نيل

مآربهم السافلة الحقيرة.

وإذا كان الأتراك فيما تزعمون؛ قد اغتالوا ما تسمونه بالوظائف واستبدوا بها،

فإنما هم إخوانكم في الدين وشركاؤكم في الجنسية.

وإذا كانوا أصابوكم بشيء من الأذى كما تتقولون، فقد قال المثل قديمًا: أنفك

منك ولو كان أجدع.

فاتقوا الله، واحذروا أن تنصب عليكم داهية ككسف الليل المظلم، لا تجدون

منها مخرجًا، ولا ترجون بعدها فرجًا.

إلا إنني لا أخاف على الدولة العلية من رعاياها البلغاريين ولا اليونانيين ولا

الأرمن ولا العربي المسيحي، وإنما أخاف عليها العربي المسلم يطمح إلى الوظائف،

ويعمد إلى كتاب الله، فيستفز العامة بما يؤول من آياته ويحرف من بيناته، ولولا

نزعات الشياطين، لكان العالم الإسلامي كما أمره الله أمة واحدة، ولقام بدل

المفرقين منهم أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحفظ

حدود الله، وتصلح بين الناس، حتى لا يحب أحدهم لأخيه إلا ما يحب لنفسه،

ولكن {هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ

يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (الأنعام: 65) .اهـ.

***

(المنار)

هذا أول ما كتبه الشيخ عبد العزيز شاويش في جريدة العلم، التي هي لسان

حال الحزب الوطني؛ إرجافاً بالمشروع من غير مشاورة أعضاء مجلس إدارة

الحزب ولا لجانه، ولكن بأمر محمد بك فريد. وقد جعل في الكلام منافذ لأجل

الخروج منها، إذا اضطر إلى الرجوع عن مقاومة هذا المشروع الإسلامي الجليل،

فبنى كلامه على (أقاويل) افتجرها، وقال: إنه يستبعدها، ورأيت بعدها بعض

أصحابه يقصدون إلى محادثتي في المشروع، ويمزجون كلامهم بالتعريض ثم

التصريح باستحسان دعوتي إياه؛ ليكون من المؤسسين، ويذكرون من الرأي في

الاستفادة منه ما يذكرون، وقد ذكر بعضهم من أمره وحاله في عمله الذي هو فيه ما

لا نذكره، فقلت لهم: إن هذا المشروع يجب أن يكون بعيدًا من السياسة والمشتغلين

بها، فلهذا السبب ولأسباب أخرى لا يمكن أن يكون الشيخ شاويش من المؤسسين

لهذا العمل والمديرين له الآن، وقد كنت عازمًا على استشارته فيه وطلب مساعدته

عليه، قبل أن يتهور في الإرجاف به وتشكيك الناس فيه. أما وقد فعل فعلته، فقد

أغنانا الله عن مساعدته.

بنى الشيخ شاويش إرجافه على الأقاويل المتفجرة، وهو يعلم أن جماهير

العامة لا يلتفتون إلى كلمة الأقاويل المستبعدة، وكلمة (إن صدقًا وإن كذبًا) وإنما

يأخذون من جملة الكلام أن هذا المشروع ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله

العذاب؛ لأنه سيفصل البلاد العربية من جسم المملكة العثمانية، ويؤسس فيها

خلافة لمملكة إنكليزية! ! بخ بخ لهؤلاء الزعماء الخادمين للدولة بمثل هذه الدسائس

التي كانت شر السيئات الرابحة في سوق السياسة الحميدية.

كتب الشيخ الشاويش ما كتبه، ونحن في ابتداء دعوة الفضلاء المخلصين

للإسلام إلى العمل، فعلمنا أن في الناس من ضعاف الرأي ومقلدة الجرائد الذين هم

أتباع كل ناعق، من يصدق كل ما ينشر فيها لعجزهم عن تمحيص الكلام، والتمييز

بين الممكن والمحال، فلأجل هذا كتبت المقالتين الآتيتين لأنشرهما في الجرائد

إبطالاً لإرجاف جريدة العلم، وبيانًا للمشروع في نفسه ليعلم حقيقته من لم يعلم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 37

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المقالة الأولى التي كتبت

ردًّا على جريدة العلم

التي يصدرها الحزب الوطني

(مشروع العلم والإرشاد في الآستانة)

(والدعوة والإرشاد بمصر)

] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [[1]

ذكر هذا المشروع في بعض الجرائد محفوفًا بأوهام غريبة عنه، ونشرت

جريدة (العلم) مقالة افتتاحية في العدد الذي صدر في ثامن المحرم، أرجف كاتبها

فيها بالموضوع إرجافًا مبنيًّا على أقاويل لا يجزم بصحتها، وكان يسهل عليه أن

يراجعني أو يراجع المنار ويرى فيه ما كتبته عن المشروع، وأنا في الآستانة بين

أولي الأمر وأهل الحل والعقد، وكذا ما كتبته جرائد الآستانة التركية والعربية من

المقالات في إزالة سوء التفاهم بين العرب والترك، والتأليف بينهم بحجج الإسلام

القيمة، وآيات السياسة البينة.

فإن كان لم يتح له الرجوع إلى صاحب المشروع، ولا مراجعة ما كتبه فإن

صاحب المشروع يكتب بيانًا وجيزًا يعلم منه خطأ تلك الأقاويل التي بنى عليها كلامه،

لعله يرجع عنه، وينقض تلك الشكوك التي أقامها حول أفضل وأقدس عمل ديني

اجتماعي، يخدم به المسلمون دينهم وهو الدعوة إلى الإسلام، ودفع شبهات

المشككين فيه والمنفرين عنه، وهو فاعل- إن شاء الله تعالى - إن كان

حسن النية فيما أخطأ فيه من قبل.

ليست فكرة الدعوة وبث الدعاة إلى الإسلام بالفكرة التي حدثت عندي في هذه

الأيام، فيقال: إنني أريد أن أخدم بها جمعية سياسية جديدة؛ إن صح ما أذاعته جريدة

العلم ولم نسمعه إلا عنها من خبر هذه الجمعية، وإنما هي أمنية قديمة، صارت

رغيبة ثم اقترنت بها العزيمة بعد تمهيد طويل، وإليك البيان بالإيجاز:

كنت في أيام طلبي للعلم في طرابلس الشام، أتردد بعد الخروج من المدرسة

إلى مكتبة المبشرين الأمريكانيين، أقرأ جريدتهم الدينية، وبعض كتبهم ورسائلهم،

وأجادل قسوسهم ومعلميهم، وأتمنى لو كان للمسلمين جمعية كجمعيتهم، ومدارس

كمدارسهم، ولما هاجرت إلى مصر وأنشأت المنار، قويت عندي هذه الفكرة،

وأحببت أن أنبه المسلمين لها، فكتبت في جمادى الأولى من سنة 1318 مقالتين

عنوان إحداهما (الدعوة حياة الأديان)، وعنوان الثانية:(الدعوة وطريقها وآدابها)

ونشرتهما في المجلد الثالث من المنار، وكتبت مقالات أخرى في الرد على كتب

وصحف دعاة النصرانية الذين يطعنون في الإسلام، عنوانها العام: (شبهات

النصارى وحجج المسلمين) ، وكنت أقصد بذلك إعداد النفوس للقيام بهذه الفريضة؛

فريضة الاجتماع والتعاون على الدعوة، أي أنني بدأت بالكتابة في ذلك منذ عشر

سنين أو أكثر.

وفي سنة 1323 توجهت نفسي للسعي والعمل، فكتبت في المنار مقالة نوهت

فيها بالدعوة، وأشرت إلى ما تحتاج إليه من الاستعداد، وبحثت فيها عن دعوة

اليابانيين إلى الإسلام، وكان قد شاع أنهم يريدون عقد مؤتمر ديني للبحث عن أمثل

الأديان وأجدرها بالاتباع ليتبعوه، وبدأت بالسعي لتأسيس جمعية الدعوة، يكون أول

عملها إنشاء مدرسة لتخريج الدعاة، وجعلت تلك المقالة تمهيدًا لذلك، فكان لها

تأثير حسن في الأقطار الإسلامية شرقيها وغربيها، وبدأت المكاتبة في ذلك بيني

وبين أهل الغيرة من الصين إلى بلاد المغرب، وقد أشرت إلى ذلك في الجزء

الأول من المنار الذي صدر في المحرم سنة 1324 أي: منذ خمس سنين.

كاشفت يومئذ بهذا الأمر كثيرًا من أصدقائي بمصر، ورغبت إلى صاحب

الدولة رياض باشا أن يكون رئيس الجمعية التي تقوم بالاكتتاب لتنفيذ العمل، وإلى

محمود بك سالم أن يكون السر لها، وإلى حسن باشا عاصم - رحمه الله تعالى -

ومحمد بك راسم، وغيرهما من الفضلاء أن يكونوا أعضاء مؤسسين،

واجتمع بعض من دعوتهم للمذاكرة في ذلك مرارًا في إدارة المنار.

وشاورت يومئذ أحمد مختار باشا الغازي في العمل فاستحسنه هو وولده

محمود باشا، ووعدني ولده بالاشتراك بمائة جنيه في السنة عدا ما يدفعه من نفقات

التأسيس، ولكن عرض في أثناء السعي دعوة مصطفى كامل بك الغمراوي إلى

تأسيس مدرسة جامعة مصرية، وتلت ذلك العسرة المالية في مصر، فوقف

الاكتتاب للمدرسة الجامعة، ووقف أيضًا سعيي إلى مشروع الدعوة.

ثم حدث في سنة 1326 الانقلاب العثماني الذي كنا نسعى إليه في الخفاء، ثم

خلع السلطان عبد الحميد الذي كان مانعًا في بلاده من كل علم وعمل نافع يجب

على المسلمين القيام به مجتمعين، فعزمت أن أجعل مشروع الدعوة والإرشاد في

الآستانة لأسباب أهمها أمران: (أحدهما) أنني أرجو من نجاحه ومساعدته والثقة

به بالآستانة في ظل الدستور، ما لا أرجوه في مصر التي كنت أتوقع فيها مقاومة

الحزب الوطني، كما كنت أحذر مقاومته في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد،

فاشتغل بذلك سرًّا. (وثانيهما) أنني رأيت بلاد الدولة تكثر فيها الفتن باختلاف

العناصر والأديان والمذاهب، وأنني أعلم أن لكل طائفة من النصارى العثمانيين

مدارس دينية تابعة لبطاركهم، على شدة إقبالهم على مدارس دعاة دينهم من الإفرنج،

وأعلم أن المسلمين هم المحرومون من ذلك، فقلت في نفسي: إن تأسيس

المشروع في الآستانة، تكون فائدته الأولى ترقية مسلمي الدولة العلية في دينهم

ودنياهم، والتأليف بينهم وبين أبناء وطنهم، ومنع أسباب الفتن والخروج على

الدولة من أقرب طرقها وهو الوعظ الديني، وبذلك يكون ارتقاء الأمة العثمانية

الاجتماعي والاقتصادي سريعًا، وبه تزيد ثروة الدولة وقوتها.

رحلت إلى الآستانة في أواخر رمضان من سنة 1327، بعد مكاتبة في

المشروع مع بعض معارفي فيها، ومع بعض رجال جمعية الاتحاد والترقي في

سلانيك، ظهر لي منها ميلها إلى مشروعي، حتى إنها سألت عن سفري بلسان

البرق، وتلقتني بالحفاوة في أزمير والآستانة، وقد أقمت في الآستانة سنة كاملة لا

عمل لي فيها إلا السعي لهذا المشروع، ولحسن التفاهم بين العنصرين المقومين

لهذه الدولة وهما العرب والترك اللذان شبهتهما بالعنصرين المكونين الماء أو الهواء،

وقد كتبت في هذه المسألة الأخيرة مقالات، نشرت أكثرها هنالك بالتركية

والعربية في جريدة إقدام، وجريدة كلمة الحق، ثم جريدة الحضارة، ويجدها

القارئ كلها في مجلدي المنار للسنتين الماضيتين.

عرضت المشروع هنالك على وزراء الدولة وكبرائها من رجال جمعية

الاتحاد والترقي وغيرهم، فاتفقت كلمتهم بعد البحث معي في لجنتين: إحداهما

علمية، والأخرى سياسية، على أن يصرف النظر عن البحث في مسألة تخريج

الدعاة إلى الإسلام، وإن تسمى المدرسة المراد إنشاؤها (دار العلم والإرشاد) ،

وجمعيتها (جمعية العلم والإرشاد) . وكان وصل المشروع في وزارة حسين حلمي

باشا إلى حيز التنفيذ؛ إذ قال لي: إن العمل قد تم نهائيًا، فألف الجمعية حالاً،

ونحن نصرف لكم الآن خمسة آلاف ليرة؛ لأجل الابتداء بالعمل، وفي أول السنة

المالية تزيد لكم بقدر الحاجة. ولكن استقالت وزارة حسين حلمي قبل أن نتمكن من

تأليف الجمعية.

ثم استأنفت العمل في وزارة حقي باشا، وقد عرض عليَّ ناظر الداخلية

وناظر المعارف فيها أن آخذ رخصة المدرسة باسمي، وأدع مسألة الجمعية إلى

فرصة أخرى، فلم أقبل، وقلت: يجوز أن أموت بعد مدة قليلة وحينئذ تصير

المدرسة لورثتي، وهم ليسوا أهلاً لهذا العمل، فلا بد من جمعية دائمة.

وقد فوضت إليهم اختيار أعضاء المؤسسين، فاختارهم ناظر المعارف مع

مدير شعبة الإلهيات والأدبيات في دار الفنون من صفوة رجالهم في المشيخة

الإسلامية ومجلس الأمة ونظارات الحكومة، وقد ذكرت أسماءهم في الجزء السادس

من المنار الذي صدر في آخر جمادى الآخرة سنة 1328، ومنهم شيخ الإسلام

الحال (وكان من أعضاء مجلس الأعيان والمدرسين) ومستشار المشيخة، واقترح

بعض الأعضاء أن يكون شيخ الإسلام رئيس شرف للجمعية، فقبلت.

* * *

قال صاحب مقالة جريدة (العلم) في مقالته التي أرد عليها بعد ذكر رحلتي

إلى الآستانة، وعرض المشروع على أولي الشأن ما نصه: (رحب رجال الدولة

بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي بجعله تحت رعاية شيخ الإسلام

الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى ذلك صاحب المشروع،

وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطه في

الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك

فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد تلك المدرسة، فأبوا إلا أن

تلحق بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون بإقامتها) .ا. هـ

أقول: (1) قول الكاتب إنهم رحبوا بالمشروع - يعني المشروع الذي عبر

عنه بالتبشير الإسلامي - غير صحيح، وإنما رحبت وزارة حسين حلمي باشا

بمشروع تربية المرشدين الذين يكونون وُعَّاظًا ومعلمين للمسلمين؛ لشدة الحاجة

إليهم في بلاد الدولة العلية، وأراد أن ينفذه كما اقترحت من غير أن يكون لشيخ

الإسلام رأي فيه، ولا إشراف عليه.

(2)

لما سقطت وزارة حلمي باشا، بقيت بضعة أشهر أراجع وزارة حقي

باشا، حتى اقتنعت بوجوب تنفيذ مشروع العلم والإرشاد، لا الدعوة والإرشاد،

بواسطة جمعية لا بواسطة شيخ الإسلام، وتأسست الجمعية، وصدقت عليها

الحكومة رسميًّا، وقانونها أو نظامها الأساسي مطبوع في المنار (ج6م13) .

(3)

إن كون المشروع في يد جمعية من خيار رجال العاصمة، ينافي أن

يكون بيدي، فلا محل لخوفهم مني إن صح أنهم سمعوا عني ما ينفرهم، فإن كان

جعل المدرسة تابعة للمشيخة مبنيًّا على عدم الثقة، فإنما ذلك عدم الثقة بالجمعية

التي ألفوها، لا بعضو واحد له فيها صوت واحد، وإن كان هو صاحب المشروع.

(4)

الحق الذي وقع هو أنه لم يقترح أحد من رجال الدولة جعل هذا

المشروع تابعًا للمشيخة، بل كانوا كلهم متفقين على جعل المدرسة من المدارس التي

يسمونها (المكاتب الخصوصية) وعلى أن فائدتها بأن لا تكون من مدارس

الحكومية الرسمية (ولا أزيد على هذا الآن) .

(5)

إننا بعد تأسيس الجمعية وتصديق الحكومة عليها، طلبنا من شيخ

الإسلام أن يستنجز الحكومة ما وعدتنا به من المال، فقال لنا بعد أن ذاكر الصدر

الأعظم واتفق معه على ذلك: اكتبوا ما تريدون من المساعدة، فكتبت صورة مذكرة،

وترجمها كاتب الجمعية العام بالتركية، وأعطيناه إياها، فأمر بتبييضها ثم ختمها،

وأخذها بيده إلى الباب العالي، وبقيت أنا ألح بعرضها على مجلس الوكلاء؛

لأجل تقريرها زمنًا طويلاً حتى عرضت، وبشَّرني شيخ الإسلام وناظر المعارف

بقبولها وصدور القرار الرسمي بمقتضاها.

(6)

كان هذا في شعبان من السنة الماضية، وفي الأسبوع الأول من

رمضان بلغنا شيخ الإسلام صورة القرار الذي قرره مجلس الوكلاء، فإذا فيه أن

المدرسة تكون لها لجنة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الإسلام، ولم يطرق سمع أحد من

أعضاء الجمعية هذا الرأي إلا في أوائل رمضان، وهو الشهر المتمم للسنة من

سعيي للمشروع هناك.

(7)

لم أكن أنا الذي اعترضت وحدي على هذه الفقرة من القرار، بل

اجتمعت جمعية العلم والإرشاد بدار الفنون بعد ظهر يوم الجمعة 19 رمضان سنة

1328، وقررت باتفاق الآراء الاعتراض على قرار مجلس الوكلاء، وبلغوا شيخ

الإسلام قرارهم بالكتابة الرسمية، فقال - حفظه الله تعالى: إن الاعتراض في

محله (حقكز وار) أي معك الحق، وأنه سيراجع الباب العالي، ويقترح تعديل

قرار مجلس الوكلاء، وجعل المدرسة (دار العلم والإرشاد) خاصة بالجمعية التي

ألفت لأجلها، وكذلك قال ناظر المعارف ووعد، وقال لي أحمد نعيم بك بابان

العضو في مجلس المعارف وفي مجلس إدارة الجمعية: أظن أن الناظر كتب بالفعل

إلى الباب العالي يقترح تعديل القرار.

* * *

هذا نبأ وجيز من تاريخ المسألة، وهو يدحض جميع تلك (الأقاويل)

و (الإشاعات) التي بني عليها كلامه كاتب تلك المقالة في جريدة العلم، ومنه يعلم

كل من له مسكة من الاستقلال في الفهم والرأي أنه لا مجال للظنون والأراجيف في

هذا المشروع العظيم، ولا في سعي هذا العاجز الضعيف إليه، وهل يعقل أن أترك

عملي الكثير بمصر، وأقيم سنة كاملة في الآستانة، وأخسر من المال والوقت ما لا

غنى لي عنه، إلا لشدة إخلاصي في خدمة ديني ودولتي، كما سبق لي منذ قدرت

على خدمتهما.

أما ما قيل (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطي في الاشتغال بالمسألة العربية،

فليعلم ذلك الكاتب أنه من الكذب والبهتان، وهو أغرب من اتهام الحزب الوطني

بخدمة الإنكليز في المسألة المصرية وتمهيده السبيل لامتلاكهم مصر. وذلك أن

كتاباتي في محاربة العصبية الجنسية في الإسلام، وفي أخوة المسلمين العامة،

وفي التأليف بين العرب والترك خاصة، منبثة في ثلاثة عشر مجلدًا ضخمًا من

المنار، وفي أربعة مجلدات من التفسير، ولا أطيل في هذه المسألة البديهية، فإنما

غرضي في هذا المقال بيان ما لا بد منه من أمر مشروع الإرشاد في الآستانة العلية،

ليعلم أنه لا مجال للاشتباه فيه، وأن ما تقرر هنالك لا يغني عن إنشاء مدرسة

للدعوة إلى الإسلام هنا.

وسأبين في مقال آخر جوهر المشروع المتفق على إنشائه هنا، وأنه لا مجال

فيه أيضًا للأراجيف والظنون، وأنه لا يعارضه ولا يناهضه إلا عدو للإسلام

والمسلمين، أو حاسد للعاملين، فاصبر إن الله مع الصابرين.

وما سكتنا عن بيان المشروع في الجرائد؛ لأنه سري أو لأن فيه شيئًا سريًّا، وإنما

هو طور التكوين، فمتى تم تكوينه بيناه للناس أجمعين، ولتعلمن نبأه بعد حين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

فصلت: 33.

ص: 41

الكاتب: محمد رشيد رضا

المقالة الثانية

وهي المقالة التي أرسلتها إلى الجرائد في بيان المشروع ووجه الحاجة إليه

برأي الجماعة التي تسعى معي في تنفيذه.

(مشروع الدعوة والإرشاد في مصر)

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ

رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) ،

الدعوة إلى الإسلام فريضة، إذا تركها المسلمون يكونون كلهم عصاة لله تعالى

مستحقين لعذابه، وإذا قام بها بعضهم سقط الحرج عن الباقين.

والدفاع عن الإسلام عند ظهور الشُّبَه وإلقاء الشكوك في عقائده وأصوله

فرض أيضًا، فإذا سكتوا عنه حيث يظهر كانوا عصاة لله تعالى مستحقين لعذابه،

وإذا قام به بعضهم وحصلت بهم الكفاية سقط الإثم عن الباقين.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الحاجة من فرائض الكفاية أيضًا،

فإذا سكت المسلمون عنه حيث يترك المعروف من الفرائض والسنن ويظهر المنكر

من البدع والمعاصي، كان جميع المسلمين هناك آثمين مستحقين لعذاب الدنيا

بذهاب عزهم ومجدهم، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، وإذا قام به من

تحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين.

هذه مسائل مجملة مجمع عليها بين المسلمين الذين يعتد بإسلامهم، ولها

تفصيل وجزئيات معروفة في مواضعها من كتب الدين بشروطها وأدلتها.

وقد أهملت هذه الفرائض في زماننا هذا إهمالاً لم يسبق له نظير، كما أن

الحاجة إليها قد اشتدت اشتدادًا لم يسبق له نظير في تاريخ الإسلام.

فشا الجهل بين المسلمين، وكثرت فيهم البدع والخرافات، وقل الوعاظ

والمعلمون الذين يتصدون لإرشاد العامة أو فقدوا (اللهم إلا الدجالين المحتالين على

التجارة بدينهم) ، وانبثت دعاة النصرانية في جميع شعوبهم، يشككونهم في دين

الإسلام، ويطعنون في كتابه المنزل، وفي نبيه المرسل، ويبثون مطاعنهم

بالخطب في المحافل العامة، والتعليم في المدارس الخاصة، والوعظ في الملاجئ

والمستشفيات، وبكتب ورسائل يطبعونها وينشرونها في الناس، وأكثر المسلمين

عوام أميون، لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين الصادق والكاذب، مما يعزى

إلى دينهم وإلى علمائهم، ووراء ذلك أموال تبذل للمرتدين، تغر الطامعين الجاهلين.

فصار من الواجب المحتم عليهم في كل البلاد أن يقاوموا هذه الشكوك

والشبهات دفاعًا عن دينهم، وأن لا يكتفوا بالدفاع كما هو شأن الضعيف، بل

يزيدوا عليه تعليم عامة المسلمين حقيقة دينهم، ويدعوا غير المسلمين ولا سيما

الوثنيين إلى هذا الدين القويم، دين العقل والفطرة، المصدق لجميع الرسل،

الجامع بين مصالح الروح والجسد، المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة.

يجب أن تقاوم هذه القوة المهاجمة لهم بمثلها، وأنى لهم مع هذا التخاذل

والتواكل والتحاسد والتباغض أن يأتوا بمثلها.

إن لكل مذهب من مذاهب النصرانية جمعيات دينية غنية بالهبات والتبرعات

ولهذه الجمعيات فروع، كل فرع منها موجه لتنصير شعب من الشعوب؛ فمنهم

الموجهون لتنصير العرب يتعلمون العربية ويتقنونها أكثر من أهلها، يؤلفون الكتب

بها، ويعلمونها في مدارسهم، وهم منبثون في البلاد العربية والآسيوية والأفريقية،

ومنهم الموجهون لتنصير الفرس، والموجهون لتنصير الترك، والموجهون لتنصير

الهنود، ولتنصير الجاويين

إلخ.

يشعر المسلمون في مصر بالألم والامتعاض عندما يرون جريدة من جرائد

هؤلاء الدعاة، أو كتابًا من كتبهم، أو رسالة من رسائلهم، تطعن في دينهم.

يتألمون لأنهم يعدون هذا إهانة لهم، وقلما يخطر في بال أحد منهم؛ أن بعض

المسلمين ينخدع بها فيشك في دينه أو يخرج منه لأن ضروريات الإسلام معروفة

هنا بين العامة في الجملة، ومعرفتها كافية لرفض كل ما يخالفها والإعراض عنه،

ويزيدهم قلة مبالاة ما يرونه من المطاعن الجديرة بالسخرية؛ كالكتاب الذي نشرته

المكتبة الإنكليزية بمصر، لقسيس إنكليزي ذكر فيه سورة زعم أنها كانت سقطت

من القرآن أو كتمت، وما تلك السورة بسورة، وإنما هي كلام ركيك، تتبرأ منه

الصحافة والبلاغة؛ بل اللغة العربية.

إلا فاعلموا أيها الإخوة، إن هذه الجمعيات قد انتزعت في مصر نفسها أفرادًا

من المسلمين ونصرتهم، ولكنكم لا تشعرون بهم لقلتهم، فماذا ترونها تفعل في غير

مصر من البلاد التي لا يعرف فيها الإسلام كما يعرف بمصر، ولا يوجد فيها من

يدافع عنه كما يوجد في مصر.

جاءني في كتاب من سائح مسلم مشهور بسنغافورة بتاريخ 14 شوال سنة

1328 ما نصه: إني قد ترددت إلى جاوه ومتعلقاتها منذ ثلث قرن، وقد تبين لي

أن دعاة النصرانية قد أضروا بالإسلام وأهله؛ لتغلب الجهل عليهم لمنع الحكومة

الهولندية دخول الدعاة إلى الإسلام، وحجتها أنهم ليسوا علماء بل دجاجلة، وكل

من منعته أو طردته ليس من متخرجي المدارس، ولقد هالني جدًّا ما رأيته في

سياحتي هذه، فإن الداء قد تمكن وفتك بالأهالي فتكًا ذريعًا مهولاً، وبالجملة أقول:

إن المتنصرين سنويًّا من مسلمي جاوه ومتعلقاتها - هندينذرلند - لا يقلون عن مائة

ألف إنسان، وإذا دام هذا، عادت جاوه أندلسًا ثانية (إلى أن قال بعد لوم العرب

الذين هنالك على سكوتهم عن هذا الأمر) ولو وجد عالم له إلمام بفن الدعوة،

وبعض معرفة بلغة أورباوية، وكان ذا عقل واعتدال، وساح في هذه النواحي،

لأوقف هذا التيار الجارف. فكيف لو وجدت بعثة كالبعثات الأوربية.

ثم جاءني منه كتاب آخر جوابًا عن كتاب أرسلته إليه مبشرًا إياه بالسعي

لإنشاء مدرسة لتخريج الدعاة إلى الإسلام، وصل إليَّ في 11 المحرم الحال، وقد

كتب في 24 ذي الحجة الماضي، وفيه ما نصه:

(أما ما ذكرته لكم من فتك دعاة النصرانية بأهل هذه النواحي فصحيح لا

مرية فيه، بل الأمر أشد وأكبر ولا سيما في جزائر تيمور ويتووسليس وبندقيني

وفلفاني ولا قوة إلا بالله، إلى أن قال: أما ما عرفتموه عن عدم سريان سموم

أولئك الأدعياء في الأقطار التي عرفتموها فله أسباب، كلها لا توجد هنا من تصلب

الأهالي، ووجود شيء من العصبية، وقليل من العلماء وبصيص من نور التمدن،

وكثرة قراء المجلات ونحو ذلك) .

(ولو عرفتم ما عرفته عن حال من بهذه الجهات لعجبتم من بقاء عشرات

الملايين على الإسلام مع ما هم فيه من الجهل، وما يعرض عليهم من الإعانات إن

تنصروا) .

(وأسأل الله أن يمدكم بعونه وتوفيقه ليتم لكم إقامة جمعية الدعوة والإرشاد،

ويطيل عمركم حتى تروا ثمرتها ونفعها للإسلام وأهله، وأرى أن لو كاتبتم أهل

الهند ولا سيما رؤساء ندوة العلماء؛ ليمدوا لكم يد المعاونة لكان حسنا) .ا. هـ

لا يوجد قطر من الأقطار الإسلامية إلا وعنده من أنباء هؤلاء الدعاة في بلاده

ما يحرك غيرته الدينية، ويذكره بما يجب عليه لدينه من القيام بمثل ذلك. ولكن

المسلمين أصيبوا بأمراض اجتماعية، حتى صاروا على شدة تمسكهم بدينهم

وغيرتهم عليه أبعد أهل الملل عن التعاون والاجتماع لخدمته، وإذا قام فيهم من

يريد خدمة الإسلام، لا يلقى الخاذلين والمقاومين له إلا من المسلمين، إما من باب

السياسة وفتنها، وإما من باب الحسد، وهم يتهمون غيرهم ولا سيما الأوربيين

بالمقاومة التي كفوهم أمرها، والصديق الجاهل أضر من العدو العاقل.

ولكن حوادث الزمان وأحداثه قد نبهت المسلمين في جميع أقطار الأرض

وحفزت هممهم إلى التعاون على إحياء دعوة الإسلام والدفاع عنه، وإرشاد عامة

أهله إلى ما يجب عليهم في هذا العصر من الاستمساك بآدابه وأعماله، ومباراة

الأمم الأخرى في العلم والمدنية، مع الحكمة والمودة والسلام العام بين أهل الملل.

قد قطع الأوربيون حجتنا بمثل ما نقله السائح عن حكومة هولندة في جاوة،

وما قاله لورد كرومر في بعض تقاريره عن دعاة النصرانية في السودان [1] فلم يبق

لأحد منا حجة في تعصب الأوربيين. وأما من يخافون من حسد جهلة المسلمين

والمارقين منهم، فليعلموا أن هؤلاء لا قوة لهم إلا بالأراجيف وسفه القول، وليس

هذا بعذر شرعي يسقط هذه الفريضة، بل الفرائض التي بيناها في صدر المقال.

هذا العمل لا يمكن أن تقوم به الحكومات؛ لما يحدث فيه حينئذ من فتن

السياسة؛ ولأن الحكومات لا تربي أرواحًا بل عمالاً، ولا الأفراد لضعفهم،

والشرع قد أوجب علينا أن تقوم به مجتمعين بقوله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى

الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) الآية، ولم

يوجد في دين من الأديان التصريح بمثل هذا في افتراض الاجتماع لهذا العمل، وما

يعضده في القرآن الحكيم من الأمر بالتعاون والاعتصام، وقد دلت التجارب على

ذلك في غيرنا من الأمم، فلهذه الأوامر الدينية والأسباب الاجتماعية استخار الله

جماعة من أهل الغيرة من المسلمين المقيمين بمصر، وشرعوا في التوسل إلى

إنشاء مدرسة؛ لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين للمسلمين، وإقامة تلك

الفرائض، وسيعلنون الدعوة إلى التعاون على ذلك عن قريب.

* * *

(مدرسة الدعوة والإرشاد)

نبين للناس أهم ما تقرر بين الجماعة المشتغلة بتأسيس هذه المدرسة بادئ بدء

إلى أن يصدقوا على قانونها فننشره.

(1)

يختار طلاب هذه المدرسة من طلاب العلم الصالحين من مسلمي

الأقطار ويفضل الذين هم أشد حاجة إلى العلم على غيرهم؛ كأهل جاوه والصين،

وما عدا القسم الشمالي من إفريقية.

(2)

المدرسة تكفل لهم جميع ما يحتاجون إليه من الغذاء والمنام والكتب.

(3)

يعتنى بتربيتهم على آداب الإسلام وأخلاقه وعباداته، بحيث يطرد من

المدرسة من ثبت عليه الكذب أو إظهار العصبية الجنسية أو المذهبية أو ارتكاب شيء

من المعاصي، وعلى قيام الليل وصيام أيام من كل شهر، وعلى ذكر الله تعالى وتلاوة

القرآن مع التدبر.

(4)

يعلمون كل ما يحتاج إليه الدعاة من العلوم الدينية؛ كالعقائد والتفسير

والحديث والأحكام على الوجه المؤدي إلى القدرة على إقامة الحجة ودحض الشبهة،

وما يحتاجون إليه من العلوم الرياضية والكونية واللغات لأجل ذلك.

(5)

لا تشتغل المدرسة ولا الجماعة المديرة لها بالسياسة المصرية ولا

العثمانية، ولا سياسة الدول الأجنبية مطلقًا.

(6)

يرسل الدعاة والمرشدون الذين يتخرجون في المدرسة إلى أشد البلاد

الإسلامية حاجة إليهم؛ كجاوه والصين، ثم إلى الشعوب الوثنية، ثم إلى أمريكة

وأوربة من البلاد الكتابية، ولا يرسل أحد منهم إلى الولايات العثمانية؛ لما يترتب

على ذلك من اعتراض غير المسلمين وتهويشهم على الدولة، وإن كان لكل مذهب

من مذاهبهم دعاة في تلك الولايات، وللعلم بأنه سيوجد في الآستانة مدرسة لأجل

تخريج المرشدين لتلك دون الدعاة إلى الإسلام.

(7)

سيبدأ المؤسسون بجمع الإعانات للقيام بهذا العمل، ثم يفتحون باب

الاشتراك الدائم لأجل استمراره، ويرجون نجاح السعي بما يجود به أهل الخير

والبر من الاشتراكات والتبرعات والهدايا والوصايا، والأوقاف التي يرجى أن

توقف على هذا العمل.

(8)

نشرت هذا البيان بعد استشارة المتعاونين على تنفيذ هذا المشروع

واستحسانهم، وسينشر قانون المشروع الأساسي بعد التصديق عليه مذيلاً بأسماء

المؤسسين.

...

...

...

... محمد رشيد رضا

***

(إصرار جريدة العلم على الإرجاف)

أرسلنا المقالة الأولى من هاتين المقالتين إلى جريدة العلم، وعزمنا على أن لا

نرسلها إلى غيرها إذا هي نشرتها؛ لأنها رد عليها؛ أرسلناها مع صديق لنا

ولزعماء الحزب الوطني، فوعد الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس تحرير العربي

يوم الاثنين 15 المحرم بنشرها والتعقيب عليها، ثم أكد الوعد يوم الثلاثاء واعتذر

عن التأخير. ولكن بلغنا أنه حصل خلاف بينه وبين محمد بك فريد رئيس الحزب

الوطني في أمر نشرها، فكان رأي رئيس الحزب أن لا تنشر لأنها تفيد المشروع

قوة والمراد سحقه قبل أن يقوى، وكان رأي رئيس التحرير أن تنشر ويعقب عليها

بشدة تقوي الشبهة في المشروع وتزيده وهنًا على وهن، وقد انتظرت إلى يوم

الأربعاء، فلما رأيت جريدة العلم خلوًا منها، أرسلتها مع المقالة الثانية إلى جميع

الجرائد العربية في مصر والإسكندرية في مساء هذا اليوم.

***

(المقالة الثانية للعلم)

وفي صبيحة يوم الخميس 18 المحرم، صدر العلم وفيه المقالة، وفي فاتحة

باب الحوادث والأخبار منه ثلاثة أعمدة في سبي وشتمي، ووصفي بالعجز

والضعف، مع الإرجاف والإيهام بقوله: (ولو أن العلم شاء لبسط للناس، كيف

ذهب صاحب المشروع الذي هو (أقدس وأفضل عمل ديني) إلى السير غورست؛

ليعرض عليه مشروعه فيحظى برضاه، وينال إسعاده. ولو شاء العلم لبين للناس

ما في ذلك من المخازي والمآرب المكنونة.

لو كان في هذه الشتائم والأراجيف شبهة على الموضوع لنشرناها، كما نشرنا

مقالة العلم الأولى على وهنها وضعفها، ولكن فيها أمرين يحسن ذكرهما والجواب

عنهما، أحدهما: الإرجاف بعبارته التي نقلناها آنفًا، والثاني: تخطئة العلم إياي

بقولي: إنني كنت أتوقع مقاومة بعض رجال الحزب الوطني في هذا المشروع،

كما كنت أحذر مقاومتهم إياي في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد.

أما الأول فأقول فيه: إنني لم أذهب إلى السير غورست لأحظي برضاه وأنال

إسعاده ومعونته على المشروع كما أرجف الكاتب، وأصرح بأعلى صوتي أن غاية

ما أرجوه وأتمناه من الإنكليز أن لا يقاوموا المشروع في مصر والهند؛ لأنني أرجو

من مساعدة المسلمين في هذين القطرين ما لا أرجوه من غيرهما، فإذا قاومه

الإنكليز فيهما، فلا شك في أنه يفوتنا من المساعدة ما لا غنى لنا عنه، على أنه لا

يوجد عاقل في الدنيا يقول إن طلب المساعدة على عمل نافع ممن لا نفع له فيه نفسه

ولا لقومه يخرج ذلك العمل عن وضعه، ولا سيما إذا كانت المساعدة المطلوبة سلبية

كعدم المقاومة، مثال ذلك الجمعية الخيرية الإسلامية طلبت المساعدة في السنين

الخالية من العميد الإنكليزي ومن غيره من الأجانب، وكانت ولا تزال تأخذ من

هؤلاء في كل سنة شيئًا من النقود فيما أعلم، فهل صارت الجمعية بذلك خادمة

للإنكليز وضارة بالمسلمين؟ ؟

ونحن لا نطلب من غورست ولا من غيره من الأجانب ولا غير المسلمين من

الوطنيين مساعدة مالية ولا أدبية، وإنما نطلب منهم أن لا يكونوا ضارين لنا ولا

مقاومين لمشروعنا كما يقاومه بعض المسلمين، ولا يبعد أن ننال هذه الأمنية

السلبية منهم، فقد قال الأستاذ الإمام وحلف على قوله بالله: إنه لم يقم بمشروع ينفع

المسلمين ووجد له مقاومًا فيه من الإنكليز، ولا من القبط، ولا من نصارى

السوريين، ولكنه لقي المقاومة في كل مشروع أراد به خدمة الإسلام من المسلمين

أنفسهم، أقول: ومن ذلك أنهم وشوا بالجمعية الخيرية إلى الإنكليز؛ بأنها تمد

مهدي السودان بالمال ليحارب به مصر والإنكليز، وهاجت جريدة اللواء عليه

وعليَّ اليهود عند تفسير بعض الآيات المتعلقة بهم في كتاب الله عز وجل.

إذا أثبتنا لرئيس تحرير العلم أن شيخ الأزهر أو بعض أعضاء إدارته زار

الوكالة البريطانية ولورد كرومر، فهل يعد هذا حجة على كون الأزهر صار خادمًا

للإنكليز، وقد علمنا ونحن في الآستانة أن بعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي

يختلفون إلى بعض السفارات؛ كاختلاف حسين جاهد بك وإسماعيل حقي بك بابان

إلى سفارة روسية، فهل يسمح لنا محرر العلم المنطقي أن نستدل بذلك على خيانة

الجمعية للدولة العلية؟ ؟

وأما الثاني فسببه أن مدير جريدة اللواء كان مقاومًا لي منذ سنته الأولى

وسبب ذلك أنني انتقدت عليه عند ظهوره أمرًا ضارًّا، فقلت في ص607 من مجلد

المنار الثاني ما نصه:

(وقد انتقدنا عليها أمرًا ذا بال، وهو الإرجاف بأن بعض الناس يسعون في

إقامة خلافة عربية، كأن الخلافة من الهنات الهينات، تنال بسعي جماعة أو

جماعات، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا الإرجاف.

(مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد، وقد سلم السواد الأعظم من

المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا، والرابطة بين الترك والعرب هي (كما قال

المرحوم كمال بك الكاتب الشهير) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية، فإن

كان أحد يقدر على حلها فهو الله تعالى وحده، وإن كان أحد يطمع في ذلك فهو

الشيطان.

(ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة فيه إلا رجلان:

رجل اتخذ الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب

الضخمة، ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين؛ بإيهامهم أن منصب

الخلافة ضعيف متزعزع، يمكن لأي أمير أن يناله، ولأية جمعية أن تزحزحه عن

مكانه، ليزيلوا هيبته من القلوب، ويقنعوا نفوس العامة من الأغرار بإمكان تحويله

في وقت من الأوقات، وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا)

إلخ.

هذا ما كتبناه في الانتقاد على اللواء عند ظهوره أي: من إحدى عشرة سنة

وشهور، وإنه لم يظهر لنا في كل هذه المدة أن الأجانب اشتغلوا بهذه المسألة، بل

الذي ظهر أن الإرجاف والإفساد لم يكن إلا من الطامعين في دنانير السلطان عبد

الحميد وأوسمته ورتبه، المتوسلين إليها بدعوى الإخلاص له ولدولته، أو الانتقام

ممن يسلطون عليهم عقارب سعايتهم، ومن يريد بالمسلمين سوءًا من الأجانب، لا

يحتاج إلى سعي ولا عمل؛ فحمقى المسلمين يكفونه كل سعي.

كبر انتقادنا هذا على جريدة اللواء في ذلك الوقت، فصارت كلما سنحت

الفرصة، تنتقم منا ضروبًا من الانتقام، حتى إنها نشرت في سنة 1323 مقالة في

العدد ال1754، ثم بعد أسبوع نشرت مقالة أخرى في ع 1762، زعمت أنها

جاءتها من جاوه تؤيد المقالة الأولى وتستدرك عليها، توهم قراءها بذلك أن في

جميع البلاد الإسلامية أفرادًا يشايعونها على الطعن فينا، ولم يخطر لمديرها ولا

لمحرريها ولا لمصححيها أن البريد إلى جاوه غدوه شهر ورواحه شهر تقريبًا،

فكيف يصدق العارفون بتقويم البلدان من قراء اللواء؛ أن العدد الأول يصل إلى

جاوه، ويكتب الكاتب ما يكتب في استحسان تلك المقالة والاستدراك عليها، وتصل

رسالته إلى مصر، وتنشر، ويتم ذلك كله في أسبوع واحد! ! وزاد طعنها فينا

معاداتها للأستاذ الإمام ودفاعنا عنه كما هو مشهور.

هذا التحامل علينا من جريدة اللواء الذي استمر من أول إنشائه إلى سنة

1323 التي أردت فيها تنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد، وتلك التهم التي كانت

تشيعها عن مسألة الخلافة العربية؛ لتنتقم بها لدى السلطان عبد الحميد ممن تتهمهم

بها، وذلك الإطراء الذي كان يطري به مدير اللواء ذلك السلطان المخرب للمملكة،

حتى إنه قال مرة ما معناه: إنه ينبغي لكل مسلم أن يضيف إلى الشهادتين بوحدانية

الله ورسالة خاتم النبيين شهادة ثالثة بخلافة عبد الحميد ذلك كله كان هو السبب في

حذرنا من مقاومة الحزب الوطني في مشروع الدعوة إلى الإسلام، وفي مقاومة

سياسة عبد الحميد ومطالبة بالشورى والدستور في (جمعية الشورى العثمانية) .

ولو شئت أن أشرح هذه المسألة وأنشر ما صار مطويًا في صحائف اللواء من

مدائح عبد الحميد وتقديسه، ومن الإرجاف بمسألة الخلافة العربية لأجل التزلف إلى

المابين، لأمكنني أن أكتب في ذلك مؤلفًا حافلاً، ولا سيما إذا أضفت إلى ذلك

بعض الوقائع؛ كإنكار محمد بك فريد على صاحب المؤيد نشره مقالاتي في إصلاح

الدولة العلية منذ ثنتي عشرة سنة؛ لأن ذلك يسيء السلطان و..

إن الذين كنت أحذر مقاومتهم وسميتهم الحزب الوطني؛ هم مدير اللواء

وبعض محرريه، ومحمد بك فريد وبعض مقلديه، ولا أعني أحدًا غيرهم ممن

اتصلوا بهم للمطالبة بجلاء الإنكليز عن مصر، ولجعل الحكومة المصرية دستورية

ولا يهمهم غير ذلك؛ كالانتقام الشخصي ومقاومة كل مشروع نافع يقوم به غيرهم،

ومن العجائب أن تطالبني جريدة العلم بالدليل على ما كان من حذري وتوقعي

مقاومة من ذكرت للمشروع في نفس العدد ونفس المقالة التي تقاومه هي فيه، فإذا

كان رئيس تحريرها ومن على رأيه من المحررين قد نسوا ما نشروه في جريدتهم

منذ أقل من أسبوع، كما نسي سلفهم الصالح المدة بين تينك المقالتين في اللواء

اللتين أشرنا إليهما آنفًا، فهل نسوا المقالة التي نزهوا فيها أنفسهم عن المقاومة؛

وهي ما أنشئت إلا للمقاومة! ! ! يقولون الآن: إن عندنا (أقاويل) أو (إشاعات)

أو شبهات على أن هذا يراد به غير ظاهر، وهذا عين ما كنت أحذره منهم من

قبل؛ إذ المقاومة لمثل هذا المشروع لا تكون إلا بمثل هذه (الأقاويل) والأراجيف

(شنشنة أعرفها من أخزم) .

على أنني كنت أظن في هذه المرة أن زعماء الحزب الوطني لا يقاومون هذا

المشروع؛ لأن لهم في شغل الحزب، وقد تكوّن ونمي ما يشغلهم عن انتقام هو في

الحقيقة جهاد في غير عدو، وقد مرت السنين وليس بيني وبينهم ما يسوء، ولأن

الشيخ عبد العزيز شاويش هو رئيس تحرير جريدتهم (العلم) وما كنت أظن أنه

يقدم على الإرجاف بهذا المشروع الجليل؛ بناء على الأقاويل والأوهام. فإذا كانوا

قاوموا في الحال التي حسن ظني بهم فيها، فكيف كان يكون شأنهم في الأيام التي

توفرت فيها الدواعي على المقاومة.

هذا، وإنني أبرئ كل عضو من أعضاء هذا الحزب عن مشايعة اللذين أو

الذين تصدوا للمقاومة، إلإ من كان إمعة لا روية له ولا استقلال، وأرجو - وقد بينا

لهم المشروع - أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى ربهم، فإن لم يفعلوا اليوم

فسيندمون بعد ظهور المشروع للوجود، وقيام حزبهم عليهم باللائمة والتفنيد، وما ذلك

من المستعجلين ببعيد.

ولا بأس أن نفكه القراء، وقد استولى عليهم الحزن من خذلان المسلمين

بعضهم لبعض بقول الشيخ عبد العزيز، وهو يكتب باسم الجريدة التي هي لسان

حزبه فإن كان الذي أغضب الأستاذ نسبتنا تلك الفكرة إلى أستاذنا المرحوم الشيخ

عبده، الذي كان لا يلقبه في حياته إلا بأمثال: (الأستاذ الحكيم والأستاذ الإمام،

وفيلسوف الإسلام) فليخفف عن نفسه قليلاً، فإنما أول من جاء بهذا الأمر منزل

القرآن) اهـ اقرءوا واسمعوا واضحكوا! ! ولا تعجبوا من قوله كان يلقبه في

حياته، وأنتم ترون هذا التلقيب في المنار بعد مماته أكثر ورودًا في المنار.

فمكابرة الحس لا تعد عجيبة من هؤلاء الناس، ولكن احمدوا الله معي، إن صاروا

يعترفون بأن الأستاذ الإمام أستاذهم، فالحمد لله على ذلك بعد أن كان معظم ما نالني

من آذاهم؛ سببه دفاع تهمهم عنه رحمه الله تعالى كما تعلمون من مجلدات المنار.

أنا لم أقل في ردي عليهم: إن الأستاذ الإمام لم يفكر في هذا الأمر ولا ذكرته؛

لأن الكلام كان مسوقًا لبيان أن هذا المشروع ليس جديدًا عندي، فيصدق أنني أريد

أن أخدم به الجمعية السياسية التي لم نسمع بخبرها إلا من العلم، ولكنني وأنا الذي

نشرت مناقب الأستاذ الإمام في الشرق والغرب أقول: إنني لم أسمع منه رحمه الله

تعالى كلمة تدل على أنه يريد تأسيس جمعية ومدرسة لهذا المشروع في مصر، ولا

على أنه يتمنى ذلك في الآستانة، وإنما كان يرجو أن يصلح الأزهر فيكون للمسلمين

منه كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ومنه الاستعداد للدعوة إلى الإسلام، ولم

أسمع منه شيئًا في ذلك بعد تركه للأزهر.

وأقول: إنني لا أشك في تفكير كثير من مسلمي الأقطار في هذا المشروع كما

فكرت فيه، وقد أشرت في المقالة الأولى إلى تاريخ هذه الفكرة عندي، وإلى بعض

ما كتبته من التمهيد لها، وإنني لم أستقص في تلك الإشارات، وقد تذكرت الآن حديثًا

في ذلك دار بيني وبين شيخ الجامع الأزهر، وذكرته في عدد المنار الذي صدر في

شهر المحرم سنة 1319 أي منذ عشر سنوات كاملة، ذكرت فيه للشيخ شيئًا عن

الجمعيات الدينية في فرنسة وثروتها وأعمالها، وتوقف حفظ الدين الإسلامي على

مثل هذه الجمعيات المالية التي تجمع بين الدين والعلوم الكونية، وقلت له هذه العبارة

(وإن هذا ما يدعو إليه المنار) فليراجع ذلك من شاء في أول ص158 من مجلد

المنار الرابع.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) جاء في الفصل الذي عقده اللورد في تقريره عن السودان سنة 1904؛ أنه كتب إلى جمعية التبشير للكنيسة الإنجليزية كتابًا يدعوها فيه إلى التبشير في أقاليم السودان الجنوبية، ويخبرها أنه خُصص لها قسم كبير من تلك البلاد في الوقت الحاضر، كما خصصت أقسام أخرى للمبشرين النمساويين والأمريكيين وقال: إنه ذكر في كتابه إلى تلك الجمعية الجملة الآتية التي أوردها إفادة للقراء من المسلمين، وهي: (لم يطلب أحد حتى الآن رخصة لإنشاء مدارس في جنوب السودان على نفقته؛ تعلم فيها فرائض دين الإسلام، ولو طلب أحد طلبه لحل طلبه محل القبول، أقول ذلك إظهارًا لخطة الحكومة ودفعًا لكل وهم، فإن غرض الحكومة التعليم والتهذيب لا غير، فعلى الذين يتبرعون للدخول في هذا العمل على نفقة الجمعيات أو الأفراد أن ينتفعوا من مقاصد الحكومة، وينشروا معها تعاليمهم الدينية.

ص: 47

الكاتب: محمد رشيد رضا

مقالة العلم الثالثة

بعد نشر مقالتنا الثانية في بعض الجرائد اليومية، رجعت جريدة العلم عن

الإرجاف بكون مدرسة الدعوة والإرشاد تنشأ لهدم الخلافة العثمانية وتأسيس خلافة

إنكليزية، ونشرت في صدر عددها الذي صدر يوم الأحد 21 المحرم المقالة الآتية

بنصها، وهي:

(مدرسة الدعوة والإرشاد الإسلامي)

نشرنا في هذا الباب ما نشرنا، وكنا نحسب أنه غنية لمن كان مخلصًا من

رجال هذا المشروع، ولكننا نجد في كل يوم أفرادًا يكثرون من اللغط، ويطرحون

علينا أسئلة الاستنكار والاستهجان، زاعمين أننا أتينا بدعًا من الرأي، وزورًا من

القول، فلا بد لنا من كلمة ثالثة في الموضوع تزيده إيضاحًا وتبيانًا.

يعلم المفكرون أن أوربا كل يوم ترمينا بتلك التهمة الباطلة تهمة التعصب

الديني والجامعة الإسلامية.

طالما رمتنا بذلك، وكم جنت من وراء هذه التهمة التي تختلقها لتنال بها

مآربها من العالم الإسلامي، فتلزمه السكون والسكوت، وتقعده عن النشاط

والعمل، وتفرق بين أجزائه حتى لا يلتئم له شمل، ولا يرتق له فتق.

طالما رمتنا أوربا بذلك، وطالما جنت من وراء هذه التهمة المفتراه، فماذا

كنا ندرأ به عن أنفسنا هذه الويلات لا سيما في تلك السنين التي خضدت فيها شوكة

الحكومة الإسلامية، وأصبح الإسلام وأهله في أيدي الحكومات الصليبية.

وهل استطاع المسلمون أن ينجوا من آثار تلك التهم إلا بما كانوا يعلنونه

ويشهدون العالم عليه من أنهم أهل سلم لكل مسالم، وأرباب وفاء لكل معاهد، هل

استطاعوا أن يعدوا لأعدائهم مثل ما أعد هؤلاء لهم من مدافع مدمرة، وأساطيل

مصفحة، وكتائب سابغة الدروع تامة السلاح، هل استطاعوا أن ينافسوهم في

ميادين الاقتصاد، فيستغنوا عن مالهم، أو يزاحموهم في أسواق التجارة فيكفوا

الحاجة إليهم؟

إذًا، فماذا يبتغي أصحاب هذه المدرسة؟ قد يكونون - كما قلنا في أول كلمة

لنا - حسان القصد طاهري الضمير، ولكن إلى من يعدون خريجي مدرستهم؟ أَإلَى

أهل تونس والجزائر والمستعمرات الإسلامية الفرنسية، وهي تلك الدولة التي

لا تغفل عن مصالحها، ولا تكاد تبيح لأجنبي عنها التوغل في أعماق مستعمراتها

أو مخالطة أحد من رعاياها. أم إلى مسلمي جاوه، وتلك حكومة هولانده قد

أحاطتهم بنطاق من يقظتها، وحالت بينهم وبين العلم والنور والحرية والعوالم

الأخرى، فهي لا تسمح لأحد منهم بمقابلة أحد ولا معاشرته، إلا إذا كان هناك من

عيونها من لا يفتر عن مراقبته، ولا تأخذه غفوة عن سكونه أو حركته.

لعلهم يريدون أن يبعثوا بهم إلى أرجاء السودان؛ ليدخلوا أهله في دين

الإسلام، إذًا فهل أمنوا جانب إنجلترا ونسو مآربها هنالك، ألا والله لتعتبرن أولئك

الدعاة للإسلام أهل فتنة ودعاة ثورة، ولتقيمن لهم المحاكم المخصوصة ولتنصبن

لهم المشانق، ولتبطشن بهم بطش الجبارين، فهل أعددتم لوقايتهم ما أعدت دول

الصليب لمبشريها وحماة دينها من البأس والقوى، وهل سلكتم ما سلكه أولئك أيام

كانوا جهالاً ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء.

أظننتم أن مريدي الشر للإسلام في غفلة عنّا، أو أنهم يسرهم أن تقوم على وجه

البسيطة مدرسة كهذه على النحو الذي يقوله أصحاب ابتداعها.

أأمنوا اتحاد دول الصليب علينا إذا علموا أننا نسعى لنشر كلمة الإسلام،

وهل غرَّهم ما يرونه من إحدى الدول العظمى التي تظهر الميل والعطف على العالم

الإسلامي، وكيف يغتر بها من يستقرئ خطواتها، ويدرس اضطرابها وتذبذبها،

وهي تلك التي لا تكاد تستقرعلى حال واحدة عدة أيام، فكم من عهد لم توف به؟

وكم من أمة خدعت بمعسول وعودها واطمأنت لزخارف أقوالها، ثم قطعت أناملها

ندمًا على ما فرط منها.

اعقلوا أيها القوم، وتدبروا الأمر قبل أن تجنوا في مغبته الخيبة، وتعجلوا

للمسلمين ما لا قبل لهم به، وإذا زعمتم أنكم تريدون دعوة غير المسلمين كما

صرحتم بذلك، فخير لكم أن تبدأوا بالجهال من بني دينكم وكثير ما هم، ثم إذا

وجدتم من أوقاتكم ومجهوداتكم متسعًا فثنوا بمن تشاءون من غيرهم، ولقد أسلفنا لكم

أنكم إذا ربحتم المسلمين، وأصلحتموهم، واكتفيتم بهم، فقد ربحتم كثيرًا وخسرتم

قليلاً.

إننا أيها القوم لسنا أعداء الإصلاح، ولا محاربي العاملين في سبيل

الإصلاح. ولكنا قد أدركنا مغبة مساعيكم، فروينا الذي رويناه، ولم ندع اعتقاد

شيء منه، وإنما بسطنا لكم القول وشرحنا لكم وعورة الطريق التي تسلكونها،

وأرشدناكم إلى أن أمامكم الأزهر الذي هو المدرسة الإسلامية العظمى، فأدخلوا فيه

ما شئتم من مواد الدراسة، وأعدوا طائفة منهم للوعظ والإرشاد، وهداية العامة من

المسلمين وغيرهم إلى الحق، والصواب من قواعد الدين الحنيف وأركانه، ولا

تستمسكوا بالألقاب والأسماء، ولا تقيموا معهدًا خاصًّا لما أردتم، فقد نمتم عن قوم

لا ينامون، وتجاهلتم أمر أعدائنا الذين لا يغفلون، وإذا لم يكن لكم بد من إقامة هذه

المدرسة فلا تدعوها بما يجلب عليها وعلى الإسلام الشقاء من الأسماء.

هذه كلمتنا للعقلاء المفكرين من المشتغلين بهذا المشروع، أما النفر المتعصب

لرأيه المتنطع في قوله، فما كان لنا أن نعنيه برد ولا نصيحة، فليأت العقلاء

المخلصون من الأعمال ما تحتمله الأحوال الحاضرة ولا تنافره الظروف السياسية،

وليقيموا ما شاءوا من المدارس على شريطة ألا يجروا بأسمائهم الضخمة وعنوانيها

الفخمة عليها شيئًا من البلاء والشقاء، وليتقوا الله في العالم الإسلامي، فلا يجلبوا

عليهم بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل بهم، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم

محسنون.

(الرد على هذه المقالة)

بينت لنا هذه المقالة التي نشرت يوم الأحد 21 المحرم عدة أمور نذكرها مع

التعقيب عليها:

(1)

إن أصحاب جريدة العلم يجدون في كل يوم أفرادًا يكثرون اللغط،

ويطرحون عليهم أسئلة الإنكار والاستهجان، ويرمونهم بالبدع من الرأي والزور

من القول، كل هذا صرحت به العلم، وما سمعنا من أصحاب جريدة الحزب

الوطني قبل مثل هذا الاعتراف بإنكار الناس عليهم كل يوم شيئًا من الأشياء، بل

ما رأينا المسلمين بمصر اهتموا بمواجهة فرد من الأفراد فضلاً عن حزب من

الأحزاب بالإنكار والاستهجان، وناهيك استنكار واستهجان ما يكتب في جريدة العلم

التي يتحامى الناس الجهر بالإنكار عليها؛ تكريمًا لأنفسهم وصونًا لها من هجو

جريدة تكتب بمداد من السمّ، بل العادة الغالبة أن ينتقد الناس المخطئ في غيبته

ويسكتون في وجهه، ولو علم رئيس تحرير العلم كل ما يقول الناس فيه، لتبين له

أن مقامه لم يصل في مصر إلى درجة يقبل معها كلامه في تقبيح أفضل وأقدس

خدمة يخدم بها الإسلام لا عند الحزب الوطني ولا عند الجمهور، وإنما يمكن أن

يقبله بعض الملحدين المارقين من الإسلام دينًا وجنسية. ويغلب على ظني أن في

المنكرين على الشيخ عبد العزيز شاويش بعض أعضاء الحزب الوطني، ولولا ذلك

لما غير رأيه وناقض نفسه فيما كتبه أولاً وثانيًا.

(2)

تقول جريدة العلم اليوم: إن أوربا تتهم المسلمين بالتعصب الديني،

وما استطاعوا أن ينجوا من آثار تهمتها بما يعلنونه من سلمهم ومسالمتهم، وإن هذه

الخدمة تزيد في اتهامهم وعداوتهم للمسلمين، فلا ينبغي أن تكون. ونجيبها عن ذلك

بأنه إذا كانت أوربا لا يرضيها منا إلا ترك شعائر الإسلام وفرائضه أو حتى نتبع

ملتهم، أفتأمرنا جريدة العلم بأن نترك فرائض ديننا لأجل إرضاء أوربا أو

دفع تهمتها. قد بينا في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إلى العلم كغيره من الجرائد أن هذا

المشروع قيام بثلاث فرائض إسلامية مجمع عليها، فكيف ينهانا أن نؤدي فرائض ديننا خوفًا من اتهام أوربة إيانا بالتعصب، وهو تحصيل حاصل؟ ؟

(3)

تسألنا جريدة العلم في معرض الإنكار؛ إلى أين نرسل خريجي هذه

المدرسة، وفرنسة وهولندا وإنكلترا لنا بالمرصاد في مستعمراتهن وفي السودان،

وأقسم الكاتب على أن الأخيرة منهن لا بد أن تقيم لهم في السودان المحاكم

المخصوصة، وتنصب لهم المشانق، وتبطش بهم بطش الجبارين. يريد الكاتب أن

يوهم قراءه أن الرحمة والشفقة الفائضتين من قلبه الشريف على الذين سيتخرجون

في مدرسة الدعوة والإرشاد ويرسلون إلى السودان؛ هما اللتان حملتاه على هذا

الإنكار الشديد لاستعداد المسلمين لأداء هذه الفرائض الدينية، فأبرز إنكاره أولاً

بزعم أن المراد من هؤلاء الدعاة إسقاط دولة الخلافة العثمانية وإنشاء خلافة

إنكليزية، وآخر بأن الإنكليز سيبطشون بهم بطش الجبارين، ويجعلوهم عبرة

للمعتبرين، ويكون مؤسسو المدرسة هم السبب في ظلم هؤلاء المساكين! ! ! ،

ونجيبه: أولاً - بأن الناصح الغيور على المسلمين، الذي لا يعادي الإصلاح

والمصلحين، لا يستحل مثل البهتان الذي أرجف به العلم في المسألة من قبل،

وثانيًا - بأن الخوف من إيذاء المسلم في سبيل الله في المستقبل، لا يبيح له

ترك الفرائض والاستعداد لنشر الدعوة.

ثالثًا - بأن المتعاونين على هذا المشروع ومن يربونهم ويعلمونهم ليسوا ممن

قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ

كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) فهل يرضي أصحاب العلم أن يكونوا منهم.

رابعًا - إن لورد كرومر قال في تقريره الرسمي عن السودان: إن الحكومة

هناك تسمح للمسلمين بنشر الإسلام وتعليمه، فإذا أرسلنا إلى هنالك من يطلب منها

الإذن له بهذا ولم تأذن له؛ فإنه يمكنه أن يرجع إلى مصر بحجة ناهضة لجريدة

العلم أو ما يخلفها تجاهد بها الإنكليز، ولا يعرض نفسه لبطش الإنكليز.

خامسًا - إن السبب في اتهام أوربا إيانا بالتعصب الديني؛ هو السياسة في

الغالب، وقد امتاز مصطفي كامل باشا وأتباعه في الحزب الوطني بدعوة الوطنية

على وجه ينافي الوحدة الإسلامية، ونرى أوربة وغير أهل أوربة كالقبط، يتهمون

هذا الحزب وجرائده بالتعصب الديني ولم نرهم يتهمون مجلة المنار بذلك وهي

دينية؛ تقيم حجج الإسلام، وتردد شبهات النصارى وغيرهم، وتقيم الحجة عليهم؛

لأنها لا تفعل ذلك لأجل السياسة، وقد قامت جمعية ندوة العلماء في الهند بعمل

قريب من العمل الذي شرعنا فيه أو مثله، ولم تلق من الإنكليز بطش الجبارين،

بل أعطوها قطعة أرض لتبني مدرستها فيها. وغاية ما نرجو نحن بعملنا الديني

العلمي المدني الخالي من كل شائبة سياسية أن لا تعرقله وتضطهده كل حكومات

أوربة في مستعمراتها عملاً بحرية الدين، وقد صرحت هولندا بأنها تأذن لعلماء

المسلمين بالإرشاد في جاوه إن وجدوا، ولا تمنع إلا مشايخ الطرق الدجالين،

وسيكون المتخرجون في مدرستنا أبعد المسلمين عن أهواء السياسة ومقاومة

الحكومات.

وسادسًا - إذا منعنا الأوربيون من مستعمراتهم الإسلامية في إفريقية وجزائر

المحيط والهند فأمامنا اليابان والصين، فإذا تيسر لنا ترقية مسلمي الصين

بالإرشاد، وأهل اليابان بالدعوة إلى الإسلام، نكون قد عملنا أفضل الأعمال.

وسابعًا - إذا كان ذلك الكاتب في العلم يخاف على هذا المشروع من اضطهاد

دول الصليب كما ادعى، فلماذا يختار إلصاقه بمشيخة الإسلام في الآستانة،

ويقول: إن ذلك محله الطبيعي؟ أيجهل أنه لا يقيم قيامة أوربة عليه شيء كإلصاقه

بالدولة العلية، إن كان يجهل هذا فساسة الآستانة لا يجهلونه، وليعلم أن هذا هو

السبب الذي حملني على إيذان شيخ الإسلام وغيره من رجال الآستانة بأنني لا

أشتغل بالعمل هناك، إلا إذا كان بعيدًا عن السياسة ظاهرًا وباطنًا، ولم يكن له

صبغة رسمية.

(4)

تسألنا جريدة العلم هل سلكنا ما سلكه أهل الصليب أيام كانوا مثلنا

اليوم جهلاء ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء، ونجيبها نعم.. إننا

أردنا ذلك، ولكن مصاب المسلمين بوجود مثل ذلك الكاتب محررًا أو رئيس تحرير

في جريدة تنتمي إلى حزب يعتقد أنه يؤديها ولو بالباطل؛ هو الذي حال بيننا وبين

ما نشتهي من السكون والسكوت، فماذا نفعل إذا كان الذي أثار بيننا الجلبة

والضوضاء هو أقدر أهل بلادنا على الجلبة والضوضاء لأنه هجيراه في حياته،

ومورد رزقه وعنوان جاهه.

(5)

ينصح لنا ذلك الكاتب المفتات بأن نبدأ بالجهال من أبناء ديننا،

فنعلمهم ونرشدهم ثم نثني بغيرهم إن وجدنا من أوقاتنا ومجهوداتنا متسعًا، كتب هذا

بعد أن قرأ في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إليه مع كتبًا خاص، فلم ينشرها وبعد أن

نشرها المؤيد، ونشر موضوع المدرسة منها غير المؤيد؛ كالأخبار والأهالي،

وعلم الألوف من الناس كما علم هو أن هذا هو غرضنا، وليس هذا ببدع من إرشاد

جريدة العلم، فقد كنت منذ عهد قريب تقترح من إصلاح قانون الأزهر ما هو

منصوص في ذلك القانون؛ لأن رئيس تحرير هذه الجريدة جعل نفسه بغروره

مرشدًا للحكومة والأمة، وإن كان ما يأمر به تارة من تحصيل الحاصل، وتارة من

الممتنع شرعًا أو عقلاً أو قانوناً أو عادة، وماذا يهمه أن تمتع بلذة الأمر والنهي،

أن يكون إرشاده من العبث واللغو.

(6)

أمرنا رئيس تحرير العلم عملاً بشنشنته؛ بأن ندخل ما نشاء في مواد

المدرسة في الأزهر، ونعد طائفة من طلابه للإرشاد والدعوة، ونبأنا أن نقيم معهدًا

خاصًّا لما أردناه! ! وهو يجهل أو لا يجهل (الله أعلم) أن امتثال أمره ليس في

أيدينا، ولا مما يدخل في استطاعتنا، إن الداعي إلى هذا المشروع هو العاجز

الضعيف صاحب المنار، وقد عيره هو بالضعف والعجز في جريدة العلم مرارًا،

وما فعل ذلك إلا إعجابًا وغرورًا بحوله وقوته، واعتزازه بحزبه، ولكنه نسي مع

ذلك انه هو قد عجز على قوته وعظمته عن تعبير شيء من مواد قانون الدراسة في

الأزهر، فكيف يقدر على ذلك هذا العاجز الضعيف الذي لا حزب له ولا حول ولا

قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذا كان أمره لا يطاع فكذلك نهيه فليترك هذه الرياسة

العامة، في هذه المسألة الخاصة، أو ليكتف بالإرجاف والتشهير، إن كان مُصرًّا

على مقاومة هذا العمل الشريف.

(7)

ناقض العلم نفسه كعادته، فأذن في آخر مقالته للعقلاء المخلصين منا

بالأعمال لتي تحتملها السياسة، وأن يقيموا ما شاءوا من المدارس (على شريطة أن

لا يجروا شيئًا بأسمائها الضخمة وعناوينها الفخمة عليها من البلاء والشقاء) ،

ونهاهم (أن يجلبوا على العالم الإسلامي بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل

به) ! ! ! وغرضه من هذا الأمر - إن أطيع فيه - أن يتلذذ بنفوذه في إبطال

المشروع أو عنوانه الدال عليه، وما رأينا في غرائب هذا الكاتب وبعده عن

المعقول أبعد عن الصواب من توهمه أو إيهامه أن البلاء والشقاء سينزلان بالعالم

الإسلامي بسبب كلمة الدعوة والإرشاد، وإن الأوربيين مثله يحفلون بالألفاظ دون

المعاني والحقائق. وأما المشتغلون بتنفيذ هذا المشروع فيريدون أن يكون ظاهرهم

كباطنهم وقولهم كفعلهم، يعلمون أنهم لا يقدرون على غش الأوربيين وخداعهم إن

أرادوا ذلك - وهم لا يريدونه كغيرهم - ولذلك يصرحون بأنهم يربون طائفة من

الطلاب ويعلمونهم ما يقدرون به على الدعوة والإرشاد والتعليم، يرسلونهم إلى أحوج

البلاد الإسلامية إليهم، ثم إلى البلاد الوثنية، ثم إلى غيرها كما بينا في المقالة الثانية

من تقديم الأهم على المهم بحسب الاستطاعة، وسيسيرون على سنة الله تعالى في

أمثالهم من المصلحين، وقد وعد الله تعالى بإظهار هذا الدين كله ولو كره

الكافرون، وكان وعده مفعولاً في كل حين.

وقصارى الكلام، أن جريدة العلم قد خرجت عن منهج الرشد، وأسرفت في

البعد عن الحق، بالغلو في مقاومة هذا المشروع المفروض، بما لا يقبله إلا من اتبع

كل ناعق فيما يقول، لحرمانه من حرية الفكر، وعطله من حلية استقلال

الرأي، فهاجمته أولاً بالإرجاف السياسي وإيهام الناس أنه سيكون من القوة، بحيث

يسقط دولة للمسلمين ويؤسس دولة للإنكليز، بإيهامهم بعد ثلاثة أيام أنه من

الضعف بحيث يجزم الكاتب، ويحلف بأن الإنكليز سوف يسومون أهله سوء

العذاب! ! ! حار الكاتب في هذا الأمر وحاص، وناقض نفسه عدة مرات، ثم

تنصل من عداوة المشروع ومقاومة أهله، وادعى أنه ناصح ولو كان ناصحًا لنشر

مقالتنا الثانية، وجعل النصيحة بيننا وبينه، على أننا ننصح له كما نصح لنا بأن

يحاسب نفسه فيما يكتب بينه وبين الله، ولا يقفو ما ليس له به علم؛ عملاً بكتاب

الله عز وجل، وليقل خيرًا أو ليصمت؛ عملاً بهدي المصطفى صلى الله عليه

وسلم، لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وأن يرجع إلى الحق فذلك خير من

الإصرار على الباطل، كما هي سنة السلف الصالح، فإن قبل النصيحة عاد

من التشنيع والتشهير والتشكيك والتهديد والوعيد إلى بيان محاسن المشروع والحث

عليه والترغيب فيه، ويكون عمل بحديث: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق

الناس بخلق حسن) رواه أحمد والترمذي عن أبي ذر ومعاذ. وحينئذ يجعل

النصيحة بينه وبين القائمين بإحياء هذه الفرائض التي يرجى بها تجديد دعوة

الإسلام - إن شاء الله تعالى - كما هو شأن المخلصين في نصحهم؛ الذين لا

يقصدون به الرياء والدعوى. وإن أخذته العزة بالإثم، ولم يعمل بهذه النصيحة

فحسبه غروره وتغريره، وعاقبة عدوانه ومصيره، وحسبنا الله فهو أغيرعلى

دينه من جميع عبيده المؤمنين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

_________

ص: 59

الكاتب: محمد رشيد رضا

إنذار للمرجفين

لئن لم ينته المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في مصر،

بمشروع الدعوة والإرشاد لنكشفن الستار عن السر الخفي الذي آلى على نفسه

ذلك الرئيس في الآستانة أن يحارب به الإسلام، وعهد باسم جمعيته السرية إلى

مندوبه في مصر أن ينصره فيه ظالمًا ومظلومًا باسم الانتصار للدولة العلية

ومحاربة أعدائها، فصديق الدولة الحقيقي من يخدم الإسلام، وأعدى أعدائها من

يخذل أي مشروع إسلامي في أي مكان، ولا خير لها في إصلاح يضع أساسه يهود

أوربا في سلانيك، ويؤيدهم فيه ملاحة الروملي والأناطول، وإن شايعهم عليه

المندوب الأخرق، ومحرره البذيء الأحمق، وتضافروا على نصر الباطل وخذل

الحق، نعم.. إننا نكشف الستر، ونفشي ذلك السر، الذي أشرنا إليه في فاتحة

هذه السنة، ولا نخشى في ذلك لومه لائم، ولا عذل عاذل، فإننا لم نحلف عليه يمينًا،

ولم نعاهد عليه أحدًا عهدًا، وإنما جاءنا من مصادر شتّى في الآستانة يتمنى رواتها لو

يعرفه المسلمون؛ ولكنهم لا يأذنون الآن بذكر أسمائهم، ولا الإشارة إلى سماتهم؛ بل

سمعنا بآذاننا، وشهدنا بأنفسنا في مقام الجهر لا في زوايا السر، ما لا يمكن دفعه

ولا يستطاع دحضه.

_________

ص: 67

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نهضة التعليم الإسلامي في سملك دابل

بعد حمد لله، والصلاة والسلام على المصلح الأعظم سيدنا محمد وآله وصحبه.

نقدم تحياتنا الخالصة لحضرة الإمام العلامة الداعي إلى الله على بصيرة الغيورعلى الملة الإسلامية، حضرة الأستاذ: محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار

الغراء.

سيدي، إنا لما نعلمه من تفانيكم في خدمة الإنسانية عمومًا والمسلمين

خصوصًا؛ الذي نرى أعظم شاهد عليه انتشار مجلتكم الغراء في أرجاء العالم وما

لها من التأثير العجيب في استنهاض همم المسلمين إلى ما يعلي شأنهم، ويأخذ بهم

إلى الطريق الأقوم، وتحسين حالاتهم الأدبية والمادية، ولما نعلم من شغفكم

بالاطلاع على ما يتجدد من حركات التقدم بين المسلمين في هذه الجهات، والطرق

التي يسلكونها للرجوع إلى أحوال دينهم القويم، وما جاء به سيد المرسلين، وما

كان عليه السلف الصالح من التخلق بأخلاق القرآن العزيز، والتأدب بآدابه،

والسير في حالاتهم الاجتماعية على ذلك الدستور الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا

من خلفه، الصالح لكل زمان ومكان، الموافق لحالة أي جنس من الأجناس البشرية،

إنا لما نعلم كل ذلك منكم أحببنا أن نبشركم أن حركة تقدم المسلمين في كل حالاتهم

بجهاتنا لا تزال في تقدم مستمر، وقد أدرك جميع العقلاء أن لا سبيل إلى نيل ما

يؤملون إلا بالعلم الذي به تتنور الأذهان، وتتثقف العقول، وقضية مسلمة تكاد

تكون مجمعًا عليها عند سائر الأمم؛ ولهذا لهجت الألسن، وقامت الخطباء، وكتبت

الكتاب التعليم التعليم العلم العلم، حتى أصبحت فكرة التعليم هي الشائعة

هنا، وقد أنشئت في المدن الكبرى عدة مدارس وكتاتيب، وهي وإن كانت لم تبلغ

الدرجة المطلوبة، إلا أنها الآن عاملة على إحداث حركة فكرية لا يستهان بها

يصحبها ترق في الأخلاق والآداب، وهي سائرة على سنة النمو الطبيعي، ولا بد

يومًا أن يكون لها شأن يذكر في العالم الإسلامي.

ونبشركم أيضًا، وهو ما جعلنا نتجاسر على مكاتبتكم من غير سابق معرفة،

أنا قد وفقنا بعونه تعالى إلى إقامة مدرسة بقريتنا المسماة (سملك دابل) التي لا

تبعد عن مدينة (سورت) إلا بمسافة قريبة بجهة الهند، هذه المدرسة تعاون على

إنشائها أعيان المسلمين في القرية المذكورة، وأول اكتتاب سمحت به أنفس أولئك

الكرام لإنشاء هذا المعهد العلمي يقدر بأربعين ألف روبية، ثم تعاونوا على أخذ

عقار تكفي غلته نفقات المدرسة، تأسست منها المدرسة منذ سنتين باسم (مدرسة

تعليم الدين) . أما العلوم التي تدرس فيها، فإنما هي العلوم الدينية والقرآن الشريف

والخط العربي والفارسي والأوربي والإنكليزي والقزاري مع تعليم هذه اللغات

الخمس، ويدرس فيها علم التاريخ الإسلامي بوجه خاص مع بقية التواريخ بوجه

أعم، وتدرس فيها أيضًا مبادئ العلوم الأخرى. أما المدرسون في هذه المدرسة

فكلهم من مسلمي الهنود، وتتكفل هذه المدرسة بتعليم أولاد الفقراء مجانًا، وتقوم بكل

ما يلزم لهم من السكنى والنفقة والكسوة وغير ذلك حتى من المكملات الغير

الضرورية، كل ذلك رغبة في نشر العلم، وتربية الناشئين تربية دينية تهذيبية

تزرع في قلوبهم حب الخير، وتقدح في صدورهم زناد الغيرة، وتحثهم على

النشاط والجد والسعي إلى كل ما يعلي شأنهم وبلادهم.

وقد أنشئت حتى الآن لهذه المدرسة فروع عديدة في نواحي القرية المذكورة،

وكلها عامرة بالتلاميذ، وترسل هذه المدرسة إلى نواحي القرية والأماكن النائية قليلاً

عنها المعمورة بالفلاحين المسلمين ترسل إليها بعثات تدعوهم إلى الدين الحق،

وتعلمهم واجباته الأولية، وتعود هذه البعثات يتبعها من أولاد المسلمين الفقراء

وغيرهم عدد غير قليل، كلهم يهاجرون من أماكنهم رغبة في التعليم، والمدرسة

تتكفل بكل ما يلزم لهؤلاء الغرباء، وكل تلميذ يدخل في هذه المدرسة لا يكون لوليه

أن يخرجه من المدرسة قبل أن يمضي عليه فيها ثلاث سنوات على الأقل.

وبالجملة فنحن - بتوفيق الله - سائرون بهذه المدرسة إلى طريق التقدم؛

راجين من كل من تجمعنا معه الجامعة الإسلامية والشريعة مد يد المساعدة إلينا

بالأفكار السديدة والآراء الحميدة، فالمرء كثير بأخيه، ولولا ضيق المقام لشرحنا لكم

من أخبار هذه الجهة ما ربما أحببتم الاطلاع عليه، وربما بعد هذا أرسلنا إليكم

الرسالة التي تطبع رأس كل سنة مبينًا فيها من تنجبهم مدرسة التعليم الديني، وفي أي

العلوم، وعدد التلاميذ، والمرسلين، وقدر المصروفات والتبرعات، وكيفية إخراج

ذلك ذلك، ولولا أنها مطبوعة باللغة الأوردية لأرسلنا إليكم منها نسخة الآن. لكن

عسى تحصل فرصة لنترجمها إلى العربية، فنرسلها إليكم أو نرسل إليكم رسالة

السنة القادمة لقرب موعدها.

وفي الختام نمد يد الفاقة إلى مساعدتكم، وذلك بأن تسعفونا بإرسال مجلتكم

المنار لهذه المدرسة مساعدة لإخوانكم في الدين، ولكم من الله مزيد الأجر، وفي

محلنا هذا قل أن توجد المجلات والجرائد العربية، ونحن كثيرو التلهف إلى

انتشارها هنا؛ لنطلع على ما عليه إخواننا بجهاتكم، وما هي المسافة التي قد

قطعوها في سيرهم العلمي، ونطلع على أحوال الدول الإسلامية بتلك الجهات، ولا

سيما ما يتجدد من أخبار دولتنا العلية، وما هو مركزها اليوم بين دول الأرض بعد

أن أصبحت حكومتها دستورية موافقة لروح العصر، وبناء على ذلك، فنحن نطلب

منكم أن تلفتوا أنظار أهل الجرائد المصرية والبيروتية والتي تصدر بالآستانة بأن

يمنّ علينا من شاء منهم بإرسال جريدته، وله منا مزيد الشكر والامتنان، وكذلك

المؤلفون والمتصدقون بالكتب العلمية، من سمحت نفسه منهم بإرسال كتاب أو كتب

لمكتب هذه المدرسة، فنحن له من الشاكرين، ويقلدنا بذلك منة لا نستطيع القيام

بحق شكرها، ويخدم بني ملته خدمة يحفظها له التاريخ.

أما مجلتكم، فلا تخيبوا آمالنا بتأخير إرسالها، كما أن ثقتنا بإخلاصكم في

خدمة المسلمين تجعلنا لا نشك في مساعدتكم، وإن تفضلتم بإرسال نسخة من تفسير

الأستاذ الإمام فحاجتنا إليها شديدة جدًا. أكتب لكم هذا وأنا الآن بسرباية جزيرة

جاوه، وأتيت إليها من مدة قريبة؛ لاستنهاض مواطني المهاجرين بهذه الديار،

وحثهم على مد يد المساعدة على إحياء العلم ونشره ببلادهم.

...

...

... محبكم: حسن أحمد منصور

...

...

... خادم مدرسة تعليم الدين

(المنار)

نشكر للكاتب ولسائر أهل الغيرة القائمين بأمر هذه المدرسة، والمتبرعين

لها حسن سعيهم، ونرغب إلى الكاتب أن يعجل بإرسال الرسالة التي وعد بها

مترجمة بالعربية، وأن يبين أسماء الكتب العربية التي تدرس في المدرسة؛

لنبدي رأينا فيها، وسنرسل المنار وغيره من الجرائد للمدرسة إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 68

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقريط المطبوعات الجديدة

(النسائيات)

كنا نقرأ في (الجريدة) مقالات في شؤون النساء، عنوانها العام (النسائيات)

بإمضاء (باحثة بالبادية) ، وكنت ظننت عند قراءة أول ما اطلعت عليه بهذا

الإمضاء أن كاتبه رجل، ثم علمت أنه من إنشاء الكاتبة الشاعرة الأديبة ملك

ناصف، كريمة صديقنا حفني بك ناصف وقرينة صديقنا عبد الستار الباسل الزعيم

في قبيلة الرماح العربية التي تقيم في جهة الفيوم، وكأن الكاتبة بدأت بما كتبته

للجريدة وأمضته بلقب (باحثة بالبادية) وهي في دارها التي هناك بجوار القبيلة،

وإن كانت دار مقامها عامة السنة في القاهرة.

تربت الكاتبة في حجر والدها، ومقامه في العلم والأدب والنظم والنثر

معروف، فهو من الرعيل الأول الذين تخرجوا في مدرسة دار العلوم بعد الدراسة

في الأزهر، وأخذ عن الأستاذ الإمام، ثم علم وصنف، ثم صار قاضيًا في المحاكم

الأهلية، فقتل الزمان علمًا وخبرًا، وآثار علمه وأدبه مدروسة غير دراسة،

وتعلمت في المدرسة السنية الأميرية حتى صارت من المعلمات، ثم اقترنت

بالرجل البدوي الحضري الذي عرف أوربا كما عرف القاهرة، وخبر الأحوال

الاجتماعية البادية والحاضرة، وهو من مؤسسي حزب الأمة، ولهذا خصت قرينته

(الجريدة) بمقالاتها. وغرضنا من هذا البيان أن يعرف القارئ بأن صاحبة

مقالات النسائيات جديرة بذكائها الفطري والوراثي، وبتربيتها المنزلية والمدرسية،

ثم صيرورتها ربة بيت وقرينة بعل يعرف قيمة العلم والأدب والإصلاح، جديرة

بأن تكتب ما ترجى فائدته في النسائيات التي هي أهم المسائل الاجتماعية في مصر

والعالم الإسلامي المدني في هذا العصر.

تغيرت حال الاجتماع في المدائن الإسلامية بقدر انتشار التعليم العصري فيها،

واختلاط أهلها بالإفرنج والمتفرنجين، فتجددت لكثير من الرجال آراء ورغبات

فيما ينبغي أن تكون عليه بيوتهم ونساؤهم، والنساء لا يشعرن بالحاجة إلي تغيير ما

في نظام البيوت ولا في معارفهن وآدابهم وعادتهن. واقتضت تلك الرغبات في

بعض الرجال أن يعلموا البنات كما يعلمون الصبيان في المدارس العصرية التي

أنشأتها الجمعيات النصرانية الإفرنجية، ثم المدارس التي أنشأتها الحكومة، ثم

الأهالي لمحاكاة مدارس الإفرنج وتقليدًا لهم فيها، ولما تعلم بعض البنات صار فيهن

من يرغبن فيما يرغب فيه بعض المتعلمين من التغيير، ولكن الراغبات في ذلك من

المتعلمات أقل من الراغبين فيه، على أن المتعلمات أقل من المتعلمين.

يختلف المفكرون في هذه المسالة اختلافًا كبيرًا، فمنهم من يرى أنه ينبغي لنا

تقليد الإفرنج حذو القذة بالقذة، ومنهم من يرى أن ذلك أضر علينا من جهل النساء،

وبين هذين الطرفين آراء كثيرة، والحق الذي لا ريب فيه هو أنه لا يمكن أن

ينتظم حال الحضارة الإسلامية إلا بتربية البنات وتعليمهن، ولذلك قلت في فاتحة

العدد الأول من منار السنة الأولى عند بيان مقاصد الصحيفة: (وغرضها الأول

الحث علي تربية البنات والبنين) ولكنني لم أشرح هذا المقصد كثيرًا كما شرحت

غيره من مقاصد المنار؛ لأنني أرى أن التربية والتعليم لا يفيدان الفائدة التي نحتاج

إليها إلا إذا قامت بهما الجمعيات الخيرية الملية دون الحكومة، ودون الأفراد الذين

ينشئون المدارس لأجل الكسب، فكنت لهذا أطالب الأستاذ الإمام المرة بعد المرة

بإنشاء معهد خاص لتربية البنات بالعمل وتعليمهن، يكون تابعًا للجمعية الخيرية

الإسلامية، وكان - رحمه الله تعالى - يقول: إن المال الخاص بالتعليم في الجمعية

لا يكفي لهذا العمل، فلا بد من انتظار فرصة لفتح اكتتاب لذلك، وكنا ننتظر هذه

الفرصة ونرجئ القول في الحاجة إلى هذا التغيير في حال نسائنا، وفي طريقه

وكيفيته إلى وقت الشروع في العمل، حتى لا يكون القول مثارًا للمراء والجدل.

ما فتحنا باب البحث والجدل في المسألة، ولكن سخر الله له قاسم بك أمين

ففتحه هنا بكتابه (تحرير المرأة) ؛ إذ كتب في مسألة الحجاب ما أسخط السواد

الأعظم من الناس، فردوا عليه في الجرائد والمصنفات الخاصة، وبينوا آراءهم

في التربية والتعليم النافعين لترقية النساء.

ثارت الرياح في ذلك عند ظهور كتاب تحرير المرأة، ثم كتاب (المرأة

الجديدة) الذي رد به قاسم على المعترضين، ثم سكتت زمنًا وكاد يغلق باب البحث

فيه، لولا أن فتحت (الجريدة) مصراعيه لغير واحد من الكتاب، وفي أثناء ذلك

دخلت صاحبة مقالات (النسائيات) في مضمار البحث مناضلة مناظرة للكاتبين من

الرجال، ومظهرة لهم مالا يعرفون من شؤون النساء، ثم دعت النساء مرتين إلى

سماع خطبتين لها: إحداهما في شؤونهن العامة، وما ينبغي أن يكن عليه في

البيوت. والثانية في المقارنة بين المرأتين المصرية والغربية، وبيان ما يصلح

العمل به، وأجابها إلى سماعهما المئات من المصريات. وقد نشرناهما في المنار.

الحق أقول: إن ما كتبته هذه الكاتبة في بدايتها خير مما كتبه الكثيرون من

الرجال عبارة ورأيًا، فأكثر الرجال جاءوا بالآراء النظرية والأهواء النفسية، أو

تقليد الإفرنج والمتفرنجين، وهي قد بنت كلامها على اجتهاد واستقلال، يرجع إلى

أصول ثلاثة: أحدها الدين، وثانيها الاختبار، وثالثها مصلحة المرأة المصرية،

ومن فروع هذا الأصل الأخير استنكارها تزوج المصريين بالإفرنجيات والتركيات،

وإنا لنقرها على هذه الأصول، وإن كنا نخالفها في بعض الفروع، ونشهد أن ما

كتبته مفيد للقارئين والقارئات، ونشكرها شكر المستزيد من هذه الفوائد، ونهنئ بها

بيت الزوج وبين الوالد.

طبع الجزء الأول من (النسائيات) في منتصف العام الماضي، فكان 146

صفحة، وطبع معه تقريظ من أرباب القلم المشهورين بلغت 20 صفحة وافتتح

بمقدمة حكيمة لأحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة أحسن ما فيها مسألة (المرأة

والدين) ، وثمن النسخة من هذا الجزء عشرة قروش صحيحة، فعسى أن ترى

الكاتبة من رواج كتابها ما يبعث همتها إلى زيادة العناية، ويرغب غيرها من

الكاتبات في الكتابة والخطابة والتأليف.

(البرهان الصريح في بشائر النبي والمسيح صلى الله عليهما وسلم)

جمع هذا الكتاب من نصوص العهد القديم والعهد الجديد أحمد أفندي ترجمان،

وهو رجل واسع الاطلاع في كتب أهل الكتاب الدينية، كثير الحفظ منها، قوي

الاستحضار لها، وأعانه على تحريره وترجمة النصوص من الأصل العبراني

محمد أفندي حبيب صاحب مكتبة برج بابل (بموافقة عالمين من علماء الإسرائيلية

على صحة النصوص العبرانية والكلدانية) وفي الكتاب فوائد كثيرة دينية وتاريخية،

ومقارنات غريبة بين النصوص وتفسير بعضها ببعض، لا يستغني عنها من

تعنيهم هذه المباحث. وثمن النسخة منه قرشان، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

(مصادر المسيحية وأصول النصرانية)

(رسالة لاهوتية تاريخية، تبين المصادر الأصلية للدين المسيحي القديم وما

ورد فيه من توحيد وتثليث واثنينية وتسبيع وتتسيع، ومقبول ومرفوض من

العناصر الدينية القديمة؛ كالمصرية والبرهمية والبوذية والبابلية والآشورية

والميثرايزمية لمؤلفها محمد أفندي حبيب، صاحب مكتبة برج بابل في مصر مؤسس

حزب الله، وهذه الرسالة مأخوذة من الكتب الدينية والتاريخية المكتوبة باللغة

الإنكليزية في الغالب، وثمنها خمسة مليمات وتطلب من مؤلفها.

(الدرة اليتيمة لابن المقفع)

طبعت هذه الرسالة الأدبية الطبعة الخامسة في مطبعة الرغائب بمصر، وتطلب

من مكتبتها، وهي غنية بشهرتها عن الوصف.

(دروس التاريخ الإسلامي)

كتاب مختصر مفيد في تاريخ المسلمين، يؤلفه الشيخ محيي الدين الخياط،

ويطبع في بيروت بنفقة المكتبة الأهلية، وقد صدر منه ثلاثة أجزاء أو ثلاثة

أقسام كما عبر المؤلف: الأول في مجمل من السيرة النبوية، والثاني في مجمل من

تاريخ الخلفاء الراشدين، والثالث في مجمل تاريخ دولة بني أمية، ويقرب الجزء

من 90 أو 100 صفحة مقسمة إلى دروس، في كل درس مسائل مختصرة،

لكل مسألة عنوان وفي آخره خلاصة وأسئلة، فيصلح هذا الكتاب أن يدرس في

المدارس الابتدائية؛ لسهولته وحسن ترتيبه، على أنه للعارفين كالمذكرات

الوجيزة التي تسمى بالأعجمية (النوتة) ، وثمن الجزء قرشان ونصف، ويباع

في المكتبة الأهلية ببيروت، والمكتبة السلفية بمصر.

(المشير)

الجريدة جديدة أسبوعية (إسلامية إصلاحية عمومية) ظهرت بتونس في

أوائل هذا الشهر، وقد كتب إلينا من نثق بعلمه ورأيه من الثناء على صاحبها

(الطيب بن عيسى) والثقة بحسن قصده، ما جعلنا نتمنى لها الثبات والنفع

العام، وعسى أن يعضدها أهل الغيرة والرأي.

_________

ص: 71

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أعظم رجل في العالم

اختلف أحرار الباحثين في أعظم رجل ظهر في العالم، وقد سبق لبعض

الجرائد الأوربية الاقتراح على قرائها أن يكتبوا إليها آراءهم في ذلك، وكان منهم

من صرح بأن رأيه أن أعظم رجل ظهر في البشر هو سيدنا محمد خاتم النبيين

والمرسلين، قد اقترحت هذا الاقتراح وآخر في معناه من عهد قريب جريدة الوطن

البيروتية وصاحبها مسيحي، وكان أول من أجابه كاتب من أحرار الطائفة

المسيحية، قالت الجريدة:

سألنا فريقًا من الفضلاء عمن هو أعظم رجل في العالم وفي سوريا، ولماذا؟

فوردتنا الأجوبة الآتية ننشرها بحسب ورودها:

(1)

من هو أعظم رجل في العالم، ولماذا؟

أعظم رجال العالم على الإطلاق؛ رجل وضع في عشر سنين دينًا، وفلسفة

وشريعة اجتماعية، وقوانين مدنية، وغير شريعة الحرب، وأنشأ أمة ودولة

طاولت الدهر، وكان أميًّا ذلك هو:

محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي العربي نبي المسلمين.

وقد تدارك النبي لمشروعه العظيم كل حاجاته، فوفر لأمته ولتابعيه وللملك

الذي أنشأه أسباب الانتشار والخلود، بحيث إذا انقطع المسلم إلى القرآن والحديث

وجد فيهما ما يهمه من أمور دينه ودنياه، وجعل للمسلمين مؤتمرًا ينعقد كل عام في

مكة، ومن تنبه إلى فرض الحج على من يملك الراحلة والنفقة وإسقاطه عمن لا

يملكها، أدرك أن الغاية من الحج اجتماع الموسرين والوجوه من الأمة للبحث في

شؤون جامعتهم وأمور سياستها واجتماعها وتعاونها. وتدارك أمر الفقير بالزكاة

المفروضة على كل مسلم، بحيث إذا أداها المسلمون على حقها لم يبق في الأمة فقير.

وجعل نواة أبدية للإسلام بكون القرآن كتابًا عربيًّا، يتحتم على كل مسلم أن

يتفهمه بلغة العرب، وإذا لم يكن في هذا غير أن فهم العربية حتم على كل عالم

وإمام، يكفي به جامعة لسان للمسلمين.

ومهد طريق النبوغ لأفراد الأمة بكون المسلم لا يفضل المسلم إلا بالتقوى،

فكان الإسلام جمهورية حقيقية، يختار المسلون رئيسها الذي هو الخليفة، وقد

ساروا على هذه السنة حينًا من الدهر، ولن تزال المبايعة بالخلافة رمزًا من

رموزها.

وسهل اعتناق الإسلام لغير العرب بقوله: لا فضل لعربي على عجمي ولا

لعجمي على عربي.

ويسر لغير المسلمين العيش برخاء في بلاد الإسلام بقوله:

(الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) .

ونظر في أمر (العائلة) ، فرتب أمور الزواج والتناسل والتوارث، ورفع

من شأن المرأة، وعاد إلى الأمور المدينة، فوضع قوانين وقضاء للنظر في شؤون

الأفراد.

ولم يهمل مالية الدولة، بل وضع سننًا لبيت المال.

وكان للعلم من همه نصيب وافر، فجعل الحكمة ضالة المؤمن، وأوصاهم

بأن يطلبوا العلم ولو في الصين، فكان لهذه الوصية شأن عظيم في اقتباس

المسلمين العلم من كل أبوابه وازدهاره في أيامهم.

أفلا يكون الذي فعل كل هذا أعظم الرجال؟

من هو أعظم رجل في سوريا ولماذا؟

لو عرف التاريخ اسم الفينيقي الذي اخترع الكتابة بالحروف، لكان جوابي

اسم ذلك الرجل.

وإذا صح أن نعد صلاح الدين الأيوبي سوريًّا لموته في سورية، ولإقامة أبيه

فيها، فهو أعظم رجالها لأنه انتصر في تسعين موقعة، وكان أعدل الملوك وأكرمهم

خلقًا ويدًا، فقد مات ولم يخلف دارًا ولا عقارًا، ولم يكن في خزانته يوم توفي غير

47 درهمًا.

أما التاريخ لا يعرف ذاك، وللناس على سورية هذا اعتراض، فإني أرى أبا

العلاء المعري السوري القح الذي كان شاعراً كبيرًا، ومنشئًا بليغًا، وفيلسوفًا

عظيمًا، وإنسانًا حكيمًا، ونابغة في حدة ذهنه، وفي حرية قلبه ولسانه، أعظم

رجال سوريا.

...

...

...

...

داود مجاعص

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اعتصام الفئتين الكبريين من المسلمين

جاء في بعض جرائد العراق ما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وآله

وصحبه المنتخبين، قد رأينا أن اختلاف الخمسة الفرق الإسلامية في بعض ما لا

يتعلق بأصول الديانة، والشقاق بين طبقات المسلمين؛ هو السبب الموجب

لانحطاط دول الإسلام واستيلاء الأجانب على معظم ممالكها، فلأجل المحافظة على

كلمة الجامعة الدينية والمدافعة عن الشرعة الشريفة المحمدية، قد اتفقت الفتاوى من

المجتهدين العظام الذين هم رؤساء الشيعة الجعفرية، ومن علماء أهل السنة

المقيمين بدار السلام على وجوب الاعتصام بحبل الإسلام، كما أمر الله به، فقال

عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)

وعلى وجوب اتحاد كافة المسلمين في حفظ بيضة الإسلام وصون جميع الممالك

الإسلامية من العثمانية والإيرانية عن تشبثات الدول الأجنبية، وهجمات السلطة

الخارجية، وقد اتحد الرأي منا جميعًا تحفظًا على الحوزة الإسلامية أن نبذل تمام

قوانا ونفوذنا في ذلك، ولا نكف عن كل إقدام يقتضيه المقام، واثقين بكمال اتحاد

الدولتين العليتين الإسلاميتين، وعناية كل منها بحفظ استقلال الأخرى وحقوقها،

وقد أعلن لعموم الملة الإسلامية وجوب السكون والتعاون في حفظ استقلال دولتها

العلية، وحماية مملكتها وصيانة ثغورها عن مداخلة الأجانب، فيكونوا كما قال الله

تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ونذكر عامة المسلمين

الأخوة التي عقدها الله تعالى بين المؤمنين، ونعلن لهم وجوب التحرز والتجنب عما

يوجب الشقاق والنفاق، وأن يبذلوا جهدهم في نواميس الأمة، والتعاون والتعاضد

وحسن المواظبة على اتفاق الكلمة، حتى تصان الراية الشريفة المحمدية ويحفظ

مقام الدولتين العثمانية والإيرانية - أدام الله تعالى شوكتهما بمحمد وآله وصحبه خير

البرية.

...

...

... الأحقر شيخ الشريعة الأصفهاني

...

...

الراجي إسماعيل بن الصدر العاملي

(المنار)

لكل عمل وحال أجل، ولكل أجل كتاب، وقد طال الأمد على التفرق

والتدابر بين المسلمين، وقد بح صوتنا وحفيت أقلامنا من كثرة الدعوة إلى

الاعتصام. ولكن كان المفرقون يهدمون ما نبني، حتى قام يوهم الناس بعض

المفتونين بالرياسة أننا غيرنا طريقتنا؛ لأننا نشرنا تلك الرسالة المعهودة لسائح في

العراق، وما كنا مغيرين، ولكن كانوا هم المفرقين، ولم ينس القراء خطابنا في

العام الماضي لعلماء الطائفتين، بالقيام بما يجب من جمع الكلمة في الدولتين،

ونحمد الله أن أجاب دعاءنا، وهذا أول صوت من الفريقين في تلبية طلبنا، وإنا

لنرجو فوق ذلك اعتصامًا واتحادًا.

_________

ص: 77

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البابية البهائية

ضاق هذا الجزء عن متابعة الكلام في الباطنية سلف هؤلاء البهائية، وقد

جرى بيني وبين أحد كبار رجال القضاء في الإسكندرية حديث في شأن عباس

أفندي زعيمهم، وكنا بدار محمد سعيد باشا رئيس النظار بمصر وقد اتفق جلوسنا

في إحدى الحجرات ليلة احتفال الرئيس بعيد جلوس الأمير، وكان معنا بعض

العلماء الوجهاء.

افتتح محدثي الكلام بمعاتبتي على ما كتبت في شأن عباس أفندي، وأطراه

أشد الإطراء، وشهد له بالإسلام الكامل علمًا وحكمة وعملاً، فقال: إنه يؤدي

الصلوات الخمس وغيرها من الفرائض والنوافل، ويبين من فضائل الإسلام ما لا

يكاد يستطيعه سواه، ويسعى في نشره في أمريكة وسواها، ويحاول جمع الشعوب

عليه، فكان سبب دخول الملايين في هذا الدين المبين، قال: ولو سواك طعن في

إسلامه، وقال فيه ما قلت وأكثر مما قلت، لما كنا نبالي بقوله، ولكن لكلامك من

القيمة والاحترام ما ليس لغيره؛ ولذلك ساءني أن تتكلم في هذا الرجل العظيم وأنت

لم تعرفه معرفة اختبار، بما لعلك أخذته من غمر جاهل أو ذي غمر متجاهل، وإني

أدعوك إلى ضيافتي بالإسكندرية، وأجمع بينك وبين الرجل وأنا موقن بأنك تعجب

بدينه وعقله وعلمه وآدابه الجذابة وفصاحته الخلابة، هذا حاصل معنى ما قاله هذا

اللائم المعجب بالرجل.

ومما قلته له: إنني أسلم بما سمعته منك ومن سواك عن شمائل الرجل وأدبه

وفصاحته، ولم أكتب فيه إلا ما يدل على هذا، وهذا التسليم لا ينقض شيئًا من بناء

اعتقادي واختباري، وإن قواعد هذا الاعتقاد ليست مأخوذة عن أعداء الرجل

وأعداء قومه، بل منهم ومن كتبهم، فقد جرى بيني وبين داعيتهم هنا مناظرات

متعددة، وثبت عندي أنهم من الباطنية الذين كانوا يظهرون للمسلمين وكذا لغيرهم

أنهم منهم وعلى ملتهم، ولا يطلبون إلا الإصلاح فيها، وهؤلاء البهائية إذا دعوا

النصارى في أمريكة مثلاً إلى نحلتهم قالوا لهم: إنا نصارى مثلكم نؤمن بألوهية

المسيح وبمجيئه في يوم الدين- أو الدينونة كما تقول النصارى - وقد جاء المسيح

كما وعد في ناسوت البهاء وآمنا به واتبعناه، وكذلك يقولون للمسلمين: إنا منكم

ونطلب إصلاح حالكم باتباع المهدي المنتظر، والمسيح الموعود به، بل يقولون:

إن دين برهما ودين بوذه ودين زردشت حق، ويقولون لهؤلاء إذا لقوهم: إنا منكم،

وإن ربنا وربكم هو البهاء، أو بهاء الله دفين عكا من بلاد الشام، ولا يفصحون

عن عقيدتهم كلها لأحد دفعة واحدة، وإنما يرتقون به درجة بعد أخرى، وقد وضع

سلفهم الأولون هذه الدرجات وجروا عليها، وقلدهم الماسون فيها (أي الدرجات

فقط) وقصارى دعوتهم الرجوع إلى نوع من الوثنية ملون بلون جديد من ألوانها.

ولما بالغ محدثي بإنكار ذلك، قلت له: إنني لا أدعي معرفة الرجل والحكم

عليه بما ظهر لي منه نفسه، وإنما أحكم عليه من حيث هو زعيم هؤلاء القوم

باعترافهم واعترافه، وقد بلغني عنه نفسه أنه يدعي الإسلام ويجاري أهله في

عباداتهم عندما يكون معهم، ونحن لا نقول لمن أظهر الإسلام: إنك لست بمسلم

اتباعًا للظن، ولكننا نعلم من تاريخ هؤلاء الباطنية مثل هذا، فقد كان العبيديون

بمصر يدعون أنهم مسلمون ويبثون دعاتهم في الناس لتحويلهم عن الإسلام إلى

عبادة إمامهم المعصوم بزعمهم، فإذا كان عباس أفندي مسلمًا حقيقة لا بالمعنى الذي

تقوله الباطنية عادة، فليكتب لنا مقالة بخطه وإمضائه يصرح فيها بالنص الصريح

بأن سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو خاتم النبيين والمرسلين، لا دين

بعد دينه، ولا شرع ينسخ شرعه، وأن القرآن هو آخر كتب الله ووحيه لأنبيائه

ورسله، وأن معانيه الصحيحة هي ما دالت عليه مفرداته وأساليبه العربية.

فقال محدثي البارع: كيف يمكن أن تقول للبريء: إنك متهم بالجناية،

وينبغي أن تتبرأ منها وتدافع عن نفسك؟ إننا لا نطلب أن يكتب ذلك بأسلوب الدفاع،

وإنما نطلب أن يكتبه في مقال يبين فيه حقيقة الإسلام؛ إرشادًا للناس وتعليمًا أو

ردًا على المعترضين، ومثل هذا يقع كثيرًا، ولذلك اكتفينا منه بذلك، ولم نكلفه أن

يتبرأ مما سمعناه من أتباعه من القول: بألوهية والده، ونسخه للشريعة الإسلامية؛

كجعل الصلوات ثنتين بدل خمس بكيفية غير كيفية صلاة المسلمين، فإن كان لا

يكتب من تلقاء نفسه، فإننا نكتب إليه أسئلة ونطالبه بالجواب عنها، فهل يضمن لنا

ذلك المعجب بإسلامه أن يجيب عنها؟ ؟

_________

ص: 78

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الماسون في الدولة العثمانية

كان السلطان عبد الحميد عدوًّا للجمعية الماسونية؛ لاعتقاده أنها جمعية سرية،

وهو يخاف من كل اجتماع وكل سر، وإن غرضها إزالة الاستبداد وهو مستبد،

وإزالة السلطة الدينية من حكومات الأرض كلها وهو يفخر بالخلافة الإسلامية

ويحرص عليها، وقد تنفس الزمان للماسون بعد الانقلاب الذي كان لهم فيه أصابع

معروفة، فأسسوا شرقًا عثمانيًّا أستاذه الأعظم طلعت بك ناظر الداخلية، وأركانه

زعماء جمعية الاتحاد والترقي، وأنصارها من اليهود وغيرهم، ولأجل هذا نرى

طلعت بك لا يبالي بسخط الأمة ولا برضاها في إدارته التي استغاثت منها المملكة

بألسنة ولاياتها كلها إلا ولاية سلانيك وكذا أدرنة فيما أظن، وألسنة مبعوثيها حتى

بعض الاتحاديين، وسلانيك هي الآن مركز السلطة الحقيقية في المملكة، وإنما

الآستانة مركز التنفيذ، كأن حظ عبد الحميد أن تكون السلطة الحقيقية حيث يكون

ما دام حيًّا، وإن لم تكن في يده الخاطئة.

وإنا نتمنى أن لا يكون تصرف طلعت بك في الماسونية كتصرفه في نظارة

الداخلية، فإنني والله لم أسمع من أحد في الآستانة ولا في غيرها شهادة له بحسن

التصرف، ولا أحصي عدد الشهادات التي سمعتها عن سوء تصرفه الذي ظهر أثره

في اضطراب أكثر ولايات المملكة، فسوء تصرفه في مسألة الأرنؤد قد عرف الآن،

وإن لم تظهر عواقبه السيئة كلها. وأما سوء تصرفه في مسألة اليمن فقد ظهرت

عواقبه السيئة كلها، وأما سوء تصرفه في مسألة اليمن فقد ظهرت بوادره

ونعوذ بالله من أواخره.

نتمنى أن يكون تصرفه في الماسونية أحسن حتى لا يجني عليها ولا على

الملة والدولة، فإن الفرق بيننا وبين فرنسة والبورتغال بعيد جدًّا، وإن كان يراه

هو والدكتور ناظم بك وبعض الزعماء قريبًا، فليتدبروا ولا يغتروا بقوة الجمعية

ولا بغيرها فطبيعة الاجتماع أقوى من تدبير الجمعيات، وقد يكون مع المستعجل

الزلل.

_________

ص: 80